الفصل الثاني والعشرون
وهكذا استحوذ برات على لاتشتس وعلى كلِّ مَن فيها، عدا سايمون.
ذهب إلى الكنيسة يوم الأحد واستسلم لنظرات الحاضرين المُحدِقة على مدى ساعة ونصف ولم تتوقَّف إلا في وقت الصلوات. كان الأشخاص الوحيدون الذين لم يُوجَدوا في كنيسة كلير ذلك الصباح هم المنشقين وثلاثةَ أطفالٍ مُصابين بالحصبة. في الحقيقة، كان المكان المعتاد للصلاة للعديد من المُصلِّين، كما أشارت بي، هو ذلك المخزن المُشيَّد من الطوب الأزرق الكائن على الطرف الآخر من القرية، لكنهم قرَّروا تحمُّل الشعائر والأساقفة هذه المرة حتى لا يفوتهم ذلك الحدث المُثير المُتمثِّل في ظهوره. أما الرعية الأرثوذكسية، فقالت بي إن هناك أفرادًا منهم حاضرون لم تَخطُ أقدامُهم أبواب كنيسةٍ منذُ تعميد آخِرِ طفلٍ لهم. حضرت كذلك لانا آدامز التي، حسبما يعلم الجميع، لم تدخل كنيسةً منذ تعميدها في المخزن ذي الطوب الأزرق منذ حوالي عشرين عامًا.
جلس برات بين بي وإلينور، وجلس سايمون بجوار بي على الجانب الآخر. أما التوءمتان فجلستا وراء إلينور؛ كانت روث مُستغرقةً في الدراما وتُنشِد الترانيم بصوتٍ عالٍ في نشوةٍ واستغراق، بينما جين تنظُر إلى حشدِ المُصلين باستنكارٍ شديد. قرأ برات الألواح المنقوشة باسم عائلة آشبي مرارًا وتكرارًا، واستمع إلى صوت القسِّ الخافت الهادئ وهو يُقدِّم إلى سكان كلير حِصَّتهم الأسبوعية من الوعظ. لم يكن القس يُلقي موعظةً، بالمعنى المعروف للكلمة. كان يبدو من صوتِهِ وكأنه يُناقش الأمر مع نفسه؛ وبذلك، إذا أغمضتَ عينَيك، فقد تُصبح في مقعدٍ عند الجهة الأخرى من مدفأة منزل القس تستمِع إليه يتحدَّث. ذهب برات بعقله إلى المجموعة المُصطفاة من الواعظين الذين كانوا يأتون لأداء قُداس الأحد في دار الأيتام: كان منهم أصحابُ الصوت العالي، ومَن يتحدثون بصوتٍ خافت، والمُتخصِّصون في العروض الدرامية الكنسية الذين يُنوِّعون في نبراتهم ويخفضون أصواتهم مثل مُرتِّلِين مُبتدئين، وأصحابُ الأداء الحماسي، ومُحِبُّو الجمال المُختالون؛ ورأى أن جورج بيك جاء خارج المنافسة تمامًا. بدا جورج بيك حقًّا وكأنه لا يُفكر في نفسه على الإطلاق؛ وكأنه ربما كان سيصبح رجل دين حتى لو لم يكن هناك حافز مِثل الظهور العلني على منبرٍ.
بعد القداس ذهب برات إلى غداءِ يومِ الأحد في منزل القس، لكنه لم يذهب قبل أن يتلقَّى جميع صنوف الأمنيات الطيبة من أهل القرية. خرجت بي من الكنيسة بجانبِه مُتأهبةً لتوجيهه وسط هذه المحنة، لكن السيدة جلوم اقتربت لتتحدَّث إليها، وتُرِك هو بلا حولٍ ولا قوة. نظر في ذعرٍ إلى أول هؤلاء المجهولين الذين كانوا ينقضُّون عليه: سيدة ذات وجنتَين مُتورِّدَتَين مُمتلئتَين ترتدي قبعة من قماش الكرينول القُطني بها زهور وردية. كيف سيتظاهر بأنه يتذكَّرها؟ أو يتذكر جميع الآخرين الذين كانوا يتلكئون بكلِّ وضوح لمشاهدته؟
جاءه صوتٌ، وكانت إلينور عند مرفقه: «تتذكَّر سارة جودوين، التي اعتادت المجيء في أيام غسل الملابس.» ثم حرَّكته من مجموعةٍ إلى أُخرى ببراعةٍ ترقى إلى براعة سكرتير شخصي منوط بالأمور الاجتماعية، فكانت تُطلِعُه سريعًا في جملةٍ مقتضبة بصوتٍ خافت كلما لاح وجهٌ جديد في الأفق. «هاري واتس. كان يُصلِح دراجاتنا. الآنسة مرشانت. مُدرسة القرية. السيدة ستابلي. القابلة. تُومي فيت. صبي البستاني. السيدة ستاك. الصناعات الريفية.»
قادته في سلام حتى البوابة الحديدية المُؤدِّية إلى حديقة منزل القس، وفتحَتْها، ودفعَتْه منها، ثم قالت: «صِرنا في أمانٍ الآن. ذاك هو «الملاذ».»
«ذاك ماذا؟»
«لا تقُلْ إنك نسيت. عندما كنَّا نلعب الغُميضة كان المخبأ الآمن دائمًا «ملاذًا».»
فكَّر برات فارار بينَهُ وبين نفسه وهو يسلك المسار المؤدي إلى منزل القس أنه في يومٍ ما سيُصبح في مواجهة شيء «كان مستحيلًا» أن يكون قد نَسِيَه.
على الغداء جلس هو ومُضيفه في صمتٍ باعث على الاسترخاء بينما كانت نانسي تُضيِّفهما، وبعد ذلك سار في الحديقة مع القس وأجاب عن أسئلته بشأن الحياة التي عاشها طوال تلك السنوات الثماني. كان من الأشياء الجذَّابة في جورج بيك أنه كان يُنصت لما يُقال له.
يوم الإثنين سافر إلى لندن وجلس على مقعدٍ بينما كانت تُعرَض لفَّات من القماش على بُعد عدة ياردات منه، ثم كانت تُحضَر إلى الأمام على مسافةٍ قريبة حتى يُقدِّر وزن القماش، وملمسه، ومتانته. تولَّى جور وبوين اختيار التصميم المناسب له، أما والترز فكان يأخذ المقاسات، وطمأنَهُ كلاهما أنه في وقتٍ قياسي سيكونُ لدَيْهِ زيٌّ ليس لرجلٍ إنجليزي أن يشعر بالحرج من امتلاكه. كانت مفاجأة له أن القمصان قد صُنعت حسب القياس. كان سعيدًا أنه استطاع أن يقدِّم نفسه إلى مُصمِّمي أزياء آشبي في بذلةٍ جديرة بالاحترام كتلك التي حاكها له مصمم أزياء السيد ساندال، وكان إظهارُ تعاطفٍ نحوَهُ بشأن القميص الأزرق الأمريكي النظيف واللطيف الذي كان يرتديه تحتها، صدمةً له. غير أنه عندما كان في روما … أُخذِت قياساته لحياكة القمصان أيضًا.
تناول الغداء مع السيد ساندال، الذي أخذه لمقابلة مدير البنك الخاص به. صرف شيكًا من البنك، واشترى مظروفًا بريديًّا مُسجلًا، وأرسل رِزمةً ضخمة من الأوراق النقدية إلى أليك لودينج. كان ذلك هو الاتفاق؛ كان لودينج قد قال له: «نقود دون رسالة». ولا حتى رقم هاتف. يجب ألا يُوجَد نهائيًّا أيُّ اتصالٍ بينهما مرةً أخرى فيما عدا النقود المُرسَلَة إلى مجهول في مظروفٍ بريدي مُسجَّل.
تركتْ هذه الدفعةُ الأولى من المال المرسلةُ إلى شريكه في الجريمة مذاقًا في فمِهِ لم يكن سبَبُه بتاتًا الصمغ الذي لعقَهُ على الظرف. ذهب وتناولَ جِعةً حتى يُزيله، لكن ظلَّ الطعم موجودًا. استقلَّ الحافلة رقم ٢٤ وذهب ليُلقي نظرةً على مسكنه السابق في بيمليكو، وفي الحال شعر بأنه أفضل.
لحِق بحافلة الساعة الرابعة وعشر دقائق، وكانت إلينور تنتظِرُه في سيارتها الخنفساء في جيسجيت لتُقابِلَه. لم يَعُد متوترًا، ولم تَعُد إلينور مصدرَ قلقٍ أو عدوًّا يخشاه.
قالت: «بدا من المُخزي أن أدعك تنتظر الحافلة في الوقت الذي ليس لديَّ ما يَشغلني حتى آتيَ لاستقبالك»، ثم ركب بجانبها وانطلقت به بالسيارة إلى المنزل.
قالت: «لستَ مُضطرًّا الآن إلى الذهاب بعيدًا مدة طويلة.»
«نعم. فيما عدا من أجل قياس الملابس الجديدة، وإلى طبيب الأسنان.»
«أجل؛ مجرد يوم. وربما سيتوقَّع العم تشارلز أن يذهب أحدٌ لاستقباله. لكن حتى ذلك الحين يُمكننا أن نستريح ونهدأ.»
وهدأ.
كان يُدرِّب الخيول في الصباح، أو يُمرِّنهم على قفز الحواجز في الإسطبل. كان يخرج لركوب الخيل مع إلينور والأطفال من كلير بارك؛ وكان مما أسعد روح أنطونيو توسيلي الرومانسية كثيرًا أنه وصل إلى درسِهِ ذات صباحٍ في «زيِّ ركوب الخيل للأطفال» كاملًا، والذي كان قد أرسل برقياتٍ مُطوَّلَة وبليغة دخلت تاريخ مكتب بريد كلير من أجل الحصول عليه. مرَّن المُهر الصغير لإلينور، وراقَبَها أثناء تدريبها لخيلٍ أصيلٍ صغير من إسطبلٍ لخيول السِّباق على السَّير متزنًا ورفْعِ رأسِهِ كرجلٍ نبيل. كان يقضي أيامه كلها مع إلينور تقريبًا، وعندما كانا يدخلان في المساء كان ذلك من أجل التخطيط لمهامِّ اليوم التالي.
راقبت بي هذه الصداقة بعين الرضا، لكنها تمنَّت لو أن لسايمون نصيبًا أكبرَ منها. وجد سايمون أعذارًا لا تنتهي للخروج من المنزل منذُ وقتِ الفطور وحتى العشاء. كان يُدرِّب تيمبر أو سكابا في الصباح، ثم يجد عذرًا حتى يذهب إلى ويست أوفر وقت الغداء. ومن حينٍ لآخر عندما يعود إلى المنزل للعشاء بعد قضاء اليوم بأكملِهِ بالخارج كانت بي تتساءل إن كان قد امتنع عن الشرب. ولكن فيما عدا أنه صار الآن يتناول كأسَين في حين أنه كان قبل ذلك يشرب كأسًا واحدة، فقد كان يشرب قليلًا في المنزل؛ ومِن ثَمَّ قرَّرت أنها حتمًا مخطئة. لم تكن نوباته المتعاقبة من المزاج المُتقلِّب والسعادة جديدة عليه: فقد كان سايمون مُتقلِّب المزاج دائمًا. فاعتقدت أن غيابه كان الطريقة التي يلجأ إليها للحد من وطأة موقفٍ صعب، وأمَلَت أن يُصبِح عما قريب طرفًا ثالثًا في هذه العلاقة التي تزدهر بنجاحٍ كبير بين إلينور وباتريك.
قالت إلينور ذات يومٍ عندما دخلا مُتعبُيْن عائدَين من الإسطبل: «سيكون عليك أن تفعل شيئًا في عَرْض بيورز. وإلا سيراه الناس أمرًا غريبًا للغاية.»
«بإمكاني أن أركبَ خيلًا في أحد السباقات، كما اقترحت روث.»
«لكن ذلك كان على سبيل الترفيهِ لا أكثر. أقصد، لا أحد يأخُذُه على محمل الجِد. من المُفترَض أن تستعرِض أحدَ الخيول. سوف تأتي مُعدَّاتك الخاصة بركوب الخيل في الوقت المناسب، ولا يُوجَد سببٌ يُبرِّر امتناعك.»
«لا.»
«بدأتُ اعتيادَ إجاباتِك المُقتضبة.»
«ليست حكرًا عليَّ.»
«ليست كذلك. إنما اختصاصك فحسب.»
«ماذا بوسعي الركوب في السباقات؟»
«حسنًا، بعد تيمبر، يأتي شيفرون أسرع فرس لدَينا.»
«لكن شيفرون فرس سايمون.»
«لا. شيفرون اشترَتْها بي بأموال الإسطبل. هل ركبتَ خيولًا في سباقاتٍ من قبل؟»
«نعم. كثيرًا. في سباقاتٍ محلية بالطبع. على رهاناتٍ صغيرة.»
«حسنًا، أظنُّ أنَّ بي تُخطِّط لعَرض شيفرون كحصان أجرة، لكن ذلك ليس سببًا يحول دون دخول السباقات بها في النهاية. إنها سريعة الغضب ويُمكن استثارتها، لكنها تقفز بسلاسةٍ، وسريعة للغاية.»
عرَضَا الاقتراح على بي وقت تناول العشاء، فوافقت عليه. «ما الوزن الذي تركب به الحصان يا برات؟»
«تسعة ستونات وثلاثة عشر رطلًا.»
نظرت بي إلَيهِ نظرةً مُتأمِّلة بينما كان يتناول عشاءه. كان شديد النحافة. لم يصل أحدٌ من الجيلَين الأخيرَين لعائلة آشبي إلى مثل هذا الوزن، لكن ثمة شيئًا في مظهره يُوحي بالإنهاك؛ لا سيما في نهاية اليوم. عما قريب، عندما ينتهي أمر الاحتفال، لا بد أن يتخذوا خطوةً بشأن رِجلِه. ربما يُفسِّر ذلك حالة الإرهاق التي ميزت نحافته. لا بدَّ أنه عبء جسدي ونفسي عليه. لهذا كان لزامًا عليها أن تسأل بيتر سبينس عن جرَّاحٍ ماهر لاستشارته.
كان من دواعي سرور بي أن وجدت في برات ما كان يفتقده سايمون بكل وضوح: ألا وهو الاهتمام بنَسَب الخيل نظريًّا. كان سايمون واسعَ الاطلاع في تربية الخيول على صعيد اهتماماته الخاصة، لكن دراسته النظرية للموضوع اقتصرت على سِجِلِّ «مستجدات سباقات الخيول». أما برات، على الجانب الآخر، فشُغِف بسجلَّات أنساب الخيول كشغفِ البعض بالكتب البوليسية. كانت قد ذهبت ذات مساءٍ لتُطفئ مصباحًا في المكتبة كان من الواضح أنه قد تُرك مُضاءً، فوجدت برات منغمسًا في قراءة سِجلٍّ لأنساب الخيول. وقال إنه يحاول الاستزادة في البحث عن نَسَب الفرس هَني.
قالت: «لقد حصلتَ على السجلِّ الخاطئ»، وأعطَتْهُ السجلَّ الصحيح. كانت منشغلة بأمرٍ يخصُّ جمعية النساء الريفيات؛ ولهذا تركَتْهُ لمُطالعَتِهِ ونسِيَت أمره. لكن بعد نحو ساعتَين لاحظتْ أن الضوء لا يزال مُشعلًا فدخلت لتجد برات مُحاطًا بمجلداتٍ من شتَّى الأنواع ومنقطعًا تمامًا عن العالم حتى إنه لم يسمعها حين دخلت.
قال: «إنه مذهل يا بي.» كان يتفحَّص صورةً للحصان بِيند أور، وقد ترك عدة مجلدات أخرى مفتوحةً على صورٍ منحَتْهُ متعةً خاصة، حتى صارت المنضدة الكبيرة تُشبِهُ كشكًا للكتب المُستعملَة وقد عرض ما به من صور ورسومات لجذب المشتري.
قالت بعد أن طالعت المجلَّدَ الذي وقع عليه اختياره: «لم تأتِ في مجموعتك بالمجلد المفضَّل لي»، ثم أحضرت من الأرفف مجلدًا آخر. وحين اكتشفت جهلَهُ التام بالموضوع، أعادته إلى نقطة البداية وأطلعته على الجذور العربية، والمَغربية، والتُّركية للشكل النهائي للخيول كما هي الآن. وبحلول مُنتصَف الليل تكاثرت الكتب على الأرض أكثر مما كانت على الأرفف وقضى كلاهما وقتًا رائعًا.
بعد ذلك صار بالإمكان العثورُ على برات دائمًا في المكتبة حال تغيُّبهِ عن النطاق الطبيعي، إما لاستكشافِ شيءٍ في سِجل أنساب الخيول أو ليُطالع صور الخيول المُميَّزة على مهلٍ.
لم يجد غضاضة في أن يُصبح تلميذًا لجريج، وكان نتاج ذلك أنه في خلال أسبوع صار جريج يمنحه احترامًا لم يكن قد منحَهُ نهائيًّا إلى سايمون. فقد لاحظت بي أنه بينما كان يُخاطب سايمون مُستخدِمًا «السيد سايمون»، كان يخاطب برات مستخدمًا «السيد باتريك المُبجَّل.» وتلاشى أيُّ أثرٍ للموقف الدفاعي الذي يتبنَّاه أي سائس أمام زائر جديد حتى لو كان سيده في الوقت ذاته. لقد رأى فيه جريج هاويًا شغوفًا لم يكن يرى نفسَه العالِم بكل شيء، وبهذا كان برات «السيد باتريك المبجَّل.» كانت بي تبتسم كلما مرَّت بغرفة مُعدَّات ركوب الخيل وسمعت حديث جريج الرتيب المطوَّل تُقاطِعُه تعليقات برات المقتضبة.
«أطلقِ النارَ عليه، فقلت، لن أفعل شيئًا من هذا، سيخرُجُ ذلك الحصان من هنا مُعافًى في غضون شهر، قلتُ ستتضوَّرُ كلابك اللعينة جوعًا قبل أن تُطبِق فكوكها على جسدِ خيلٍ لم يبدُ من تحت لجامٍ ما هو أجودُ منه على الإطلاق، فماذا تَظنُّني فعلت؟»
«ماذا؟»
كانت بي مُمتنَّةً للغاية إلى القَدَر، لا لعودة ابن أخيها فحسب، بل أيضًا للحالة التي عاد بها. فبينما كانت تُراجِع في عقلها جميعَ الأشكال التي ربما كان باتريك سيعاود الظهور بها، ملأتها الحيرة من أنَّ الشكلَ الفعليَّ الحاليَّ هو الشكل الأنسب تمامًا، والمُطابق للمواصفات التي وضعتْها. كان برات هو من كانت ستختاره لو كان بيدِها الاختيار. كان هادئًا للغاية بالطبع، وفي غاية التحفُّظ. تشعُر بسلامٍ في صُحبته دون أن يُراودك أي شعورٍ بأنك تعرفه. لكن وجهَهُ الثابتَ كان أسهلَ بالتأكيدِ في التعامُل معه عن وجه سايمون المتقلِّب.
كتبتْ خطابًا طويلًا إلى العم تشارلز لتستقبله في ميناء مارسيليا، واصفةً له ابن أخيها الجديد، وقالت كلَّ ما لم يَسَعْها قوله في برقياتها الأولى. لن ينبهر تشارلز بالطبع بكون برات قد أبدى نفعًا مع الخيول؛ إذ كان تشارلز يكرَهُ الخيول وكان يراها حيوانات ذات غباء لا يُقهَر، وخيَالٍ جامحٍ لا يُكبح، وقدرةٍ على الاستدلال المغلوط. بل زعم تشارلز أن طفلًا في الثالثة لا يُعاني في الواقع التهابًا في الدماغ أو أيَّ قصورٍ خلقي آخر، لدَيه قدرةٌ على التوصُّل إلى استنتاجٍ صحيحٍ أكثر من أذكى وأنقى الخيول الأصيلة المُهجَّنة. كان تشارلز يحب القطط؛ وحين حدث وانجذب لرائحةٍ ما داخل أحد الإسطبلات، على مضض، أقام صداقةً مع قط الإسطبل وانزوى به إلى ركنٍ هادئ تمامًا حتى الانتهاء من استعراض الخيول. كان هو نفسه، نوعًا ما، يُشبِهُ القط؛ فهو رجل هادئ ضخم البِنية له وجه دائري ناعم لا يتجعد إلا بالقدْر الكافي ليحمل نظارةً أُحادية العدسة على إحدى عينَيه، تتحدَّد بحسب أي يدٍ من يدَيه لا يشغلها شيء. وعلى الرغم أن طوله كان يتجاوز ستة أقدام، كان يمشي بخفةٍ على قدمَيهِ الكبيرتَين وكأنه مُمتلئ جزئيًّا بالهواء.
تميَّز تشارلز بوفائه إلى وطنه القديم وإلى عائلته، لكنه كان مولعًا بالتصريح بانتمائه إلى عصرٍ أكثرَ فحولةً حين كان الحصان مجردَ وسيلة للانتقال، وقادرًا على حمل وزنٍ مُعتَبَر، ولم يكن ضروريًّا لرجلٍ أن يَبنيَ عضلاتٍ من شأنها أن تُخجِل دجاجة، ومن ثَم ينبغي أن تُستحث الخيول الأصيلة الهشة للتغلُّب على عقباتٍ غير ضرورية ولا مبرِّر لها.
إن قطةً ما نصفَ جائعة بإمكانها أن تقفز مسافاتٍ أعلى من أي حصانٍ على أي حال دون أن يضطر أحد أيضًا أن يُعلِّمها ذلك.
لكن أحفاد أخيه كانوا قرةَ عينَيْه، وكان يُحب كل عظمةٍ من عظامهم الهشة. وقد امتدحت بي ابنَ أخيها الجديد إلى هذا العم تشارلز.
في الأسبوعين القصيرَين اللذين أمضاهما هنا، تحوَّل من شخصٍ غريب تمامًا إلى جزء أصيل من لاتشتس حتى إن لا أحد منَّا ينتبِهُ لوجوده أساسًا. إن له قدرةً مميزة على أن يُشكل جزءًا من المشهد بالطبع، ولكن الأمر لا يُعزى فقط إلى تواضُعه وخجله. إنما لأنه أكمل القطعة المفقودة في ذلك المشهد. حتى إنني أُلاحظ أن أهل البلدة، الذين يُفترَض أنه لا يزال غريبًا في نظرهم ومثارًا لنظرات الارتياب، يُعاملونه وكأنه كان هنا طوال الوقت. إنه صامت بطبيعته، وقلَّما يتطوَّع بإبداء تعليقٍ أو ملحوظة، لكن عقله مُنتبهٌ على نحوٍ استثنائي، وعندما يُدلي بتعليقٍ يكون تعليقًا لاذعًا لو لم ينطق به بلطفٍ جم. يتحدَّث بلهجةٍ أمريكية صحيحة تمامًا — وهي يا عم تشارلز العزيز، لهجةٌ إنجليزية صحيحة يُميِّزها نطق حرف «A» رقيق — ويتشدق في الكلام قليلًا. لكنه تشدُّقٌ مختلف تمامًا عن سايمون. أقصد، عن أسلوب سايمون عندما يتشدَّق في الكلام. هذا ليس على سبيل الحكم أو الانتقاد؛ إنما مجرد وصف لأسلوب نطقه.
كان أكبر انتصارٍ له هو جين، التي استاءت بشدة من مجيئه، نيابةً عن سايمون. كانت تحوم حوله ببراعةٍ لأيام، ثم استسلمت. أما روث فكانت تُبالِغ بشدةٍ في الاهتمام به، لكنها لم تتلقَّ منه الكثير من التشجيع — أعتقد أنه شعر بعدم إخلاصها لسايمون — وأصبحت الآن تتعامَل معه بفتورٍ نوعًا ما.
«يبدو أن جورج بيك سعيد به، لكني أظنُّ أنه استعصى عليه أن يغفر له صمتَهُ طوال كل تلك السنوات. وأنا كذلك بالطبع. لا أجد لِما فعلَهُ مبررًا. ليس بإمكان أحد شيءٌ سوى محاولة تفهُّم جسامة الاضطراب الذي أبعدَه عنَّا.»
«أما سايمون فكلمات المديح لا تُوفِّيه حقَّه. لقد استقبل إحالته إلى المرتبة الثانية بجَلَدٍ ورحابة صدر مؤثِّرة. أظنه تعيس غاية التعاسة، ويجد صعوبةً في ربط باتريك الجديد بباتريك القديم. الخطأ الأكبر الذي ارتكبَهُ بات في بقائه صامتًا هو الخطأ الذي ارتكبَهُ في حق سايمون. ليس بوسعي إلا افتراض أنه كان يعتزِم عدم العودة نهائيًّا. لقد حاولتُ أن أُصرِّح له بهذا الأمر، لكنه ليس الشخص الذي يسهُل الحديث معه. كان طفلًا مُتحفظًا وأصبح اليوم أكثرَ تحفُّظًا. ربما سيتحدَّث إليك عند مجيئك.»
«نحن منشغلون بالتحضير لعرض بيورز للخيول — الذي ستسعد حين تعرف أنه سيُقام قبل ثلاثة أيام على الأقل من الموعد المُقرَّر لوصولك إلى إنجلترا — ونأمُل في تحقيق قدْرٍ من الدعاية الناجحة للاتشتس. لدَينا ثلاثة خيول جديدة مستواها فوق المتوسط بكثير، ونأمُل أن يوافق اثنان منها على الأقل معاييرَ أوليمبيا. وسنرى كيف يبدو سلوكها في الحلْبة حينما نأخذها إلى بيورز. رفض باتريك أن يشارك بأي دورٍ في عروض هذا العام، وترك المجد كله إلى سايمون وإلينور؛ اللذَين يعود إليهما الفضل في هذا المجد بالتأكيد. أظنُّ أن في ذلك وصفًا لباتريك الذي عاد إلينا أكثرَ من أي شيء آخر.»