شجرة الميلاد
(١) الفرع الأول: «نفسي»
احتفظت بسر واحد في حياتي، ذلك أني رجل حيي. وما من أحد يخطر له ذلك، وما من أحد خطر له ذلك، وما من أحد يمكن أن يخطر له ذلك، ولكني بطبيعتي رجل حيي. وهذا هو السر الذي لم تضطرب به شفتاي قبل اليوم.
وفي وسعي أن أحرك نفس القارئ ببيان الأماكن العديدة التي اتقيت أن أذهب إليها، والناس الكثيرين الذين اجتنبت أن أزورهم أو أن أستقبلهم، وما اضطررت أن أتحاماه من المجتمعات لا لسبب سوى أني بطبيعة تكويني، وما بنيت عليه فطرتي، رجل حيي. غير أني أؤثر أن أدع نفس القارئ ساكنة، وأن أمضي إلى غايتي.
وغايتي هي أن أروي ما كان من رحلتي إلى فندق شجرة الميلاد، وما وقفت عليه فيه هناك حيث ضرب عليّ الجليد نطاقًا. وكان ذلك في عام ستظل ذكراه باقية، فارقت فيه «أنجيلا ليث» إلى غير رجعة، وكنت أهم بزواجها، فعلمت أنها تؤثر صديقي الحميم «إدوين»، وكنت منذ عهد التلمذة أقر له فيما بيني وبين نفسي بالتفوق والمزية والرجحان. وقد حز في نفسي تفضيلها له ولكني لم يسعني إلا أن أدرك أن الأمر طبيعي، فحاولت أن أصفح عنهما، وانتويت الرحيل إلى أمريكا، في طريقي إلى الشيطان.
ولم أفض بشيء مما علمت إلى أنجيلا أو إدوين، وقلت أبعث إلى كل منهما بكتاب أضمنه دعائي لهما وعفوي عنهما، ويحمله عامل السفينة إلى صندوق البريد، على حين أكون أنا موليًا وجهي شطر العالم الجديد — أقول إني دفنت حزني في صدري، وعزيت نفسي بما وطنتها عليه من التسامح والمروءة، وفارقت كل ما هو عزيز عليّ، وشرعت في هذه الرحلة الموحشة التي أسلفت الإشارة إليها.
وكان الشتاء على أشد ما يكون قرصًا حين غادرت بيتي إلى الأبد، في الساعة الخامسة صباحًا. ولا أحتاج أن أقول إني حلقت ذقني على ضوء شمعة، وإن البرد كان يهرؤني هراءة شديدة، وإني كنت أحس كأني قمت من النوم لأشنق، وهو إحساس مقترن عندي بالنهوض قبل الأوان في مثل هذه الأحوال.
وما زلت أذكر جهامة «فليت ستريت»، لما خرجت إليه من حي «التمبل» وكانت ألسنة المصابيح تضطرب من زفيف الرياح النكباء، حتى لكأن الغاز نفسه قد تقبض من البرد. وكنت أرى أعالي البيوت البيضاء، وصفحة السماء المقرورة، والنجوم فيها خفاقة اللمعان، والساعين إلى الأسواق وغيرهم من المبكرين وهم يهرولون ليدور في عروقهم الدم الذي كاد يجمد، وألمح الضوء، وأكاد أحس الدفء من المقاهي القليلة المفتوحة لأمثال هؤلاء الزباين، ولا يسعني إلا أن أشعر بالبَرَد الذي كان الهواء يجلد به وجهي كالسوط.
وكان باقيًا على نهاية الشهر وختام العام تسعة أيام، وكانت السفينة الذاهبة إلى الولايات المتحدة ستغادر ميناء «ليفربول» — إذا كان الجو ملائمًا — في اليوم الأول من الشهر التالي، فأمامي فسحة من الوقت، فخطر لي أن أزور مكانًا (لا داعي لذكر اسمه) على الحدود القصوى لمقاطعة يوركشير. يذكّرنيها دائمًا، ويحببها إليّ أني التقيت فيها أول ما التقيت بأنجيلا في بيت ريفي، وقد أحسست أن مما هو خليق أن يخفف لواعجي، أن أودع هذا المكان قبل أن أنفي نفسي، ويحسن أن أقول هنا إني أردت أن أمنع البحث عني قبل إمضاء عزمي، فكتبت إلى أنجيلا ليلًا قبل رحيلي — كما كانت عادتي — أقول لها إن عملًا لا يحتمل الإرجاء، ستعرف تفاصيله فيما بعد، استوجب سفري وغيابي أسبوعًا أو عشرة أيام.
ولم تكن السكة الحديدية الشمالية قد مُدت في ذلك الحين، وكان الانتقال والسفر بالمركبات التي أراني أحيانًا — كغيري من الناس — أتكلف الأسف على زوال عهدها، وإن كان كل امرئ يفرق من ركوبها ويعده عذابًا غليظًا. وكنت قد احتفظت بمقعد إلى جانب الحوذي على أسرع هذه المركبات، وكان همي الآن أن أركب شيئًا ومعي حقيبتي إلى نزل «البيكوك» في أسلنجتون وهناك أنضم إلى الركب. ولكن الحمال الذي كانت معه حقيبتي روى لي أن كتلًا عظيمة من الجليد سابحة منذ بضعة أيام في النهر تلاقت في الليل وصارت معبرًا في النهر من «حدائق التمبل» إلى شاطئ «ساري»، فلما سمعت هذا رحت أسأل نفسي «أليس مقعدي إلى جانب الحوذي خليقًا أن يضع نهاية سريعة مقرورة لشقائي؟» ولا شك أني كنت محزونًا كسير القلب، ولكني لم أكن قد بلغت من ذاك مبلغًا يرغبني في الموت بردًا.
ولما بلغت نزل البيكوك — حيث ألفيت كل امرئ يحتسي شرابه حارًّا التماسًا للمحافظة على الذات — سألت هل في المركبة مقعد داخلي؟ على أني تبينت أني — في الداخل والخارج — الراكب الوحيد. وكان هذا مما زاد شعوري بشدة الشتاء وسوء الجو، فقد كان الإقبال على هذه المركبة خاصة عظيمًا. واحتسيت شيئًا من الشراب ألفيته سائغًا جدًّا، وركبت فغطوني بالقش إلى وسطي، وبدأت رحلتي وأنا شاعر بما في منظري من بواعث الإضحاك والسخرية.
وغادرنا «البيكوك» والدنيا ما زالت ملفوفة في مثل الشملة من الظلام، وكانت أشباح البيوت والأشجار تبدو غائمةً باهتة كأنها منظورة من خلال الضباب ثم طلع النهار جامدًا أسود مصرورًا. وكان الناس يضرمون النار في مواقدهم والدخان يرتفع مستقيمًا ذاهبًا في طبقات الهواء الرقيق، ونحن نقرقر بمركبتنا إلى «هايجيت ارشوي» على أوعر أرض رن عليها حافر. ودخلنا في الريف فخيل إليّ أن كل شيء قد شاخ وعلته شيبة — الطرق والأشجار والسقوف والبيادر — وقد ترك الناس العمل خارج البيوت، وتجمد الماء المعد لشرب الجياد، وخلت الطرق من العابرين، وأحكم إيصاد الأبواب، وعلت ألسنة النار في بيوت الحراس الصغيرة، وجعل الأطفال (حتى الحراس لهم أطفال ويبدو عليهم أنهم يحبونهم) يمسحون الغيم عن الزجاج بسواعدهم البضة لتأخذ عيونهم اللامعة منظر المركبة الفريدة المارة بهم. ولا أدري متى بدأ البَرَد يتكاثف، ولكني أدري أننا كنا نغير الخيل في مكان ما فسمعت الحارس يقول إن السماء جادة في إلقاء الثلج علينا، فنظرت فألفيته يسقط علينا بسرعة وكثرة.
وانقضى النهار الموحش وقد نمته كما يفعل المسافر المستفرد، وأحسست بالدفء والقوة والشجاعة بعد الطعام والشراب — ولا سيما بعد العشاء — أما ما خلا أوقات الطعام فإني لا أحس فيه إلا بالانقباض. وكنت ذاهلًا عن الزمان والمكان، وأكاد أكون في غير وعيي. وكانت المركبة والجياد كأنما تشدو بلحن لا ينقطع ولا يختلف حتى لأزعجتني الدقة في ذلك، وبينما كانت الخيل تغيّر كان الحراس يدبدبون وهم يتمشون رائحين غادين، ويتركون آثار أحذيتهم على الثلج ويُفرغون في بطونهم من الشراب مقادير عظيمة لم تؤثر فيهم، فلما دخل الظلام مرةً أخرى اختلط عليّ أمرهم ببرميلين كبيرين هناك. وتعثرت الخيل في مواضع فأنهضناها، وكان هذا خير ما حدث لي وأمتع ما وقع لأنه أشعرني الدفء. وكان الثلج لا يزال يسقط، ويسقط ولا يكف عن السقوط. وظل الحال على هذا المنوال طول الليل. وهكذا دارت الساعة دورتها وعدنا إلى الطريق على أصوات الحوافر والعجلات، بينما كانت السماء ماضية في إلقاء الثلج علينا لا تكف عن ذلك ولا تني أو تفتر.
وقد نسيت أين كنّا ظهر اليوم الثاني، وأين كان ينبغي أن نكون، ولكني أعلم أنّا كنا متأخرين عشرات من الأميال، وأن الحال كان يزداد سوءًا ساعةً بعد ساعة، فقد أخذ الثلج المتساقط يعلو جدًّا والمعالم تختفي فيه، وصارت الطرق والحقول شيئًا واحدًا، وبدلًا من أن تكون هناك حواجز وأسوار تهدينا في سيرنا كنا نخبط فوق سطح أبيض متصل غير منقطع قد يخوننا في أية لحظة فنرتمي على سفح تل. ولكن الحوذي والحارس — وكانا معًا لا ينفكان يتشاوران ويديران عيونهما فيما حولهما — استطاعا أن يسددا خطوات الجياد بدقة مدهشة.
ولبثنا على هذا الحال النهار كله لا نرى شيئًا خارج البلدان والقرى غير الآثار التي يتركها القاقم والأرنب والثعلب والطير أحيانًا. وفي الساعة التاسعة ليلًا نبهتني نفخة مرحة في بوق المركبة وأصوات أناس تستبشر بها النفس وحركات مصابيح وإذا نحن قد وقفنا في ساحة من أرض يوركشير لتغيير الخيل.
وساعدوني على النزول فقلت لخادم صار رأسه العاري أبيض كرأس الملك لير في دقيقة واحدة: «أي فندق هذا؟»
قال: «فندق شجرة الميلاد.»
فالتفت إلى الحوذي والحارس بهيئة المعتذر وقلت: «أظن أنه لا بد لي أن أتخلف هنا.»
وكان صاحب الفندق وامرأته وكل من في المكان من خدم وعمال قد سألوا السائق على مرأى ومسمع من بقية من هناك من المتطلعين المتلهفين على الجواب: هل ينوي أن يستأنف السفر فكان جوابه: «نعم سأمضي بها (يريد المركبة) إذا لم يتخل عني جورج.» وكان جورج هذا هو الحارس وكان قد أقسم أن يظل معه. ولهذا راح الرجال يخرجون الخيل.
ولم يكن إقراري بالهزيمة بعد هذا الحديث إعلانًا بغير تمهيد، بل الواقع أنه لولا أن مهد لي الحديث طريقي إلى إعلان عزمي لكان من المشكوك فيه — وأنا رجل حيي — أن أجترئ على ذلك. على أن رغبتي قوبلت بالرضى حتى من الحارس والحوذي. ولهذا وبعد أن عززت رغبتي وسمعت ملاحظات شتى من بعض الواقفين وهم يتحادثون، ومن بينها أن: «السيد يستطيع أن يسافر مع البريد غدًا. أما الليلة فليس أمامه إلا أن يموت بردًا. وأي خير في أن يموت امرؤ بردًا؟ آه، ودع عنك دفنه حيًّا! (العبارة الأخيرة مما زاده رجل هزّال على سبيل المزاح، على حسابي، وقد قوبلت أحسن مقابلة).
أقول إني، بعد ذلك رأيت حقيبتي تخرج من المركبة وكأنها جسم متجمد، وبذلت للحوذي والحارس ما فيه رضاهما وحييتهما وتمنيت لهما رحلة موفقة وسفرًا سعيدًا، ثم تبعت صاحب الفندق وامرأته وخادمه إلى الطبقة الثانية، وأنا خجل من ترك الرجلين يكافحان وحدهما.
وخُيل إليّ أني لم أر في حياتي غرفة في سعة هذه التي مضوا بي إليها. وكان لها خمس نوافذ عليها ستائر حمراء داكنة تستطيع أن تمتص الضوء من زينة عامة، وكانت رءوس هذه الأستار محلاة بضروب معقدة من النسيج ممتدة على الحائط على نحوٍ عجيب. وقد طلبت أن تكون غرفتي أصغر، فقالوا إنه ليس ثمّ ما هو أصغر من هذه ولكن في وسعهم أن يضعوا لي سترًا متحركًا. وجاءوني بستر ياباني عليه صور أناس (يابانيين على ما أظن) يباشرون أعمالًا سخيفة وتركوني أُشوى أمام نار عظيمة.
وكانت غرفتي هذه على مسافة ربع ميل أو حوالي ذلك من بداية دهليز طويل يفضي إليه سلم عظيم. وقل من يدرون أي عذاب يحدثه هذا لِرجل حييّ. يؤثر ألا يلتقي بأحد على درجات السلم. وكانت الغرفة أكلح ما جثم على صدري فيه كابوس. وكان كل ما فيها من أثاث ضخمًا عالي الظهر مستدق الوسط كالمغزل ولا أستثني من ذلك عمد السرير الأربعة والشمعدانيين الفضيين القديمين. وكنت فيها إذا أطللت بوجهي من وراء الستر المتحرك، يهجم عليَّ تيار الهواء كأنه الثور المجنون، وإذا بقيت لا أريم مكاني على مقعدي اشتد عليَّ حر النار وتركتني كالآجرة الجديدة، وكانت الصفّة التي فوق الموقد عالية جدًّا وعليها مرآة سوء، أستطيع أن أقول إنها «متموجة» فكنت إِذا وقفت ونظرت فيها أرتني ما ينمو فوق رأسي، وقلما يكون ما فوق الحاجبين منظرًا حسنًا، وإذا أوليت الموقد ظهري استقبلت قبوًا جهمًا من الظلام فوقي، وفيما وراء الستر لا سبيل إلى تحويل العين عنه، وكانت الأستار العشرة على النوافذ الخمس تتلوى وتمسح الجدران كأنها عش من الديدان العظيمة.
وأحسب أن ما أراه في نفسي لا بد أن يراه في أنفسهم غيري ممن لهم مثل طباعي وفطرتي، ومن أجل هذا أجترئ على القول بأني في أسفاري ما نزلت بمكان قط إلا وددت أن أبادر إلى الخروج منه، فقبل أن أرفع يدي عن عشائي — وكان قوامه دجاجة محمرة ونبيذًا معتقًا ساخنًا — شرحت للخادم بالتفصيل تدابير رحيلي في الصباح: الإفطار ومعه بيان التكاليف في الساعة الثامنة … والسفر في الساعة التاسعة … جوادان … أو إذا احتاج الأمر إلى أكثر فأربعة …
وكنت متعبًا مكدودًا، ولكن الليل مع ذلك طال علي حتى لكأنه أسبوع. وكنت في فترات الراحة من الكابوس أفكر في أنجيلا. وضاعف شعوري بالهم والحزن أني في مكان على أقصر طريق إلى «جريتنا جرين.» وما لي أنا وجريتنا جرين؟ … وحدثت نفسي بمرارة أني لست ماضيًا إلى الشيطان عن هذا الطريق، بل عن طريق أمريكا …
وفي الصباح علمت أن الثلج ظل يسقط طول الليل، ورأيت أنه ما زال يسقط، وأدركت أني في نطاق من الجمد. وما من شيء يستطيع أن يخرج من هذا المكان أو يأتي إليه قبل أن يجيء العمال ويرفعوا الثلج عن الطريق. ومتى يشقونه إلى هذا الفندق؟ لا يعلم أحد.
وصرنا في يوم عيد الميلاد. وهو عيد لا اغتباط لي به في هذا العام في أي مكان على كل حال، فلا قيمة للأمر من هذه الناحية، ولكن احتباسي هنا كان أشبه بالموت بردًا، وهو أمر لم يكن لي في حساب. وأحسست بوحشة. ومع ذلك لم أستطع أن أقترح على صاحب الفندق وامرأته أن يأذنا لي في مجالستهما (وكان هذا خليقًا أن يسرني) كما لا أستطيع أن أطلب إليهما أن يهديا إليّ شيئًا من الآنية! وها هنا محل الإشارة إلى سري الأكبر، وأعني به أني رجل شديد الحياء بالفطرة، ومن عادة الرجل الحيي أنه يتوهم أن غيره مثله. لهذا خجلت أن أرجو منهما أن يضماني إلى مجلسهما، بل كبر في وهمي أن هذا قد يحدث لهما ارتباكًا شديدًا.
لهذا بدا لي أن خير ما أصنع هو أن أستقر في غرفتي، فسألت هل هنا شيء يقرأ؟ فجاءني الخادم بكتاب عن الطرق، وصحيفتين أو ثلاث قديمة، وكتاب أغان صغير، ينتهي بمجموعة من «الأنخاب» وكتاب نكت، ونسخة قديمة من «بريجرين بيكل» و«الرجعة العاطفية» وكنت أعرف كل حرف من الكتابين الأخيرين، ولكني مع ذلك قرأتهما مرةً أخرى، ثم حاولت أن أشدو بالأغاني، ولم تفتني نكتة مما في كتابها، وقد وجدت فيها ذخرًا من الكآبة واءمت حالتي النفسية! واقترحت على نفسي كل الأنخاب المدونة وأعربت عن جميع العواطف المسجلة، وحفظت ما في الجرائد عن ظهر قلب، ولم يكن فيها سوى إعلانات عن بضائع وبيان عن اجتماع وخبر عن حادثة سطو في الطريق. ولما كنت منهومًا بالقراءة فقد التهمت ما أعطونيه قبل دخول الليل، بل لقد فرغت منه كله قبل وقت الشاي، ولم يبق لي إلا ما أستطيع أنا تدبيره لتزجية الوقت، فقضيت ساعة أفكر فيما عسى أن أصنع بعد ذلك. وأخيرًا خطر لي (فقد كان يعنيني أن أنقي من رأسي كل خاطر له صلة بأنجيلا وإدوين) أن أنشر المطوي مما وعته الذاكرة من تجاربي المقترنة بالفنادق، وأنظر أي وقت يذهب في ذلك، فحركت النار وأدنيت كرسيًّا من الستر المتحرك — ولم أجرؤ أن أدنو جدًّا مخافة أن تهجم عليّ الريح المتربصة وراءه، وكنت أسمع صوتها — وبدأت.
أقدم ما أذكر من أمر الفنادق يرجع إلى عهد الطفولة، لهذا كررت راجعًا إلى ذلك العهد واتخذت منه بداية، فألفيت نفسي على ركبة امرأة شاحبة الوجه ضيقة العينين، قنواء الأنف، خضراء الثوب، لا تعرف من الأقاصيص إلا واحدة عن سري من أهل الناحية كان ضيوفه يختفون بلا سبب، ومضت سنوات ثم ظهر أن همه من حياته أن يصنع من لحومهم «فطيرًا» ولكي يكون تخليه أتم لهذا الضرب من الصناعة وتوفره عليه أرقى أنشأ بابًا سريًّا خلف رأس السرير، فإذا نام الضيف (المتخوم بالفطير) دخل عليه هذا الشرير وفي إحدى يديه مصباح وفي الأخرى سكين وقطع رقبته ثم طبخه وصنع منه فطيرًا. ولهذا اتخذ في موضع مستور تحت السرير مراجل لا تفتأ تغلي. وكان يحدو رقاقه هذا في فحمة الليل، ومع ذلك لم يسلم من وخز الضمير، فما نام قط إلا تمتم «الفلفل كثير» فما لبث أن أسلمته التمتمة إلى العدالة.
وما كدت أفرغ من قصة هذا المجرم حتى تذكرت أخرى من مخلفات ذلك العهد عن رجل كانت صناعته في الأصل السطو على البيوت، وقد جر عليه ذلك صلم أذنه اليمنى في إحدى الليالي بينما كان يهم بالدخول من نافذة، صلمتها له خادمة جميلة قوية القلب (كانت العجوز ذات الأنف الأقنى وإن كانت أبعد خلق الله عن هذا الوصف، تدع السامع يتوهم أنها هي تلك الخادمة الحسناء الجريئة). وبعد سنين عدة زُفت هذه الغيداء الباسلة إلى صاحب فندق وكانت له عادة غريبة هي أنه يلبس قلنسوة من حرير لا ينزعها أبدًا في ليل أو نهار كائنة ما كانت الأحوال. ففي إحدى الليالي نزعت هذه المرأة الجميلة الجريئة قلنسوته عن أذنه اليمنى فإذا هي مصلومة! فأدركت أنه هو اللص الذي قطعت له أذنه وأنه تزوجها ليفتك بها، انتقامًا منها، فأسرعت إلى السفود أو المحضاء فأحمته وقضت به عليه قبل أن يقضي عليها، فحملوها إلى الملك جورج على عرشه حيث تقبلت منه الثناء الملكي السامي على حكمتها وعقلها وشجاعتها.
وكانت هذه القصاصة العجوز، على ما تبينت من زمان طويل، تجد لذة وحشية في إرعابي وإطارة صوابي من الخوف، وقد روت لي ما زعمته قصة واقعية من تجاربها ولكني أعتقد أنها مولدة من رواية «ريموند واجنز أو الراهبة الدامية» وقد قالت: إن الحادثة وقعت لزوج أختها، وكان على ما ادعت غنيًّا جدًّا، ولم يكن أبي كذلك. وكان يسر هذه العجوز الغولية المزاج أن تعرض أقاربي الأدنين وأصدقائي على عقلي الصغير، في صور مستهجنة. قالت: وكان قريبها هذا يخترق غابة وهو ممتط صهوة جواد أصيل (ولم يكن لنا جواد أصيل) يتبعه ويمشي في ركابه كلب قوي لا يقوَّم بمال (ولم يكن لنا كلب). وأمسى عليه الليل وهو سائر فعرج على فندق ففتحت له الباب امرأة سمراء فسألها: هل يجد عندها سريرًا؟ فقالت: نعم، وأدخلت حصانه الإسطبل ومضت به هو إلى غرفة فيها رجلان أسمران، وبينما كان يتمشى شرع ببغاء، كان في الغرفة، يتكلم ويقول: «الدم! الدم! امسحوا الدم!» فنهض إليه أحد الرجلين الأسمرين ولوى عنقه فمات، وعاد وهو يقول: إنه يحب الببغاوات المحمّرة، وأنه سيفطر بهذا في الصبح. وبعد أن أكل صاحبنا الغني جدًّا وشرب حتى هنئ صعد لينام، ولكنه كان ساخطًا لأنهم حبسوا كلبه في الإسطبل زاعمين أنهم لا يسمحون بترك الكلاب طليقة في الخان. ولبث ساكنًا أكثر من ساعة يفكر، ولما أشفت شمعته على الفناء سمع صوت حك بالباب ففتحه وإذا بكلبه وراءه، ودخل الكلب على مهل وجعل يشم ثم مضى رأسًا إلى قش في ركن، قال أحد الرجلين الأسمرين: إنه يغطي تفاحًا، ونثر الكلب القش فكشف عن ملاءتين ملوثتين بالدم، وفي هذه اللحظة انطفأت الشمعة، ونظر صاحبنا من ثقب بالباب فألفى الرجلين الأسمرين يصعدان على أطراف أصابعهما ومع أحدهما خنجر يبلغ طوله خمس أقدام، ومع الثاني ساطور وغرارة وفأس. وقد نسيت بقية القصة وأحسب أن الرعب أورثني الخدر وأفقدني القدرة على الإصغاء حوالي ربع ساعة.
وانتقلت من هذه الأقاصيص — وأنا قاعد أمام الموقد في فندق شجرة الميلاد — إلى قصة خان «رودسَيد»، وكيف ضبط صاحبه إلى جانب سرير الضيف المقتول، وسكينه عند قدميه، والدم على يديه. وكيف شنقوه على الرغم من قوله إنه صعد إليه ليقتله ولكنه جمد في مكانه إذ وجده قد ذبح قبل ذلك، وكيف أنه بعد سنين عدة، اعترف خادم الخان بالقتل.
ولما بلغت إلى هنا في نشر المطوي من ذكرياتي، استولى عليّ القلق فنهضت وحركت النار وأوليتها ظهري ولبثت هكذا حتى لم أعد أطيق حرها، وكنت أحدق في الظلام الحالك وراء الستر، وأنظر إلى الستائر التي تتحرك كالديدان في أنشودة «أَلونزو الشجاع وإيموجين الحسناء».
وتذكرت خانًا في البلدة التي دخلت مدرستها، ولما كانت ذكرياته أحلى وأشرح للصدر، فقد تناولتها وأحييتها. كان ذلك خانًا ينزل فيه الأصدقاء وكنا نحن نقصد إليه فيسخو علينا صاحبه بما عنده، وكنت مجنونًا بحب ابنته — ولكن دع هذا — وفي هذا الخان حنت عليّ أختي الصغيرة وهي تبكي لأن عيني ورمت في ملاكمة. وقد ذهبت أختي منذ سنوات طويلات المدد، إلى حيث تجف العبرات، ولكن هذه الذكرى، على بعد مسافة الزمن، عطفت قلبي عليها ورققته لها.
وتناولت شمعتي ومضيت إلى سريري وأنا أقول: «البقية تأتي غدًا.» ولكن سريري تكفل بإبقاء خواطري في هذا المجرى، فألفيتني أُحمل، على مثل البساط المسحور، إلى مكان قصيّ (وإن كان في إنجلترا)، وهناك نزلت من مركبة عند باب خانٍ والسماء تثلجنا. وأعدت وأنا نائم تجربة غريبة وقعت لي بالفعل. ذلك أنه قبل هذه الرحلة التي كرت بي الذاكرة إليها، بأكثر من عام، تُوفي صديق لي كان عزيزًا علي وأثيرًا عندي، فصرت أراه كل ليلة في أحلامي سواء أكنت راقدًا في بيتي أم في غيره، وكان يبدو لي تارةً كأنه ما زال حيًّا، وطورًا كأنه عائد إليّ من عالم الأرواح والأشباح ليعزيني ويسليني، ولكنه دائمًا جميل، ساكن، سعيد، لا يُجري في البال أو يحرك في النفس أي معنى من معاني الجزع والأسى. وكان الخان الذي نزلت فيه بعد ذلك الحادث في رقعة فسيحة من الريف، وبعد أن أشرفت من نافذة غرفتي على الثلج الذي يكسو الأرض ويضيئه القمر، جلست إلى جانب الموقد لأكتب رسالة. وكنت إلى تلك اللحظة قد حرصت على أن أكتم أني أرى صديقي العزيز الذي فقدته، في منامي كل ليلة. فدونت هذا في الرسالة التي كتبتها وزدت على ذلك أني أريد أن أرى هل يظل موضوع أحلامي ثابتًا على الوفاء لي على الرغم من بعد الشقة (في هذا المكان) ومن تعب السفر ومجهوده؟ … كلا … فقدت الخيال لما بحت بالسر! ولم تكتحل به عيني سوى مرة واحدة في ستة عشر عامًا، بعد ذلك … وكنت في إيطاليا، فاستيقظت (أو خيل إليّ أني استيقظت) وفي مسمعي ذلك الصوت الذي لا يُنسى، كأوضح ما يكون، وأنا أحدثه، فتوسلت إليه — وهو يسمو فوقي، ويحلق ذاهبًا في الهواء، صاعدًا إلى قبة الغرفة العتيقة — أن يجيبني عن سؤال لي عن الحياة الأخرى. وكانت يداي لا تزالان مبسوطتين إليه بالرجاء والتوسل لما اختفى. فسمعت جرسًا يدق على كثب من الحديقة وصوتًا في سكون الليل العميق يدعو المسيحيين الصادقين أن يصلوا لأرواح موتاهم ويترحموا عليهم …
وكان ذلك اليوم، يوم عيد الموتى …
وأعود إلى فندق شجرة الميلاد الذي أنا فيه، فأقول إني لما استيقظت في صباح اليوم التالي ألفيت الجمد على حاله، والسماء الدانية المسفة تنذر بالمزيد، فأفطرت ثم ارتددت بالكرسي إلى مكانه السابق، واستأنفت ذكريات الخانات …
وفي خانٍ صغير في سويسرا وقعت حادثة ليست عادية، وأنا نازل به. وكان الخان أشبه بالبيت، في قرية ليس فيها إلا زُقاق ضيق يلتوي بالسالك في الجبل، وكان المدخل الرئيسي للخان من حظيرة البقر، ثم يمر الإنسان بالبغال والكلاب والطيور قبل أن يرتقي في السلم الكبير العاري إلى الغرف التي كانت مصنوعة من خشب بلا تمليس أو دهان أو ورق، فكأنها صناديق للتعبئة. ولم يكن هناك، فيما عدا الخان، سوى الزقاق الملتوي وكنيسة صغيرة ذات قبة نحاسية اللون، وغابة صنوبر، وغدير، ثم الضباب وجوانب الجبل. وكان في الخان شاب اختفى منذ ثمانية أسابيع (وكان الوقت شتاء) وقيل، على الظن، إن حبًّا له خاب، فانتظم في سلك الجندية. وذكروا أنه نهض من فراشه في الليل وألقى بنفسه في الزقاق من الغرفة التي يشاركه فيها رجل آخر. وقد استطاع أن يتسلل من الفراش ويثب من النافذة ويسقط على الأرض في أتم سكينة، حتى إن زميله ورفيقه لم يسمع أي صوت، وظل مستغرقًا في نومه العميق حتى أيقظوه في الصباح وسألوه: «لويز، أين هنري؟» وراحوا يبحثون عنه في كل مكان، ثم يئسوا فأقصروا. وكان هناك أمام الخان — ككل مسكن في القرية — كوم من خشب الوقود، ولكن كوم الخان كان أعلى وأكبر من غيره من الأكوام، لأن الخان كان أكبر المنازل وأثراها وأحوجها إلى الوقود الكثير، وقد لوحظ، أثناء البحث عن الغائب، أن ديكًا من ديكة الخان كان يدع رفاقه ويزهد في معاشرة الدجاجات، ويأبى إلا أن يصعد إلى قمة كوم الخشب، ويظل هناك ساعات وساعات وهو يصيح حتى ليكاد ينشق ويتفطّر. ومضت خمسة أسابيع، وانقضى الأسبوع السادس، وهذا الديك الفظيع لا يزال يهمل واجباته البيتية، ولا يكف عن الارتقاء إلى قمة الكوم، ولا يفتر عن الصياح وإن كانت عيناه تكادان تخرجان من قوة الصوت وعنفه. ولوحظ في ذلك الوقت أيضًا أن لويز امتلأ قلبه بغضًا لهذا الديك الفظيع وسخطًا عليه، ففي صباح يوم رأته امرأة كانت جالسة إلى نافذتها في خيط من أشعة الشمس الفاترة، تعالج غدتها الدرقية، أقول رأته هذه المرأة يتناول جذلًا من الحطب، وهو يسب ويلعن، ويرمي به الديك الصائح على رأس الكوم فيقتله. وفي هذه اللحظة انبثق النور في رأس المرأة فخفّت إلى الكوم من الخلف، وكانت تحسن التسلق كغيرها من نساء هذه الناحية، فارتقت إلى رأس الكوم وصوبت عينها ثم انطلقت تصرخ وتصيح: «اقبضوا على لويز القاتل!» وقد رأيت هذا القاتل في ذلك اليوم. وإني لأراه الآن وأنا جالس بجوار الموقد في فندق شجرة الميلاد، وهو مقيد بالحبال وملقى على القش في الإسطبل، وعليه عيون البقر الوديعة، وأنفاسها المتدخنة، وهو ينتظر مقدم البوليس، ويتلقى نظرات السخط من أهل القرية. وكان وهو ملقى في الحظيرة يبدو لي أنه حيوان غليظ — بل إنه أبلد ما في الإسطبل — رأس سخيف، ووجه هو كتلة من البهيمية، ولا أثر هناك لإحساس. وقد كان الشاب المقتول يعلم أن قاتله اختلس مبالغ شتى صغيرة من مال سيده، فيظهر أنه لجأ إلى وسيلة القتل ليخلو له وجه حياته من هذا الذي قد يتهمه يومًا ما، بما يعلم. وقد اعترف القاتل بهذا كله في اليوم التالي كأنما أراد أن يفرغ من الأمر كله بعد أن قبضوا عليه وانتووا أن يقتصّوا منه. ورأيته مرةً ثانية يوم رحلت من الخان. ولا يزال السياف في هذه الناحية يعمل عمله بالسيف، وقد رأيت هذا القاتل قاعدًا على كرسي ومشدودًا إليه، فوق منصة في سوق صغيرة، وكانت عيناه معصوبتين، ثم لمع سيف صقيل ماض «نصله مسقى بالزئبق» وخفق حوله كالريح أو النار، فلم يبق وجود لمخلوق كهذا في الدنيا. ولم يكن عجبي من سرعة العصف به، بل من أن رأسًا من هذه الرءوس المحيطة بالمكان لم يقطفه هذا السيف البتّار وهو يقطع الهواء!
وثم خان حسن آخر نزلت به في ظل «مونت بلانك» صاحبته طيبة القلب بسامة الثغر أبدًا، وبعلها رجلٌ تقي مستقيم السيرة، وكانت الجدران في إحدى غرفه مكسوة ورقًا عليه صور حيوان، ولكن الورّاق لم يُعن نفسه بالإحكام والدقة في وصل قطع الورق بعضها ببعض، فصار للفيل ذيل النمر ورجلاه، وللأسد خرطوم الفيل وناباه، وللدب صورة الفهد! وقد صادفت كثيرين من الأمريكيين في هذا الفندق وكانوا جميعًا ينطقون اسم الجبل «مونت بلانك» «ماونت» ما خلا واحدًا منهم سرىّ النفس حسن العشرة رقيق الحاشية، اتخذ من الجبل صديقًا لا حاجة معه إلى التكلف، فكان يقتصر عند ذكره على «بلانك» فيقول عند الإفطار مثلًا: «بلانك يبدو اليوم عاليًا جدًّا.» أو يكون في المساء وهو يتمشى في الفناء فيعرب عن اعتقاده أن في بلاده بعض الأقوياء المغامرين الذين يستطيعون أن يتسلقوا «بلانك» ويصلوا إلى ذروته في ساعتين.
وقضيت مرة أسبوعين في خان بشمال إنجلترا حيث لازمني شبح فطيرة مهولة. وكانت كالقلعة إلا أنها قلعة مهجورة خاوية، ولكن الخادم كان يرى أن من الأصول التي ينبغي أن تُرعى في كل وجبة أن يضع الفطيرة على المائدة، وبعد بضعة أيام رأيت أن أفهمه بأساليب شتى رقيقة أني أعد هذه الفطيرة مفروغًا منها ولا محل لها على السفرة، فكنت أصب فيها سؤر الكأس وأضع في جوفها أطباق الجبن والملاعق كأنها سلة، أو زجاجات النبيذ كأنها ثلاجة، وكان هذا كله مني عبثًا وعناء باطلا لا يجدي، فقد كانت الفطيرة تنظف وتعاد إلى مكانها المألوف، فشككت في أمري وخيل إليّ أني لعلي مصاب بهذيان العين، وأشفقت أن تضعضع صحتي وتهد كياني أهوال هذه الفطيرة المتخيلة فتناولت السكين وقطعت منها مثلثًا عظيمًا. وما كان في وسع إنسان أن يرى ما سيكون من وراء أستار الغيب، ولكن الخادم عالج الفطيرة وأصلحها ورمّها، واستعان بنوع من الملاط ورد المثلث إلى مكانه، فأديت الحساب وفررت!
وكان فندق شجرة الميلاد قد أخذت الجهامة تستولي عليه فقمت برحلة إلى ما وراء الستر وذهبت إلى النافذة الرابعة، ولكن الرياح ردتني منهزمًا، فعدت إلى مشتاي مرة أخرى وأضرمت النار، واستأنفت نشر ما انطوى من ذكريات الفنادق.
وألح عليّ الشعور بالوحشة وأنا في غرفتي بفندق شجرة الميلاد، وبدأت أدرك أن الموضوع الذي اخترته لتزجية الوقت لن يكون حسبي حتى يُفرج عني الجليد، فقد أبقى هنا أسبوعًا وقد يمتد المقام إلى أسابيع.
وتذكرت قصة عن خان قضيت فيه ليلة في بلدة قديمة جميلة على تخوم ويلز، وخلاصتها أن رجلًا انتحر بالسم وهو راقد على أحد سريرين في غرفة كبيرة بالخان، على حين كان النازل معه في الغرفة نائمًا فلم يشعر بشيء من فرط ما كان به من الإعياء. ولم يستعمل بعد ذلك سرير المنتحر، وتُرك في الغرفة على حاله لا يُزحزح عن موضعه ولا تنال منه يد التغيير. وتقول القصة إن كل من نام في هذه الغرفة ولو كان غريبًا آتيًا من أقصى المعمورة كان يغادرها في الصباح وهو يتوهم أنه يشم رائحة صبغة الأفيون، وأن خواطره كلها كانت تدور على الانتحار، وأنه كان لا بد أن يشير إلى هذا الموضوع إذا تحدث. ودام الحال على هذا المنوال سنين عدة، ثم رأى صاحب الخان أن الأحجى، والأولى به، أن ينقل هذا السرير الذي لا يُستعمل وأن يحرقه كله — الفراش والكلة والأستار وغيرها — قال الرواة فتغير الأثر الذي يخلفه النوم في الغرفة وفتر فصار الذي يرقد فيها، إذا أصبح يحاول أن يتذكر حلمًا رآه في منامه. وكان صاحب الخان يتظاهر بمعاونته على التذكر فيقترح عليه موضوعات شتى يعلم أنها ليست هي المنشودة. ثم لا يكاد يقول: «السم» حتى ينتفض المسافر ويقول: «نعم» ولم يحدث قط أن قال المسافر «لا» ولم يحدث قط أنه تذكر من حلمه المنسيّ أكثر من ذلك.
وقد أثارت هذه القصة ذكريات الخانات الفرنسية على العموم ورفعت صورها لعيني، فرأيت النساء بقبعاتهن المستديرة، والعازفين، بلحاهم البيضاء، يضربون على القيثارة وراء الباب وأنا أتعشى. وانتقلت بي الذكرى إلى خانات إيقوسيا الجبلية وفطائر الشعير، والعسل، وشرائح لحم الغزال، والسمك المصيد من الخور، والوسكي، وما إليه من الأشربات. واتفق لي مرة أن كنت عائدًا إلى الجنوب من جبال إيقوسيا، وكنت مسرعًا، وفي مرجوي أن يتيسر تغيير الخيل في محطة واقعة في واد تظلله جبال تاريخية، فرأيت، والألم يفري في جوفي، صاحب الخان يخرج وفي يده منظاره ويدير به عينه باحثًا عن الخيل، وكانت هذه ترعى فلم تبد للعيان إلا بعد أربع ساعات!
وتداعت الذِّكرُ، فانتقلت من سمك الخور إلى خانات الصيادين بإنجلترا (وقد اشتركت مرات عدة في صيد السمك، فكنت أرقد في قاع السفينة أيامًا كاملة وأثابر على تفادي العمل. وقد وجدت أن هذا ليس أقل جدوى في صيد الأسماك من استعمال الشص والبراعة والحذق فيه) وتذكرت من هذه الخانات غرفها البيضاء النظيفة المعطرة بأنفاس الورود النضيرة، المشرفة على النهر والسفن والفضاء المعشوشب، وقباب الكنائس والجسر، و«إمّا» الفتانة وعينيها البراقتين وابتسامتها الحلوة وكيف كانت — بارك الله فيها — تقوم على خدمتنا خفيفة رشيقة.
وصوّبتُ عيني إلى الموقد الذي يتوهج فيه الفحم المضطرم فبرزت لي صور عشرات من هذه الخانات التي كانت مراحل للبريد، والتي نفتقدها في هذه الأيام ونأسف على زوالها، وكانت رحيبة مريحة، وكانت فوق هذا عنوانًا على الخضوع الإنجليزي للغصب والنهب والابتزاز. ومن شاء أن يشهد هذه المنازل تقضي نحبها، فليمش من «بيسنجستوك» — أو حتى من «وندسور» — إلى لندن، عن طريق «هانسلو» ولينظر كيف يُعفّي عليها الزمن؛ الإسطبلات تتهدم وتنقض، والسابلة، والعمال الذين أخطأهم الاستقرار ينامون في الغرف المقدَّمة أمامها، والحشائش تنبت وتفرّش في عرصاتها، والحجرات التي كانت مئات من الأسرة اللينة تسوى وترتب فيها، تؤجر للأيرلنديين بشلن ونصف شلن في الأسبوع، وخمارة سوء في مكان الحانة القديمة، وبوابات مخازن المركبات تحرق للوقود، وكلب أعوج الساق واقف في المدخل.
واستطردت إلى خانات باريس، والحجرة الجميلة ذات القطع الأربع، بعد أن نصعد إليها خمسًا وسبعين ومائة درجة مصقولة بالشمع، وتدق الجرس النهار طوله فلا ترى أنك استطعت أن تؤثر في جسم إنسان أو عقله، سواك، وتتناول عشاء دون شِبَعك، إذا اعتبرت الثمن، وتحولت عن هذه إلى خانات الريف بفرنسا حيث تطل بروج الكنائس على الأفنية، وترن أجراس الخيل وهي تضرب الأرض بقوائمها، والساعات من كل ضرب وعلى كل صورة، في كل غرفة، وليس بينها واحدة مضبوطة، إلا إذا اتفق أن تكون قد سبقت الوقت الصحيح أو تأخرت عنه اثنتي عشرة ساعة لا تزيد أو تنقص دقيقة. ومضيت من هذه إلى الخانات الصغيرة على الطريق في إيطاليا، حيث تجد كل الثياب القذرة التي في البيت (غير الملبوسة!) كومًا في غرفة الاستقبال، وحيث يُحيل البعوض وجهك في الصيف خبيصة محشوة بالزبيب، ويحيل برد الشتاء لونك إلى زرقة السماء عن حمرة الورد، وحيث تأخذ ما يتيسر، وتنسى ما يتعذر، وحيث أشتهي مرة أخرى أن أغلي الشاي في وليقة إذ لا إبريق هناك! ومن ثم انتقلت إلى القصور القديمة والأديرة العتيقة التي صارت خانات، في مدن هذه البلاد المشرقة، وسلاليمها الضخمة، ومنها تستطيع أن تصعّد طرفك من خلال العُمُد المتقاربة، إلى قبة السماء الزرقاء، وارتسمت أمامي قاعات المآدب الفخمة، والمقاصف الرحيبة، وحجرات النوم المحيرة، ولمحات خواطف من شوارع رائعة ليس لها مظهر من الحقيقة، ومن هناك وثب بي الخيال إلى الخانات الصغيرة في المناطق الموبوءة بالملاريا، وخدمها الصفر الوجوه ورائحتها الخاصة المعهودة في كل مكان لا يدخل إليه الهواء، ثم إلى خانات البندقية المهولة العجيبة، وصياح النواتي تحتها وهم يجرون زوارقهم وينعطفون بها، وروائح البحر التي تتشبث بأنفك ولا تعفيك ما دمت هناك، وجرس كتدرائية سان مارك، وهو يدق نصف الليل. وعرجت بعد ذلك على خانات الرين المضطربة، التي لا تأوي فيها إلى فراشك إلا كان هذا إيذانًا بنهوض كل امرئ سواك، وفي حجرة الطعام وإلى طرف من مائدتها الطويلة يجلس لفيف من الرجال الضخام الأبدان المستديري الكروش، يلبسون الحلي والأقذار ليس إلا، فما على أبدانهم سوى ذلك فيما ترى العين، ويُحيون الليل كله ساهرين يشربون ويقرعون الكأس بالكأس ويتغنون بالنهر الذي يجري، والدوالي التي أينعت، ونبيذ الرين الذي تطيب نشوته، ونساء الرين اللواتي يتبسمن، وهات لي كأسًا، وخذ كأسًا يا صاحبي، واشرب، واشرب، يا أخي، إلى آخر ذلك. وكان طبيعيًّا أن أذكر خانات ألمانية أخرى تُسغسغ فيها الآكال بما يجعل مذاقها جميعًا واحدًا، ويزعج المرء فيها أن تقدم له الولائق السخنة، والعُنّاب المغلي، والحلواء، على ترتيب غير متوقع بين الألوان الأخرى. وبعد أن كرعت — بخيالي — كرعة روية من الجعة من قدح مزبد، وألقيت نظرة على مشارب الجعة التي يختلف إليها الطلبة في هيدلبرج وغيرها، ركبت البحر إلى خانات أمريكا حيث يبلغ عدد الغرف المفردة في الواحد منها أربعمائة، وحيث يجتمع على العشاء كل يوم ثمان مائة أو تسع مائة من السيدات والسادة. فرأيتني أقف مرةً أخرى في المقصف، وأترشف من فم الكأس، وأصغي ثانية لصديقي «الجنرال»، الذي لم يمض على معرفتي به سوى خمس دقائق استطاع في خلالها أن يوثق أواصر الود والإخاء إلى آخر العمر بيني وبين «صاغين» استطاعا هما أيضًا أن يجعلا مني صديقًا حميمًا مدى الحياة لثلاثة «لواءات» صرت بفضلهم أخًا لاثنين وعشرين من المدنيين غير المحاربين، كل ذلك في خمس دقائق ليس إلا، أقول إني أصغيت مرةً أخرى إلى صديقي الجنرال وهو يشرح لي مزايا الخان وما فيه من أسباب الراحة والترف وكيف أن فيه حجرات عدة للجلوس والاستقبال، للرجال وللسيدات، في النهار والليل، وأخرى للموسيقى والمطالعة، وأربع مائة غرفة نوم، كل هذا وضعت رسومه وتم بناؤه وتجهيزه في اثني عشر شهرًا؛ تبدأ من اليوم الذي أزيلت فيه أنقاض البناء العتيق الذي كان قائمًا، وكيف أن جملة التكاليف بلغت نصف مليون ريال. وألفيتني وأنا أكر بخيالي إلى هذا، أذهب إلى أنه كلما كان المنزل أضخم وأفخم وأبهظ تكاليف، كان ذلك أبعث على الزهد فيه وأقل استحثاثًا للرغبة في المقام به. على أني مع ذلك شربت على البعد نخب صديقي الجنرال، وإخواني الصاغات واللواءات والمدنيين جميعًا، فإنهم على الرغم من كل قذى رأته عيناي في عيونهم، أبناء شعبٍ عظيم رقيق كريم القلب.
وكنت وأنا أتذكر هذا أغذ السير في رجعتي القهقرى إلى ما مضى وفات، لأنفي الشعور بالوحدة وأخفف ثقل الوحشة، ولكني أضمرني الكلال فانقطعت من الإعياء وكففت عن متابعة هذه الخواطر. وصار السؤال الملحّ: ماذا أصنع؟ وماذا عسى أن يحل بي؟ أأفعل كما فعل البارون «ترِنْك» وأبحث عن جرذ أو عنكبوت حتى إذا وجدت واحدًا منهما تسليت في سجني هذا بتدريبه ورياضته؟ ولكن هذا لا يخلو من خطر إذا اعتبرنا المستقبل، فقد آلف ذلك وأُشغف به حتى إذا رفع الثلج عن الطريق وخرجت فيه مرةً أخرى، فمن يدري؟ لعلي حينئذٍ أبكي وأتوسل — كسجين الباستيل الذي أفرج عنه في شيخوخته — أن يعودوا بي إلى هذه النوافذ الخمس والستائر العشر والأفرشة السميكة المتينة.
وألح علي خاطر أغراني به اليأس. ولو كنت في أحوال غير هذه لتمردت عليه وأبيته، ولكني، وأنا في هذا المأزق، تعلقت به فهل أستطيع أن أغالب حيائي الفطري الذي صدني عن مجلس صاحب الفندق وحرمني ما عسى أن أجد من الأنس عنده، وأدعو إليّ البستاني وأرجو منه أن يتناول كرسيًّا — وشيئًا من الشراب أيضًا — وأن يحادثني؟ نعم أستطيع … وسأفعل … وقد فعلت!
(٢) الفرع الثاني: «البستاني»
أأسأل أين كان في زمانه؟ أعاد الرجل السؤال لما ألقيته عليه، وقال: إنه كان في كل مكان. وماذا كان عمله؟ لقد كان يعمل في كل شيء يخطر على البال ذكره.
أتراه رأى كثيرًا في حياته؟ بلى، ولا شك في ذلك، وإن في وسعه أن يؤكد لي هذا، فليتني أعرف جزءًا من عشرين مما صادفه في طريقه! ألا وإنه لأسهل عليه فيما يعتقد أن يذكر لي ما لم ير …
وحكاية ذلك أن والد الصبي «هاري وولمرز»، كان يقيم في ضيعة «إلمز» على مقربة من تلال «شوتر»، وعلى مسافة ستة أميال أو سبعة من لندن. وكان رجلًا ألمعيًّا حديد القلب وسيم الطلعة، يرفع رأسه إذ يمشي، ويُشعرك إذ تراه بمثل بأس النار وصولتها. وكان يقرض الشعر، ويركب الخيل، ويعدو، ويلعب «الكريكيت»، ويرقص، ويمثل، ويجيد كل ذلك ويحذقه. وكان مزهوًّا بابنه «هاري»؛ فقد كان وحيده، غير أنه لم يفسده بالتدليل، فقد كان ذا إرادة ماضية، وعين لا يفوتها شيء، ومع أنه كان يتخذ من ابنه الذكي صاحبًا، ويسره أن يراه مقبلًا على كتب الأساطير يعب فيها عبًّا، ولا يمل أن يسمعه يمدّ الصوت ويرجّعه شاديًا بأغاني الحب، إلا أنه احتفظ بسلطانه الأبوي على فتاه، فبقي الصبي كما ينبغي أن يكون، فليت كثيرين مثله!
وكيف عرف كل هذا؟ عرفه لأنه كان مساعد البستاني، ولا يمكن أن يكونه، وأن يكون أبدًا على المكان، يجز، ويقتلع، ويطعّم، ويفعل هذا وذاك، من غير أن يلم بأحوال الأسرة ويحيط بأمورها خبرًا. وقد جاءه الصبي هاري مرة وسأله: «كُوبز، كيف تتهجّى نورا؟»، ثم راح يحفر الاسم على سياج الخشب!
ولم يسبق لكوبز عهد بالأطفال قبل ذلك، ولا كان يعيرهم التفاتًا، ولكنه لم يسعه إلا أن يلاحظ هذين الصغيرين وهما يتمشيان معًا، وقد غرقا في الحب إلى الرأس! ويا لشجاعة الغلام وشهامته! لقد كان يبدو لي أنه لا يتردد أن يرمي قبعته، ويشمّر عن ساعديه الصغيرين، ويهجم على أسد لو اتفق لهما أن يلتقيا بواحد، وأن تفزع الفتاة منه! وقد وقف مرةً وهي معه، حيث كان كوبز يعمل وقال: «كوبز، إني أستلطفك.» فقال كوبز: «صحيح يا سيدي! إني فخورٌ بذلك.» فقال الغلام: «نعم، أستلطفك فهل تعرف لماذا يا كوبز؟» فقال: «لا أدري.» قال الغلام: «لأن نورا تستلطفك يا كوبز!» فقال الرجل: «صحيح يا سيدي! إن هذا من بواعث الاغتباط.» فقال الغلام: «من بواعث الاغتباط يا كوبز؟ إنه خير من ملايين من أنفس الماسات، أن تستلطفك نورا.» فقال الرجل: «لا شك يا سيدي.» فسأله الغلام: «إنك ستترك عملك هنا، أليس كذلك؟» قال الرجل: «نعم يا سيدي.» قال الغلام: «أتحب أن أجد لك عملا آخر؟» قال الرجل: «لا مانع عندي إذا كان حسنًا موافقًا.» قال الغلام: «إذن ستكون البستاني الأول عندنا، بعد أن نتزوج.» وضم عليها شملتها الزرقاء وأحاطها بذراعه، ومضى بها!
وأقسم كوبز أن هذا المنظر كان أبهى وأوقع في النفس من صورة مرسومة وأنه كان أشبه بالرواية أن يرى هذين الطفلين بشعرهما الطويل اللامع المتلوي، وعيونهما البراقة، وخطوتهما الخفيفة الجميلة، يتمشيان في الحديقة، وقد عمر الحب المتبادل قلبيهما الصغيرين. وقال لي: كوبز إنه يعتقد أن العصافير ظنتهما عصفورين فغردت لهما لتسرهما. وكانا ربما جلسا في ظل شجرة، وذراع كل منهما على عنق الآخر، وخداهما الأسيلان يتلامسان من فرط التداني، وراحا يقرآن قصة الأمير والتنّين، أو الساحرين الطيب والخبيث، أو بنت الملك الفاتنة. وكان يسمعهما أحيانًا يلهجان ببيت ينويان أن يبنياه في الغابة ويتخذا فيه خليَّة للنحل، وبقرة ويجتزآن من الطعام باللبن والعسل. ومرّ بهما مرة وهما على البركة فسمع الغلام «هاري» يقول: «نورا، يا معبودتي، قبليني، وقولي إنك تحبينني حبًّا يزدهف لبك، وإلا ألقيت نفسي في البركة.» ولم يخالج كوبز أي شك في أنه كان حقيقًا أن يرمي نفسه في الماء لولا أنها أجابت سؤله. قال كوبز: وقد كان هذا يخيل إليه أنه هو أيضًا قد أمسى عاشقًا، لولا أنه لا يدري لمن!
وقال له هاري ذات مساء، وكان يسقي الزهر: «إني ذاهب في هذا الصيف لزيارة جدتي في يورك.»
فقال كوبز: «أَوَفاعل أنت يا سيدي؟ أرجو إذن أن يطيب مقامك، وأن تنعم بما يسرك. أنا أيضًا ذاهب إلى مقاطعة يورك بعد أن أغادر هذا المكان.»
فسأله الغلام: «أذاهبٌ أنت إلى جدتك يا كوبز؟»
فقال: «كلا، يا سيدي، ليس لي شيء كهذا.»
– «لا جدة لك يا كوبز؟»
– «كلا يا سيدي.»
فصوب الغلام عينه إلى الأزهار التي يسقيها البستاني، ثم قال: «سيكون من أقوى بواعث السرور لي أن أذهب يا كوبز، فإن نورا ذاهبة.»
فقال كوبز: «ستكون بخيرٍ إذن يا سيدي، ما دام إلى جانبك حبيبتك الجميلة.»
فاضطرم وجه الغلام وقال: «كوبز، إني لا أسمح لأحد أن يمازحني في هذا إذا وسعني أن أمنعه.»
فقال كوبز بلهجة المتطامن: «لم يكن هذا مزاحًا يا سيدي، لم أقصد إلى ذلك.»
– «يسرني هذا يا كوبز، فإني أستلطفك، كما تعلم. ثم إنك ستعيش معنا. كوبز!»
– «نعم يا سيدي!»
– «ماذا تظن جدتي ستعطيني حين أذهب إليها؟»
– «ليس في وسعي أن أخمّن يا سيدي.»
– «ورقة بخمسة جنيهات يا كوبز!»
فزام كوبز وقال: «هذا مبلغ يا سيدي!»
– «إن المرء يستطيع أن يصنع كثيرًا بمبلغ كهذا، أليس كذلك يا كوبز؟»
– «صدقت يا سيدي.»
وقال الغلام: «سأفضي إليك بسر، يا كوبز؟ إنهم في بيت نورا يعابثونها ويركبونها بالمزاح من أجلي، ويتظاهرون بالضحك منا، لأنا خطيبان، ويهزءون ويسخرون يا كوبز.»
فقال كوبز: «هذا بعض مظاهر النقص والعيب في الطبيعة الإنسانية.»
فوقف الغلام برهة — وهو صورة مصغرة إلا أنها دقيقة، من أبيه — ومحياه المتقد إلى الشمس، ثم مضى وهو يقول: «عم مساءً، يا كوبز، إني داخل.»
ولا يدري كوبز كيف اتفق أن يغادر البيت في ذلك الوقت، وعنده أنه لو شاء أن يبقى هنالك إلى الآن، لبقي، ولكنه كان شابًّا، وكان يبغي أن يغير عمله عسى أن تنتقل به الأحوال، وقد قال له المستر وولمرز لما أبلغه كوبز أنه اعتزم ترك العمل: «أهناك ما تشكو منه؟ إني أسأل لأني أحب إذا كان لأحد من رجالي شكاة، أن أزيل أسبابها.» فقال كوبز: «كلا يا سيدي، وشكرًا لك، وإني هنا لعلي خير ما أرجو أن أكون في أي مكان، ولكن الحقيقة يا سيدي أني راحل لأجرب حظي في التماس الثراء.» فقال المستر وولمرز: «صحيح يا كوبز؟ إذن أرجو لك التوفيق.» وأكد لي كوبز وهو يقص علي ذلك أنه لم يوفق بعد.
ترك كوبز ضيعة «إلمز»، وذهب الغلام هاري إلى جدته العجوز في يورك، وكانت لا تضن على حفيدها بالأسنان التي في فمها (لو كان في فمها شيء) فقد كانت مجنونة به. ولكن ماذا تظن أن هذا الطفل صنع؟ فإن لك أن تسميه طفلًا وألا تخشى الغلط؟ لقد فر من جدته مع نورا وقصدا إلى «جريتنا جرين» ليتزوجا هناك!
وكان كوبز يعمل في هذا الفندق عينه — فندق شجرة الميلاد — (وكان كثيرًا ما يتركه ليحسن حالته ولكنه كان يعود إليه دائمًا لسببٍ ما) وفي مساء يوم من أيام الصيف وقفت المركبة ونزل منها الطفلان! وقال الحارس لصاحب الفندق: «إن أمر هذين الراكبين الصغيرين يبدو لي كاللغز، ولكن الغلام قال لي إنه يريد أن آتي بهما إلى هنا.»
… ينزل الغلام، ويمد يده إلى فتاته ليعينها. وينفح الحارس بشيء على سبيل التجزية، ثم يلتفت إلى رب الفندق ويقول له: «سنبيت هنا الليلة، من فضلك … وسنحتاج إلى حجرة جلوس وغرفتي نوم … وهات كفاية اثنين من اللحم المشرح والفالوذ بالعناب.» ويضم على حبيبته شملتها السماوية الزرقة، ويحيطها بذراعه ويدخل ثابت الجنان!
وقال كوبز: إنه يترك لي أن أتصور الذهول الذي استولى على كل من في الخان حين رأوا الصغيرين يجيئان وحدهما، ويفعلان ما فعلا! وكان كوبز يراهما ولا يريانه، فلم يكتم رب الفندق رأيه، في بواعث هذا السلوك والغاية من هذه الرحلة، فقال صاحب الفندق: «إذا كان الأمر كذلك يا كوبز فسأركب إلى يورك لأُطَمْئِن آلهما. ويجب عليك أن تجعل عينيك عليهما، وأن تسليهما وتلهيهما حتى أعود. ولكني أحب قبل أن أقدم على هذه الرحلة، أن تستوثق منهما لتعرف أمصيبٌ أنت في رأيك أم مخطئ.»
فقال كوبز: «سيكون ما تريد حالًا.»
وصعد كوبز إليهما، فألفى الغلام هاري على أريكة عظيمة، وإنها لعظيمة وكبيرة في كل حال وفي كل وقت، ولكنها بدت أعظم وأضخم لما اتكأ عليها هاري ليكفكف لنورا دموعها ويمسحها بمنديله، وكانت أرجلهما معلقة في الهواء وقد أعرب كوبز لي عن عجزه عن وصف صغرهما وضآلتهما.
وصاح السيد هاري: «هذا كوبز … هذا كوبز.» وأقبل عليه يعدو، وتناول يده، وجرت إليه الآنسة نورا أيضًا، ووقفت إلى جانبه الآخر، وتناولت يده الثانية، وجعلا يتوثبان وينطان من الفرح.
فقال كوبز: «لقد رأيتكما من المركبة، فعرفتكما، وهل كان يمكن أن أغلط أو أنسى؟ ماذا وراء هذه الرحلة يا سيدي؟ الزواج؟»
فقال الغلام: «سنتزوج يا كوبز في جريتنا جرين. وقد فررنا لهذا الغرض. إن نورا مكتئبة قليلًا يا كوبز، ولكنها جديرة بأن يسعدها الآن أنّا وجدناك فإنك لنا صديق.»
فقال كوبز: «أشكرك يا سيدي، وأشكرك يا آنسة، على حسن ظنك بي. والآن هل معكما أشياؤكما؟»
وإذا صدق كوبز الذي أقسم أن الأمر كما يصف، فقد كان مع نورا شمسية وزجاجة نوشادر، وخبزات يابسات مدهونات بالزبدة، وثماني نعناعات وفرشاة أسنان يخيل إليك أنها مصنوعة للعبة، أما الغلام فكان معه حوالي ست ياردات من الخيط، ومبراة، وثلاث ورقات أو أربع مطوية، وقدح عليه اسمه.
فقال كوبز: «وماذا أعددت من التدابير يا سيدي؟»
قال الغلام، وما أبهر شجاعته: «أن نمضي إلى غايتنا في الصباح فنتزوج غدًا.»
قال كوبز: «هو كذلك يا سيدي. فهل يوافقكما أن أرافقكما؟»
فلما سمعا هذا السؤال جعلا ينطان من الفرح ويصيحان: «نعم، نعم، يا كوبز، نعم.»
فقال كوبز: «إذا سمحتما لي باقتراح فهذا هو … إني أعرف فرسًا يمكن أن نشده إلى مركبة أستطيع أن أستعيرها فتحملكما (وأكون أنا الحوذي إذا وافقتما) إلى آخر رحلتكما في أوجز وقت. ولست واثقًا من أن هذا الفرس سيكون غدًا رهن مشيئتنا، ولكن إذا احتجنا أن ننتظر إلى ما بعد الغد، فإن الفرس جدير بالانتظار. أما الفندق، ونفقات الإقامة فيه، فلا تفكرا في ذلك إذا لم يكن معكما الكفاية من المال؛ فإني شريك في هذا المحل، ومن السهل إرجاء الحساب إلى وقتٍ آخر.»
ويحلف كوبز أنه لما رآهما يصفقان سرورًا وينطان ويدعوانه: «كوبز الطيب» و«كوبز العزيز» ويتعانقان ويتلاثمان وهما جذلان مطمئنان واثقان، أحس أنه أنذل من ولدته أم في هذه الدنيا، لأنه خدعهما وغشهما.
وقال كوبز، وبه وخز الضمير ما به: «هل تريدان الآن شيئًا يا سيدي؟»
فقال الغلام وهو يطوي ذراعيه على صدره، ويمد إحدى ساقيه، ويحدق في وجه كوبز: «نريد بضع كعكات بعد العشاء، وتفاحتين … ومربى … ومع العشاء خبزًا محمرًا … واسمع يا كوبز، إن نورا قد اعتادت أن تشرب مع الفاكهة قليلًا من شراب الزبيب … وأنا مثلها.»
قال كوبز: «سأعد لكما ذلك.» وخرج.
وحدثني كوبز أنه، وهو يروي لي هذه التفاصيل، يشعر، كما يشعر حينئذ، بأنه كان آثر عنده، وأحب إليه، أن يلاكم صاحب الفندق في بضع جولات، من أن يتواطأ معه على هذين الطفلين، وأنه كان يتمنى من أعماق قلبه لو أن في الدنيا مكانًا يستطيعان فيه أن يتزوجا، ويعيشان بعد ذلك سعيدين. ولكن هذا لا سبيل إليه، فلم يسع كوبز إلا أن يأتمر بهما مع رب الفندق، فركب هذا إلى يورك بعد نصف ساعة.
ويرى كوبز أن من العجائب أن كل أنثى في الفندق — ذات بعل، أو عزبة أو عذراء — صغت بقلبها إلى هذا الغلام لما سمعت قصته. وقد عانى كوبز جهدًا جاهدًا في صد هؤلاء النسوة عن اقتحام الغرفة واحتضان الغلام وتقبيله. وكنّ يخاطرن بحياتهن ويصعدن فوق الأشياء لينظرن إليه من وراء الزجاج. وكان سبعة منهن يتزاحمن على ثقب الباب لينظرن في وقت معًا! فقد طارت عقولهن وفَتنتهن جرأته.
وفي المساء دخل كوبز على الهاربين ليرى كيف حالهما. وكان الغلام على حافة النافذة، وبين ذراعيه فتاته. وكانت العبرات على خديها، ولكنها كانت متعبة وأقرب إلى النوم منها إلى اليقظة، ورأسها على كتفه.
وقال كوبز: «هل السيدة متعبة يا سيدي؟»
قال: «نعم، متعبة يا كوبز، فما اعتادت أن تنأى عن البيت، وقد عاودها الاكتئاب، فهل تستطيع أن تجيئني بمنعش؟»
فقال كوبز: «معذرةً يا سيدي، ولكن ما تبغي؟»
قال: «شيءٌ ينعشها، ويرد إليها روحها.»
فخرج كوبز ينشد المنعش المطلوب فلما عاد به، قدمه الغلام إلى الفتاة وأعانها، ولكن النعاس كان يثني رأسها ويثقله، فجعلها ذلك شكسة جافية. وقال كوبز: «ما قولك يا سيدي في شمعدان لغرفة النوم؟» فوافق، وسارت الخادمة في الطليعة، والفتاة في شملتها السماوية الزرقة بعدها، ووراءهما، وفي حراستهما هذا الغلام الشهم. وعانقها عند الباب، ثم ارتد إلى غرفته، فأوصدها عليه كوبز بخفة.
ولم يكن يسع كوبز إلا أن يزداد شعوره حدة بأنه غشاش وضيع، لما سأله الغلام في الصباح وهما يتناولان طعام الإفطار (وكانا قد أمرا أن يعد لهما لبنًا وخبزًا محمرًا ومربى) عن الفرس، وكان يجد مشقة في النظر إليهما وهو يعلم كيف يخدعهما بالأباطيل، غير أنه واصل الكذب وأخبرهما أن من سوء الحظ أن القوم يقصون للفرس شعره، ولكنهم لم يقصوا سوى جانب، ولو خرج على هذه الصورة لأصابه سوء، ولكنهم سيفرغون من القص في هذا النهار، وفي الساعة الثامنة من صباح الغد تكون المركبة معدة. ومن رأي كوبز، وهو يحدثني بهذا في غرفتي، أن الفتاة بدأت في ذلك الوقت تتراجع وتندم؛ فقد نامت من غير أن يُرَجَّل لها شعرها، ولم تكن بحيث تستطيع هي أن تمتشط، وصار الشعر يدخل في عينيها فيغيظها ويحنقها، ولكن الغلام ظل ثابتًا شديد القلب، وكان وهو جالس إلى المائدة وأمامه فنجان الشاي يلتهم المربى، فيخيل إليك أنه أبوه.
ويميل كوبز إلى الاعتقاد أنهما بعد الإفطار جعلا يتسليان برسم الجنود على الورق، فقد وجدت جنود كثيرة مصورة على الورق في الموقد، وكلها على ظهور الخيل. ودق هاري الجرس وسأل كوبز، وما أعجب ثباته: «أليس في جوار هذا المكان ميادين صالحة لأن يمشي فيها المرء؟»
قال كوبز: «نعم يا سيدي، طريق العشاق.»
فصاح الغلام به: «رح. رح. إنك تمزح.»
فقال كوبز: «عفوًا يا سيدي، ولكن هناك طريقًا اسمه طريق العشاق. وإنه لجميل، وإنه ليكون من دواعي فخري أن أريكه أنت والسيدة.»
فقال هاري: «يا عزيزتي نورا، إن هذا لاتفاق عجيب، وينبغي أن نرى طريق العشاق هذا. فالبسي قبعتك يا حبيبتي ولنذهب إليه مع كوبز.»
ودعاني كوبز أن أتصور قوة شعوره بنذالته ولؤمه لما قال له هذان الطفلان الغريران، وهما يمشيان إلى جانبه، إن عزمهما صح على أن أكون البستاني الأول لهما، بألفي جنيه في العام، لأني صديق وفيٌّ لهما. وقد تمنى كوبز في تلك اللحظة أن تنشق الأرض فتبتلعه؛ فقد أحس بشدة الضعة والحقارة وهما ينظران إليه بعيونهما البراقة، ولا يخالجهما شك في صدقه! فاحتاج أن يغير موضوع الحديث، ويعطفه عن مجراه، ومضى بهما في طريق العشاق إلى البحيرة، وكاد هاري يغرق فيها وهو يحاول أن يقطف لفتاته زنبقة، وأخيرًا تعبا، وأضناهما الجهد، فاستلقيا على الأرض المخضرة، والأقاحي ترف عليهما، وناما.
ولا يدري كوبز — ولعلي أنا أدري، ولكن دع هذا فما له قيمة — لماذا يرق قلب المرء حين يرى هذين الطفلين الجميلين راقدين تحت السماء الصافية في النهار المشمس، لا يحلمان بشيء وهما نائمان، كما يحلمان وهما مفتوحا العيون، ويذهب كوبز إلى أن المرء لا يسعه إلا أن يفكر في نفسه، وفيما كان من سيرته وتقلب الأحوال به مذ كان في المهد، وكيف أنه لم يبلغ في الحياة مبلغًا، وليس له إلا الذكرى، والأمل ولا حقيقة بينهما.
واستيقظا أخيرًا، وتبين كوبز أن الفتاة بدأت تشمس وتعسر، فلما طوق هاري خصرها بذراعه قالت إنه يضايقها، فلما قال لها: «يا نورا، يا قمر الربيع، هل يضايقك هاري؟» قالت: «نعم. وأريد أن أعود إلى البيت!»
على أن دجاجة مسلوقة، وشيئًا من الحلواء، فتّرا من حدتها، وردا إليها سجاحة الطبع، ودماثة الخلق، ويقول كوبز إنه كان يود لو أنه رآها أعظم عنايةً بالصوت الهاتف بحبها منها بالحلواء التي نسيت نفسها وهي تلتهمها. أما هاري فلم يزعزعه شيء، وظل قلبه الكبير يخفق بالحب، كما كان. ودخلنا في الغسق فخفق رأس الفتاة وشرعت تبكي … ولهذا أوت إلى فراشها كما فعلت في الليلة السابقة … ولم ينس الفتى أن يقوم بواجب المرافقة والتوديع، على نحو ما كان منه البارحة.
وحوالي منتصف الليل أقبل صاحب الفندق في مركبة، ومعه المستر وولمرز وسيدة عجوز، وكان المستر وولمرز يبدو عليه الجد الصارم، والتفكه في آن معًا وقد قال لزوجة الفندقي: «إننا مدينون لك يا سيدتي بالشكر على عنايتك بولدينا وإنا لعاجزون عن تجزيتك. أين الغلام يا سيدتي؟» فقالت: «إن كوبز يسهر على الولد العزيز ويرعاه يا سيدي. أره الغرفة الأربعين يا كوبز.»، فقال المستر وولمرز: «إني مسرور بأن أراك يا كوبز. فقد علمت أنك هنا.» فقال كوبز: «نعم يا سيدي، وما زلت خادمك المطيع.»
ويقول كوبز: إني قد أستغرب منه أن يذكر لي أن قلبه كان يدق كالمطرقة وهو يصعد درجات السلم، ولكن هذه هي الحقيقة، وقد قال المستر وولمرز، وهو يفتح له الباب: «معذرة يا سيدي، ولكني أرجو ألا تكون حانقًا على السيد هاري. إنه غلام شهم يا سيدي، وسيكون مفخرة لك.» ويؤكد لي كوبز أن نفسه كانت جائشة في تلك اللحظة، فلو أن المستر وولمرز ذهب إلى العناد، للكمه واحتمل ما عسى أن يكون من نتائج ذلك.
ولكن المستر وولمرز قال: «كلا يا كوبز … لا يا صاحبي. وشكرًا لك.» وكان الباب قد فتح، فدخل.
وتبعه كوبز وفي يده الشمعة، فرأى المستر وولمرز يمشي إلى السرير ويحنو عليه في رفق، ويلثم ذلك المحيا الصغير، ثم يعتدل، ويُتئره النظر لحظة، فيعظم الشبه بين الوجهين (ويقال إن المستر وولمرز فر مع من تزوجها)، ثم يهز كتف الغلام برفق ويناديه: «هاري … يا ولدي العزيز … هاري!»
فيتنبه هاري وينظر إليه، وإلى كوبز أيضًا، كأنما أراد أن يتبين هل أوقعه كوبز في ورطة.
ولكن المستر وولمرز يقول له: «لست غاضبًا يا بني، وكل ما أريد منك هو أن تلبس ثيابك لتعود إلى البيت.»
فيقول الغلام: «نعم يا أبي.»
وينهض فيرتدي ثيابه بسرعة، ويعلو صدره وهو يكاد يفرغ من ارتدائها ويزداد علوًّا حين يقف أخيرًا، ناظرًا إلى أبيه، وأبوه واقفٌ ينظر إليه، وكلاهما صورةٌ دقيقة من الآخر.
ويقول الغلام، وهو يتشدد ويتجلد ويرد الدموع التي تهم بالتحدر: «من فضلك يا أبي … هل تسمح لي … أن أقبل نورا قبل أن أذهب؟»
فيقول المستر وولمرز: «لك ذلك يا بني.»
ويتناول يد الغلام، ويمضي به، وكوبز أمامهما بالشمعة حتى يبلغوا الغرفة الأخرى فإذا السيدة العجوز متكئة على السرير والفتاة غارقة في النوم. فيرفع الوالد غلامه إلى الوسادة، فيسند خده الصغير لحظة إلى جانب خد الفتاة الذاهلة ثم يدني محياها منه ويلثمه، ويبلغ من وقع هذا المنظر في النفوس أن تصيح الخادمة، وكانت تنظر من ثقب الباب: «من العار أن تفرقوا بينهما.» ولكن هذه الخادمة كانت معروفة برقة القلب، وإن لم تكن امرأة سوء … حاشا لله!
قال كوبز، وانتهى الأمر بذلك. ركب المستر وولمرز عائدًا إلى بيته، ومعه ابنه. أما السيدة العجوز، والفتاة التي لم يقسم لها أن تكون المسز وولمرز (لقد تزوجت بعد ذلك ضابطًا في الجيش وماتت في الهند) فعادا في اليوم التالي. وقد سألني كوبز في ختام كلامه هل أوافقه على رأيين له؛ الأول: أنه قل أن يكون هناك اثنان على وشك الزواج، في مثل طهر هذين الطفلين. الثاني: أن من الخير لكثيرين ممن يهمون بالزواج أن يؤخذ عليهم الطريق، ويحال بينهم، فيرتد كل منهم إلى بيته على حدة؟
(٣) الفرع الثالث: «الحساب»
لبثت في الفندق محصورًا، من جراء الثلج المتساقط، أسبوعًا كاملا. وكانت الأيام تمضي سراعًا، فيما أحس، فلولا وثيقة موضوعة على المنضدة أمامي لما صدقت أني قضيت هنا أسبوعًا.
وكان الثلج قد رفع عن الطريق في اليوم السابق، أما الوثيقة التي أمامي فهي حساب الفندق. وهي تشهد شهادة حاسمة بأني أكلت، وشربت، وادّفأت، تحت الأغصان الورقية الوريفة الظليلة لشجرة الميلاد سبعة أيام كاملة.
وكنت قد آثرت أن أدع الطريق يتحسن أربعًا وعشرين ساعة أخرى لأني احتجت إلى هذه المسافة من الزمن لإتمام عملي. وأمرت أن يُبَيَّن لي الحساب وأن تكون المركبة معدة أمام الباب «في الساعة الثامنة من مساء الغد.» وكانت الساعة قد بلغت الثامنة من «مساء الغد» لما جمعت أدوات الكتابة التي أتخذها في أسفاري وطويتها في حقيبتها الجلدية، وأديت الحساب، وتعطفت بأرديتي الدافئة، وتلفَّعت بشملتي. وكان الوقت قد صار أضيق من أن يسمح بالذهاب لإضافة عبرة متجمدة إلى بلورات الثلج التي تكسو البيت الريفي الذي رأيت فيه أنجيلا أول مرة. ولم يبق إلا أن أغذ السير في أقصر طريق إلى ثغر ليفربول وهناك آخذ حقائبي الكبيرة وأركب السفينة. وكفى بهذا عملًا، ولا سبيل إلى إرجائه ساعة واحدة.
وودعت كل من عرفت في الفندق — وكدت أودع حيائي أيضًا — ووقفت بالباب أراعي الخادم وهو يلف الحبل الذي يشد به حقيبتي إلى المركبة وإذا بمصابيح تقترب سراعًا من الفندق. وكان الطريق مغطى بالثلج فلم نسمع للعجلات صوتًا، ولكنا جميعًا رأينا المصابيح تقبل علينا وتدنو منا بسرعة، بين جدارين من الجليد الذي رفع عن الأرض وصار كومًا على كل جانب. وتنبأت الخادمة وصاحت: «توم … هذه رحلة إلى جريتنا.» وكان توم يعرف أن لها قدرة فطرية على التنبؤ بالزواج وما إليه، فانطلق يعدو ويصيح: «أعدوا الجياد الأربعة الأخرى.» وفي لحظةٍ واحدة صار المكان كله هرجًا ومرجًا.
وشعرت برغبة في رؤية ذلك السعيد، المحب المحبوب، فتلكأت على الباب حتى بلغه القادمان. ووثب من المركبة رجل برَّاق العين متلفع — ومتلثم — بشملة، فكاد من شدة الوثبة والسرعة فيها يلقيني على الأرض، فالتفت إليّ ليعتذر وإذا به «إدوين!»
فصاح وهو يتراجع: «شارل! يا إلهي، ماذا عساك تصنع هنا؟»
فقلت وأنا أتراجع أيضًا: «إدوين! ماذا تصنع أنت هنا؟»
وضربت جبيني وأنا أقول ذلك، فأحسست أن لسانًا من النار لا يطاق خطف أمام عيني.
فأدخلني إلى القاعة (وكان في موقدها دائمًا نار فاترة، ولا محرك هناك) حيث وقف المسافرون ينتظرون تغيير الجياد، وقال وهو يرد الباب: «سامحني يا شارل!»
قلت: «إدوين! هل كان هذا جميلًا منك؟ وأنا الذي أحبها كل هذا الحب؟ وأنا الذي طويت أضلاعي على هواها كل هذا الزمن؟»
ولم أستطع أن أزيد على ذلك. فراعه أن يقرأ في وجهي ما أكن من الألم والأسى، وقال وهو لا يدري ما في ذلك من القسوة: إنه ما كان يحسب أن يبلغ من قلبي الحزن هذا المبلغ.
فنظرت إليه — أقصرت عن العتاب — ولكن نظرت إليه.
وقال: «شارل، يا صديقي العزيز الأثير، أرجو ألا تظن بي سوءًا، وإني لأعلم أن لك حقًّا في أن أطلعك على دخيلة قلبي. وصدقني حين أقول إني ما ضننت قط من قبل عليك بالثقة بك والاطمئنان إليك، وإني لأمقت الكتمان فإنه لؤم لا يطاق، ولكني أنا وفتاتي حرصنا على الكتم من أجلك.»
هو وفتاته! لقد جعل ذلك قلبي حجرًا.
وقلت وأنا أتعجب لوجهه الصريح كيف وسعه أن يلقاني به: «حرصت على الكتمان من أجلي أنا يا سيدي؟»
قال: «نعم، ومن أجل أنجيلا أيضًا.»
فقال إدوين بلهجته الودية: «يا عزيزي شارلي. فكر! لقد كنتَ على خير حال وأسعده مع أنجيلا، فكيف أزج بك في ورطة مع أبيها بإشراكك في العلم بأمر خطبتنا، وبما عزمنا عليه سرًّا، بعد أن رفض؟ من المحقق أنه خير لك أن تستطيع أن تقول، وأنت صادق: «إنه لم يستشرني قط، ولم يخبرني بشيء، ولم ينبس بكلمة على مسمع مني.» وإذا كانت أنجيلا قد فطنت إلى الباطن من أمري، وأولتني كل ما في طاقتها من العطف والتأييد، بارك الله فيها من فتاة منقطعة النظير، وزوجة يُعيي الزمانَ مكانُ ندها، فما كان لي في هذا حيلة، وما قلنا لها — لا أنا ولا إميلين — شيئًا، كما لم نقل لك شيئًا، وقد توخينا الكتم عنها، كما توخيناه عنك، لنفس السبب، فثق بي، وصدقني.»
كانت إميلين بنت عم أنجيلا، وكانت تعيش معها، وقد شبا معًا، وكان والد أنجيلا قيمًا عليها، فإن لها مالًا.
فقلت وأنا أعانقه عن أحر عاطفة: «هل إميلين في المركبة يا إدوين؟»
فقال: «وهل تحسبني ذاهبًا إلى جريتنا جرين بغيرها؟»
فخرجت أعدو مع إدوين، وفتحت باب المركبة، وعانقت إميلين، وضممتها إلى صدري، وكانت ملفوفة في فراءٍ أبيض ناعم كهذا الوادي المكسو بالثلج، ولكنها كانت كاعبًا جميلة حارة. وقد ربطتُّ الجوادين المقدمين إلى مركبتهما بيدي، ونفحت الخادم بخمسة جنيهات، وحييتهما أحر تحية وهما يمضيان، ثم ركضت بي الخيل في الطريق إلى لندن.
لم أذهب إلى ليفربول، ولم أرحل إلى أمريكا، وإنما رجعت إلى لندن وتزوجت أنجيلا، ولم أكشف لها إلى هذه الساعة عن سري، ولا قصصت عليها كيف كلفني الغلط هذه الرحلة، وسيجيء يوم تقرأ فيه هي، وهما — أعني — إدوين وإميلين — وأبناؤنا الثمانية، وأبناؤهما السبعة (وقد صارت كبراهم تشابه أمها) هذه الصفحات — وأين المفر من ذلك؟ — فيعرفون جميعًا ما كان خافيًا عليهم، لا بأس؛ فإن في مقدوري أن أحتمل ذلك، ولقد بدأت في الفندق — بمحض المصادفة — أقرن وقت عيد الميلاد بالعوامل الإنسانية، وأعنى بالبحث في حياة من ألفيتني محوطًا بهم، وفي مرجوي ألا أكون قد خسرت بذلك، وألا يكون أحد — قريبًا كان أو بعيدًا مني — قد خسر بذلك، وإني لأدعو أن تزدهر شجرة الميلاد الوريفة النضيرة، وأن تضرب جذورها وتغوص وتتقرر في أرضنا الإنجليزية، وأن تنفض طيور السماء لقاحها على العالم قاطبة.