«أحمد» يلعب لعبة ذكاء
عندما حلَّقت الطائرة كان الشياطين قد أخذوا أماكنهم، وكلٌّ منهم يجلس في ناحيةٍ، لقد فكروا من البداية، ورسموا خطتَهم أن عصابة «اليد الحديدية» جديدةٌ عليهم، وعملية الذهب لا تتحدد بمكانٍ معيَّنٍ؛ فالذهب لا يتركز في مكانٍ واحدٍ حتى وإن كانت سوقه الحقيقية في سويسرا؛ فالتعامل فيه يمتد على مساحة الكرة الأرضية كلها، ومعروفٌ أنه موجودٌ بكثرةٍ في أفريقيا، والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه في نفس الوقت يجوب الدنيا كلها؛ لأنه معدنٌ مُرتفِع القيمة؛ لذلك اتفق الشياطين على أن يجلسوا متباعدين في الطائرة، فمن يدري؛ فقد تسوق لهم الصدفة من ينفعهم في مغامرتهم الجديدة، صحيحٌ أنهم يعرفون وجهتهم الآن، لكن المزيد من المعلومات مفيدٌ في النهاية.
كان «أحمد» يجلس عند مقدمة الطائرة وبجواره كان يجلس رجلٌ في منتصَف العمر، يبدو عليه الدهاء، كان «أحمد» يُراقبه في هدوءٍ، ودون أن يَلفِت نظره، قال في نفسه سوف ألعب معه لعبة الذكاء.
مدَّ يده وأخذ الكتاب الذي اشتراه من المطار واسمه «الذهب»، وضع الكتاب فوق ساقَيه، ثم شرد لحظةً، كان يُعطي فرصةً للرجل، حتى يرى الكتاب ويقرأ عنوانه، مرت دقائق ثم فتح أول صفحةٍ من الكتاب، وبدأ يقرأ بنصفِ تركيزٍ، أما النصف الآخر فقد كان يراقب به الرجل، بعد لحظةٍ كان يَكتم ضحكةً في أعماقه؛ فقد رأى عيني الرجل وهما تحاولان القراءة، قال في نفسه: يبدو أن لعبة الذكاء قد نجحت، ويجب أن أستمر، فمَن يدري قد يكون واحدًا من المساعدين!
لم تمرَّ دقائق قليلةٌ حتى كان الرجل يقول: هل تَسمح لي بالحديث؟
قالها بلغةٍ إنجليزيةٍ صحيحةٍ، التفت «أحمد» إليه مبتسمًا وهو يقول: بالتأكيد وسوف يسعدني ذلك كثيرًا.
قال الرجل يُقدم نفسه: اسمي «جون ماكدونالد» من إنجلترا — وأعمل في تجارة الذهب.
ابتسم «أحمد» وهو يقول: لقد توقَّعتُ ذلك!
نظر له «جون» في دهشةٍ، وهو يتساءل: كيف؟
رد «أحمد»: أظنُّ أنه إحساسٌ؛ لذلك فقد تركتُ غلاف الكتاب لحظةً، حتى أرى إذا كان سيجذب اهتمامك أم لا!
أبدى «جون» دهشةً كبيرةً، وهو يقول في حماسٍ: إنك شابٌّ مُدهِشٌ، ويسعدني أن أتعرف عليك.
قال «أحمد»: اسمي «ألبرت ديوك».
قال «جون»: أفريقيٌّ؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: نعم، من تَنزانيا.
رد «جون» في حماسٍ: رائعٌ، ولهذا فأنت مُهتمٌّ بالذهب، أليس كذلك؟
قال «أحمد»: نعم.
أضاف «جون»: أنا ذاهبٌ إلى هناك، إنها صدفةٌ رائعةٌ أن ألتقي بك.
هكذا عقد «أحمد» علاقةً مع «جون ماكدونالد»، وطوال الرحلة أخذا يتحدثان عن الذهب فقط … حكى «جون» ﻟ «أحمد» قصته مع الذهب، وكيف ورث هذه التجارة عن والده، وصفقات الذهب التي عقدها، وعمليات تهريب الذهب، وأخيرًا قال في حماسٍ: لقد قرأتُ أن العرب أول من فكر في صناعة الذهب، حتى إن أحد علمائهم حاول أن يصنع الذهب بطريقةٍ كيميائيةٍ، ولو أنه توصل إلى ذلك لكان الذهب فقَد قيمته.
صمت لحظةً، ثم أضاف: أظن أن هناك محاولاتٍ لأحد العلماء في أيامنا هذه حاول أن يفعل نفس الشيء، لكنه اكتشف أن ذلك سوف يُكلفه كثيرًا.
صمت مرةً أخرى بينما كان «أحمد» يتابعه باهتمامٍ ثم قال: ومن يدري؟ فقد يتوصل العلم مستقبلًا إلى ذلك.
ثم ابتسم وهو يضيف: وساعتها سوف تكون تجارة الذهب، تجارةً غير مربحةٍ!
ابتسم «أحمد» لتعليقه الأخير، في نفس الوقت كان الشياطين يتابعون الموقف عن بعدٍ، استغرق «أحمد» و«جون ماكدونالد» في الحديث الذي لم يقطعْه سوى ظهور مضيفات الطائرة، وهن يضعن طعام الغداء أمام المسافرين، ومع ظهور الطعام بدأ نوعٌ من النشاط يدب في الطائرة، غير أن «ماكدونالد» لم يتوقفْ عن الحديث، مما جعل «أحمد» يكتم ابتسامةً، كان يمكن أن تجعل الرجل يتوقف عن الحديث، كان «أحمد» يأكل على مهلٍ كعادته، وعندما انتهى «ماكدونالد» من طعامه كان «أحمد» لا يزال يأكل، حتى إن الرجل علق قائلًا: أنت تأكل ببطءٍ شديدٍ!
ابتسم «أحمد» وقال: ولماذا العجلة؟ أمامنا متسعٌ من الوقت.
قال «جون» مبتسمًا: لهذا السبب فقط؟
ابتسم «أحمد» وأجاب: ليس لهذا السبب فقط، ولكني أفضِّل أن آكل على مهلٍ.
هز «جون» رأسه، وهو يقول: هذه عادةٌ طيبةٌ، لا بأس، لا بأس.
ثم مدَّ يده وأخذ كتاب «الذهب» واستغرق في قراءته، بينما كان «أحمد» يُراقبه، وهو يمضغ طعامه على مهلٍ، فجأةً أبدى «جون» دهشته، وهو ينظر إلى «أحمد» قائلًا: معلومةٌ جيدةٌ، لم أكن أعرفها، وينبغي أن تعرفها أنت أيضًا.
نظر له «أحمد» في اهتمامٍ، بينما كانت عينا جون تقرآن في الكتاب، قال: إن الذهب ينصهر تمامًا عند درجة ١١٦٣ مئويةً.
ثم نظر إلى «أحمد» وهو يُضيف: إنه معدنٌ قويٌّ!
عادت عيناه إلى الكتاب وقرأ: وهو يغلي عند درجة ٢٦٠ مئويةً.
عاد بعينَيه إلى «أحمد» وهو يتساءل مبتسمًا: وهل رأيت الذهب وهو يغلي؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: لا أظنُّ وحتى لم أره وهو يَنصهِر!
قال «جون» في حماسٍ: لقد رأيته كثيرًا وهو ينصهر، إنه يتحول إلى سائلٍ بديعٍ، وفي هذه الحالة يُمكن تشكيله.
سأله «أحمد» في بساطةٍ: وهل يمكن طلاء الذهب؟
رد الرجل بحماسٍ: طبعًا، يمكن طلاؤه بأي نوعٍ من المعادن الأخرى.
سأل «أحمد» مرةً ثانيةً: وهل يَختفي تمامًا؟
أجاب الرجل: نعم، حتى إنك لا تستطيع أن تكشفه!
انتهى «أحمد» من طعامه، وبدأت المضيفات يَرفعن ما تبقى من الطعام، ابتسم «جون» وهو يقول: أظنُّ أنني تحدثت كثيرًا الآن، ينبغي أن أنام قليلًا.
أغمض «جون» عينيه، ثم استغرق في النوم بسرعةٍ، بينما كان «أحمد» يراقبه في حذرٍ، قال في نفسه: أعتقد أن «جون» خلفه شيءٌ آخر … نظر في ساعة يده، ثم قال في نفسه: الباقي من الرحلة ليس كثيرًا … شرَد وهو ينظر من نافذة الطائرة، كان يستعيد الحديث الطويل الذي قاله «جون ماكدونالد»، والذي دار كله حول الذهب، أخذ يَستعيد أيضًا الأسئلة التي طرحها عليه، والتي دارت أيضًا حول الذهب، قال في نفسه: إن حديثًا جديدًا يُمكن أن يفتح معه الطريق إلى جوانب أخرى.
أغمض عينيه وهو يقول في نفسه: يَنبغي أن أنام بعض الوقت، فمَن يدري متى يمكن أن أنام مرة أخرى؟ … ولم تمضِ دقائق حتى كان قد استغرق في النوم، ولم يستيقظْ إلا على صوتٍ خفيفٍ، فتح عينَيه فرأى «جون» يأخذ إحدى الجرائد من مسند الكرسي، وعندما رأى «أحمد»، قال معتذرًا وهو يبتسم: آسِف أنني أيقظتك!
قال «أحمد»: لقد نمتُ ما يكفي.
سكت «أحمد» لحظةً ثم قال: أظنُّ أن الذهب هو شاغلك الوحيد!
رد «جون»: نعم!
سأل «أحمد»: والمعادن الأخرى!
أجاب «جون» بعد لحظةٍ: لم تَستهوِني كثيرًا، غير أني على موعد مع مندوب إحدى شركات المعادن.
فكر «أحمد» بسرعةٍ، ثم تساءل: أي معادن؟
أجاب «جون»: إنها شركةٌ تدعى «الشركة الأفريقية للمعادن»، وهي شركةٌ جديدةٌ.
سأل «أحمد» من جديدٍ: أهي شركةٌ وطنيةٌ؟
قال «جون»: لا أظن، غير أنها نالت امتياز البحث عن المعادن هناك.
قطع حديثهما صوت مذيعة الطائرة يقول: يَنبغي ربط الأحزمة، فنحن على وشكِ الوصول إلى مطار «دار السلام».
ابتسم «جون» وقال: لقد قطعنا رحلةً طويلةً بسرعةٍ.
ثم أضاف بعد لحظةٍ: لو لم ألْقك يا عزيزي «ألبرت»، لكانت الرحلة قد استغرقت وقتًا طويلًا.
ثم ضحك بصوتٍ مُرتفعٍ، وعندما أنهى ضحكته قال: هل ألقاك في «دار السلام»؟
أجاب «أحمد» بحماسٍ: إن ذلك سوف يسعدني جدًّا.
أخرج «جون» كارتًا من جيبه وقلمًا، ثم كتَب عنوانًا وقدم الكارت ﻟ «أحمد» الذي أخذه شاكرًا، قرأ العنوان ثم قال: سوف آتيك في الفندق.
نظر له «جون» لحظةً ثم قال: كان يُسعدني ذلك فعلًا، غير أني مُرتبطٌ ببعض الأعمال، سكت لحظةً ثم أضاف: غير أني أستطيع أن أُعرِّفك على أحد أصدقائي، يمكن أن يكون مرشدك طوال إقامتك في «دار السلام»!
ابتسم «أحمد» وهو يقول: إنَّ ذلك سوف يكون صنيعًا طيبًا لن أنساه لك.
كانت الطائرة قد اقتربت من أرض المطار، ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً من النافذة، كان مبنى المطار يبدو واضحًا أمامه، في نفس الوقت كان يُفكِّر: هل يُمكن أن أجد عميل رقم «صفر» في انتظارنا، إنَّ هذه ستكون فرصتنا، فمَن يدري قد يكون مندوب شركة التعدين هو الدليل إلى عصابة «اليد الحديدية»، إن لم يكن أحد أفرادها!
ارتطمَت عجلات الطائرة بأرض المطار، ثم استمرَّت في اندفاعها حتى توقفَت في النهاية وعندما كان الجميع يُغادرون الطائرة، ودع «جون» «أحمد» بحرارةٍ وهو يقول: إنني في انتظارك في الفندق إن سمحت ظروف عملي.
أعطى «أحمد» الفرصة لجون حتى ينزل أولًا، وحتى يستطيع أن يُراقبه من بعيدٍ، وعندما دخلا مبنى المطار شاهد «أحمد» أحد الرجال وهو يقترب من «جون» ويستقبله بحرارةٍ، كان الشياطين يقفون حول «أحمد» فقال: إنه لن يغيب عنا، فأنا أعرف مكانه.
نظر له الشياطين في تساؤل، فلم يكونوا يعرفون ماذا دار بين الاثنين، شمل «أحمد» المكان بعينيه عساه يجد عميل رقم «صفر»، لكنه لم يجد أحدًا، أخذ الشياطين طريقهم إلى الخارج، وكان «أحمد» يستعيد ملامح الرجل الذي جاء للقاء «جون» حتى لا يَنسى ملامحه، فمن يدري ربما يلقاه مرةً أخرى!