الفصل السادس
كان السيد ساندال، بمكتب كوسيت وثرينج ونوبل، على وشْك إنهاء عمله المسائي وبدأ عقله في جدله اليومي بخصوص ما إذا كانت حافلة الساعة الرابعة وخمسٍ وخمسين دقيقة أم حافلة الخامسة والربع هي التي ستحمِله إلى المنزل. كان هذا هو الجدل الوحيد تقريبًا الذي يخوضُه عقلُ السيد ساندال في حياته. كان مُوكِّلو مكتب كوسيت وثرينج ونوبل من نوعَين لا ثالث لهما: هؤلاء الذين توصَّلوا إلى قرارٍ بخصوص مشكلةٍ ما وأخبروا مُحاميهم بنبرةٍ حاسمة عن الإجراء الذي أرادوا اتخاذَه، وأولئك الذين ليس لديهم أي مشكلة. لم يكن هناك خبرٌ مفاجئ أو أحداث مشئومة تُسرِّع من إيقاع المكتب ذي الطراز الجورجي المُستظل بظل أشجار الدُّلْب. حتى وفاة أحد المُوكلين لم يكن خبرًا: فكان متوقعًا من العملاء أن ينقضيَ أجلهم، وحينئذٍ ستكون الوصية المناسبة في خزانة المستندات المناسبة وستسير الأمور كما كانت من قبل.
محامو الأسَر؛ هكذا كان مكتب كوسيت وثرينج ونوبل. مُتعهِّدون بالحفاظ على الوصايا والتكتم على الأسرار؛ لكنهم لا يتخذون موقفَ المُصارعين أمام المشكلات. وكان هذا هو السبب الذي جعل السيد ساندال بأي حالٍ أفضلَ شخصٍ يتلقَّى ما يأتيه.
سأل مساعده، الذي كان يقود ضيفًا إلى الخارج: «أذلك كل شيء يا ميرسر؟»
«يُوجَد موكِّل واحد يجلس في غرفة الانتظار يا سيدي. السيد آشبي الصغير.»
«آشبي؟ مِن لاتشتس؟»
«أجل يا سيدي.»
«حسنًا؛ حسنًا. هلا تُحضِر إبريق شاي يا ميرسر؟»
«أجل يا سيدي.» ثم توجَّه إلى المُوكِّل قائلًا: «هلا تتفضَّل بالدخول يا سيدي؟»
دخل الشاب.
قال السيد ساندال، مُصافحًا إيَّاه: «سايمون، سعدت برؤيتك يا عزيزي. هل أتيتَ في مهمة عمل، أم فقط …»
تلاشى صوتُه في حَيرة، ثم حدَّق، وتوقَّفت ذراعه في منتصف المسافة وهو يُشير بها إلى أحد المقاعد كي يجلس.
فقال: «يا إلهي، أنت لست سايمون.»
«نعم. لست سايمون.»
«لكن … لكنك من عائلة آشبي.»
«إذا كنت تعتقد ذلك، فهذا سيسهل عليَّ الأمر كله.»
«حقًّا؟ اعذرني إن كنتُ مرتبكًا قليلًا. لم أعلم أن هناك أبناء عمومة في عائلة آشبي.»
«لا يُوجَد بالفعل، حسب علمي.»
«حقًّا؟ إذن، أستميحك عذرًا، أي فرد من عائلة آشبي أنت؟»
«باتريك.»
فغر السيد ساندال فاه الصغير ثم أغلقه فأصبح كفَّاه سمكةً ذهبية.
لم يَعُد ذلك الحالِم الغارق في عالَمِه الهادئ المريح، وتحول إلى مجرد محامٍ صغير يعصف به القلق والذهول.
للحظة استمرَّت طويلًا نظر في عينَي آشبي الفاتحتَين القريبتَين للغاية من عينَيه دون أن يجد أي كلماتٍ تبدو مناسبةً للموقف.
وأخيرًا قال: «أرى أنه من الأفضل أن نجلس.» وأشار إلى مقعد الزائرين، ثم استكنَّ في مقعده في سعادةٍ كمن وجد مرساة في عالَمٍ صار فجأة وسط بحر.
قال: «والآن، دعنا نستوضح الموقف. لقد مات باتريك آشبي الوحيد الذي أعرفه في عمر الثالثة عشرة؛ أي منذ — دعني أرى — ثماني سنوات مضت.»
«ما الذي يجعلك تعتقد أنه قد مات؟»
«لقد انتحر، وترك رسالة وداع.»
«هل أشارت الرسالة إلى انتحار؟»
«أخشى أني لا أستطيع تذكُّر نص الرسالة.»
«ولا أنا أتذكَّرها على وجه التحديد. لكن يُمكنني أن أوضح لك فحواها. قالت: «لم أعُد أطيق الاحتمال أكثرَ من ذلك. لا تغضبوا مني.»»
«أجل. أجل، كان ذلك فحوى الرسالة.»
«وأين الإشارة إلى الانتحار في ذلك؟»
«إيحاء الرسالة بكل تأكيد هو ما قد يستشفُّ منه المرء ذلك بطبيعة الحال. لقد عُثر على الرسالة أعلى المنحدَر مع معطف الصبي.»
«طريق المنحدر هو طريق مُختصرٌ إلى الميناء.»
«الميناء؟ أتقصد …»
«كانت رسالة هروب؛ وليس انتحار.»
«لكن … لكن ماذا عن المعطف؟»
«لا يمكنك أن تترك رسالةً في الهواء الطلْق. الطريقة الوحيدة لتركِها هي وضعُها في جَيب شيءٍ ما.»
«هل تُلمح جِديًّا إلى أنك … أنك … أنك باتريك آشبي، وأنك لم تنتحِر نهائيًّا؟»
نظر الشابُّ إليه بعينَيه اللتَين لا تُفشيان أي شيء. ثم قال: «عندما دخلتُ حسبتَني أخي.»
«صحيح. كانا توءمين. ليسا توءمين مُتطابقين، لكن بالطبع كانا في غاية …» وصارت الدلالة المباشرة لما كان يقوله واضحةً تمامًا له. «يا إلهي، هكذا حسبت. هكذا حسبت.»
جلس لحظة أو لحظتَين يُحدِّق في حيرة وعجز. وبينما كان يُحدِّق دخل ميرسر جالبًا الشاي.
سأله السيد ساندال: «هلا تتناول بعض الشاي؟» وكان السؤال مجرد ردِّ فِعل تلقائي لوجود صينية الشاي.
قال الشاب: «شكرًا لك. من دون سُكر.»
قال السيد ساندال، بأسلوبٍ استعطافي نوعًا ما: «هل تُدرك حقًّا أن ادعاءً مفاجئًا و… وخطِرًا إلى هذا الحد كادعائك هذا لا بد أن يخضع للبحث والتحقيق؟ ليس بإمكاني، كما تفهم، أن أكتفيَ بالموافقة على روايتك.»
«لا أتوقَّع منك ذلك.»
«رائع. هذا رائع. مُنتهى الحكمة منك. ربما من المُمكن في وقتٍ لاحق أن نحتفل بعودتك احتفالًا ضخمًا، لكن الآن علينا أن نتصرَّف بحكمة. أظنُّك تُدرك ذلك بالفعل. هل تريد حليبًا؟»
«شكرًا.»
«على سبيل المثال: هربت، كما تقول. أظنُّك هربت إلى البحر.»
«أجل.»
«على أي سفينة؟»
«السفينة إيرا جونز. كانت راسية في ميناء ويست أوفر.»
«واختبأت في السفينة بالتأكيد.»
«أجل.»
سأل السيد ساندال، وهو يُدوِّن ملاحظاتٍ وقد بدأ يشعر بأنه لم يكن يُبلي بلاءً سيئًا رغم كل شيء: «وإلى أين اتجهَت بك السفينة؟» كان هذا أسوأ موقف مرَّ به في حياته، ولم يَعُد هناك الآن مجال للحاق بحافلة الساعة الخامسة والربع.
«جزر تشانيل. سانت هيلير.»
«هل اكتُشف وجودك على متن السفينة؟»
«لا.»
«نزلت من السفينة في سانت هيلير، دون أن يكتشفك أحد.»
«أجل.»
«وماذا فعلت هناك؟»
«استقللتُ قاربًا إلى سانت مالو.»
«اختبأت مرة أخرى؟»
«لا، دفعت أجرتي.»
«هل تتذكَّر اسم القارب؟»
«لا؛ كانت تابعة لخدمة العبَّارات العادية.»
«فهمت. ماذا بعد؟»
«ذهبت لاستقلال الحافلة. كانت الحافلات دائمًا تبدو لي أكثرَ إثارة من تلك العربة العائلية القديمة في لاتشتس، لكن لم تسنح لي فرصة لركوبها.»
قال السيد ساندال: «السيارة العائلية. آه، حسنًا.» ثم كتب: «يتذكر السيارة.» ثم أردف قائلًا: «وماذا بعد؟»
«دعني أتذكَّر. عملت فترةً عاملًا في مرأبٍ تابع لفندق في مكانٍ اسمه فيلديو.»
«لعلك تتذكَّر اسم الفندق؟»
«فندق دوفين، حسبما أظن. ومن هناك اتجهت إلى الجهة الأخرى من البلد ثم استقررت في هافر. وفي هافر حصلتُ على وظيفة عاملٍ مطبخ على باخرة تجارية حرة.»
«ما اسمها؟ هل تتذكره؟»
«لن أنسى اسمها أبدًا! كان اسمُها بارفلور. انضممتُ إليها تحت اسم فارار. ف-ا-ر-ا-ر. بقيتُ فيها حتى نزلتُ منها في ميناء تامبيكو. ومن هناك اتجهت شمالًا إلى الولايات المتحدة. هل تودُّ أن أُدوِّن لك الأماكن التي عملت فيها في الولايات المتحدة؟»
«سيكون ذلك لطفًا كبيرًا منك. هاك … حسنًا، معك قلم. إذا تفضَّلت اكتبها هنا في قائمة. شكرًا لك. ثم عُدت إلى إنجلترا …؟»
«في الثاني من الشهر الماضي. على السفينة فيلادلفيا. استقللتُها بصِفتي راكبًا. أخذت غرفة في لندن وعشت هناك من ذلك الحين. سأكتب لك العنوان؛ ستحتاج إلى التأكُّد من ذلك أيضًا.»
«أجل. شكرًا لك. أجل.» خالج السيد ساندال إحساسٌ غريب بأن هذا الشاب — الذي كان في النهاية تحت المجهر، إن جاز القول — هو مَن كان يسيطر على زمام الموقف، كما ينبغي حتمًا، وليس هو. لكنه استجمع قواه.
«هل حاولت التواصُل مع … أقصد، مع الآنسة آشبي؟»
قال الشاب بلطف: «لا، هل الأمر صعب؟»
«ما أقصده هو …»
«لم أتَّخِذ أي خطوة بشأن أُسرتي، إن كان ذلك ما تقصده. أعتقد أن هذه كانت أفضل طريقة.»
«منتهى الحكمة. منتهى الحكمة.» وحينئذٍ وجد نفسه مرةً أخرى مجبرًا على الوقوف كالجوقة، يُردِّد ما يُقال بلا حيلةٍ منه. «سأتواصَل مع الآنسة آشبي في الحال، وسأُخبرها بزيارتك.»
«أجل، أخبرها بأني على قيد الحياة.»
«أجل. قطعًا.» أكان الشاب يستهزئ به؟ بالتأكيد لا.
«في تلك الأثناء هل ستُواصِل إقامتك في هذا العنوان؟»
«نعم، سأكون هناك.» ونهض الشاب، آخِذًا زمام المبادرة منه مرة أخرى.
قال السيد ساندال في محاولة أن يكون صارمًا: «إذا ثبتت صحة شهادتك وبياناتك، فسأكون أولَ المرحِّبين بعودتك إلى إنجلترا وإلى منزلك. بالرغم من أن هروبك قد تسبَّب في حُزنٍ عميق لجميع مَن يُهمهم أمرك. لا أجد مُبررًا لامتناعِك عن التواصُل مع أُسرتك من قبل.»
«ربما أحببتُ فكرةَ كوني ميتًا.»
«كونك ميتًا!»
«على أي حال لطالَما لم تجِد لأفعالي مبررًا، أليس كذلك؟»
«أكنت كذلك؟»
«كنتَ تظن أني بكيت في ذلك اليوم في أوليمبيا لأنني كنت خائفًا، أليس كذلك؟»
«أوليمبيا؟»
«لم يكن الأمر هكذا. لقد بكيتُ لأن الخيول كانت آية في الجمال.»
«أوليمبيا! تقصد … لكن ذلك كان … تتذكر، إذن …»
«أنتظر أن تُعْلِمَني يا سيد ساندال، عندما تتحقَّق من إفاداتي.»
«ماذا؟ أوه، نعم؛ نعم، بالتأكيد.» يا إلهي، حتى هو نفسه كان قد نسي حفل الأطفال في دورة الألعاب الملكية بأوليمبيا. ربما كان حذِرًا أكثرَ مما ينبغي بوجهٍ عام. إذا كان هذا الشاب — مالك لاتشتس — يا إلهي! ربما لم يكن عليه أن يكون …
بدأ قائلًا: «آمُل ألا تظن …»
لكن الشاب كان قد انصرف؛ إذ خرج بحسمٍ هادئ وإيماءة رأس سريعة إلى ميرسر.
جلس السيد ساندال في مكتبه الداخلي ومسح جبينه.
أما برات، فكان مذهولًا حين وجد نفسه مبتهجًا وهو يسير في الشارع. كان يتوقَّع أن يشعر بالقلق والخزي بعض الشيء. ولكن لم يكن الأمر يبدو كذلك بتاتًا. بل كان واحدًا من أكثر الأشياء التي فعلها في حياته إثارة على الإطلاق. كان عملًا مذهلًا أشبَهَ بالسير على حبلٍ مشدود. فقد جلس هناك وكذب كذبته دون أن يُدرك حتى أنه كان يكذب؛ كان الأمر مُثيرًا للغاية. كان أشبهَ بركوب خيل حرون؛ نفس الشعور بالحذَر والارتباك؛ ونفس الشعور بالرِّضا عند تفادي حركة غير متوقعة تقضي عليك. لكنه لم يَمتطِ من قبلُ شيئًا منحَه المتعة النفسية — نشوة الإنجاز التي تنتابك بعد بلوغِه — التي منحه إيَّاها هذا الأمر. كان في مُنتهى النشوة والحماسة.
وكان في غاية الدهشة أيضًا.
خطرَ له أن هذه المتعة هي الدافع الذي يُعيد المجرمين إلى حيَلِهم وطرائقهم القديمة في غياب أي احتياج مادي. تلك الإثارة المُبهرة المُثيرة للحماسة؛ ذاك الشعور بالانتشاء الذي ينتابك بعد بلوغ إنجازٍ ما.
ذهب لاحتساء الشاي، طبقًا لتعليمات لودينج؛ لكن لم يستطِع أن يأكل. شعر وكأنه قد أكل وشرب بالفعل. لم تمنحه أيُّ تجربةٍ سابقة خاضها من قبل مثل هذه النتيجة التي جاءت مُرضيةً على نحوٍ غريب. عادةً، بعد الانتهاء من الأمور الحياتية المُثيرة — كركوب خيل، أو مضاجعة، أو عملية إنقاذ، أو النجاة بأعجوبة من موقف عصيب — كان يشعر بجوعٍ شديد. لكنه الآن اكتفى بالجلوس والنظر إلى الطعام أمامه تغشاهُ السعادة. لم تدَعِ الحماسةُ بداخله أي مُتسعٍ للطعام.
لم يتبعه أحدٌ إلى المطعم، ولم يبدُ أنه قد أثار اهتمام أو فضول أحد قط.
دفع حسابه ثم خرج. لا أحد كان يتلكأ في أي مكان؛ كان الرصيف عبارة عن تيار طويل من أفرادٍ مهرولين. ومن ثَم اتجه إلى كابينة هاتفٍ في شارع فيكتوريا.
قال لودينج: «خيرًا؟ كيف سارت الأمور؟»
«في غاية الروعة.»
«هل كنت تشرب؟»
«لا. لماذا؟»
«تلك هي المرة الأولى التي أسمعك تستخدم فيها صيغة مُبالغة.»
«أنا سعيد فحسب.»
«يا إلهي، لا بد أنك كذلك. هل يظهر ذلك عليك؟»
«يظهر؟»
«هل هناك أي تغيير ولو طفيف في وجهك الجامد؟»
«كيف لي أن أعرف؟ ألا تريد أن تعرف ما حدث عصر اليوم؟»
«أعرف أهم شيء.»
«وما ذاك؟»
«أنك لم تُسلَّم إلى الشرطة.»
«هل توقَّعت أن يحدث ذلك لي؟»
«كان احتمالًا قائمًا طوال الوقت. لكن لم أتوقَّعه حقًّا. ليس مع ذكائنا المشترك.»
«أشكرك.»
«هل عانقك الرجل العجوز بحرارة؟»
«لا. كاد أن يسقط أرضًا. كان ردَّ فعلٍ ملائمًا ودقيقًا للغاية.»
«كل شيء سيخضع للتحقيق.»
«أجل.»
«كيف استقبلك؟»
«حسبني سايمون.»
سمع ضحكة تندُّر من لودينج.
«هل تمكَّنت من استغلال حفلِه في دورة الألعاب؟»
«نعم.»
«يا إلهي، لا تكن مُقتضبًا معي. لم تُضطرَّ إلى إثارة الموضوع، أليس كذلك؟»
«نعم. كان ذِكره مناسبًا بدقة بالغة.»
«هل كان متأثرًا؟»
«جعله على وشْك الاستسلام.»
«ولكن لم يُقنعه؟»
«لم أنتظر حتى أرى. كنت في طريقي إلى الخارج.»
«أتقصد، أنك ختمت المشهد بذلك؟ عزيزي، دعني أرفع القبعة لك. أنت مُدهش لأقصى الحدود. بعد أن عشتُ برفقتك طوال الأسبوعين الماضيين ظننتُ أنني قد بدأت أعرفك. لكنك لا تزال تُفاجئني إلى أبعدِ حدٍّ.»
«أنا أفاجئ نفسي، إن كان في ذلك عزاءٌ لك.»
«لا أشمُّ رائحةَ استياءٍ في تلك العبارة، هل أنا مُحق؟»
«نعم. مجرد شعور بالمفاجأة فحسب. عظيم.»
«حسنًا؛ لن نتقابل خلال الفترة المقبلة. كانت معرفتك شرفًا لي يا عزيزي. لن أسمع سيرةَ حدائق كيو تُذكر دون أن أتذكرك بالخير والحب. وأتطلع، بالطبع، إلى نيل مزيدٍ من الشرف بمعرفتك مُستقبلًا. في الأثناء، لا تتَّصِل بي إلا إذا لم يكن هناك أي بديل عن ذلك إطلاقًا. أنت الآن مُلم بكل شيء قدْر ما استطعت. من الآن فصاعدًا أنت مسئول عن نفسك.»
كان لودينج مُحقًّا: فقد كان توجيهُه له بشأن التفاصيل رائعًا. فعلى مدار أسبوعَين كاملَين، من الصباح الباكر إلى الساعة السابعة مساءً، ومهما كانت الظروف، كانا يجلِسان في حدائق كيو ويراجِعان العادات في لاتشتس وكلير، وتاريخ أفراد عائلتَي آشبي وليدينهام، ومعالِم أرضٍ لم يرَها قط من قبل. وكان ذلك مُثيرًا للغاية أيضًا. كان دائمًا «كفؤًا في الاختبارات» كما يُطلقون على أمثاله، ودائمًا ما كان يُقبِل على ورقة الامتحان بإحساسٍ طفيف من المتعة كذلك الذي يُراود مُدمنًا للتجمُّعات التي تُمارَس فيها لعبة الأسئلة القصيرة. وقد كانت تلك الأربعة عشر يومًا في حدائق كيو ميدانًا رائعًا لممارسة تلك اللعبة. في الواقع، كانت الأيام القليلة الأخيرة تحمِل جزءًا من الإثارة الخطِرة التي ميَّزت عصر اليوم. «بأي ذراع كنت تلعب البولينج؟» «اذهب إلى الإسطبلات من الباب الجانبي.» «هل كنت تُغنِّي؟» «هل بإمكانك أن تعزف على البيانو؟» «مَن كان يعيش في منزل كلير؟» «ما لون شعر والدتِك؟» «كيف كوَّن والدُك أموالَه، بعيدًا عن الضيعة؟» «ما اسم شركته؟» «ماذا كان طعامك المُفضَّل؟» «ما اسم صاحب متجر الحلوى في القرية؟» «أين كان مقعد عائلة آشبي في الكنيسة؟» «اذهب من غرفة الجلوس الكبيرة إلى حجرة مؤنِ كبيرِ الخَدَم في منزل كلير.» «ما اسم مُدبِّرة المنزل؟» «هل كان بإمكانك ركوب دراجة؟» «ما الذي يُمكنك رؤيته من النافذة الجنوبية في غرفة السطح؟» كان لودينج يقذفه بوابلٍ من الأسئلة على مدى الأيام الطوال، وكان ذلك في البداية مُسليًا، ثم صار يجد إثارة في تفادي إرباكه بالأسئلة.
كانت كيو فكرةَ لودينج. «لا مفرَّ من خضوع حياتك منذ وصولك إلى لندن إلى أقصى درجات التدقيق والتمحيص، إن كنت ستتغاضى عن ذلك التعبير الشائع. لهذا لا يمكنك أن تأتيَ وتعيش معي كما اقترحتُ. بل لا يمكن حتى أن يراك معي أحدٌ ممن نعرفهم. ولا يُمكنني أن آتيَ إلى مسكنك في بيمليكو. لا بد أن تبقى بلا زوَّار مثلما كنتَ حتى وقتنا هذا.» وهكذا نشأ مُخطَّط كيو. كانت حدائق كيو، على حدِّ قول لودينج، مخبأً مثاليًّا وميدانًا رائعًا للرماية. لم يكن في لندن مكانٌ بإمكانك أن ترى فيه الوجوه تقترب منك بمثل تلك المسافة الصغيرة وتظلُّ غير ملحوظ. لم يكن في لندن مكان يوفِّر أماكنَ لقاء متنوعة، وهدوءًا لا يعكر صفوه شيء، مثل حدائق كيو.
وهكذا في كل صباحٍ كان كلاهما يصِل وحدَه، ومن بوابات مُتفرقة، ويلتقيان عند نقطةٍ جديدة ثم ينصرفان إلى منطقةٍ مختلفة؛ وطوال أسبوعَين كان لودينج قد زوَّدَه بالصور الفوتوغرافية، والخرائط، والخُطط، والرسومات، ومخططات بقلمٍ رصاص. كان قد بدأ بخريطةٍ من هيئة المساحة بمقياس بوصة لكلير والمناطق المحيطة بها، ثم تدرَّج إلى خرائطَ أكبرَ حجمًا، ثم إلى مخططات المنزل؛ بحيث بدا الأمر أشبه نوعًا ما بالهبوط في طائرة من الأعلى. فبدأ أولًا بتضاريس القرية، ثم تفاصيل الحقول والحدائق، ثم لقطة مُقربة للمنزل حتى يُصبح الأمر برُمَّته في ذهنه من البداية، وكان عليه فقط الإشارة إلى التفاصيل على صورة كانت محفورة بالفعل للمنزل. كان توجيهه له منهجيًّا متأنيًا، وكان ذلك محلَّ تقدير من برات.
لكن الجزء المهم بالطبع كان الصور الفوتوغرافية. ومن الغريب أن صُوَر توءمه لم تكن هي ما استحوذ على انتباهه بمجرد أن رآها كلها. فصورة سايمون، بكل تأكيد، كانت تُشبهه على نحوٍ غير عادي، وبثَّت فيه شعورًا غريبًا، يغلب عليه الارتباك، من النظر إلى الوجه المصوَّر الذي يُشبِه وجهه تمامًا. لكن لم تكن صور سايمون هي التي لفتت انتباهه؛ إنما صورة الطفل الذي لم يحيا حتى يكبر؛ الصبي الذي كان سيأخذ مكانه. لقد انتابه شعور غريب بالتشابُهِ مع باتريك.
حتى هو نفسه لاحظ هذا، ووجده أمرًا غريبًا. كان يجب أن يملأه شعور بالذنب عند التفكير في باتريك. لكن الشعور الوحيد الذي طغى عليه كان شعورًا بالتماهي؛ شعورًا يغلب عليه التوافق والتوحُّد.
عند عبور الساحة في مدينة فيكتوريا بعد أن أجرى مكالمته الهاتفية، تساءل ما الذي حملَه على قولِ ما قاله عن بكاء باتريك. كان لودينج قد أخبرَه فحسب أن باتريك قد بكى لسبب غير معلوم (كان في عمر السابعة حينها) وأن ذلك أصاب ساندال العجوز بالاستياء ولم يصطحب الأطفال قطُّ إلى الخارج مرة أخرى. كان لودينج قد ترك له القصة ليستخدِمها حسبما وحينما يظنُّ أنها مناسبة في السياق. ما الذي حملَه على قول إن باتريك قد بكى من جمال الخيول الشديد؟ أكان ذلك هو السبب الذي أبكى باتريك؟
لا مجال للتراجُع الآن، شاء أم أبى. لقد حارب ذلك الصوت المُلِح الذي كان يتحدث إليه في عتمة غرفته من أجل استمالته والسيطرة على عقله، وقد نال ما أراد. كلُّ ما كان بوسعه أن يفعله هو أن يجلس على السَّرج ويأمُل خيرًا. لكنها على الأقل ستكون رحلةً تحبس الأنفاس، رحلة نادرة ومثيرة للغاية. لقد اعتاد أن يُعرِّض حياته إلى الخطر واعتاد العرَج؛ لكن ما كان أكثر إثارةً بكثير هو الخطَر العقلي الجديد، هذا الاختبار لذكائه وقُدراته العقلية.
هذا الخطَر على روحه الخالدة، كما كانت ستُطلِق عليه دار الأيتام. لكنه لم يكن يؤمن قط بروحه الخالدة.
لم يكن بإمكانه الذهاب إلى لاتشتس كشخصٍ مُبتزٍّ، ولن يذهب مستجديًا، لكنه كان سيذهب حتمًا كشخصٍ مُعتدٍ محتل.