الفصل التاسع والعشرون
في صباح يوم الجمعة حضر سايمون إلى الفطور مُبتهجًا وسعيدًا وحيَّا برات بسعادةٍ. ثم أدلى بدلوه في سَيرِ تحريات جريمة قتل «صندوق التخزين»، وشخصية تاتي ثاكر (التي لم تكن قيمتها تُساوي في نظر المحكمة إلا جنيهًا ونصف بنس)، وفي جُرم لجوء المرء إلى التسميم وسيلةً ليُخلِّص نفسَه من عبء إنسان. وباستثناء بريق كان يلتمِع في عينِه من حينٍ لآخر، لم يبدِ أي انتباهٍ للتغيُّر الذي طرأ على علاقتهما. فكان يعتبِر أن «التوءمة الروحية» بينهما هي أمر بديهي.
بدت إلينور كذلك أنها عادت إلى حالتها السابقة، رغم الخجل البادي عليها، كشخصٍ ارتكب زلةً اجتماعية. اقترحت أن يأخذوا الكئوس الفضية الأربع عصر اليوم إلى ويست أوفر ليطلبوا نقش الأسماء عليها.
قالت: «سيكون لطيفًا أن يُنقَش اسم «باتريك آشبي» على كأسٍ مرةً أخرى.»
قال سايمون: «أجل، سيكون لطيفًا!»
تطلَّع سايمون تطلُّعًا واضحًا إلى سنواتٍ يُعذب فيها توءم روحه. لكن عندما قال برات، ردًّا على سؤال من بي، إنه قد تحدَّث مع القس في ساعةٍ متأخرة، ارتفع رأس سايمون وكأنه سمع تحذيرًا. وبعد ذلك لمح برات نظرة سايمون إليه من حينٍ لآخر.
حينما انطلقت إلينور وبرات قاصدَين ويست أوفر بعد الظهر، ظهر سايمون وأصر على أن يحلَّ ثالثًا في المساحة الضئيلة داخل السيارة الخنفساء. كان قد حصل على إحدى الكئوس بجهده دون أن يُساعِده أحد، وقال إن لدَيه الحق أن يُقرِّر ماذا سيُنقَش عليها، وما إذا كان النقش بالرومانية، أو العربية، أو العبرية، أو السريالية، أو الاكتفاء بكتابةٍ مختصرة.
كان لجاذبية سايمون المُمتزجة باللامبالاة تأثيرٌ شديد؛ حتى إن برات وجد نفسه على وشْك أن يتساءل ما إذا كان القس مُحقًّا وأنه قد بنى قصَّته كليًّا من نسج خياله. لكنه تذكَّر الحصان الذي أحضرَه المزارع جيتس لابنته بيجي، وخلَص إلى أن ذلك كان دليلًا أكثر موثوقية لشخصية سايمون من أي شيءٍ ربما يُقدِّمه سايمون نفسه.
عندما استقروا على نقش أسمائهم على الكئوس، ذهب سايمون وإلينور لاحتساء الشاي، لكن برات قال إن لدَيه بعض الأشياء يريد التسوُّق لشرائها. كان برات قد قرَّر ما يجب أن يفعله في مأزقه الحالي. لم يكن بوسعه التوجُّه إلى الشرطة حاملًا قصَّتَه بحبكتها الحالية، معلقًا أيَّ أملٍ على أن تحظى بتصديقٍ أكثرَ مما حظِيَت به من جانب القس. إذا كان القس، الذي كان يعرف نقاط ضعف سايمون، أبى أن يُصدِّق من دون دليل مادي، فإلى أي مدًى ستأبى الشرطة أن تُصدق، حينما لا يكون سايمون في نظرهم ولدًا مشاكسًا، بل السيد آشبي من لاتشتس؟
لذلك عقد برات النية على أن يُقدِّم لهم الدليل.
توجَّه إلى الميناء وبحث عن متجر لتجهيزات السفن، وهناك، وبعد بعض المشاورات وعددٍ من الاختيارات، اشترى مائتي قدمٍ من الحبل. كان الحبل رفيعًا للغاية؛ حتى إنه لم يزِد سُمكًا عن حبلٍ متين، لكن حدَّه للانقطاع تحت الضغط كان مُماثلًا لحبلٍ فولاذي إلى حدٍّ كبير. طلب منهم تعبئتَه في صندوقٍ من الكرتون وتوصيلَه إلى مرأب أنجل، حيث كانت الخنفساء. تسلَّمه في المرأب ثم وضعَه في حقيبة السيارة.
عندما وصل الآخران ليعودا إلى المنزل، كان ينتظرهما في السيارة ببراءة ومعه صحيفة مسائية.
حشرا أنفُسهما في الخنفساء وكانوا يستعدون للرحيل حينما قال سايمون: «مهلًا! نسينا أن نترك ذلك الإطار القديم معهم»، وخرج وفتح حقيبة السيارة الخلفية ليُخرج الإطار.
«ماذا بداخل الصندوق يا نيل؟»
أجابت إلينور، دون أن تتحرك: «لم أضَع أيَّ صندوق في الخلف. لا يمكن أن يكون خاصًّا بنا.»
قال برات: «إنه لي.»
«ما هذا؟»
«إنه سرٌّ.»
جاء صوت سايمون معلنًا: «جيمس فراير آند سن، للوازم تجهيز السفن.»
يا إلهي! كان على الصندوق مُلصق لم ينتبِه إليه.
أغلق سايمون حقيبةَ السيارة بقوةٍ وعاد إلى مقعده. «ماذا كنتَ تشتري يا برات؟ واحدة من تلك السفن داخل زجاجة؟ لا، إنها كبيرة جدًّا على ذلك الصندوق. واحدة من تلك السفن دون زجاجة. واحدة من تلك السفن الشراعية ذات الأشرعة الكاملة التي تُوضَع على المناضد الجانبية في الضواحي لتشرح صدر سفينتنا آيلاند ريس وتُخفِّف عنها ما واجهتْهُ من عناءٍ خلال رحلتنا إلى مدينة مارجيت.»
«كفاك حماقة يا سايمون. ما هذا يا برات؟ أهو سرٌّ حقًّا؟»
لو أراد سايمون أن يعرف ما بداخل الصندوق، لفعل ذلك بكلِّ تأكيد بطريقةٍ أو بأخرى. وأن يجعل الأمر لغزًا يعني أن يلفتَ الانتباه إليه. فكان ذلك أفضل كثيرًا من أن يتحدَّث بصراحة عما فيه.
«إذا كان لزامًا أن تعرف، فقد كنتُ أخشى أن أفقد مهارتي في تدوير الحبل سريعًا؛ لهذا اشتريتُ بعض الحبال لأتدرَّب عليها.»
ابتهجت إلينور. لا بد أن يعرض لهم برات الليلة بعض حركات تدوير الحبل.
«لا. ليس قبل أن أُجرِّبه في الكاميرا أولًا.»
«ستُعلِّمني كيفيةَ تدوير الحبل، أليس كذلك؟»
بلى، كان سيُعلِّمها كيف تُلقي حبلًا. فستكرَهُهُ يومًا ما عن قريب، إذا حقَّق هذا الحبل الغرض من شرائه.
حينما عادوا إلى لاتشتس أخرج الحبل وتركه على الملأ في الرَّدهة. سألت بي عن أمره، وتقبلت مُبرر وجوده، ولم يَعُد أحدٌ يلتفت إليه. تمنَّى ألا يُضطر في فترته القصيرة الأخيرة أن يقضيَها في الإدلاء بأكاذيب. كان غريبًا، بعدما قضى وقتَه كله في لاتشتس ألا يفعل شيئًا سوى الكذب، أن يُبالي إلى هذا الحد بهذه الحيلة الصغرى.
كان لا يزال هناك مُتَّسع من الوقت لترك الحبل دون فِعل أي شيءٍ حياله. أن يتركه هناك في مكانه، وألا يطلب منه الإجابة عن أي سؤال. كان نوع الحبل غير مناسبٍ للرَّمْي، لكنه استطاع أن يُغيِّره إلى النوع المناسب.
لكن عندما حلَّ الليل، وكان وحيدًا في غرفته، أدرك أنه لم يَعُد لدَيه خيار آخر. كانت هذه هي المهمة التي قد قطع نصف الكرة الأرضية حتى يقوم بها، وكان بصدد القيام بها.
خلَد أفراد المنزل إلى النوم في ساعة مبكرة؛ إذ كانوا لا يزالون مُجهَدين من الأحداث المثيرة في عرض بيورز، وأمهلهم وقتًا حتى الساعة الثانية عشرة والنصف، ثم ترقَّب الأجواء. لم يبدُ هناك ضوءٌ منبعث من أي مكان. ولم يكن هناك أي صوتٍ بالتأكيد. فنزل وأخذ الحبلَ من الزاوية التي كان فيها. وفتح مزلاج نافذة غرفة الطعام، ثم قفز من فوق عتبة النافذة في جُنْح الليل، ثم سحب الحبل بلطفٍ لأسفلَ مرةً أخرى وراءه. انتظر تحسبًا لأي ردِّ فعل، لكن لم يكن هناك أي شيء.
سلك طريقَه على الحصى في هدوءٍ ومنه إلى العشب، ثم جلس مُلتجِئًا في ظلال أشجار الإسطبل الأول، بعيدًا عن محيط النوافذ، ومن دون الحاجة إلى استخدام الضوء، عقد بخفةِ يدٍ مواضع لقدمَيه على مسافاتٍ بطول الحبل. كان الشعور بالملمس المألوف للحبل بعد كل هذه المدة الطويلة باعثًا على السعادة والطمأنينة. كان حبلًا ذا جودة ولبَّى متطلباته بكفاءةٍ. وشعر بامتنانٍ لمتجر جيمس فراير آند سن.
لفَّ الحبل ثم وضع اللفة على كتفه. في غضون نصف ساعة سيظهر القمر. لكنه كان قمرًا في طوره الأول، ولم يكن ليُهتدى بنوره كثيرًا، لكنه كان يحمل معه في جيبه مشعلَين قوِيَّين ولم يرغب كثيرًا في ضوء قمر مكتمِل الليلة.
كان يتوقف كل خمس دقائق وينتظر ليرى إذا كان أحد يتتبَّعه. لكن لم يتحرَّك أي شيءٍ على الإطلاق في الليل. ولا حتى قطة.
استقبلَه ضوء القمر الخافت حينما وصل ناحية سفح تل تانبيتشس، واهتدى إلى الطريق المؤدي إلى ويست أوفر دون أن يُضطر إلى إشعال أي مشعل. اقتفى نوره قليلًا ثم، حينما صار بإمكانه أن يرى أشجار الزان التي تزين التل في مواجهة السماء، صعد إليها سريعًا حتى وصل إلى الأجمة على الجانب العلوي من المحجر القديم. وهناك جلس وانتظر. لكن مرةً أخرى لم يُسمَع أي صوتٍ في الريف الذي يغطُّ في نومِه فيما عدا صوت ثُغاء مفاجئ لخروفٍ على التل. ربط الحبل حول جذعِ أكبرِ أشجار الزان اليافعة التي نبتت من تلقاء نفسها هناك، ثم ترك الحبل يُحَلُّ من تلقاء نفسه حتى سقط من فوق حافة المحجر إلى الغطاء الأخضر الكثيف في الأسفل. كان هذا هو الجانب المنحدِر من المحجر. كان للجانب المنخفِض مدخل ضيق، لكن منذ وقتٍ طويل صار مستويًا ومكسوًّا بطبقاتٍ كثيفة من النباتات الشائكة لا يمكن اختراقها. كان آبل العجوز قد أخبرَه بكل شيءٍ عن هذا المدخل في اليوم الذي جلسا فيه هناك وتحدَّثا عن باتريك. كان آبل يعرف كل شيءٍ عن المحجر؛ لأنه أنقذ خروفًا منه ذات مرة. وأخبره آبل بأن النزول من الجانب المنحدِر أسهلُ من الدخول من الجانب المنخفض. في الحقيقة، كان الدخول من الجانب المنخفض، أو من أي جانب آخر، مُستحيلًا تمامًا. فلم يكن فيه ماء؛ على الأقل لم يكن هناك أي ماء منذ عشرين سنة مضت، أي منذ نزل آخر مرة وراء خروفٍ؛ فقد جفَّ الماء تمامًا أسفل التلِّ وحتى البحر.
اختبر برات الحبل عدة مرات، وتحسَّس انسلال نسيجه. لكن جذع الشجرة كان أملس، فوضع لبادة في الموضع الذي يتجاوز فيه جذع الشجرة حافة المحجر. انزلق من فوق الحافة وتحسَّس أول موطئ لأصابع قدمِه. وبعد أن صار على نفس المستوى مع الأرض صار أكثر استشعارًا لسطوع السماء. وكان بوسعه أن يرى الشكل المُعتِم للأجمة المنخفضة في مقابلها، وعتمة الشجرة الأكبر حجمًا من فوق رأسه.
كان في تلك اللحظة قد وجد الموضع الأول لقدمِه في الحبل، لكنَّ يدَيه كانتا لا تزالان على الحبل حيثما كان مشدودًا على العشب.
جاء صوت سايمون بأشد نبراته المُتثاقلة المُميزة له: «أكره أن أدعَك تمضي من دون وداعٍ لائق. أقصد، كان بوسعي فحسب أن أقطع الحبل وأدعك تفكر، إن سنح لك الوقت للتفكير من الأساس، أنه قد انقطع. لكن ذلك لن يكون مُمتعًا، أليس كذلك؟»
كان بإمكان برات أن يرى جسد سايمون في مواجهة السماء. ومن شكل جسده، أدرك أنه كان جاثيًا جزئيًّا على الحافة، بجانب الحبل. واستطاع برات أن يلمسه مادًّا إحدى يدَيه.
كانت حماقةً منه أن استخف بسايمون. لم ينتهز سايمون أي فرص. ولا انتهز حتى الفرصة لتتبُّعِه. فقد كان هو مَن جاء أولًا وانتظر.
قال: «لن يفيد قطع الحبل كثيرًا. سأهبط على أغصان إحدى الأشجار البعيدة في الأسفل، وسأصرخ بأعلى صوتي حتى يأتي أحدٌ.»
«أنا أذكى من ذلك. فبيني وبين هذا المحجر معرفة شخصية. يُمكنني القول إنها علاقة شخصية.» وزفر نَفَسَه في هيئةِ ضحكة هامسة. «انحدار شديد نحو الأرض، حتى نصف منحدر التل.»
تساءل برات إن كان الوقت يسمح له بالانزلاق عبر الحبل في دفعة واحدة سريعة قبل أن يقطعه سايمون. كانت مواضع الأقدام مُصمَّمة للصعود مرة أخرى. كان بإمكانه أن يتجاهلها وينزلق. هل سيكون قريبًا بما يكفي من السفح قبل أن يُدرك سايمون ما فعله؟
أو أمن الأفضل …؟ أجل. أحكمت يدُه القبض على الحبل وضغط على موضع أصابع قدمِه ثم رفع نفسه حتى كاد أن يضع إحدى ركبتَيه على العشب مرةً أخرى. لكن لا بد أن سايمون كان واضعًا يدَه على موضعٍ ما على الحبل. فقد أحسَّ بالحركة.
قال: «أوه، لا، لن تصعد!» وأنزل كعبَه على يد برات. تشبَّث برات بقدم سايمون بيده الأخرى وتعلَّق بها، وكانت أصابعه في مقدمة حذاء سايمون. أنزل سايمون سكينه على معصم برات فصرخ، لكنَّه ظلَّ متشبثًا بقدمِه. سحب يدَه اليمنى من أسفل حذاء سايمون وأمسك به من مؤخرة كاحلِه. كان يُغطي بجسده الحبلَ أمام سايمون ولما ظلَّ متشبثًا بسايمون، لم يكن بوسع سايمون أن يستدير ليقطع الحبل من خلفِه. كان مزعجًا للغاية التشبُّث بقدمِ أحدٍ من الأسفل حينما يكون واقفًا على شفا جرف شديد الانحدار.
قال سايمون وهو يطعن بجنون: «اتركها!»
قال برات لاهثًا: «إذا لم تتوقَّف عن ذلك، فسأسحبك معي.»
قال سايمون وهو يضرب بوحشية في هلعٍ أعمى دون أن يستمع: «اتركها! اتركها!»
أزال برات اليد التي كانت تتشبث بطرَف الحذاء وأمسك يد سايمون التي كانت تحمل السكين عند نزولها. فصارت يدُه اليُمنى الآن حول كاحل سايمون الأيسر، وكانت يده اليسرى متشبثة برُسغ سايمون الأيمن.
صرخ سايمون وتراجع للخلف، لكن برات تعلَّق بثِقله على الرُّسغ. كان واثقًا من ثبات موضع أصابع قدمه، لكن لم يكن لدى سايمون ما يسند نفسه عليه، وبسحبةٍ قوية، سحب يدَه اليُمنى من قدم سايمون وأمسك بها يد سايمون اليسرى. كان قد أمسك سايمون في تلك اللحظة من كِلا رُسغيه، فانحنى سايمون وكأن قوسًا اعتلته.
قال: «ألقِ ذلك السكين!»
عندما قال ذلك أحسَّ بالعُشب على حافة المحجر يهبط قليلًا وينزلق إلى الأمام. لم يُحدِث ذلك فارقًا بالنسبة إليه، فيما عدا أنه دفعه قليلًا بعيدًا عن واجهة المنحدر. لكن بالنسبة إلى سايمون، الذي انحنى بالفعل بِفعل ثِقل ذراعَي برات وجسده، كان الوضع مميتًا.
رأى برات الكتلة السوداء تندفع إلى الأمام فوقه وهو مُرتعب. فأزلَّته من موضع أصابع قدمه، وهوى معها في الظلام.
انفجر ضوء شديد في رأسه، ولم يَعُد يدرك شيئًا.