عيد ميلاد الأميرة
كان ذلك عيد ميلاد الأميرة، وكانت قد بلغت الثانية عشر، وكانت الشمس تغمر بنورها حدائق القصر.
ولم يكن لها سوى عيد ميلاد واحد، في كل عام، كغيرها من بنات الفقراء وأبنائهم، وإن كانت أميرة حقيقية، ووارثة عرش إسبانيا، فكان مما تعنى به البلاد كلها أعظم العناية أن يكون اليوم أجمل وأبهى ما يدخل في الوسع، وقد كان اليوم جميلًا حقًّا، فاعتدلت أزهار «الطوليب» الطويلة المخططة، على سوقها، كأنها صف من الجند، وشخصت إلى الورود المقابلة لها وقالت: «إننا مثلك الآن نضرة وبهجة.» وخفقت الفراشات القرمزية، وعلى أجنحتها تراب النضار، فوق زهرة بعد زهرة. وخرجت السحالي الصغيرة من شقوق الجدران وراحت تضحي في الشمس، وتشقق الرمان من وقدة الحر، وفتح قلبه الدامي، حتى الليمون الأصفر الذي حفلت به أفنانه، أفاد من ضوء الشمس لونًا أزهى، ونورت شجيرات المنوليا، وتفتحت أكمامها عن العاج المطويّ، ونشرت في الجو عبيرها القوي.
وكان يراها اليوم، مرة أخرى، كما رآها أول مرة في قصر «فينتنبلو»، وكان هو يومئذ في الخامسة عشر من عمره، وكانت هي أصغر، وقد عقد خطبتهما حينئذ السفير البابوي بحضور ملك فرنسا ورجال الحاشية أجمعين، ثم عاد إلى الإسكوريال يحمل حلقة صغيرة من شعر ذهبي، وذكرى شفتين رقيقتين تنحني بهما على يده لتلثمها، وهو يستقل المركبة، ثم كان الزواج بعد ذلك، فاحتفل به على عجل في برغوس، وهي بلدة صغيرة على الحدود بين المملكتين، ثم الموكب الفخم ساعة دخول مدريد والاحتفال المألوف في كنيسة «لا أتوشا»، والاحتفال الذي جاوز المألوف بتسليم حوالي ثلاث مائة من الكفار والملاحدة — بينهم إنجليز كثيرون — للسلطة المدنية لإحراقهم.
وكان حبه لها على التحقيق حب جنون، ومن رأي الكثيرين أنه أضر بذلك بلاده التي كانت يومئذ في حرب مع إنجلترا في سبيل الاستيلاء على العالم الجديد. وكان لا يكاد يتركها تغيب عن عينه، وفي سبيلها نسي — أو خيل إلى الناس أنه نسي — شئون الدولة الخطيرة، وأعمى الحب الجامع بصيرته — كما هو شأنه دائمًا — فعجز عن أن يرى أن المراسم الدقيقة التي أراد أن يدخل بها السرور على قلبها زادت داءها الغريب تفاقمًا، فلما ماتت ظل زمنًا ما، كالمذهوب بعقله، بل إنه ما من شك في أنه كان حقيقًا أن ينزل عن العرش، ويدخل دير غرناطة — وكان هو رئيسه الفخري — لولا أنه خشي أن يترك الأميرة الصغيرة تحت رحمة أخيه، الذي كان مشهورًا في إسبانيا بالقسوة وغلظ الكبد، والذي يزعم كثيرون أنه كان السبب في موت الملكة، فقد أهداها، على ما يقال، قفازين مسمومين لما زارت قصره في أراغون. حتى بعد أن انقضت أعوام الحداد العام الثلاثة التي أمر بها في مملكته، لم يسمح قط لوزرائه بأن يخاطبوه في عقد زواج جديد. ولما كتب إليه الإمبراطور نفسه يعرض عليه يد بنت أخيه أرشيدوقة بوهيميا الجميلة، كان جوابه لسفرائه أن قولوا لمولاكم إن ملك إسبانيا قد زُوِّج الأسى، وإنها لعروس عاقر، ولكنها أحب إليه من الجمال، وقد كلفه هذا الجواب ثمنًا غاليًا، ففقد تاجه إقليمَ البلاد الواطئة الخصيب الذي ما لبث، بإيعاز من الإمبراطور أن ثار بزعامة بعض المتهوسين من رجال الإصلاح الديني.
وتمثل لعينيه وهو يرقب الأميرة إذ تلعب في الشرفة، عهد زواجه كله بأفراحه العنيفة المتوهجة الألوان، والحرقات الكاوية التي كان بها ختام ذلك العهد، وكان في الأميرة من أمها سرعة البادرة وحدة الطباع، وهزة رأسها إذ تجنح إلى العناد، وتقويسة فمها الجميل الواشية بكبرياء النفس، وابتسامتها الخلابة إذ ترفع رأسها من حين إلى حين، وترمق النافذة، أو تمد راحتها الصغيرة لكبراء إسبانيا ليلثموها، ولكن ضحكات الأطفال العالية كانت تسك مسامع الملك، كما كان نور الشمس القاسي الوهاج يسخر من أساه، وكان يشوب هواء الصباح الصافي فيما يحس أو يتوهم، أرج بخور غريب شبيه بما يتخذه المحنطون، فدفن وجهه في يديه، فلما صعدت الأميرة طرفها كانت الأستار قد أسدلت، والملك قد دخل.
فأبدت علامة امتعاض، وهزت كتفيها. أفما كان في وسعه أن يظل معها في يوم عيدها؟ ما قيمة شئون الدولة السخيفة هذه؟ أم تراه قد ذهب إلى ذلك الهيكل القائم الذي لا تنطفئ فيه الشموع والذي لا يؤذن لها في دخوله؟ وتالله ما أحمقه إذا كان قد ذهب إلى هناك وترك هذه الشمس المشرقة وزهد في السعادة التي ينعم بها كل أحد. وستفوته مصارعة الثيران التي بدأت الأبواق تنفخ إيذانًا بها، وألعاب القراقوز وغيرها من المتع والمسرات، أَلا إن عمها ورئيس محكمة التفتيش لأرشد وأهدى سبيلًا، فقد خرجا إلى الشرفة وسرّاها وشرحا صدرها بالتحيات والتهنئات. وهزت الأميرة رأسها مرة أخرى وتناولت يد «دون بدرو» ونزلت من السلم إلى سرادق طويل من الحرير القرمزي نصب في آخر الحديقة، وتبعها الأطفال المدعوون على ترتيب درجاتهم ومنازلهم، فأطولهم أسماء أسبقهم وأحقهم بالتقديم.
•••
وأخليت الساحة بين التصفيق والصياح، وأخرجت الجياد الصناعية — جرها اثنان من الخدم في ثياب صفراء وسوداء — وبعد فترة وجيزة لعب فيها فرنسي على حبل مشدود، ظهر «قرقوز» إيطالي على مسرح صغير أعد له، وقد كان التمثيل جيدًا، والحركات طبيعية متقنة حتى لقد اغرورقت عين الأميرة بالدموع في ختام الفصل. بل لقد بكى بعض الأطفال، فكان لا بد من التسرية عنهم بالحلواء، حتى رئيس محكمة التفتيش نفسه قال لدون بدرو: إن مما لا يطاق أن تشقى وتتعذب بمثل هذه المصائب الكُبر أشياء مصنوعة من الخشب والشمع الملون تحركها أسلاك خفية بطريقة آلية.
ولكن أمتع الملاهي كلها بلا شك رقص القزم الصغير، فما كاد يدخل الساحة متعثرًا، ويمشي متكفّئًا في جانبيه، متخلعًا يهز منكبيه، ويميل رأسه العظيم المشوه الخلق في هذه الناحية مرة، وفي تلك مرة أخرى، حتى ضج السامر بصيحات الجذل، وراحت الأميرة نفسها تضحك وتكركر مستغربة في ذلك حتى اضطرت وصيفتها أن تذكرها بأن هناك سوابق في إسبانيا تجيز أن تبكي ابنة الملك على مرأى من أترابها ولداتها، ولكنه ليس هناك ما يبيح لأميرة من نسل الملك أن تظهر مثل هذا الطرب والسرور على مرأى ممن هم دونها مولدًا وأصلًا. ولكن الحقيقة أن القزم كان وقعه في النفس لا يُغالب أو يقاوم، وقد كان البلاط الإسباني مشهورًا بحبه للفظيع والشنيع، ولكن مثل هذا المخلوق العجيب لم يُر فيه من قبل. وكانت هذه أول مرة ظهر فيها القزم، فما عثروا عليه إلا في اليوم السابق، وكان يعدو في الغابة، واتفق أن كان اثنان من النبلاء قد خرجا للصيد والقنص في ناحية قصية من الغابة العظيمة المحيطة بالمدينة، فحملاه معهما إِلى القصر، هدية لم تكن في الحسبان، للأميرة، وكان أبوه رجلًا فقيرًا، فسره أن يتخلص من طفل دميم مشوه مثله، لا خير فيه ولا جدوى منه. ولعل أبعث ما في الغلام على التسلية والمسرة أنه كان غافلًا ذاهلًا عن دمامته وقبح منظره، لا يدري من هذا الأمر شيئًا، بل لقد كان بَيِّنَ السعادة واضح الابتهاج والمرح، وكان إذا ضحك الأطفال، يضحك مثلهم وبه ما بهم من خفة الفرح والجذل، وكان في آخر كل رقصة ينحني لهم أغرب انحناء وأدعاه إلى الضحك، ويبتسم ويهز رأسه لهم كأنما كان واحدًا منهم، لا خلقًا مشوهًا صاغت منه الطبيعة ضُحْكة للآخرين. وقد سحرته الأميرة واستولت على هواه، فكان لا يستطيع أن يحول عينه عنها، وكأنما كان يختصها برقصه، وفي آخر اللعب تذكرت الأميرة أنها رأت سيدات البلاط يلقين طاقات الزهر على كافاريللي المغني الإيطالي المشهور، الذي اختاره البابا من رجال هيكله الخاص وبعث به إلى مدريد ليُذهب من حزن الملك ويُجلِّد قلبه على مصابه، بحلاوة صوته وعذوبة غنائه، فانتزعت من شعرها الوردة البيضاء، على سبيل المزاح من ناحية، ولتكايد الوصيفة وتعابثها من ناحية أخرى، ورمت بها إلى القزم في الساحة وهي تفتر له عن أعذب ابتساماتها، فتناولها جادًّا، وأهوى عليها بشفتيه الغليظتين الخشنتين، ووضع يده على قلبه، وجثا على ركبتيه أمامها، وفمه مفتوح من أذن إلى أذن، وعينه تلمع سرورًا، فغلب الضحك الأميرة حتى لقد ظلت تُرَجْع فيه بعد أن خرج القزم من الساحة بزمان طويل، وأعربت لعمها عن رغبتها في أن تعاد الرقصة، ولكن الوصيفة قالت إن الشمس حامية جدًّا، ورأت أن الأصوب أن ترجع الأميرة من تؤتها إلى القصر، حيث أعد مقصف فاخر لها، وكعكة بديعة لعيد ميلادها، سُطرت عليها الحروف الأولى من اسمها بالسكر الملون، ورفع فوقها علم جميل من الفضة. فنهضت الأميرة، وأمرت أن يرقص لها القزم مرة أخرى بعد أن تأخذ حظها من الراحة، وشكرت للكونت الصغير ده تييرا نويفا (الأرض الجديدة) حسن استقباله لها وحفاوته بها، وعادت إلى الجانب المفرد لها في القصر، يتبعها الأطفال على الترتيب الذي جاءوا به.
•••
ولما سمع القزم أن عليه أن يرقص ثانية أمام الأميرة، وأن هذا هو أمرها الصريح فرح فرحًا عظيمًا، وامتلأت نفسه زهوًا، فخرج يعدو إلى الحديقة وجعل يبوس الزهرة البيضاء من فرط سروره وابتهاجه، ويأتي من حركات الجذل والخفة أغربها وأبعدها من الظرف والرشاقة.
وقد أغضب «الأزهار» أنه اجترأ على التطفل عليها في حديقتها الجميلة، ولما رأته يقفز في المماشي والممرات، وهو يروح ويجيء فيها، ويلوح بذراعيه فوق رأسه على نحو سخيف، لم تستطع أن تكبح شعورها.
فقالت أزهار الطوليب: «إنه في الحقيقة دميم جدًّا، ولا يليق أن يُسمح له باللعب في أي مكان نكون فيه.»
وقالت أزهار السوسن القرمزية الكبيرة: «ينبغي أن يُسقى عصير الخشخاش وينام ألف سنة»، واضطرمت غلائلها من حدة الغضب.
وصاحت الصّبارة: «إنه هولة مفزعة! كل ما فيه أعوج، ناقص، مشوه، وليس بين رأسه ورجليه أي تناسب، وإني لأشعر حين أراه بالوخز في كياني كله، وقد آليت أن أشكه بشوكي إذا دنا مني.»
وقالت شجيرة الأزهار البيضاء: «إن معه زهرة من أجمل أزهاري، وكنت قد أهديتها للأميرة بنفسي هذا الصباح، في عيدها، فسرقها منها.»
وراحت تصيح بأعلى صوت: «لص! لص! لص!»
حتى زهرة الخبيزي المشهورة بالدعة والتواضع، التي يكثر بين ذوي قرباها أهل الفقر والمتربة، سخطت عليه لما بصرت به، ولما قالت أزهار البنفسج إنه حقيقة دميم، ولكن لا حيلة له في هذا، لأنه ليس ذنبه، ردت عليها تلك بأن هذا عيبه، وأنه ليس ثم ما يدعو إلى الإعجاب بمخلوق لا سبيل إلى شفائه من دائه، أو إصلاح عيبه وعلاجه، وقد أحست بعض البنفسجات أن القزم يعرض دمامته مباهيًا بها، وأنه كان أمثل به وأدل على حسن الذوق أن يبدي الاكتئاب، أو يظهر على الأقل على هيئة المفكر بدلًا من أن يذهب ينط ويقفز مرحًا، ويتخذ لنفسه هيئات سخيفة قبيحة.
أما الساعة الزوالية التي كانت فيما خلا تبين الوقت للإِمبراطور شارل الخامس نفسه فقد راعها منظر القزم الصغير، حتى لقد ذهلت فنسيت أن تشير إلى انقضاء دقيقتين كاملتين بأصبعها الظلي الطويل، ولم يسعها إلا أن تقول للطاووس الذي يضحي في بهو الأعمدة: إن كل واحد يعلم أن أبناء الملوك ملوك، وأن أبناء الفحامين فحامون، ومن السخف أن يدعي أحد أن هذا ليس كذلك.
وهو قول وافق عليه الطاووس أتم موافقة، بل لقد صاح «صحيح! صحيح!» بصوت عال جاف أزعج الأسماك الذهبية الصغيرة التي تسبح في حوض النافورة فأخرجت رءوسها من الماء وسألت تماثيل أرباب البحر عن الخبر.
ولكن العصافير أحبته لسبب ما، وكانت قد رأته من قبل مرارًا في الغابة، يرقص كالعفريت وراء الأوراق التي تعبث بها الرياح وتثور، أو منطويًا على نفسه في فجوة في شجرة قديمة، والطير تأكل الجوز من يده. ولم تكن العصافير تبالي قبح خلقته أو تعبأ بذلك شيئًا، ومع ذلك ماذا من الجمال في البلبل الذي يغرد في الليل في أحراش البرتقال فيصغي له القمر ويهبط قليلًا ليسمعه؟ ثم إن هذا القزم كان يحنو على العصافير ويرق قلبه لها، فكان في الشتاء القارس، الذي يغدو فيه ظهر الأرض صلبًا كالحديد، ويتعرى الشجر فلا يبقى عليه من الحب أو الثمر ما يُلقط، وتزحف الذئاب إلى قريب من أبواب المدينة التماسًا للقوت، لا ينسى العصافير ولا مرة واحدة، فكان يبقي لها فتاتًا من خبزه الأسود، ويجعل لها نصيبًا من كل طعام يصيبه.
لهذا راحت العصافير تطير حوله في حديقة القصر، وتلمس خده بأجنحتها، وتزقزق فيما بينها، وبلغ من سرور القزم بها أن لم يسعه إلا أن يُريها الزهرة البيضاء الجميلة، وأن يخبرها أن الأميرة نفسها جادت بها عليه لأنها تحبه.
ولم تفهم العصافير مما يقول ولا كلمة واحدة؛ ولكن هذا لم تكن له قيمة، فقد أدنت رءوسها، بعضها من بعض، وبدت كأنها فاهمة مدركة، وهو ما يعادل الفهم، ويفضله بأنه أسهل.
كذلك أحبته السحالي، فلما تعب من الجري والنط، وقعد على بساط الروض ليستريح راحت تلعب حوله وعلى بدنه، وتحاول أن تسره وتسليه جهد طاقتها. وكانت تقول فيما بينها: «ليس في الإمكان أن يكون كل أحد جميلًا كالسحلية، فإن هذا مرام بعيد ومطلب عسير، ثم إنه ليس بالدميم جدًّا، وإن كان هذا القول يبدو غريبًا، على شرط أن يغمض الواحد عينيه ولا ينظر إليه.» والسحالي مطبوعة على الفلسفة، وكثيرًا ما تقضي ساعات وساعات في تفكير عميق إذا لم يكن ثم شيء تصنعه غير ذلك، أو إذا كان الجو مطيرًا لا يسمح بالخروج من الشقوق.
وقد ساء الأزهار جدًّا مسلك السحالي والعصافير، فقال بعضها لبعض: «هذا يرينا أن هذا الجري والطيران المستمرين يفسدان النفس، ويجعلانها سوقية مبتذلة، والمهذبون من الناس يبقون حيث هم، ولا يبرحون مكانهم — مثلنا — وما رآنا قط أحد ننط في ميادين البستان، أو نعدو كالمجانين وراء الذباب. وإذا احتجنا إلى تغيير الجو بعثنا في طلب البستاني فينقلنا إلى أحواض أخرى. وهذا هو الوقار والاحتشام الواجبان، ولكن الطيور والسحالي لا تدرك معنى السكون والرصانة، بل إن العصافير ليس لها عنوان ثابت! وهي أبدًا شاردة كالغجر، وينبغي أن تعامل كما يعامل الغجر.» وصعرت الأزهار خدها، كبرًا وشموخًا، وسُرت جدًّا لما رأت القزم ينهض عن الخضرة ويمضي إلى الشرفة فالقصر، وقالت لنفسها: «إنه حقيق بأن يبقى أبدًا وراء الأبواب. انظروا إلى ظهره الأحدب وإلى ساقيه المعوجتين!»
وراحت تتهاتف.
ولكن أين هي؟ سأل الوردة البيضاء فلم تجبه، وبدا له القصر كأنه نائم كله — حتى في حيث لم تغلق النوافذ، أسدلت الأستار الكثيفة لتحجب الضوء، فمضى يحوم حول القصر باحثًا عن مدخل إلى أن انتهى إلى باب صغير كان مواربًا فتسلل منه وألفى نفسه في قاعة فخمة — أفخم وأروع من الغابة، فقد كان كل ما فيها مذهبًا، حتى البلاط كان من قطع كبيرة ملونة مرصوفة على نحو هندسي، ولكن الأميرة لم تكن هناك، ولم يكن ثم سوى تماثيل صغيرة بديعة تنظر إليه من فوق القوائم التي رفعت عليها بعيون بيضاء وشفاه مفترة.
وكان في آخر القاعة سجف من المخمل الأسود المطرز وعليه صور الشمس والنجوم التي كان الملك يؤثرها كشعار له، أفتراها مختبئة وراء هذا؟ سيرى!
وأدار القزم عينيه في الحجرة متعجبًا، وخامره الخوف من الاستمرار، وكان يخيل إليه أن هؤلاء المصورين الذين يركضون بسرعة ومن غير أن يحدثوا صوتًا، مثل تلك الأشباح المرعبة التي سمع الحطابين يتحدثون عنها ويقولون إنها تخرج للصيد في الليل، فإذا لقيت إنسانًا قلبته غزالًا وراحت تطارده. ولكنه تذكر الأميرة فتشجع، وكان يريد أن يلقاها وحدها وأن يقول لها إنه هو أيضًا يحبها، فلعلها في الغرفة التي وراء هذه!
وذهب يجري على السجاد المراكشي الناعم الوثير وفتح الباب. كلا! ولا هنا أيضًا! فقد كانت الغرفة خالية.
وكانت هذه قاعة العرش التي يستقبل فيها الملك سفراء الدول الأجنبية. وما أقل ما يفعل الآن. وهي نفس القاعة التي جاء إليها منذ سنوات عديدة رسل من إنجلترا ليتفقوا على التدابير اللازمة لزواج ملكتهم — وكانت يومئذ كاثوليكية — بابن الإمبراطور. وكانت الأستار من جلد قرطبة المذهب، وقد تدلت من السقف المدهون باللونين الأسود والأبيض، شجرة عظيمة تحمل أغصانها ثلاث مائة شمعة. وكان فوق العرش ظلة مذهبة صورت عليها أسود قسطيلية وصروحها باللآلئ الدقيقة، وكان العرش مجللًا بمخمل أسود موشى بأزهار من الفضة، وأطرافه محلاة بالفضة واللؤلؤ، وعلى الدرجة الثانية من منصة العرش مقعد الأميرة وفوقه وسادة كسوتها من نسج الفضة، وتحت هذه الدرجة وفيما يخرج عن نطاق الظلة، كرسي لسفير البابا وكان هذا وحده هو الذي له الحق في الجلوس في حضرة الملك في أي احتفال عام، وكانت قبعته ذات الزر القرمزي، موضوعة على محمل بنفسجي أمام الكرسي. وعلى الجدار المواجه للعرش صورة بالحجم الطبيعي لشارل الخامس في ثياب الصيد وإلى جانبه كلب عظيم، وعلى حائط آخر صورة لفيليب الثاني وهو يستقبل وفد البلاد الواطئة الذي جاء ليعرب عن الولاء والخضوع. وبين النافذتين صندوق من الآبنوس مطعم بصفائح من العاج نقشت عليها صورة «رقصة الموت» لهولبين، ويقول البعض إن هذا المصور هو الذي نقشها بيديه.
وكانت هذه أجمل وأبهى ما رأى. وكانت الجدران مكسوة بالديباج من نسج «لوكا»، وعليه صور الطير، وقد حلي بأزاهير من فضة، وكان الأثاث من الفضة المحلاة بأكاليل الزهر الأرجواني وصور كوبيد، إله الحب، وأمام الموقدين الكبيرين ستران موشيان بصور الببغاوات والطواويس. وكانت الأرض مفروشة بأحجار خضراء لونها كلون البحر، ويخيل للناظر أنها ممتدة ذاهبة إلى غير مدى. ولم يكن القزم وحده في هذه الحجرة فقد كانت هناك في مدخل في آخر الحجرة، من ينظر إليه ويلاحظه، وقد خفق قلب القزم وندت عنه صيحة فرح وبرز إلى النور، فتقدم الشخص الواقف أيضًا، ورآه القزم كأوضح ما يكون.
أهذه الأميرة؟! كلا بل هذا شخص بشع مشوه لم ير القزم أبشع من منظره ولم يكن مستوي الخلق كغيره من الناس، بل أحدب متموج الأعضاء ملتويها ضخم الدماغ. أسود الشعر. وعبس القزم لما رأى هذا المخلوق، فعبس مثله. فضحك، فضحك مثله، ووضع يديه في خاصرتيه كما فعل، فانحنى له القزم ساخرًا، فرد تحيته بمثلها، فمشى إليه فتقدم ذاك منه، وكان يقتاس به ويحاكيه في كل خطوة، ويقف إذا وقف. فصاح من سروره بذاك وراح يعدو، وبسط يده، فلمست كف الوحش البشع يده، فخاف وحرك يده يمينًا وشمالًا، فقلده الذي أمامه، فحاول أن يدفع يده إليه ولكن شيئًا أملس صلبًا صده عن ذلك. وكان وجه هذا الوحش قريبًا منه الآن، فطالعه من عينيه الذعر، فنحى الشعر عن عينيه، فقلده الذي هو أمامه، فضربه بجمع يده، فتلقى ضربة بضربة، فهاج عليه سخطه ومقته، فلم يكن الوجه الذي يراه أقل نطقًا بالكراهية والحنق، فتراجع، فارتد ذاك أيضًا.
ما هذا؟! وفكر القزم لحظة، ثم أجال لحظه في بقية الحجرة، فرأى عجبًا! ذلك أن كل شيء هنا له نظير يقابله في هذا الجدار الذي كأنما هو مصنوع من الماء الصافي. لكل صورة، وكل أريكة، أختها حتى تمثال الإله النائم في فجوة بالجدار إلى جانب الباب له توأم نائم. وحتى تمثال فينوس الفضي القائم في نور الشمس، يمد يده إلى فينوس أخرى ليست دون تلك جمالًا.
أهذا هو الصدى؛ لقد نادى الصدى مرة في الوادي، فرد عليه نداءه كلمة كلمة. أفترى الصدى يعابث العين كما يعابث الأذن؟ أفي وسعه أن يجعل عالم التقليد كعالم الحقيقة؟ وهل يتسنى أن يكون لخيال الأشياء لون وحياة وحركة؟ هل يمكن …؟
وانتفض، ونزع الوردة البيضاء من صدره، ودار فلثمها، فإذا الذي هناك معه وردة كوردته، لا تنقص غلالة واحدة، وإذا هو يلثمها كلثماته، ويضمها إلى قلبه بحركة بشعة وإيماءات ثقيلة.
وفي هذه اللحظة دخلت الأميرة من الشباك المفتوح، في حاشية من أترابها، فلما بصروا بالقزم مرتميًا يضرب الأرض بجمع يده، جلجلت ضحكاتهم وحفوا به ينظرون إليه.
وقالت الأميرة: «كان رقصه مضحكًا، ولكن تمثيله أبعث على الضحك وأغرى به — أشبه بحركات الدمى في القراقوز، إلا أن هذه أقرب إلى الطبيعة وأشبه بها.»
وهزت مروحتها الكبيرة، وصفقت.
ولكن القزم لم يرفع عينه قط، وصارت شهقاته أخفت، وإذا به يفهق ويمسك جانبيه، ثم ارتمى، وظل ساكنًا لا يتحرك.
وقالت الأميرة بعد هنيهة: «هذا بديع. والآن يجب أن ترقص لي.» فصاح الأطفال جميعًا: «نعم، قم وارقص، فإنك ماهر كالقردة، ولكنك أبعث منها على الضحك.»
لكن القزم لم يجب.
فضربت الأميرة الأرض برجلها، ونادت عمها الذي كان يتمشى على الشرفة مع أحد الأمناء، وهو يقرأ رسائل جاءت الساعة من المكسيك حيث أنشئت الكنيسة منذ عهد قريب. وقالت الأميرة: «إن قزمي الصغير المضحك يعاند، فتعالى أنهضه ومره أن يرقص.» فابتسما ودخلا، وانحنى دون بدرو ولطم القزم على خده بقفازه الموشى وقال: «يجب أن ترقص أيها الوحش الصغير. يجب أن ترقص، فإن أميرة إسبانيا وأترابها يردن أن يتسلين.»
ولكن القزم لم يتحرك.
فقال دون بدرو بضجر: «يجب أن نبعث في طلب جلاد.» وعاد إلى الشرفة، ولكن الأمين بدا عليه الجد والاهتمام وجثا إلى جانب القزم ووضع يده على قلبه، ثم هز كتفيه ونهض، وانحنى للأميرة وقال: «أيتها الأميرة الجميلة، إن قزمك الصغير لن يرقص أبدًا. وهذا مما يؤسف له، فقد كان دميمًا مشنوء الطلعة إلى حد كان يُرجى أن يحمل الملك على الابتسام.»
فسألته الأميرة: «ولكن لماذا لا يرقص ثانية؟» وضحكت.
فقال الأمين: «لأن قلبه انفطر.»
فعبست الأميرة، واستدارت شفتاها الرقيقتان زراية واحتقارًا وقالت: «في المستقبل، يجب أن يكون الذين يجيئون ليلعبوا معي بغير قلوب.»
وخرجت تعدو إلى الحديقة.