نفس رضية
منذ أربعين سنة خلت كنت «كاتبًا» في ديوان للحكومة في «هوايتهول» وكنت قد قضيت في عملي هذا ثلاث سنوات. وكان أبي على شيء من الخفض في العيش وله ألف وخمس مائة فدان، ولما لم يكن له من الولد سوى بنت وغلام فقد وسعه أن يدخلني في مدرسة «هارو» التي تعلم هو فيها، وقد انتقلت من «هارو» إلى «كمبردج» وأديت الامتحان الخاص بالخدمة المدنية بنجاح، وما لبثت أن خطبت «مرغريت راشورث» بنت راعي الكنيسة ببلدة «همسورث» على مسافة خمسة أميال من بلدتنا، وفي سنة ١٨٧٠ بنيت بها. وكان أبي يوسع عليّ بمائة جنيه في العام غير ما أتقاضاه من عملي، وكان لمرغريت خمسون جنيهًا في العام، فاتخذنا لنا بيتًا في «بلاك هيث.»
ولم تكن مرغريت ذات ولوع بالقراءة، وإن كانت تجيد تحصيل ما تقرأ وقد حدثت نفسي أنها ستتفتح، أعني أن تُشغف بالأدب وتُغرى بالاطلاع عليه ولكنها لم تفعل ولم يصدق ظني، ولعله كان لا يسعها إلا أن تنمو وتنضج وفق طبيعتها، وعسى أن يكون الله قد شاء — وإن كانت هي لا تدري — أن تبقى طبيعتها الخاصة غير مشوبة أو متأثرة بطبيعة أخرى. أما أنا فكنت على نقيضها ولم تكن لي حياة إلا في الكتب، وكنت أيام كمبردج قد دخلت في الأدب دخولًا ثابتًا فأصبحت أمقت اللهو ولا أطيق الفراغ. وكان حبي للكتب هو الذي يرجع إليه بعض ما فيَّ من عيوب، ومن بينها فقدان الشعور بالتناسب، والإدراك الصحيح للقِيَمَ الحقيقية للأشياء. فقصيدة قصيرة من ثلاثة مقاطع أو أربعة، أو بضعة أبيات من قصة «اغتصاب خصلة الشعر» ترجح عندي بأخبار الحوادث الجسام، بل كان خيرًا عندي، وأولى بي في رأيي، أن أعرف كيف كان شكسبير يربط حذاءه من الإلمام بأحكام قانون ثوري كقانون الإصلاح. وكان الحديث لا يطيب لي إلا إذا دار على ما أقرأ، ولا شك أن كثيرين كانوا يعدونني مغرورًا مفتونًا متحذلقًا، وأعترف أن مخالطتي كانت لا رضية ولا مطلوبة، وكان الهزالون والفارغو القلوب والرءوس يضحكون مني ويتهكمون عليَّ، لأن الرجل الجاد مثلي يكون لأمثالهم عرضة استهزاء من العسير عليهم أن يصدوا أنفسهم عن ركوبه بالعبث والمجانة.
على أن هذه الطبيعة الخاصة لم تتكشف إلا بعد الخطبة بقليل. وقد كنت يومئذ أطمع في السعادة مع مرغريت، وأحلم بأن أقضي الأمساء الطويلة ونحن معًا ندرس شيللي (الشاعر) ونبحث سياق قصته «ثورة الإسلام» وهي مسألة كانت لا تزال مستعصية الحل عليّ. وكنت عضوًا في ناد يسمى، لغير داع خاص، «نادي السبت» وقوامه اثنا عشر رجلا من أترابي وأشباهي في النزعة يجتمعون في اليومين الثاني والخامس عشر من كل شهر للاستفادة وتفتيش الكلام والنظر في المعارف. وما من ريب في أن كثيرين يستغربون ذلك، ولكنه لا يبدو لي غريبًا، حتى الآن أن يجلس اثنا عشر من أبناء هذا العالم المبتذل، إلى مائدة وأن يحاولوا، بغير معونة من شراب أو طباق أو قهوة، أن يجيلوا النظر ويتبادلوا الرأي في موضوعات يعدها الأكثرون ثقيلة منفرة. وقد عدت مرة إلى البيت ورأسي مكتظ بأسلوب الشاعر ملتون في النظم، فشرعت أصب على رأس مرغريت ما دار في اجتماعنا، وأفضي إليها بآرائي وملاحظاتي على الخصوص، ولكن لما كانت لم تقرأ قط قصيدة «الفردوس المفقود» ولا تعرف شيئًا عن البحر المرسل، فقد أقصرت، وشعرت بخيبة الأمل. وأسفت هي أيضًا، وانقضى المساء، كما تنقضي الأمساء في أخريات سبتمبر/أيلول الذي قل أن توقد فيه النار، ومع ذلك يجيء فيه المطر البارد مع الظلام المتكاثف. وكانت عادتنا إذا وقع الثاني أو الخامس عشر من الشهر، في يوم سبت، أن نجتمع في الساعة الرابعة، فاتفق مرة أن حاولنا أن نتبين حقيقة ما حدث للزورق المسحور في قصيدة «أَلاسْتور» فإن الماء المائج يرتفع «درجة فوق درجة» والزورق يستولي عليه الموج المتسامي. فحيرني ذلك واشتقت إلى الفهم، وعدت إلى البيت فلم أستطع أن أصد نفسي عن عرض المعضلة التي تحيرني، على مرغريت، فقرأت لها من قصيدة «ألاستور» كل ما له علاقة بحركة الزورق، وأفضت في الشرح والبيان وكنت أراها تجشم نفسها أن تتبعني وأن تستوضح مجرى الماء ولكنها لم توفق، وأغضبني ما تقوله مما لا دخل له في الأمر، وسألتني من عسى أن يكون هذا المطوّف، وما الغرض من رحلته؟ فلم أطق صبرًا وقلت لها وأنا معتمد بمرفقيّ على المائدة، ورأسي بين كفي من الغم: «لشد ما أتمنى يا مرغريت أن أجد عندك أكثر من هذا العطف قليلًا! وما أخلقني بالسعادة لو أنه كان يعنيك ما يعنيني!» فلم تقل شيئًا، وتركتها وخرجت ولكني، وأنا خارج، خيّل إليّ، أن الدمع متحيّر في عينها، ففزعت! فقد كنت أحبها حبًّا جمًّا، وحدثت نفسي أن هذا لعله بداية الفتور في حبي لها. فماذا ينبغي أن أصنع؟ وكيف أكون إذا حلت بيننا الجفوة، ووقعت النبوة؟ وشعرت بالفزع القريب من الجنون الذي يشعر به الناس حين تزلزل الأرض وترتج تحت أقدامهم.
وفي تلك الليلة تعشى معنا صديق قديم من أيام الدرس، وكنت لم أره منذ سنتين. واسمه روبرت باركلي. وكان أبوه قسيسًا درس اللاهوت في مدرسة سيميون، فهو لهذا من الإنجيليين، وكذلك كان ابنه روبرت الذي تعلم في كمبردج، ولكنه تغير لما بلغ الخامسة والعشرين، كأنما أفاق من سبات، وشرع يتساءل، وكانت النتيجة أن العقيدة التي رُبِّي عليها بدت له كأنها غير ذات أساس، وكأنما هي معلقة في الفضاء. وظل هكذا حتى أصبح لا يستطيع أن يقول شيئًا غير «لا أدري.» غير أنه كان من المستحيل أن يطمئن إلى هذا ويرضى به، فقد كان ممن تغريهم فطرتهم بالنزوع إلى التقرير والحسم، فما لبث أن تحول إلى العقيدة الكاثوليكية وحل بهذه الطريقة، على نحو يرضيه، المعضل الناشئ عن إيجاد سند للسلطان البابوي، يرجع إلى المركز الذي أعياه أن يجده في المذهب السيميوني. وقد اقتنع بأن يقف حيث وقف نيومان: «إنه لا حيلة في ذلك، فإما أن نرفض الإيمان بالكنيسة باعتبارها إلهية وإما أن نقر لها ونعترف بها في النظام الذي يرأسه البابا. وعلينا أن نتقبل الأشياء كما هي كائنة. فإنك إن تؤمن بالكنيسة تؤمن بالبابا.»
وكان باركلي كثيرًا ما يزورنا في بيت أبي قبل هذا التحول، فأحب فيرونيكا — أخت مرغريت — وكانتا في ضيافة أمي. وبادلته فيرونيكا حبًّا بحب، فخطبها، وإذا به بعد ذلك تستولي عليه الرغبة، شيئًا فشيئًا، أن يكون قسيسًا، ويعمق في نفسه الإيقان، بأن من واجبه أن يفعل ذلك، وكانت فيرونيكا قد صارت كاثوليكية أيضًا، وساعفتها قوة النفس فكانت تحضه على أن يلبي ما كان كلاهما يعتقد أنه نداء إلهي. وليس في وسع إنسان أن يحيط بما قاساه واحتمله هذان، الله وحده هو العليم بهما. وكنت أنا ألمح، بين آونة وأخرى، آيات المجاهدة النفسية، والصراع الذي يدفع الدم في مسام الجلد.
إن في هذه المأساة ما لا قِبَل لي بالعبارة عنه، فإنه الكشف التام عن كل ما تنطوي عليه كلمة «أبدًا» والتجسيد الدقيق لحقيقة معناها.
وهل يستطيع الإنسان أن يعبر بالألفاظ عن منديل أبيض يخفق من نافذة قطار، أو عن رصيف خال كانت تقف عليه قبل عشر دقائق امرأة معينة لا تزال صورتها ماثلة وإن غاب عن العين شخصها؟ إن في هذا شيئًا غير الأسى بمجرده، عسى أن يكون تفتح الهاوية الرهيبة الكائنة تحت حياة الإنسان. وقد كانت إحدى نتائج هذه المحنة الإخلاص الصافي من كل شائبة، فقد هذّبه الامتحان، وصفّت نارُ التجربة معدنه من الأخلاط، وصارت ألفاظه تقوم مقام الحقائق وتغني غناءها، ولعل إخلاصه هذا هو الذي أكسبه ذلك السلطان على نفسي، وقد عجز عن حملي على اعتناق المذهب الكاثوليكي، ولكن الفضل في ذلك يرجع إلى مرغريت التي ردتني عن متابعته، فقد كانت هي الوحيدة التي تستطيع أن تمكنني من المقاومة.
وقد أعجب روبرت بما حدثته به مرغريت — على العشاء — من أسلوبها في معونة جيرانها الفقراء، فما كانت تعطيهم مالًا، أو ثيابًا، أو طعامًا، أو تكتفي بالزيارة، وإنما كانت تدخل بيوتهم، وتعمل فيها، فتطبخ لهذه، وتغسل ثياب تلك، أو تنظف الغرف، أو تمسح البلاط. ولم تكن هذه معونة حقيقية فحسب، وإنما كانت كذلك فرصة تغتنمها مرغريت لتعليم هؤلاء النسوة كيف ينبغي أن يعملن عملهن ويؤدين واجباتهن، وقالت مرغريت وهي تصف مساعيها تلك: «وقد يتاح لي من حين إلى حين أن ألحن بكلمة تنفعهن، فإني واثقة أن الكلمة تلقى عرضًا، أفعل في نفوس هؤلاء النسوة وأجدى عليهن. ومن العبث أن تتحدث إليهن في مسائل نظرية أو عامة، أو أن تعظهن وتفيض في الكلام على الخطيئة وفظاعتها. ولكن إذا كان جار إحداهن قد ضرب امرأته، أو كان يشرب ولا يعطيها شيئًا مما يكسب فإن في وسعك أن تقول في سوء سيرته ما يعن لك، وأن ترجو أن يكون لكلامك وقعه. أما الدين كما نفهمه حين نركع ونصلي، فذلك ما لا سبيل إلى تعليمهن إياه. وإنه ليتطلب موهبة سماوية كالتي لا بد منها للشاعر العظيم، ألا وإن ردّ اليد عن النشل والسرقة لعسير …»
ونهضت مرغريت إلى فراشها؛ فقد كانت بطفلتنا، التي بلغت من العمر ستة شهور، حاجة إلى عنايتها. وبقينا نحن صامتين بضع دقائق، ثم قال روبرت فجأة وبلا تمهيد: «مرغريت آية … عبقرية … ولقد شرفتك بزواجها فكانت بركة عليك، وليقل الأغبياء ما شاءوا، فإن الابتكار والعبقرية في الزوجة من أكبر الأنعم وأعظم البركات. ولكن هناك مع ذلك ما هو أكبر وأعظم.» وكان صوته يرتجف ويضطرب وهو يقول ذلك.
ودخلت غرفتها؛ فتحت الباب برفق فرأيتها نائمة وإلى جانبها الطفلة، ولكن مصباح الليل كان مضاءً، فخلعت نعلي عند الباب وتسللت على أطراف أصابعي إلى المنضدة الصغيرة الموضوعة إلى جانب السرير، فإذا عليها نسخة من ديوان شيللي وأرتني علامة فيه أنها كانت تدرس الأبيات التي قرأتها لها عن الزورق، فعدت إلى غرفتي، ولكني لم أنم. وفي بكرة الصبح ذهبت إلى غرفتها، فتبينت أنها استيقظت في الليل، فقد أرتني العلامة أنها قلبت صفحة. ولكن عينيها كانتا مغمضتين، وكان ذراعها على الغطاء. فركعت وتناولت راحتها الجميلة الصغيرة ولثمتها لثمة خفيفة. فتنبهت، واعتدلت وحنت عليّ، وأحسست شفتيها على رأسي، وتهدل شعرها الوحف فكساني. وقد ماتت منذ عشر سنين، ولكن المحيا الذي يطالعني ويتراءى لي دائمًا، سعيد، والحمد لله.