الفصل الرابع
استلقى الشابُّ على فراشه في الظلام، بكامل ملابسه، مُحدِّقًا إلى السقف.
لم يكن في الشارع مصابيحُ حتى تضيء هذه الغرفة الخلفية المبنية تحت البلاط الصخري؛ لكن الضباب الخافت للضوء الذي يغشى سماء لندن ليلًا، المنبعث من المصابيح القوسية والغازية ومصابيح البرافين الكثيرة المنتشرة، عكس شيئًا أشبهَ بطيفٍ على السقف حتى صارت شقوقه والبُقَع التي تلطخه تبدو وكأنها خريطة العالم.
كان الصبي يتأمَّل خريطة للعالم أيضًا، لكنها لم تكن على السقف. كان يُعيد النظر في رحلة حياته راصدًا أحداثها التي مرَّ بها. لقد هزَّه لقاء اليوم. بدا له أن هناك رجلًا آخر في مكانٍ ما يُشبهه حتى إنه قد يحدث خلط بينهما لوهلة. كانت الفكرة مُذهلة لرجل عاش في وحدة شديدة طوال حياته.
في الواقع كان ذلك أغربَ شيء حدث له طوال الواحد والعشرين عامًا التي عاشها. بطريقةٍ ما بدا الأمر وكأنَّ كل تلك السنوات التي بدت مُثيرة ومليئة بالأحداث في ذلك الوقت كانت مجرد مُقدِّمة لتلك اللحظة التي وقف فيها المُمثل الشابُّ مشدوهًا في الشارع وقال: «مرحبًا يا سايمون.»
ثم قال في الحال: «أوه! آسف! حسبتك صديقًا ﻟ…» ثم توقَّف وأخذ يُحدِّق.
سأل الصبي أخيرًا، لمَّا لم يظهِر الرجل أي بادرة للانصراف ومغادرة المكان: «هل بإمكاني أن أساعدك في شيء؟»
«نعم. بإمكانك أن تأتي وتتناول الغداء معي.»
«لماذا؟»
«حان موعد الغداء، وتلك الحانة التي وراءك هي حانتي المفضلة.»
«لكن لماذا أنا بالذات؟»
«لأنك تُثير اهتمامي. تُشبه صديقًا لي كثيرًا. اسمي لودينج، بالمناسبة. أليك لودينج. ألعب دورًا شريرًا في مسرحية هزلية سيئة على ذلك المسرح العتيق المتردِّي هناك.» وأشار برأسه إلى الجهة المقابلة من الشارع. «لكن نقابة «إيكويتي» للمُمثلين، ليُباركهم الرب، قضت بحدٍّ أدنى من الأجر مقابل أعمالي، وبهذا يَسرُّني أن أقول إن الأجر المُخصَّص أفضل كثيرًا من تقاضي الأجر بالدور. هل تُمانع أن تُخبرني باسمك؟»
«فارار.»
«فاريل؟»
«لا. فارار.»
«حسنًا.» كانت تلك النظرة المُبتهجة المتفحصة لا تزال تلوح في عينَيه. ثم أردف قائلًا: «هل عُدت إلى إنجلترا منذ مدة طويلة؟»
«كيف عرفت أني كنت خارج إنجلترا؟»
«من ملابسك يا صاح. الملابس هي صميم عملي. لقد ارتديتُ ملابسَ لكثيرٍ وكثيرٍ من الأدوار لدرجةٍ تجعلني أُميِّز طريقةَ التفصيل الأمريكية عندما أراها. حتى التفصيلة التقليدية المُذهلة التي ترتديها الآن.»
«إذن ما الذي يجعلك ترى أني لستُ أمريكيًّا؟»
ابتسم الرجل ابتسامةً عريضةً إثر سؤاله هذا. فقال: «ذلك هو السر الأبدي الذي يحمِله الإنجليز. تشاهد موكبًا من الرهبان في إيطاليا فتميِّز عيناك أحدَ الرجال وتقول: «ها! رجل إنجليزي.» تلتقي مصادفة بخمسة مُتشردين متدثِّرين في أجولة من الخيش ليحتموا من المطر في ولاية ويسكونسن، وتلاحِظ خامسهم فتفكر قائلًا: «يا إلهي، ذلك الرجل إنجليزي.» ترى عشرة رجال عراة أمام طبيب الفيلق الأجنبي الفرنسي ليُقيِّم لياقتَهم، وتقول … لكن هيا بنا لتناول الغداء وبإمكاننا أن نتحقَّق في الموضوع على راحتنا.»
ومِن ثمَّ ذهب لتناول الغداء، وتحدَّث الرجل وكان جذابًا وساحرًا. لكن كان وراء تِلكما العينَين المُنتفختَين المفعمتَين بالحيوية دائمًا تلك النظرة الفضولية المُستمتِعة التي يغلُب عليها الشك. كانت تلك النظرة أبلغَ من أي نقاشٍ أو جدلٍ دار فيما بعد. لا بد حقًّا أن برات فارار يُشبه ذلك الرجل الآخر حتى يستحضر في عينِ شخصٍ تلك النظرةَ من الاستمتاع والنشوة المُمتزجَين بشيء من التشكُّك.
استلقى على الفِراش وفكَّر في الأمر. في هذا التشابُه المفاجئ الكائن في عالمٍ لا ينتمي إليه. تملَّكتْه رغبة شديدة في رؤية توءمه هذا؛ هذا الشاب من عائلة آشبي. كان اسمًا لطيفًا: اسمًا إنجليزيًّا رفيعًا. كان يودُّ أن يرى المكان أيضًا: لاتشتس، المكان الذي نشأ فيه شبيهُه وسط عالَم من الهدوء ينتمي إليه في الوقت الذي كان يجوب العالَم هائمًا على وجهه، من دار الأيتام وحتى تلك اللحظة في أحد شوارع لندن، حتى لم يَعُد له انتماء إلى أي مكان.
دار الأيتام. لم يكن لدار الأيتام ذنبٌ في شعوره بعدم الانتماء. فقد كانت دارًا جيدة للغاية، وأكثرَ بهجةً بكثيرٍ من دُور كثيرة كان قد رآها أثناء مَسيرته. كان الأطفال يُحبونها. بل كانوا يَبكون عندما يُغادرونها ويعودون لزيارتها من وقتٍ لآخر، ويُرسلون تبرعاتٍ إلى صناديق تمويل الدار، ويدعون العامِلين بها لحضور حفلات زفافهم، ويأتون بأطفالهم للحصول على مباركةِ مُشرِفةِ الدار. لم يكن يمرُّ يومٌ إلا وتجدُ تجمهرًا عند الباب حول فتاة أو صبي من نزلاء الدار القُدامى جاءوا لزيارتها. لماذا إذن لم يكن يراوِدُه مثل ذلك الإحساس؟
هل لأنه كان لقيطًا؟ أكان ذلك هو السبب؟ هل لأنه لم يكن يأتيه زائرون قط، أو طرود أو خطابات أو دعوات؟ لكنهم كانوا يتعاملون بحكمةٍ بالغة مع تلك المسألة؛ كانوا حريصين أشدَّ الحرص على دعم تقديره لذاته. على العكس إذا كان هناك أي شيء ميَّزَه عن الأطفال الآخرين، فكان وضعُه كلقيط. تذكَّر أن هدية عيد الميلاد التي تأتيه من المُشرفة كانت مثار حسدٍ من الأطفال الذين لم تكن تأتيهم هديةٌ إلا من عمةٍ أو عمٍّ؛ مجرد صِلة قرابة إن جاز التعبير. كانت المُشرِفة هي التي التقطتْه من عند عتبة الباب يوم مجيئه؛ وكانت تحرص على إخباره مرارًا بمدى حُسن هندامه وشدة الاعتناء به آنذاك. (ظلَّ يسمع ذلك على فتراتٍ معقولة طيلة خمسة عشر عامًا لكنه عجز تمامًا عن الشعور بأي رضًا تجاه ذلك.) كانت المشرفة هي التي اختارت له اسمَه بالاستعانة بدبوسٍ ودليل الهاتف. كان الدبوس قد سقط على كلمة فاريل (وتعني الرجل الشجاع) في دليل الهاتف. وهو ما أسعدَ المشرفة إلى حدٍّ كبير؛ فقد سقط دبوسها ذات مرة، منذ فترة طويلة، على كلمة «كوفين» (وتعني النعش)، وكان عليها حينَها أن تتحايلَ على الأمر وتُجرِّب مجددًا.
انقطعَ أي شكٍّ بخصوص اسمه الأول؛ إذ كان قد وصلَ إلى عتبة الباب في يوم القديس بارثولميو. كان قد أطلقَ عليه من البداية اسم بارت. لكن الأطفال الأكبر سنًّا حرَّفوا الاسم ليصير برات، وبعد مدةٍ قليلة صار العاملون كذلك يستخدمون الاسم الأكثر شيوعًا (أكانت هذه حيلةً أخرى من المشرفة حتى تُحجِّم إحساسه بكونه «مختلفًا»؟) وصار الاسم مُلازمًا له حتى انتقل إلى مدرسة قواعد اللغة.
مدرسة قواعد اللغة. لماذا لم يشعُر نحوَها «بالانتماء»، إذن؟
هل لأن ملابسه كانت مختلفة بما لا يلفت الأنظار إليه؟ بالتأكيد لا. لم يكن حسَّاسًا في طفولته؛ كان منطويًا فحسب. هل لأنه التحقَ بها من خلال منحةٍ دراسية؟ بالطبع لا: نصف الصبية معه في الصف الدراسي التحقوا بها من خلال منحة دراسية. لماذا إذن قرَّر أن المدرسة لم تكن مناسبة له؟ قرَّر بحسمٍ لا يتماشى مع طبيعة صبيٍّ لدرجةٍ أخرست كلَّ حجج المشرفة تمامًا، وأيَّدت خروجه للعمل.
لا عجبَ في نفوره من العمل بكل تأكيد. فقد كان مَقرُّ عمله يبعُد مسافة خمسين ميلًا، ونظرًا لعدم توافُر أماكن إقامة عادية يُمكنه دفع ثمنها من راتبه، أصبح لا مفرَّ أمامه من الإقامة في الدار المحلية لرعاية «الصبية». لم يُدرك نعيم دار الأيتام إلا حين ذاقَ دار الرعاية. كان بإمكانه أن يحتمِل إما العمل أو الدار، لكن ليس الاثنان في آنٍ واحد. ومن بين الاثنَين كان مقر العمل أسوأهما بكثير. كان العمل مُريحًا كوظيفة، لا تكتنفُه أيُّ ضغوط، ويحمل بعض فرص التطوُّر الأكيدة، وإن كان على المدى البعيد؛ لكن في نظره كان سجنًا. كان يدرك دائمًا أن الوقت يُداهمه؛ الوقت الذي كان يُهدره. لم يكن هذا ما يريده.
ودَّع حياته الوظيفية على نحوٍ شِبهِ مفاجئٍ وغير مُتعمَّد، وبالطبع من دون تروٍّ. «يوم ذهاب وعودة إلى دييب» كان هذا هو محتوى إعلان ملصق على زجاج واجهة عرض خاصة بأحد باعة الصحف؛ وكان السعر الموضَّح بأرقام كبيرة لونها أحمر، هو حصيلة مُدخراته بالضبط مقرَّبًا إلى أقرب نصف كراون إنجليزي. رغم ذلك، لم يكن ليفعل شيئًا حيال ذلك لولا جنازة السيد هندرين العجوز. كان السيد هندرين الشريك «المنسحِب» في المكتب الذي يعمل به، وفي يوم جنازته أغلق المكتبُ أبوابه «تقديرًا له.» وهكذا، ومع امتلاكه راتب أسبوع كامل في جيبه ويومًا كاملًا إجازة في وسط الأسبوع، أخذ مُدخراته وذهب ليرى «العالم بالخارج.» قضى وقتًا رائعًا في دييب، ولم تُشكِّل لغتُه الفرنسية المتواضعة أي عائق أمام الاستمتاع بوقته، لكن لم يخطر بباله ولو لوهلة المكوثُ هناك إلى أن كان في طريق العودة إلى الوطن. كان قد وصل إلى الميناء قبل أن تستحوذ عليه تلك الفكرة الصادمة.
أخذ يفكِّر وهو يحدِّق إلى سقف غرفته الكائنة في بيمليكو، أكانت الأمانة الفطرية، أم حُسن التوجيه الذي تلقَّاه في دار الأيتام، هو الذي جعل ضخامة حساب غسل الملابس الذي لم يُسدِّده عاملًا مؤثرًا للدرجة في صراعه الفكري الذي خالجَه فيما بعد؟ لم يكن لصبيٍّ لا يملك مالًا ولا فراشًا لمبيتِ ليلةٍ أن تشغَلَه القِيَمُ والأخلاقياتُ المتعلقة بالتملُّص من فاتورة غسيلٍ قيمتُها جنيهان وثلاثة بنسات.
كانت الحافلة، القادمة من الميناء، هي طَوق نجاته. رفع إبهامه ليستوقف سائقها، فابتسم السائق الذي كان يتولَّى قيادةَ الحافلة وكان يُشبِه قُطَّاع الطرُق في هيئته، وذا بشرة بُنية ويتصبَّب عرقًا، ابتسم ابتسامةً عريضة لهذه الإيماءة المتعارَف عليها فتهادى في سَيرِه عندما مرَّ به. ركض نحو الحافلة المتحرِّكة التي كانت ضخمةً كسطحٍ مُنْحَدرٍ، فأمسك بها وتشبَّث، ثم سُحِب إلى داخلها. وترك وراءه حياته القديمة برُمتها.
كان قد اعتزم الإقامة والعمل في فرنسا. كان يجادل مع نفسه أثناء الرحلة الطويلة إلى هافر في أفضل طريقةٍ يمكن بها أن يتكسَّب ما يكفي مأكله، وذلك بعدما أصبح التواصُل مع السائق بالإشارات غير مُجدٍ وعَجَز عن فهم لهجة السائق العامية. كان رفيقُه في حانة هافر هو الذي أرشده. قال الرجل، ناظرًا إلى عينَيه مباشرةً بعينَي كلب صيد حزين: «يا صديقي الشاب، لا يكفي أن تكون شخصًا بالغًا حتى تعمل في فرنسا. لا بد أن تحمل وثائقَ رسمية أيضًا.»
تساءل: «وأين يمكن لإنسانٍ أن يعيش دون أن يمتلك وثائقَ رسمية؟ أقصد في أي بلد؟ بإمكاني السفر إلى أي مكان.» لقد أصبح فجأة مُدركًا للعالَم، وأنه صار متحررًا منه.
أجاب الرجل: «الربُّ يعلم. فالبشر يَصيرون أشبهَ كلَّ يومٍ بقطيعٍ من الأغنام المُنقادة. اذهب إلى الميناء واصعد على متن إحدى السفن.»
«أي سفينة؟»
«لا يهم. أليس لديكم لعبة في الإنجليزية …» ثم قام بإيماءات وصفية.
«لعبة القُرعة؟ أجل. إيني، ميني، ميني، مو.»
«عظيم. توجَّه إلى الميناء وقُل «إيني، ميني، ميني، مو». وعندما تصعد على متن السفينة التي وقعَتْ عليها كلمة «مو» تأكَّد أن لا أحد يراك. فلدَيهم على السفن شغف بالوثائق الرسمية يصِل إلى حدِّ الجنون.»
وقع الاختيار على السفينة «بارفلور»، ولم يكن بحاجة إلى وثائقَ رسمية في نهاية المطاف. فقد كان الصبي هو المنحة السماوية التي كان طاهي سفينة بارفلور يبحث عنها سنواتٍ طِوالًا.
بارفلور الأصيلة الرائعة، بمطبخها الأخضر المُتَّسخ الذي تفوح منه رائحة زيت زيتون أُعيد استخدامُه مرارًا، ومياه البحر الرمادية التي ترتطم عاليًا بالجبال، والمعجزة المتوالية المُتمثلة في مرورها دون وقوع ضرر، وحالة السُّكْر التي تُصيب الطاهي أسبوعيًّا والتي كانت تُتيح له أن يطهو دون أجر، ويتعلَّم العزف على الهارمونيكا، ويطَّلع على المطبوعات الغريبة في غُرَف طاقم السفينة. يا لبارفلور الرائعة!
أخذ معه أشياءَ كثيرة عندما غادرها، لكن كان أهمَّها على الإطلاق الاسمُ الجديد الذي اكتسبَه. عندما كتب اسمَه لقبطان السفينة، استبدل بوردي العجوز حرف الراء بحرف اللام، ونسخ اسمه فارار. فظلَّ مُحتفظًا به هكذا. أُخذ فاريل من دليل الهاتف؛ وأُخذ فارار من خطأ ربانٍ شارد. وكلٌّ في النهاية يُفضي إلى شخصٍ واحد.
وماذا بعد؟
ميناء تامبيكو ورائحة الشحم. ومُراقب البضائع الذي قال: «هل أنت إنجليزي؟ هل تبحث عن وظيفة على الساحل؟»
ذهبَ لتفقُّد «الوظيفة»، مُتوقعًا أن تكون غسل صحون.
من المفارقات الغريبة أنه ربما كان لا يزال يعيش في ذلك المنزل الهادئ البديع بفِنائه المرصوف، والزهور الزاهية العديمة الرائحة، والغرف الظليلة البسيطة ذات الأثاث الجميل. حياة رغدة، بدلًا من الاستلقاء على فراشٍ مُتداعٍ في بيمليكو. أُعجب به الرجل العجوز، وأراد أن يتبنَّاه؛ لكنه لم يشعر «بانتماءٍ» نحوه. كان يستمتِع بقراءة الصحف الإنجليزية إليه مرتَين يوميًّا، والعجوز يُتابع ما يُقرأ بسبابةٍ نحيفة مصفرة على نسخته الخاصة؛ لكنها لم تكن الحياة التي كان يتطلع إليها. («إذا كان لا يفهم الإنجليزية، فما جدوى قراءة الإنجليزية له؟» كان قد استفسر عندما شُرحت له طبيعة الوظيفة في البداية، وأفهموه أن الرجل العجوز يعرف «القراءة» بالإنجليزية، بعد أن علَّم نفسه من أحد القواميس، لكنه لم يعرف كيف ينطقها. فأراد أن يستمع إلى نطقها من رجلٍ إنجليزي.)
لا، لم تكن تلك الحياة المناسبة له. كانت أشبَهَ بالعيش في موقع تصوير.
لهذا ذهب ليعمل طاهيًا لنخبةٍ من خبراء النباتات. وبينما كان يحزم أمتعته ليرحل قال له رئيس الخَدَم بنبرة مواساة: «أفضل لك أن ترحل، رغم كل شيء. إذا بقيت ستدُسُّ لك رفيقتُه السُّمَّ.»
كانت المرة الأولى التي يسمع فيها بوجود رفيقة لهذا العجوز.
استمر في العمل طاهيًا بينما كان يشقُّ طريقه بخُطًى ثابتة نحو حدود نيو مكسيكو. وكانت تلك هي الطريقة السهلة لدخول الولايات المتحدة، حيث لا يوجَد نهرٌ يعوق خُطاك. استمتع بهذه البلدة العبثية الرائعة، التي تتَّخِذ معالمها الطبيعية شكل زوايا، لكن مثلما شعر في منزل الأرستقراطي العجوز القريب من ميناء تامبيكو، لم يكن ذلك ما يتطلَّع إليه.
بعد ذلك نما بداخله إحساسٌ بطيء بالرضا.
عمل طاهيًا مساعدًا لدى تلك المجموعة في مدينة لاس كروسيس. وكانوا لا يحتمِلون أيَّ اختلافٍ عن الطعام الذي عرفوه، وكانوا يستمتِعون بلهجتِه. («قُلها مرةً أخرى أيها الإنجليزي.» ثم تنطلق ضحكاتهم مُردِّدين في ابتهاج: «ماذا تقول؟!»)
عمل طاهيًا لمسابقات رعاة البقر التي تقام عند نهرِ سنيك. وهناك اكتشف الخيول. كان الإحساس الذي منحَتْه إياه هو إحساس العودة إلى الوطن.
تولَّى رعاية قطيعٍ من الخيول لصالح مركز سباق الخيل في سانتا كلارا. واكتشف أن الخيل «الحرون» تُصبح أقلَّ عنادًا عندما يَمتطيها صبيٌّ إنجليزي.
أمضى فترةً مع البيطار في مزرعة ويلسون. وهناك كان لقاؤه بفتاته الأولى، لكن ذلك لم يُثِر في نفسه نصفَ الحماس الذي يشعر به حينما يبحث عما بوسعه أن يفعله مع «الخيول الميئوس منها» في الحظيرة. قال له سيده: «ليس بوسعك فِعل شيء سوى إطلاق النار عليها.» وعندما اقترح محاولةَ فِعل شيءٍ حيالها، قال سيده بفتور: «افعل ما شئت؛ لكن لا تنتظِر منِّي دفعَ حساب المستشفى. لقد استؤجرتَ هنا مساعدًا للبيطار.»
ومن تلك المجموعة جاء سموكي: حصانه الجميل سموكي. أهداه سيده إياه جزاءً لما فعله مع الحالات الصعبة. وعندما ذهب إلى مزرعة ليزي واي أخذ سموكي معه.
عمل بترويض الخيول بمزرعة ليزي واي. وكانت فترة سعيدة. كانت السعادة تغمره لدرجةٍ تفوق الحدود. واستمرَّت تلك السعادة قُرابة سنتَين.
وبعد ذلك. صار ينتابه ثِقل وقتي؛ فكان الحَر يُصيبه بالخمول والنعاس أو تُحجَب عنه الرؤية بفعل وهَج الشمس. ورأى الظَّهر البُني المتلوِّي لأحد الخيول ينقلب عليه. وسمع صوت انكسار عظام فخذه.
نُقل إلى المستشفى في إيدجمونت. لم يكن مثل المُستشفيات التي تظهر في الأفلام مطلقًا. لم يكن هناك مُمرضات حسناوات ولا أطباء وَسِيمُون تحت التمرين. كانت جدران العنبر ذات لون أخضر ضارب إلى الرمادي كلَون أوراق المريمية، والمعدَّات والأجهزة قديمة ومتَّسخة، والممرضات مُنهكات من كثرة العمل. كنَّ يُدلِّلنه تارةً ويتجاهَلْنه تارةً أخرى.
ثم حدث الانقطاع المُفاجئ للرسائل من الصِّبية.
المهمة الشاقة لتعلُّم المشي من جديد، واستيعابه البطيء أن إصلاح ساقه قد أدَّى إلى «قِصَرها» عن الساق الأخرى. سيصير أعرجَ إلى الأبد.
ثم الرسالة التي جاءته من سيدِه بإنهاء عمله في ليزي واي.
النفط. كانوا يَحفرون للتنقيب عن النفط. كان أول برج حفرٍ تحت الإنشاء يقع على مسافةٍ لا تتجاوز مائتي ياردة عن مسكن العمَّال. كان الشيك المُرفق بخطاب سيده كفيلًا بإعالة برات حتى يستردَّ عافيتَه. في تلك الأثناء كان يُفكر، ما الذي يجِب فِعله مع سموكي؟
ماذا بوسع رجلٍ أعرجَ أن يفعل مع حصانٍ في حقل نفط؟
بكى على حال سموكي بينما كان مُستلقيًا في ظلمة العنبر. كانت تلك هي المرة الأولى التي يبكي فيها على حال أحد.
حسنًا، ربما أصبح بطيئًا لدرجةٍ تعُوقه عن الاستمرار في ترويض الخَيل، لكنه لن يكون خادمًا للنفط. ثمَّة سُبل أُخرى للكسب من الخيول.
منتجع ركوب الخيل. لم يكن يُشبه تلك المنتجعات التي تظهر في الأفلام أيضًا.
كان مملوكًا لسيداتٍ غليظات حمقاوات يرتدِين ثيابًا غير لائقة ينهلنَ بضرباتٍ قاسية على سروج خيول كسيرةِ الروح، حتى إنه تعجَّب أنها لم تنشطر إلى نصفَين.
السيدة التي كانت ترغب في الزواج منه.
لم تكن نهائيًّا من النساء التي قد تتصوَّر أنها تريد «رجلًا تعوله امرأة.» لم تكن بدينة أو سخيفة أو مُتيَّمة. بل كانت نحيفة، يبدو عليها التعب والإجهاد، وكانت لطيفة بعض الشيء؛ كانت تمتلك من منتجع ركوب الخيل الجزء الواقع أعلى التل. أخبرته أنها ستُعيد إليه ساقَه كما كانت. وكان ذلك هو الطُّعم الذي ألقتْه له.
كان الشيء الإيجابي في منتجع ركوب الخيل هو إمكانية كسب المال فيه. لم يمتلك مالًا بهذه الوفرة في حياته مثلما كان حينما أنهى عمله هناك. كان يعتزم التوجُّه إلى الشرق لإنفاقها. ثم حدث له شيء. أثارت تلك القرية الصغيرة الأكثر خضرةً في الشرق، ورائحة الحدائق النضرة، أثارت في نفسه حنينًا إلى إنجلترا لدرجةٍ أربكته. فلم يكن ينوي بعدُ العودةَ إلى إنجلترا لسنواتٍ قادمة.
ظل لعدة أسابيع يُصارع هذا الحنين في قلق واضطراب — كانت الرغبة في العودة شيئًا طفوليًّا في نظره — ثم استسلَمَ تمامًا على حين غِرة. فهو في النهاية لم يسبِقْ له أن زار لندن. وكانت العودة لزيارة لندن سببًا مشروعًا تمامًا للعودة إلى إنجلترا.
وهكذا عاد إلى الغرفة الخلفية في بيمليكو وذلك اللقاء الذي حدث في الشارع.