الفصل الحادي والثلاثون
لم يَعرف حتى الآن أن برات ليس باتريك آشبي سوى القس، وبي، وتشارلز، وإلينور، ومكتب كوسيت وثرينج ونوبل.
والشرطة.
الشرطة «على أعلى مستوياتها».
أُبلِغت الشرطة بكلِّ شيء، وكانوا في ذلك الوقت عاكفين بطريقتِهم الرائعة على تسوية هذه البلبلة بكلِّ ما أُوتوا من مهارةٍ وإتقان دون مُخالفة أيٍّ من القوانين التي تعهَّدوا بالالتزام بها. لقد مات سايمون آشبي. وليس من مصلحةِ أحدٍ أن يتمَّ الكشف عن قصة جريمته. ومن خلال عدم الإفصاح عن أمورٍ أكثر مما ينبغي، أمكن الإذعان لطقوس الشرطة، تارِكين بعض الحقائق مدفونة؛ وكأنها جرَّافة تمرُّ ببطءٍ فوق أرضٍ تحمل تحت سطحها ألغامًا لم تنفجر بعد.
تباطأ مُحقِّق الوفيات في البتِّ في العظام البائسة التي عُثر عليها في المحجر، وأرجأ التحقيق إلى أجلٍ غير مُسمًّى. ولم يُبلِغ أحد في المناطق المجاورة عن أي حالة اختفاء. أما تل تانبيتشس، على الجانب الآخر، فكان موقع تخييم مُفضَّلًا للرحالة، الذين لم يعتادوا إبلاغَ الشرطة عن أي حوادث تقع. لم يتبقَّ من الملابس سوى خِرق من القماش استعصى التعرُّف عليها. والأغراض التي عُثر عليها بالقُرب من العظام تعذَّر تمييزها؛ فكانت عبارة عن قطعة متآكلة من معدن ربما كانت في يوم من الأيام صفارة، وقطعة متآكلة أخرى كان من السهل التعرُّف عليها بأنها سكين، وعدد من العملات المعدنية من فئاتٍ نقدية صغيرة.
قالت بي: «جورج! ماذا حدث للقلم؟»
«القلم الحبر؟ أضعته.»
«جورج!»
«كان على أحدٍ أن يُضيِّعه يا عزيزتي. لم يتسنَّ للكولونيل سموليت فِعل ذلك؛ فهو جندي، يحمل حسَّ المسئولية الذي يتحلَّى به الجندي. ولا يمكن للشرطة فِعل ذلك؛ فهي تراعي احترامها لذاتها وواجبها تجاه الشعب. لكن ضميري هو شيء بيني وبين الرب. أظنُّ أنهم مُمتنُّون لي بشدة بطريقتِهم الضمنيَّة دون تصريح.»
أُجريَ التحقيق المُرجأ بشأن سايمون آشبي فيما بعد؛ إذ كان قد أُرجئ إلى أن تسمح حالة برات باستجوابه في المستشفى. أفاد الشرطيُّ الذي استجوبه أنه السيد آشبي لم يكن بوسعه تذكُّر أي شيء عن الحادث، أو عن السبب الذي حملَه على الذهاب إلى هناك برفقة أخيه في تلك الساعة لنزول المحجر. كان لدَيه ظنٌّ بأنَّ ما حدث كان نتيجة رهان. ظن أنه رهانٌ على شيءٍ بشأنِ وجود ماء في المحجر القديم من عدمِه؛ لكنه لم يستطِع القسَم على ذلك نظرًا للتشوُّش الذي أصاب ذاكرته. كان يُعاني إصاباتٍ خطِرة في رأسه ولا يزال مريضًا للغاية. لكنه عرف أنه قد اكتشف من آبل تاسك عدم وجود ماء هناك؛ وقال سايمون على الأرجح إن هذا مُستبعَد بشدة، وربما كان هذا منشأ الخلاف.
أكَّد آبل تاسك حقيقةَ أن باتريك آشبي قد سأله عن الماء في المحجر، وأن من النادر أن تجد أرضَ محجرٍ قديم جافة. كان آبل تاسك هو أول مَن أنذر بوقوع الحادثة. كان في الخارج على التل مع خروفه ثم سمِع ما ظنَّها صرخات استغاثة من جهة المحجر، فذهب إلى هناك بأقصى سرعة مُمكنة ووجد حبلًا سليمًا، واتَّجَه إلى ورشة الحدَّاد واستخدم هاتفه ليتصل بالشرطة.
أقرَّت بي، في ردِّها على مُحقِّق الوفيات، بأنها حتمًا كانت ستتَّخِذ خطوات لإحباط أي خطة كهذه لو كانت قد علِمت بها. وأبدى مُحقق الوفيات رأيه بأن لذلك السبب نُفِّذت هذه الخطة سرًّا.
صدر القرار النهائي بأن الوفاة قضاءٌ وقدَر، وعبَّر مُحقق الوفيات عن تعاطفه مع العائلة لفقدها هذا الشابَّ المِقدَام.
بهذا حُسمت مشكلة سايمون. سايمون الذي قتل أخاه قبل أن يبلُغ الرابعة عشرة من عمره، وكتب رسالةً نيابةً عن ذلك الأخ بدمٍ بارد، ثم رمى القلَمَ في الهوة بعد جثة أخيه، وعاد إلى المنزل رابطَ الجأش لتناوُلِ عشاء الساعة السادسة عند إخراجه من ورشة الحدادة. سايمون الذي انضمَّ إلى عملية البحث ليلًا عن أخيه على مُهره، وفي وقتٍ ما أثناء تلك الليلة الطويلة أخذ معطف أخيه إلى قمَّةِ المنحدَر وتركَه هناك مع رسالةٍ في الجيب. سايمون الذي فُجع لوفاته أهل الريف الآن كشابٍّ مِقدام ذي جاذبية لا تُنسى.
لكن ظلَّت مشكلة برات قائمة.
لم تكن المشكلة في هويته، إنما في مُستقبله. كان الأطباء قد خَلَصوا إلى أنه، بعد أن عاش كل هذه المدة الطويلة خلافًا لكل الاحتمالات، فمن الوارد أن يُواصِل حياته. لكن ربما سيحتاج إلى عناية لوقتٍ طويل، وحياة هادئة إذا كان له أن يتعافى كما ينبغي.
أخبرتْهُ بي حينما صارت حالتُه جيدة بما يكفي للفت انتباهه إلى موضوعٍ ما: «جاء العم تشارلز لزيارتك ذات يومٍ حينما كنتَ مريضًا. أدهشَه الشبَهُ الذي بينك وبين والتر آشبي. ابن عمي.»
قال برات: «حقًّا؟» لم يُبدِ اهتمامًا بالأمر. ما جدوى ذلك الآن؟
«لقد بدأنا تحرياتٍ عنك.»
قال بضجرٍ: «ذلك ما فعلَتْه الشرطة. قبل سنوات.»
«هذا صحيح، لكن المعلومات التي توافرت لديهم ضئيلة للغاية لا تكفي لينطلقوا منها ويستمرُّوا في البحث. كلُّ ما عرفوه أن فتاةً شابة وصلت بالقطار تحمِل طفلًا رضيعًا، ثم غادرت بالقطار من دونه. كان القطار قادمًا من مقاطعة برمنجهام المزدحمة بجميع ضواحيها. فبدأنا نحن من الطرف الآخر. طرف والتر. عُدنا إلى حيث كان والتر، في مكانٍ ما منذ نحو اثنين وعشرين عامًا، وبدأنا من هناك. كان والتر دائمَ التنقُّل؛ لذلك لم يكن الأمر سهلًا، لكننا اكتشفنا أن، من بين الوظائف الأخرى التي عمل فيها، كان قائمًا بأعمال أحد الإسطبلات في مدينة جلوسترشير لمدة شهرَين بينما كان صاحب الإسطبل غائبًا يخضع لعملية جراحية. كان أفراد المنزل هم مُدبِّرة المنزل وفتاة صغيرة تتولَّى شئون الطهي. رغم إجادتها للطهي، كان طموحها الحقيقي أن تعمل ممرضةً في أحد المستشفيات. أحبَّتْها مُدبِّرة المنزل، وكذلك صاحب المنزل، وحينما عَلِما بأنها ستُنجِب طفلًا سمحا لها بالبقاء، وأنجبت طفلَها في الدار المحلية لاستقبال الحوامل. طالما كان لدى مُدبِّرة المنزل قناعة بأن الطفل ابن والتر، لكن الفتاة لم تُفصح عن ذلك. لم تكن لدَيها رغبة في الزواج؛ إنما أرادت أن تكون مُمرضة. قالت إنها ستعود بالطفل إلى بلادها لتعميده — فقد جاءت من إيفشام واي — ولم تَعُد. لكن مُدبرة المنزل تسلَّمت خطابًا منها بعدَها بمدةٍ طويلةٍ تشكرُها فيه على طيبة قلبِها وتخبرها بأن الفتاة قد حقَّقَت طموحها وصارت ممرضة»، وقالت: «لا أحد يعرف أي شيءٍ عن طفلي. لكني متأكدة أنه يتلقَّى رعاية جيدة.»
نظرت إلى برات نظرةً سريعة. كان مُسترخيًا وعيناه على السقف، لكن بدا منصتًا إليها.
«كان اسمُها ماري وودوارد. كانت ممرضةً أكثرَ براعةً منها كطاهية. قُتلت أثناء الحرب، وهي تُخرِج المرضى من أحد العنابر إلى منطقةٍ آمنة في أحد المخابئ.»
ساد صمت طويل.
قال: «يبدو أنني وُرِّثْتُ مواهبي في الطهي أيضًا»؛ لكن لم يكن بوسعها أن تُميِّز إن كانت تلك الكلمات تنمُّ عن مرارةٍ في النفس أم لا.
«كنتُ مغرمةً كثيرًا بوالتر. كان غاليًا وعطوفًا جدًّا. لكن لم يعِبْهُ سوى شيء واحد؛ كان يعجز عن الصمود أمام الخمور، وكان يُحِب الشرب حبًّا جمًّا. لا أُصدِّق للحظة أن والتر كان يعرف بأمر الفتاة. كان من النوع الذي سيُهرع إلى الزواج منها. وأظنُّ أنها لم ترغب في أن يعرف.»
ألقت نظرةً أخرى على برات. ربما أنها تسرَّعت في إخباره بكلِّ هذا، قبل أن يُصبح قويًّا بما يكفي ليُبديَ اهتمامًا. لكنها أمَلت أن يمنَحَه ذلك رغبةً في الحياة.
«أخشى أن ذلك أقربُ ما استطعنا الوصول إليه يا برات. لكن لا أحد منَّا لدَيه أيُّ شكٍّ في ذلك. بنظرةٍ واحدة ألقاها تشارلز عليك قال «والتر.» وأنا نفسي أرى أنك تُشبِهُ والدتَك قليلًا. هذه هي ماري وودوارد. التُقطت لها هذه الصورة في عامها الثاني في جامعة سانت ليوك.»
أعطتْهُ الصورة، وتركتها معه.
بعد مرور أسبوع أو أسبوعَين قالت لإلينور: «نيل، سأتركك. لقد استأجرتُ إسطبل تيم كونيل في كيلبارتي.»
«معقول يا بي!»
«لن أتركك في الحال، لكن حينما يَقدِر برات على السفر.»
«أستأخُذين برات إلى هناك؟ أوه، نعم، بالطبع، لا بد أن تُسافري! يا لها من فكرة رائعة، يا بي. ستُحَلُّ الكثير من المشكلات، أليس كذلك؟ لكن هل تستطيعين تحمُّل التكاليف؟ هل لي أن أقرضك مالًا من أجل ذلك؟»
«لا، العم تشارلز يتولَّى ذلك. من الرائع أن تُفكري في أن تشارلز يدعم الخيول، أليس كذلك؟ ستحتاجين كلَّ ما لدَيكِ لدفع ضريبة التركة يا عزيزتي. السيد ساندال أبلغ البنك بأن المكان كان ملكًا لسايمون طوال الوقت.»
«ماذا سنفعل بخصوص إخبار الناس بشأن برات؟ أقصد، بخصوص أنه ليس باتريك.»
«أعتقد أنه لن يكون علينا أن نفعل أي شيءٍ حيال ذلك. ستتسرب الأخبار لا محالة. كما تتسرب دومًا. أظنُّ أن لا شيء بيدَينا حتى نمنع تسريبَ الأخبار. إن ما سينتزِع من الحدث جزءًا كبيرًا من مُتعتِهِ لمروجي الفضائح، هو حقيقة أننا نجعله جزءًا من العائلة بدلًا من الشروع في محاكمات وإجراءات تقاضي. سننجو منها يا نيل. وسينجو هو كذلك.»
«بالطبع سننجو. وفي أول مرةٍ سيجرؤ أحدُهم على مُفاتحتي في الأمر، سأقول له: «ابن عمي؟ أجل، ادَّعى أنه أخي. فهو يُشبه باتريك كثيرًا، أليس كذلك؟ وكأننا نُناقش أمرًا عاديًّا».» توقَّفت لحظة ثم أضافت قائلة: «لكني أودُّ أن ينتشِر الخبر قبل أن يكبر سنِّي لدرجةٍ تحول دون الزواج منه.»
سألت بي في دهشة: «أتُفكرين في ذلك؟»
«بل عازمة عليه.»
تردَّدت بي؛ ثم قررت أن تدَع المُستقبل يقرر نفسه.
قالت: «لا تقلقي. سينتشر الخبر.»
قالت لبرات في وقتٍ لاحق: «أما وقد صار العم تشارلز هنا، فسيستقر في لاتشتس. أما أنا فبإمكاني أن أعود لإنشاء حياةٍ خاصة بي في مكانٍ آخر.»
نزلت عيناه عن السقف، وتأمَّلها.
«أضع عيني على مكانٍ في أولستر. إسطبل تيم كونيل في كيلبارتي.»
لاحظَتْ أن أصابعه بدأت تعبث بحزنٍ في ملاءة السرير.
سأل: «هل سترحلِين إلى أولستر إذن؟»
«فقط إذا أتيتَ معي، وأدرتَ الإسطبل من أجلي.»
اغرورقت عينا الشابِّ الذي تماثَلَ للشفاء مؤخرًا بالدموع وطفِقت تسيل على وجنتَيه.
قال: «يا لطيبة قلبك يا بي!»
قالت: «أعتقد أن ذلك يعني أن عرْضي مقبول.»