الفصل الثالث والعشرون
لما كان سايمون هو مَن سيستعرِض تيمبر ويقفز به، فقد ترك برات مهمةَ تدريبِه كليًّا إليه، ووزَّع اهتماماته بين الخيول الأخرى. لكن ثمَّة أيامًا، لا سيما بعد ازدياد تغيُّب سايمون أكثر وأكثر، كان لا بد أن يتولَّى خلالها شخصٌ آخر تدريب تيمبر، وكان برات يتطلَّع إلى تلك الأيام أكثر مما اعترف حتى لنفسه. أحبَّ أغلب خيول لاتشتس، وكرِه قليلًا منها، وشعر بمودةٍ نحو شيفرون المفعمة بالحيوية، وسكابا العطوفة الرزينة، وفرس إلينور الهَرِم، باستر: فرس عجوز مُحبط لكنه محبوب. لكن ظل تيمبر شيئًا آخر. كان تيمبر مصدرًا للتحدي، والإثارة، والسعادة؛ كان تيمبر موضع شكٍّ ومصدر مجدٍ وشرف.
خطَّط برات لعلاج تيمبر من عادة دفع الراكِبين عن ظهره، لكنه لم يكن ليفعل أيَّ شيءٍ لبعض الوقت. كان من المُهمِّ ألا تُتَّخَذ أيُّ خطوة من شأنها أن تضرَّ بثقته في نفسه، إذا كان سيقفز في عرض بيورز. يومًا ما، إذا كان لبرات أي صلةٍ بذلك، كان تيمبر سيشعر بالضآلة الشديدة بالفعل، لكن في هذه الأثناء سمح لسايمون أن تكون كل ذرة من تلك الثقة المهيبة تحت إمرته. لهذا درَّبه برات برفق، وعندما كان يمتطِيه ليجُوب به الريف كان يُبقي عينَيه يقظتَين بحثًا عن مكانٍ قد يصلح ليُعالج فيه مشكلة تيمبر عندما يحين الوقت لذلك. لم يكن في أشجار الزان على تلِّ تانبيتشس أيُّ أغصانٍ منخفضة بما يكفي لإدراك غرَضه، ولم يكن هناك أي مُتَّسع على قمة ذلك التل للوصول إلى السرعة المطلوبة. أراد أرضًا مفتوحةً بها أشجار معزولة أو مُتكتِّلة وتكون أكثر أغصانها انخفاضًا على ارتفاعٍ مناسبٍ من الأرض لدفع تيمبر إلى الانطلاق. في الأثناء تذكَّر أن أكثرَ مآثر تيمبر إبهارًا كان في لريدج بارك وكانت كلير بارك تقع هناك، وكان يُحيط بها امتداد من العشب والأشجار.
سأل إلينور ذات يوم: «هل يمانع أهل كلير بارك إذا تجوَّلنا بالخيول عبْر المتنزَّه؟» وكان لا يزال مُتبقيًا سبعة أيام قبل عرض بيورز.
جاءت إجابة إلينور بالنفي، شريطةَ أن يكونوا بمنأًى عن الملاعب. «إنهم لا يُمارسون أي لعبة لأن الألعاب المنظمة مُريعة إلا إذا كان منظِّمُوها هم الروس على النظام الروسي، لكنهم يحتفظون بالملاعب لأنها تبدو خلَّابة في الإعلانات الدعائية.»
لذا اصطحب برات تيمبر إلى الجهة الأخرى من الوادي، وقاده بلطفٍ على عشب مدينة كلير بارك الذي يمتدُّ عمره لقرون، مُبعدًا إياه تمامًا عن الأشجار. ثم سار به حول الكُتَل الشجرية المتنوعة، بعد قياس ارتفاع الأغصان الأكثر انخفاضًا عن الأرض. قُوبِلَت هذه الخطة من تيمبر باهتمامٍ جمع بين الحيرة والحماسة. كان بالإمكان ملاحظته وهو يحاول حلَّ اللغز. ماذا كان الغرض من ذلك؟ ما الذي جاء الرجل من أجله وجعله يتطلَّع في الأشجار الكبيرة؟ بذاكرة حصان غير طبيعية، كان مُدركًا تمامًا أن الأشجار الكبيرة مرتبطة بمباهجَ خاصة به، لكن، لكونه حصانًا، كان عاجزًا في الوقت ذاته عن التوصُّل إلى أي استنتاجٍ منطقي من اهتمام رَاكِبه بنوع الأشجار نفسه.
سار نحو كلِّ كتلةٍ من الأشجار بخفَّةٍ لطيفة، حتى اقتربا من شجرة بلوطٍ كبيرة كانت لخمسمائة عامٍ مصدرَ اعتزازٍ لكلير بارك. عندما دخلا في ظلِّها الممدود أسند تيمبر نفسه فجأة على رجلَيْه الأماميتَيْن وأخذ يصهل بخوفٍ أربك برات. بمَ ذكَّرته شجرة البلوط حتى تتسبَّب في ردِّ فعلٍ بهذه القوة؟ نظر إلى أُذنَيه اللتَين كانتا مُتصلِّبَتَين بشدة كأنهما قرون. ربما لم تكن ذكرى. ربما كان ثمة شيء في العشب.
قال صوتٌ آتٍ من الظلال: «هل أنت معتادٌ الاقترابَ خلسةً من الفتيات تحت الأشجار؟» ثم ظهرت الآنسة بارسلو من العشب هناك بقوامها الذي يُشبه الفقمة. أسندت نفسها على أحد مرفقَيها وأخذت تتفحَّص الثنائي. كان برات مُندهشًا قليلًا من أنها بمفردها. «ألا تركب أي حصان آخر غير تلك الدابة السوداء؟»
فأجابها برات بأنه يركب غيرَه في كثيرٍ من الأحيان.
«أظنُّها مُبالغةً منِّي أن أتوقَّع أنك كنت تبحث عني عندما جئتَ إلى المتنزَّه حتى تتجول بالخيل؟»
قال برات إنه كان يبحث عن مكانٍ حتى يُعلِّم تيمبر آداب السلوك.
«ما خطْب سلوكياته؟»
«لدَيه عادةُ الاندفاع فجأة تحت إحدى الأشجار دافعًا بذلك راكبه أرضًا.»
أسندت الآنسة بارسلو نفسها قليلًا لأعلى ونظرت باهتمامٍ جديد إلى الحصان. «غير معقول! لم أظن قطُّ أن تلك الدوابَّ لدَيها هذا القدْر من الإدراك. كيف ستمنعه من ذلك؟»
«سأجعل السير تحت الأشجار تجربةً مؤلمةً له.»
«أتقصد أنك ستضربه عندما يحاول فِعل ذلك؟»
«أوه، لا. لن يُجدي هذا نفعًا.»
«بعد أن يفعلها، إذن؟»
«لا. ربما لا يربط الضرب بالأشجار نهائيًّا.» حكَّ سوطَهُ بعُرف تيمبر الأسود، فانحنى تيمبر. «ستُفاجَئين بالأشياء الغريبة التي تربط الخيول بينها.»
«لا شيء عن الخيول سيُفاجئني بأيِّ درجةٍ. كيف ستفعل ذلك إذن؟»
«دعِيه يعدو بكامل سرعتِه بالقُرب من شجرةٍ مُغرية جميلة، وعندما ينحرف تحتها اجرحِيه جُرحًا على بطنِه يظلُّ يتذكَّره طوال حياته.»
«يا إلهي، لا، هذا بشع. يا له من حيوانٍ مسكين.»
قال برات بجفاء: «سيكون الأمر بشعًا إذا لم أضبط انزلاقي جانبًا من فوق السَّرج في التوقيت المناسب.»
«وهل سيُعالج هذا مشكلته؟»
«أتمنَّى ذلك. في المرة التالية التي يرى فيها شجرة مُغرية سيتذكَّر أنها سبَّبت له ألمًا حارقًا آخِر مرة حاول فيها.»
«لكنه سيكرهك.»
ابتسم برات. «ستكون مفاجأة كبيرة لي إذا ربطَني بما حدث على الإطلاق. وسأتفاجأ أيضًا إذا ربطه كذلك بالسوط. الخيول لا تُفكِّر مثل البشر.»
«أي شيء سيظن أنه قد سبَّب له الألم إذن؟»
«الشجرة أغلب الظن.»
«طالما اعتقدتُ أنها حيوانات شديدة الغباء.»
خطر لبرات أنها لم تكن موجودة في إحدى جولات ركوب الخيل الجماعية التي رافق فيها إلينور. ولم يرَها في نطاق الإسطبلات مؤخرًا. فسألها عن أحوالها مع ركوب الخيل.
«لقد يئست.»
«تمامًا؟»
«أها.»
«لكنك كنتِ تُبلين بلاءً حسنًا، أليس كذلك؟ قالت إلينور إنك قد تعلمتِ القفز.»
«كانت قفزةً أدَّت إلى انزلاق شديد، وآلمَتني أكثر مما آلَمَتِ الحصان.» ثم شدَّت عشبًا طويلًا وبدأت في مضغه، وهي تنظر إليه نظرةَ تندُّر خبيثة. «لم أعُد مُضطرة إلى التسكع حول الإسطبلات بعد الآن. إذا أردتُ رؤية سايمون، أعرف أين أجده هذه الأيام.»
قال برات قبل أن يتمكَّن من منْع نفسه: «أين؟»
«الحانة الكائنة بالطابق العلوي في مطعم أنجل.»
«في ويست أوفر؟ لكن هل مسموح لكِ بالذهاب إلى ويست أوفر متى تشائين؟»
ضحكت قائلة: «أذهب لرؤية طبيب أسنانٍ في ويست أوفر. أو بالأحرى، كنت أذهب. حدَّدت لي المدرسة أول موعد بالطبع، لكن بعد ذلك كنتُ أُخبرهم فحسب بموعد الزيارة التالية. لقد حسبت عدد أسناني ووجدت أن لديَّ نحو ثلاثين سِنًّا، وهو ما يُفترَض معه أن يجعلني أداوم على الذهاب حتى نهاية الفصل الدراسي.» وفغرَت فمَها الأحمر وضحكت. كانت أسنانها في حالةٍ ممتازة. «ذلك ما أفعلُه في الوقت الحالي. أؤجِلُ الموعد حتى يحين موعد حافلة ويست أوفر. كان بإمكاني أن أستقل الحافلة التي قبلها ولكن هناك مُحصِّل تذاكر شديد الوسامة على هذه الحافلة. وصل به المدى أن طلب منِّي الذهاب معه إلى السينما في ليلةٍ ما من الأسبوع القادم. لو كان سايمون قد استمرَّ في أسلوبه الذي اتبعَهُ معي كل تلك الأشهر، دون أن يعرف أني على قيد الحياة، لربما فعلت شيئًا حيال ذلك المُحصِّل — فلدَيه رموش طويلة تمتدُّ نحو بوصة — لكن الآن بعد أن توقَّف سايمون عن غطرسته، أعتقد أنني سأتخلَّى عن مُحصل التذاكر.» ومضغت ساق العشبة بطريقة استفزازية. ثم أردفت: «لقد صار سايمون ودودًا تمامًا.»
«رائع.»
«هل تسلَّمتَ ابنةَ جيتس لتترُكَه مثلما اقترحت عليك؟»
«لم أفعل ذلك.»
«أمرٌ غريب. من الواضح أنه لم يَعُد راغبًا فيها. وليس مُغرمًا بك بشدة، إذا كان للأمر علاقة بذلك. لهذا ظننتُ أنك كنتَ تنتزع منه تلك الفتاة بيجي. لكني أعتقد أنك انتزعت منه لاتشتس فحسب.»
«ستفوتُكِ الحافلة، أليس كذلك؟»
«أنت مُحطِّم تمامًا مثل سايمون، وإن كان بأسلوبك الخاص.»
«كنتُ فقط ألفتُ نظركِ إلى أن الحافلة قد صارت عند ورشة الحدادة. وستصِل عند بوابات كلير بارك في غضون …»
صرخت، وهي تهبُّ واقفةً على قدمَيها في رجفة رعبٍ شديدة: «ماذا!» حتى إن تيمبر دار بقوة في ذُعرٍ من اندفاعها العاصف. «يا إلهي! من أجل محبة …! يا إلهي! يا إلهي!»
ولَّت مُسرعةً عبْر المتنزَّه مُتجهةً نحو بوابات الطريق، وهي تصرخ تنفيسًا عما بها من كرب وانزعاجٍ أثناء رحيلها. شاهد برات الحافلة الخضراء تسير مُسرعةً على امتداد الطريق أمام بوابات لاتشتس البيضاء وتتهادى عندما وصلت إلى بوابات كلير بارك. كانت ستلحق بها في النهاية، ولن يضيع يومُها هباءً. كانت ستجد سايمون. في مطعم أنجل. في الحانة بالطابق العلوي.
كان قضاء سايمون وقتَه في ويست أوفر في حانة أنجل مُثيرًا للقلق، لكنه لم يكن مفاجئًا في مثل هذه الظروف. ما كان مفاجئًا هو ظهور سايمون «الودود» مع شيلا بارسلو. كانت ابنة بارسلو دائمًا في نظر سايمون شيئًا دون المستوى؛ مخلوقًا أدنى. لقد لفظها بسخريةٍ عندما ذُكر اسمها، وفي وجودها، كما قالت بنفسها، لم يكن مُدركًا أنها على قيد الحياة. ماذا حدث لسايمون حتى لا يرضى فحسب بصُحبتها، بل ليكون «ودودًا» معها؟ لم تكن الفتاة تكذب في هذا الأمر. إذا لم يكن رضاؤها عن نفسها الواضح كالشمس دليلًا كافيًا، فثمة الحقيقة الواضحة أن سايمون كان من الممكن أن يتجنَّبها بتغيير المكان الذي يشرب فيه. لم يكن هناك نقصٌ في الحانات في ويست أوفر، وأغلبها كانت أماكنَ أكثر اقتصارًا على الرجال من حانة أنجل التي تتميز بطابعها الاجتماعي وتردُّد الفتيات عليها.
حاول برات أن يتخيَّل سايمون بصحبة شيلا بارسلو لكنه فشل.
ماذا حل بسايمون — ذلك الشخص الصعب الإرضاء الانتقادي — حتى يشعر أن بالإمكان تحمُّلها؟ وقضاء ساعات برفقتها؟
أكان ذلك نوعًا من «الجَلْد» لعائلتِهِ على خيبة الأمل التي سبَّبتْها له؟ شيءٌ على شاكلة «أنتم لا تُحبونني ولذلك سأرافق شيلا»؟ أو «ستندمون حين لا ينفع الندم»؟ كان هناك جانب شديد الطفولية في شخصية سايمون.
فكَّر برات أيضًا، من واقع كلِّ ما سمِعَه، أن الأمر كان له جانبٌ عملي للغاية أيضًا، وشيلا بارسلو كان لدَيها المال، وسايمون كان بحاجةٍ إليه. لكن بطريقةٍ ما لم يُصدِّق برات أن سايمون، حتى في أصعب لحظاته، كان سيُفكر في رهن حياته لبَلْهاء شهوانية.
بينما كان يقود تيمبر عائدًا إلى المنزل فكَّر مرةً ثانية في الغرابة التي تُحيط بشخصية سايمون عمومًا، لكنه كالمعتاد لم يتوصَّل إلى نتيجة.
سلَّم تيمبر إلى آرثر حتى يُنظفه، ثم ذهب مع إلينور ليتفقَّد مُهر ريجينا الجديد.
قالت إلينور، وهي تراقب الوليد الجديد يترنح هنا وهناك على أرجله غير المُتسقة: «إنها آية بديعة في الجمال، هكذا أراها. فرس أُخرى جميلة. لا عجبَ في أنها تبدو مُعتدَّةً بنفسها. كان الناس يتوافدون ليُبدوا إعجابهم بمهورها لزمنٍ طويلٍ حرفيًّا، تلك الدوقة العجوز. أعتقد أن المهور بالنسبة إليها ليست إلا وسيلةً لتنال بها هذا الثناء السنوي. فهي لا تُبالي مِثقال ذرةٍ بالمهر.»
قال برات، وهو ينظر إلى المُهر دون شغف: «ليست أفضل من مهور هَنِي.»
«تبًّا لك ولفرسك هَنِي!»
«تمهَّلي وسترَين ماذا ستُنجِب هَنِي العام القادم مع هذا الرفيق الجديد. ستنجب مُهرًا سيُسجِّله التاريخ.»
«حماستُكَ لهَنِي تقترِب من حدود البذاءة.»
«سمعتِ بي تقول ذلك.»
«كيف عرفت؟»
«لأني سمعتُها أيضًا.»
ضحِكا قليلًا، ثم قالت: «جميلٌ أن تكون هنا بيننا يا برات.» لاحظَ أنها لم تقُل: جميلٌ أنك عُدت إلينا يا باتريك؛ لكنه أدرك أنها هي نفسها لم تنتبِهْ إلى أي غرابة في الصيغة التي استخدمتها.
«هل سيأتي الطبيب الشابُّ في زيارة إلى بيورز لحضور العرض؟»
«لا أعتقد ذلك. فهو مشغول للغاية. ما الذي جعلكَ تفكر فيه؟»
لكن برات لم يدرِ السبب.
قضَيا وقتًا طويلًا في إنجاز بعض الأعمال البسيطة في الإسطبلات حتى إنهما وصلا متأخِّرَين كثيرًا على موعد الشاي، وقاما بتحضيره بأنفسهما. كانت جين تضرب بأصابعها بقوةٍ على البيانو عازفةً موسيقى الفالس لشوبان بدقةٍ وإتقان، وتوقَّفت بارتياحٍ واضح عندما دخلا.
سألت: «هل لي أن أقول إن خمسًا وعشرين دقيقةً تُعادل النصف ساعة يا إلينور؟ إنها حقًّا خمس وعشرون دقيقة ونصف الدقيقة.»
«بوسعكِ أن تقولي ما تشائين ما دُمنا لسنا مُضطرَّين إلى سماع موسيقى الفالس تلك ونحن نتناول الطعام.»
لذا انزلقت جين من فوق مقعد البيانو، وخلعت النظارة التي أضفت عليها هيئةً كهيئة البومة، ودفعتها في جيب سروالها، ثم اختفت في امتنانٍ بالخارج.
قالت إلينور وهي تطوي خبزًا بالزبد في سُمْكٍ يليق بشهيَّتها: «روث تتدخَّل في جميع التفاصيل الصغيرة للمعزوفات وفي التعبير الموسيقي ولا تُبالي بعدد النغمات الخاطئة التي تعزفها، لكن جين لا بديلَ لدَيها عن الدقة. لا أعرف أيًّا من الطريقتَين كان شوبان سيكرَهُها أكثر من الأخرى.»
راقَبَها برات وهي تصبُّ الشاي مُستمتعًا بحركاتها المتأنِّية الدقيقة. يومًا ما ستنهار أساسات الحياة التي يعيشها هنا؛ سيُنفِّذ سايمون الخطةَ التي يُدبِّرها لتدميره، أو سيتفوَّه بكلمة هوجاء من كلماته ستجعل هذه البِنية تنهار بالكامل، ولن يعود هناك إلينور.
لم يكن ذلك أقلَّ مخاوفِهِ من المُستقبل.
تناولا الطعام في صمتٍ لطيف، يقطعانه من آنٍ لآخر بتعليقاتٍ لا يربط بينها شيء كلما خطرت ببالِهما.
قالت إلينور بعد قليل: «هل سألت بي عن ألوان الملابس التي سيرتديها المُتسابقون في سباق الأسبوع القادم؟»
أجاب برات بأنه قد نسي.
«لنذهب ونبحث عنها الآن. هي في تلك الخزانة بغرفة معدات ركوب الخيل.»
فعادا إلى الإسطبلات. كانت غرفة معدات ركوب الخيل شاغرة؛ إذ كان جريج قد عاد إلى منزله لتناول العشاء؛ لكن إلينور كانت تعرف مكان المفتاح.
قالت عندما بسطت الملابس على المائدة: «هي في الواقع مُمزَّقة لأنها قديمة للغاية. كانت مُصمَّمة في الأساس لأبي، ثم ضُيِّقت قليلًا من أجل سايمون ليرتديها في سباقات تخطِّي الحواجز عندما كان مقاسُه أصغرَ مما هو الآن. ثم وُسِّعت مرةً أخرى عندما كَبر. لذا فهي مربوطة معًا. ربما سيُصبِح باستطاعتنا الآن أن نتحمَّل تكلفة …» وجذبت نفسها لأعلى.
«أجل. سنشتري مجموعةً جديدة.»
«أرى أن البنفسجي والأصفر الفاتح ألوان جميلة، أظنُّك تراها كذلك أيضًا؛ لكنها تفقد جاذبيتها عندما تبهت بمرور الزمن. يُصبِح وجه سايمون مُزرَقًّا مع البرد في الشتاء، ويقول إن تلك الألوان مصممة لتليق مع وجهه.»
فتَّشا في الصندوق، فعثرا على تذكارات من سباقاتٍ قديمة. ثم تجوَّلا في أرجاء الغرفة مُتفحِّصَيْن الصفَّ الطويل من أوشحة التكريم، تحت شارةِ كلٍّ منها دُوِّنَ مكانُ الفوز بها والكيفية.
أغلقت إلينور الصندوق أخيرًا، وهي تقول: «حان الوقت لنستعدَّ للعشاء.» قفلت الصندوق وعلقت المفتاح. ثم أردفت: «سنأخذ الثياب معنا. أتوقع أنها ستناسبك تمامًا؛ إذ كان سايمون آخرَ مَن ارتداها. لكنها ستحتاج إلى كيٍّ.»
أخذت الثياب بين ذراعَيها، ثم خرجا معًا من باب غرفة معدات ركوب الخيل والتقيا سايمون وجهًا لوجهٍ.
كانت إلينور على وشْك أن تبدأ الحديث، عندما أبصرت وجهه: «أوه، ها قد عُدت يا سايمون.»
قال غاضبًا: «مَن أخرج تيمبر؟»
أجاب برات: «أنا مَن أخرجتُه.»
«تيمبر يَخُصُّني ولا يحقُّ لك إخراجه في غيابي.»
قال برات بلطفٍ: «كان على أحدٍ أن يُدرِّبه اليوم.»
«ليس لأحدٍ سواي أن يُدرِّب تيمبر. لا أحد. إذا كنتُ سأتولى مسئولية وثبِه؛ فأنا الذي أقول إذن متى يجب تدريبُه، وأنا مَن أُدرِّبه.»
قالت إلينور: «لكن يا سايمون، هذا غير معقول. هناك …»
قال لها: «اخرسي!» وكان يَصِرُّ على أسنانه.
«لن أخرس! الخيول مِلك برات، وإن كان لأحدٍ أن يقولَ مَن يفعل ماذا، وفي أي وقت، فهو …»
«قلتُ لكِ اخرسي. لن أسمح لرجلٍ فظٍّ أحمقَ آتٍ من منطقة مجهولة أن يُفسد خيلًا أصيلًا بارعًا مثل تيمبر.»
«سايمون! أحقًّا هذا!»
«ظهر من العدم بلا سابق إنذار ويتدخَّل في شئون الإسطبلات وكأنه عاش حياته كلَّها هنا!»
«لا بد أنك ثمِلٌ يا سايمون حتى تتحدَّث بهذه الطريقة عن أخيك.»
«أخي! ذاك! عجبًا، يا لك من حمقاء صغيرة بائسة، هو ليس حتى من عائلة آشبي. الرب يعلم مَن هو. أكادُ أجزم أنه سائس لشخصٍ ما. وذلك ما يجب أن يفعله. يُنظف الإسطبلات. لا أن يجول أرجاء البلدة على ظهر أفضل خيولي بخيلاء السادة. من الآن أيها المغرور الصغير الملعون، عليك أن تترك الخيول التي أنوي ركوبها في الإسطبل الخاصِّ بها إلا إذا أمرتُ أنا بإخراجها، وإذا أمرتُ بإخراجها فليس أنت مَن ستركبها. لدَينا عددٌ كافٍ من السائسين الآخرين.»
كان ذقنه مشرئبًا لمسافة قدمَين من وجه برات، وكان بوسع برات أن يُسدِّد له لكمةً يطرحُهُ بها أرضًا من شأنها أن تُرسِلَه إلى منتصف غرفة معدَّات ركوب الخيل. كان مُتلهفًا لفعل ذلك، لكن ليس في وجود إلينور. وربما ليس الآن. كان من الأفضل ألا يفعلَ أيَّ شيءٍ لا يُمكنه أن يتوقَّع عواقبه.
صاح سايمون وقد أثار صمت برات غضبه: «أفهمت؟ هل سمعتني؟»
قال برات: «سمعتك.»
«حسنًا، لنرَ إن كنت تتذكَّر ما قلته. تيمبر يخصُّني، وإياك أن تضع ساقًا عليه مرةً أُخرى حتى أُصرِّح لك بذلك.»
ثم اندفع مُبتعدًا عن طريقهما متجهًا نحو المنزل.
بدت إلينور مصدومة.
«أوه، أعتذر إليك يا برات. أعتذر إليك بشدة. كانت تلك الفكرة المجنونة أنك لستَ باتريك تراوِدُه من قبل أن يراك، والآن وهو في حالة من الثمالة أعتقد أن الفكرة جاءت من عقله الباطن وصرَّح بها لأنه كان غاضبًا. طالما كان يتفوَّه بأشياء كثيرة لا يقصدها وهو في مزاجٍ سيئ، كما تعرف.»
كان برات يعرف من واقع خِبرته أن الإنسان، على النقيض، لا يصرح بما يقصده إلا حينما يكون مزاجه كدِرًا. لكنه عزف عن إخبار إلينور بذلك.
أردفت: «كان يشرب، كما تعرف. أعرف أنه لا يبدو عليه ذلك، لكن بإمكاني أن أؤكد لك من عينَيه. كما أنه لم يكن ليتصرَّف هكذا أبدًا وهو مُستفيق، حتى وهو غاضب. أعتذر إليك نيابة عنه.»
أخبرَها برات بأن الجميع يتصرفون بحماقةٍ من وقتٍ لآخر عندما يكونون «سكارى»، وليس عليها أن تُزعج نفسها بهذا الأمر.
تبِعا سايمون إلى المنزل في جِديةٍ وتجهُّم؛ إذ تلاشت السعادة التي عمَّت فترة العصر الطويلة التي قضَياها معًا وكأنها لم تكن.
عندما أبدل ثيابَه مُرتديًا «حلته الأنيقة»، كما كان لا يزال يراها، فكَّر برات أنه إذا اتسعت الصدوع التي تجلَّت في شخصية سايمون بالقدْر الكافي فربما يكشف عن نواياه يومًا ما، وسيكتشف ما يُدبِّره له. وتساءل إن كان سايمون سيكون يقظًا بما يكفي ليتصرَّف بأسلوبٍ طبيعي على العشاء.
لكن لم يحضُر سايمون على العشاء، وعندما سألت إلينور عن مكانه، قالت بي إنه قد ذهب إلى الحانة في جيسجيت ليُقابل صديقًا كان يُوجَد هناك. شخصٌ ما كان قد اتصل به قُبَيل العشاء مباشرة على ما يبدو.
بدت بي هادئة، واستنتج برات أن سايمون قد بدا لها طبيعيًّا وأنها صدَّقت قصتَه عن الصديق الذي كان يقضي الليلة في حانة جيسجيت.
وفي الصباح نزل سايمون ليُغذي ذاته المرحة المعتادة بالإفطار.
قال: «أخشى أني كنتُ ثملًا الليلة الماضية. وكنتُ مُستهجَنًا للغاية. أعتذر إليك بشدة.»
نظر إلى برات وإلينور، اللذَين لم يكن على المائدة سواهما، بثقةٍ ممزوجة بالمودة. ثم قال: «لم يكن ينبغي لي أبدًا أن أشرب نبيذ الجين. إنه يُغيِّب العقل ويُدمر الروح.»
قالت إلينور بفتور: «كنتَ في غاية البشاعة.»
لكن صفَتِ الأجواء، وصار اليوم مُجرَّد يومٍ آخر. دخلت بي من الخارج لتناوُل فنجانِ قهوة ثانٍ، بينما وصلت جين تضمُّ إلى بطنِها بتشبُّثٍ وعاءَ الثريد الذي أحضرتْه لنفسها من المطبخ، وفقًا للروتين المُتَّبع في لاتشتس، ودخلت روث مسرعةً في وقتٍ متأخِّر كثيرًا وفي شعرها مشبك من «الألماس» وأُعيدت إلى غرفتها لتخلَعَه.
قالت بي، عندما اختفت روث وهي تُطلق صيحاتٍ جنونيةً لأن بي ستؤخِّرها عن دروسها: «من أين حصلت على ذلك الشيء المُقزز؟»
أجابت جين: «اشتريته من متجر وولورث عندما كنَّا في ويست أوفر آخر مرة. ليس ألماسًا حقيقيًّا، كما تعرفين، لكنه بدا صفقةً رابحة بسعرِ شلنٍ واحدٍ وستة بنسات.»
سألت بي وهي تنظر إلى مشبك الشعر الحديدي العتيق الذي يُزيح شعر جين عن وجهها: «لماذا لم تشتري واحدًا إذن يا جين؟»
أجابت جين: «همم، أعتقد أني لستُ من النوع المُحب للألماس.»
وهكذا عاد منزل آشبي إلى هدوئه المعتاد، وإلى استعداداته لذلك اليوم في بيورز الذي كان مقدرًا أن يُغيِّر حياتهم جميعًا.