هذا هو السؤال
كان مركز المعلومات في المقر السري مشغولًا في هذه اللحظة بإعداد دراسةٍ خاصةٍ طلبها رقم «صفر» قبل أن يدعو الشياطين للاجتماع، في نفس الوقت كان الشياطين يجلسون في قاعة السينما الصغيرة، الملحقة بالمقر السري، يشاهدون فيلمًا عاطفيًا.
قالت «هدى»: إنه فيلمٌ بطيء!
ردت «ريما»: إن طبيعة الأفلام العاطفية أن تكون أحداثها بطيئةً؛ لأن المواقف فيها هادئة.
ضحك «عثمان» وقال: إن «هدى» تهوى أفلام المغامرات؛ فهي لا تستطيع أن تكون خارج المغامرة أبدًا.
وعلَق «بو عمير»: لا تتعجَلوا، إننا في الطريق إلى مُغامرةٍ جديدةٍ، أظنُ أن الزعيم سوف يدعونا لها الآن!
نظر الشياطين إلى «بو عمير»، وتساءل «عثمان»: هل هذا خبرٌ جديدٌ؟
ابتسم «بو عمير» وقال: ليس خبرًا، ولكنه حقيقةٌ واقعةٌ … فالخبر يحتمل الكذب والصدق أما الحقيقة فهي لا تحتاج إلى مناقشةٍ.
قالت «زبيدة»: إذنْ فأنت تعرف!
ضحك «بو عمير» وهو يجيب: ليس بالضبط، إنه مجرد إحساسٍ.
مرت لحظة صمتٍ، ثم قال «أحمد»: ينبغي أن تفهموا «بو عمير» جيدًا، إن ما يقوله حقيقةٌ فعلًا، فمتى جلسنا في المقر السرِّي بلا مغامرة؟!
ضحك «بو عمير» كرةً أخرى، وهو يعلق: لقد فهمني «أحمد» بسرعةٍ.
كان الفيلم قد انتهى، ودقَّت الساعة العاشرة، فوقفت «هدى» وهي تقول: إلى النوم!
ابتسم «عثمان» وقال: ألا تَنتظِرين أنباء المغامرة الجديدة!
ردت «هدى»: سوف تُوقظونني من النوم إذا كان هناك ما يَستدعي ذلك.
سكتت لحظةً ثم ابتسمت قائلةً: إلا إذا كنتم استغنيتم عن خدماتي!
بدأ الشياطين يَنسحبُون من القاعة، لكنَّهم فجأةً توقَّفوا؛ فقد كانت هناك إشارةٌ من رقم «صفر» تعني أن ينتظروا؛ فهناك أمرٌ بالاستدعاء. ابتسم «بو عمير» وقال: ألم أقلْ لكم؟
وعلقت «ريما» وهي تنظر إلى «هدى»: لا داعيَ للنوم؛ فقد بدأت المغامرة!
كان «أحمد» قد استغرق في التفكير، إنَّ دعوة رقم «صفر» للشياطين في هذا الوقت تعني أن هناك أمرًا خطيرًا؛ فهذه ربما تكون أول مرةٍ يُطلب منهم أن يَنتظرُوا في هذا الوقت المتأخِّر من الليل، وهذا يعني أنهم سوف يُغادرون المقر الآن.
طافت بذهن «أحمد» أفكارٌ كثيرةٌ، لقد كان يتوقع المغامرة التي سوف يدخلونها، لكنه في النهاية لم يستطع أن يتوصَّل إلى شيء.
في نفس الوقت كان بقية الشياطين ينظرون إليه، في انتظار أن يقول شيئًا؛ ففي العادة كان يتوقَّع المغامَرة القادمة، ولذلك فقد سأل «فهد»: إلى أين هذه المرة؟
غير أن «أحمد» لم يَسمع سؤال «فهد»؛ فقد كان مستغرقًا تمامًا في التفكير، ابتسم «فهد» وهو يُكرر السؤال مرةً أخرى، فسمعه «أحمد» وابتسم قائلًا: لقد عجز تفكيري هذه المرة، ولا أدري إلى أين نشدُّ رحالنا.
لفَّ الصمت قاعة السينما الصغيرة التي غرقَت في ضوءٍ هادئٍ، شغل «أحمد» نفسه باستعراض القاعة، بعد أن أجهده التفكير، كانت القاعة تضمُّ خمسين كرسيًا فقط، وكانت تبدو كقاربٍ فوق الموج، فقد فرشت أرضها بالموكيت الأزرق، وكذلك الجدران والسقف، أما الكراسي فقد كانت بيضاء، وكانت هذه الألوان نفسها، هي الألوان التي يحبها «أحمد».
فجأةً تردَّد صوت رقم «صفر» في فراغ القاعة يقول: إن المغامرة ليست عاجلةً تمامًا، فهي يُمكن أن تنتظر حتى الصباح، ولكني أريد أن أكسب وقتًا؛ لأنها مغامرةٌ جديدةٌ، وغريبةٌ، وأعتقد أنكم سوف تسعدون بها.
سكت لحظةً، ثم أضاف: إنني في انتظار دراسةٍ من مركز المعلومات في المقر، بعدها سوف نبدأ عملنا.
نظر الشياطين إلى بعضهم البعض بعد أن توقَّف صوت رقم «صفر»، وكانوا جميعًا يفكرون في الكلمات التي ذكَرَها رقم «صفر»، والتي تقول إنها مغامرةٌ جديدةٌ وغريبةٌ، وإنَّ الشياطين سوف يسعدون بها، قطع «قيس» الصمت قائلًا: إن ذلك شيءٌ مُثيرٌ فعلًا، فإنَّ المغامرة الجديدة تمنح الإنسان متعةً بلا حدودٍ.
أضاف «مصباح»: هذا حقيقيٌّ، إنَّ ذلك يجعلني أتمنى أن تبدأ المغامرة الآن.
كانت الدقائق تمرُّ والشياطين في انتظار استدعاء رقم «صفر» لهم، إنَّ الانتظار بطبيعته مسألةٌ ثقيلةٌ، فإذا كان لمهمَّةٍ ضروريةٍ فإنه يكون شيئًا غير محتملٍ، ولذلك فقد كان الشياطين قَلِقين تمامًا، غير أن قلقهم لم يستمرَّ، فقد جاء صوت رقم «صفر» يقول: أعتقد أننا لسنا في حاجةٍ للانتقال إلى قاعة الاجتماعات، فسوف نعقد اجتماعنا هنا، في قاعة السينما؛ ذلك لأن المغامرة الجديدة سوف تبدو أمامكم وكأنها فيلمٌ سينمائيٌّ فعلًا.
سكت رقم «صفر»، ومرةً أخرى التقت أعين الشياطين؛ فهذه الكلمات التي قالها الزعيم تبدو مثيرةً للغاية، هذه إذن مغامرةٌ جديدةٌ، وقد تكون مسليةً كفيلمٍ سينمائيٍّ، عندما مضت الدقائق ولم يُضف رقم «صفر» شيئًا جديدًا.
قال «قيس»: قد تكون المغامرة في هوليوود مدينة السينما!
رد «عثمان»: أو في جبال الهيمالايا في الهند.
أضاف «فهد»: أو في «إيطاليا» حيث تُوجد عصابات المافيا.
قطع صوت رقم «صفر» تعليقاتهم، عندما قال: سوف يبدأ اجتماعنا بعد قليلٍ.
فجأةً بدأت الإضاءة تخفت، فاتجهت أعين الشياطين مباشرةً إلى شاشة العرض، ولم تمضِ دقيقتان حتى كانت خريطة أفريقيا تتوسَّط الشاشة، أخذ الشياطين يرقبون الخريطة التي لم تكن تعني شيئًا حتى هذه اللحظة، بعد قليلٍ خرج سهمٌ من المحيط الهندي ورسم دائرةً حول جمهورية «تنزانيا»، نظر الشياطين إلى بعضهم، فقد تحدَّدت أخيرًا المنطقة التي سوف يطيرون إليها، بعد لحظةٍ ظهرت طائرةٌ صغيرةٌ فوق الخريطة، بدأت في مدينة «دار السلام» عاصمة «تنزانيا»، ثم أخذت طريقها إلى بحيرة «فيكتوريا»، واستقرت عند مدينةٍ صغيرةٍ ظهر اسمها فوق الخريطة وهي مدينة «موانزا» …
مرةً أخرى طارت الطائرة إلى جبال «كلمنجارو» ثم هبطت هناك، انتظرت قليلًا … ثم طارت مرةً أخرى إلى «دار السلام»، ومنها إلى خارج «تنزانيا» كلها.
في الوقت الذي كان الشياطين يُتابعون حركة الطائرة من «دار السلام» إلى بحيرة «فيكتوريا»، ثم إلى مدينة «موانزا»، إلى جبال «كلمنجارو»، حتى خروجها من «تنزانيا» كلها، كان «أحمد» يسترجع في ذهنِه ما يعرفه عن «تنزانيا» وعن مدينة «موانزا» بالذات؛ فهو يعرف أنها تقع بين خطَّي طول وعرض ٣٠ ويعرف أنها مشهورةٌ بالذهب الذي يستخرج من مناجمها، وعند هذه النقطة بدأ يُفكِّر: ما دامت «موانزا» مشهورةً بالذهب، فإن المغامرة سوف تكون حول عمليات النَّهب والتهريب التي تخضع لها «تنزانيا»، وبسرعةٍ بدأ يربط بين حالة الفقر التي تسود قارة أفريقيا، وبين سيطرة القوى العُظمى التي تستغل موارد القارة، وثرواتها، وكيف تتحكم الشركات الكبرى الأجنبية، وكيف تستدين الدول الأفريقية من الدول الغنية! والمشاكل التي تعيشها أفريقيا.
كان «أحمد» قد قرأ دراسةً طويلةً ومفصَّلةً عن أفريقيا ومشاكلها قال في نفسه: إن المغامرة الجديدة لن تخرج عن عمليات تهريب الذهب … غير أنه فكر: إن «تنزانيا» جمهوريةٌ مستقلةٌ، وقد حصلت على استقلالها بعد الثورة التي قادها الزعيم «جوليوس نيريري» وقد نالت استقلالها عام ١٩٦٢، وهذا يعني أن الدولة تحكُم كل شيءٍ هناك، بعد أن أصبح الحكم وطنيًّا …
توقَّف «أحمد» قليلًا وهو يرقب حركة الطائرة فوق الخريطة؛ فقد عادَت الطائرة من جديدٍ، قال في نفسه: لكن هناك عصابات عالمية، تلعب الآن دورًا في كل شيءٍ، حتى في ثورات الدول أيضًا، ومن الممكن أن تكون هناك عصابةٌ ما، تلعب لعبتها حيث توجد مناجِم الذهب، التي تمثل موردًا هامًّا في حياة «تنزانيا».
نظر «أحمد» إلى الشياطين، كانوا جميعًا مُستغرقين في أفكارهم، فجأةً نظرت له «ريما» وابتسمت قائلةً: إنني أعرف أين وصلتْ بك أفكارك!
ابتسم «أحمد» قائلًا: إلى أين؟
ردَّت قائلةً بينما انتبه الشياطين إلى حوارهما: إلى مناجم الذهب الأصفر.
ابتسم «أحمد» وقال: تمامًا لقد فكرت كما فكرت أنت أيضًا.
رد «فهد»: إنها لن تخرج عن هذه القضية؛ فمدينة «موانزا»، هي مدينة الذهب، ولا بد أن تكون هناك عملية سطوٍ عليها!
اتسعت ابتسامة «أحمد» وهو يقول: إنني أعرف أن الشياطين قادرون على التوقع السليم.
فجأةً جاء صوت رقم «صفر» يقول: لقد توصلتم إلى معظم أحداث المغامرة، لكن الجديد فيها، ليس الذهب فقط، إنه الرصاص أيضًا.
صمت رقم «صفر» فتطلَّع الشياطين إلى بعضهم؛ فهم يعرفون أن مدينة «موانزا» تشتهر بالذهب فقط، وهذه المنطقة تتركز فيها مناجم الذهب، قال رقم «صفر»: أعرف أنكم سوف تدهشون، إنَّ المسألة ليسَت تهريب الذهب من منطقة المناجم؛ فإنَّ هذه المسألة صعبةٌ، فعمليات التهريب محفوفةٌ بالمخاطر؛ لأنها عملياتٌ غير مشروعةٍ، وضد القانون.
سكت فترةً ثم أضاف: القضية أن الذهب يخرج من المناجم تحت بصر القانون نفسه، ولا تظنوا أن عمليات التهريب، تفعل ذلك بالرشوة مثلًا … إن العلم أصبح يلعب دورًا في عمليات التهريب.
غاب صوته قليلًا ثم قال: سوف أتغيَّب لحظةً؛ فهناك تقارير وصلت من عملائنا حول المغامرة.
نظر الشياطين إلى بعضهم، كانوا جميعًا يتساءلون ماذا يعني رقم «صفر» بأنَّ الذهب يتمُّ تهريبه تحت بصر القانون؟
ظل السؤال معلقًا دون إجابةٍ، ورغم أن الحوار دار بينهم، إلا أنهم لم يتوصَّلوا لشيءٍ؛ فقد قال «بو عمير»: هل يُخفون الذهب مثلًا في صناديق صغيرةٍ، تحمل أسماء طعامٍ، أو مثلجاتٍ أو غيرها؟
وتساءل «مصباح»: هل يمرُّ في حقائب سريةٍ مثلًا؟
ظلوا يطرحون الاحتمالات، لكن لم يكن من بينها إجابةٌ صحيحةٌ عن السؤال الأصلي وهو: كيف يتمُّ تهريب الذهب تحت حراسة القانون؟
فجأةً، جاء صوت رقم «صفر» يقول: آخر التقارير التي وصلت الآن، أنَّ سوق الذهب قد أصبح مهزوزًا … فقد نزلت كمياتٌ كبيرةٌ منه إلى السوق، وهذا يعني أن السِّلعة المعروضة كثيرةٌ، وهذا يجعل سِعر الذهب منخفضًا …
سكت لحظة ثم قال: إن التقارير تقول إن كميات من الذهب التي أغرقت السوق مصدرها أفريقيا وهي كمياتٌ لا تخضع للحكومات، إنها تخضع لأفرادها، وهذا يعني أن العصابات هي التي تلعب لعبة السوق، مرةً أخرى ساد الصمت قاعة السينما، ثم جاء صوت رقم «صفر» يقول: إن السؤال هو، كيف يمر الذهب مهرَّبًا في حراسة القانون؟ … هذه هي قضيتنا، وهذه هي مغامرتكم الجديدة.