الأخدود
سألني السائق سؤالًا أخيرًا: عندك جَدٌّ في العرديباب؟
قلت له مؤكِّدًا وبشكل حاسم: نعم، عندي جد واسمه الحاج عندلة.
ثم سألني — وكأنه يريد أن يؤكد شيئًا: هل هو موجود حاليًا … في الأيام دي بالذات؟
لا أدري لماذا يتدخل السائقون الثرثارون فيما لا يعنيهم، أنا ذاهب إلى العرديباب، وعليه أن يكبح فرامل عربته في العرديباب، ويُنزلني وينطلق في شأنه نحو أعالي النهر عند الحدود الإثيوبية، ما يهمك أنه موجود حاليًا أم غير موجود؟ ما شأنك؟ أنا لا أحب التحشر في شيء ولا الآخرين، وبالتالي على كل شخص أن يلزم حدوده.
– ما عارف.
قلتها جافة وعدائية وحاسمة كبصقة في وجهه، وبعدما قَفَزَت العربة على خورين معشوشبين مشجورين شجرًا كثيفًا توقفتُ قاصدًا طريقًا للمشاة تعبر الغابة نحو الغرب، قال لي: انزل الشارع ده يوصلك للعرديبات، والله يكون في عونك.
ولو أن «والله يكون في عونك» أغاظتني للغموض الذي يكتنف مدلول ما يريد قوله، إلا أنها كانت ستصبح مفتاح كل شيء إذا كنت قد صبرت عليها بعض الشيء وسألته: تقصد شنو؟
ولكن كبرياء أولاد المدينة ولابسي «مناطلين الجينز» والتي شيرتات ذات الألوان الباهية يسيطر عليَّ، وحقيبتي على كتفي توهمني بأن بها كل ما أريد ولا أحتاج لأحد؛ حتى إذا لم أجد جَدِّي، أنا أعرف كيف أتصرف، نعم أنا لا أعرف جغرافيا المكان بالقدر المطلوب، ولكنني لست في سيبيريا أو غابات الأمازون، أنا في السودان وفي الشرق نحو الجنوب قليلًا، حقيقةً أن بهذه المنطقة دارت حروب طاحنة لفترة طويلة من الزمان، إلا أنها مفتوحة ومعروفة لدى الجميع، ولا يوجد شيء غامض في هذا البلد، ولا أراضٍ لم تطأها قدم إنسان ولا ثعابين تطير ولا … ولا. لكن يقصد شنو ﺑ «الله يكون في عونك؟»
سلكتُ طريق المشاة عبر غابة النبق والدوم، وكنت أُصادف بين حين وآخرَ بعضَ نباتات القنا العملاقة، رأيت قردًا صغيرًا، رأيت قردين، رأيت أرنبًا كبيرًا رأيت قطين متوحشين، ورأيت ثعبانًا صغيرًا، رأيت طائرَ هدهد كبيرًا يحفر الأرض بمنقاره ويصطاد الدود، رأيت قردًا كبيرًا على شجرة دوم، رأيت فأرين. فهي مشاهدات عادية في مثل هذه الأمكنة، وأنا أيضًا مشاهَد عادي بالنسبة لها؛ فلم تَخَفْ مني الأشياء ولم أخف منها، ولو أنني فزعت عندما رأيت القرد الكبير أمامي فجأة على شجرة الدوم، ثم عندما ابتعدتُ عنه، عدة خطوات ورماني بدومة، ثم رماني بدومتين ثم استطاع أن يصيب رأسي بدومة تؤام كبيرة الحجم هرولت قليلًا، وبعد عدة متعرجات شوكية أصعدني الطريق ربوةً عالية، عن طريقها استطعت أن أرى قطاطي القرية والتي تبعد ما لا يقل عن خمسة كيلو مترات.
صعدت على هيكل دبابة قديمة محطمة وأخذت أنظر إلى اتجاهات الدنيا الكثيرة، بدا واضحًا لديَّ أن هذا المكان هو الذي شهد المعركة الحاسمة بين الجيش والمليشيات، وهي المعركة الوحيدة في التاريخ التي انتهت بهزيمة الجيشين في آن واحد، أسماها الجيش: «معركة الفتح المبين» وأسمتْها المليشيات: «نصر الله» فالمليشيات كانت تريد أن تسيطر على الكُبري الذي يعبر النهر، أو إذا لم تستطع الاحتفاظ به في إدارتها العسكرية عليها تدميره؛ لكي لا يستخدمه الجيش في أغراض عسكرية، والجيش أيضًا كان له نفس الهدف: تدمير الكُبري أو السيطرة عليه، أما الكُبري نفسه فقد بناه سكان القرية الذين يعملون في الصيد غير الشرعي للحيوانات البرية من الغابة المقفولة، والتي تقع في الجزء الشرقي من النهر، بنوه مستخدمين سيقان المهوقنى والتِك العملاقة.
وهو كُبري عائم يرتفع مع ارتفاع النهر وينخفض مع انخفاض منسوب النهر، مربوطًا من نهايات أركانه الأربع بنوع من الحبل الذي لا يمكن أن ينقطع نتيجة لأي قوة شد، وهو مصنوع من جلد فرس البحر المعالَج بالقطران وألياف الرافيا والسعف ولحاء بعض الأشجار الأخرى، مشدود على شجيرات عرديب، ثلاث بالشاطئ الشرقي وأربع بالشاطئ الغربي للنهر، يستطيع هذا الكُبري أن يمرر دبابة ضخمة من طراز ٥٥ الروسية ذات البرج العالي المجنزرة والتي تزن خمسين طنًّا من الحديد الصلب والذخائر والجنود المدججين بالموت والذكريات، أما ناقلات الجنود الأمريكية الرشيقة والتي تخص المليشيات فإنها تنزلق على الكبرى مثل لعب الأطفال.
دعنا من الجيش والحروب، قلت لنفسي، ولو أن ذكرى الجيوش والمعارك تثيرها مشاهدات المقذوفات الفارغة وخوذات العسكر والآليات المحترقة التي تُرمى هنا وهناك بين المقابر الجماعية، على أفرع الأشجار، أو مدفونة في الأرض.
بعد مغيب الشمس بقليل كنت عند مطلع القرية، وبدا صوتها واضحًا؛ نباح الكلاب، نهيق الحمير، نداء الأمهات لأطفالهن، بين وقت وآخر يعلو صوت رجل راطنًا أو مغنيًا أو لاعنًا أو مجيبًا لنداء، تذكرت أن أحد الذين قابلوني في الطريق قال لي: منزل جدك هذا قرب النهر، لكي أذهب إلى النهر لا بدَّ من عبور الحلة كلها، وحَلَّ الظلام الآن، تراكمت بعض السحب الداكنة سريعًا في شرق السماء، عندما ناديت أهل أول بيت من خلف زريبة شوكهم: يا ناس البيت سلام.
رد عليَّ صوتُ امرأة شابة: أهلًا وسهلًا، اتفضل، منو؟
كان الظلام دامسًا، لا أرى ولا أُرى ولكن الصوت الحنين الدافئ القادم من الداخل، بلهجته الصعيدية الحميمة، أصابني بالطمأنينة، وربما لِمَا يحمله من أنوثة ملحوظة، وأنا شخص طالما وَصَفَني أصحابي بأنني أُميز هذه الأشياء، وقطع سلسال تفكيري صوتها سائلًا: منو؟
– أنا ضيف.
وانضم للصوت الأول حمحمة امرأة عجوز ويبدو أنها الأم: اتفضل قدَّام.
وجاءتا ببطارية لترشداني إلى المدخل، والذي يقع على الجانب المقابل لموقفي، فمشيت نصف الدائرة شمالًا إلى أن وجدتهما واقفتين، أُجلست على راكوبة صغيرة تفوح من جوانبها رائحة الروب والسمن والشرموط، أيضًا السمك المجفف، يبدو أن خلف الراكوبة يوجد حمار أو حماران، فصوت زفير منخر ضخم كان يصلني من هنالك، وشخير عميق يأتي لسمعي من عمق ظلام القطية، قدَّمتا لي ماءً من زير قريب بارد، سألتْني الأم والتي ما زلت لا أستطيع أن أتبين ملامح وجهها: من وين جيت؟
– من القضارف.
– أنت ود منو؟
– أنا ود الحاج عندلة.
وهنا فجأة سمعت صوتًا يأتي من داخل ظلامات القطية قويًّا وحادًّا.
– ده منو الضيف القال هو ولد الحاج عندلة ده؟ تعال لي جُوا هنا، تعال جوا هنا.
وتبع ذلك جلبة شيء يصطدم بشيء، وشيء يقع على شيء، شيئان يسقطان على الأرض يصدران رنينًا يطول، ثم حشرجة حنجرة يابسة قديمة صدئة ثم شحذ سكين على خشب جاف، وأصوات أخرى.
– تعال جوا هنا.
وفي ذات اللحظة التي نهضت فيها للذهاب إلى الداخل، أمسكت الفتاة بيدي وجذبتني إلى خارج الراكوبة، قالت جملة واحدة قوية: اهرب … اقطع البحر، ولو ما قطعت البحر: حتموت.
ولا أدري كيف قفزت على الشوك الذي ما كنت أراه، ودرت دورتين حول نفسي، كنت خلالهما أبحث عن الاتجاه الذي يجب علي أن أجري نحوه، تجاه النهر، ولكن حينما صاح الصوت مصدرًا عواءً وكأنه ذئب جائع منذ ألف عام، جريت دون أن أفكر، ثم سمعت عواءً مشابهًا من جهات أخرى، ثم عواءً مشابهًا ثم عواءً آخر؛ خمس أصوات ذئبية تنطلق من خمس بقع في الظلام، ثم نبحت كلاب الحلة مذعورة، ثم أخذ ضوء البطاريات ينطلق من هنا وهنالك شارخًا الظلام، صراخ نسوة، صياح أطفال صَحَوْا مذعورين على العواء المرعب، صوت أقدام مهرولة؛ بل دوي طلق ناري شاقًّا الفضاء، مما شلَّ ما تبقى لديَّ من تفكير، وجدتُ نفسي الآن على حافة النهر، ويقترب العواء مني أكثر، حيث تجمع — على ما أظن — الخمسة وأصبحوا مجموعة واحدة منطلقة خلفي، لم أفهم شيئًا إلى تلك اللحظة، لا أعرف غير أنه يجب عليَّ أن أهرب وأعبر النهر حتى لا أموت، سقطت على مياه النهر مباشرةً، وكنت ممسكًا بحقيبتي بشكل جيد وتام، وعندما انتبهت لخطأ المغامرة، خرجت من الماء، نزعت نعليَّ وأودعتهما حقيبتي، كذلك منطلون الجينز والقميص، وأصبحت عاريًا إلا من لباس داخلي قصير، ثم وضعت حقيبتي الصغيرة على ظهري، وحمالتاها تدوران حول إبطي وسبحت، كان ماء النهر باردًا وثقيلًا، وعندما كنت على الشط الآخر، وصلوا الشط الأول، أضاءوا نحوي بطارياتهم، ثم صاح واحد منهم بصوت أجش حامض، وكأنه نهيق حمار: هناك حتاكلك كلاب السِمِع، أخير تعال هنا نأكلك نحنا.
ثم علا ضحكهم ثم رطنوا، ثم ضحكوا مرة أخرى، ثم قال لي آخر مناديًا، بينما كنت أنا أهرب مختفيًا في الغابة الكثيفة: بكرة نعرف خبرك، دخلتَ الغابة الملعونة براك برجليك، ضحكوا، عووا، صاحوا في رعُب، ضحكوا، ثم أكدوا بصوت واحد، أنني لن أنجو من كلاب السمع، واختفوا تمامًا وتلاشت أصواتهم تدريجيًا.
لم أتوغل في الغابة؛ لأنهم قالوا إنها الغابة الملعونة، وورد ذكر كلاب السمع الشرسة، والتي أعرفها وأخاف منها بشكل جيِّد، وهي لا تستغرق عندها وليمة من ثور الجاموس غير خمس دقائق، يختفي عن الوجود، ولن تبقى من دمائه ولا قطرة واحدة، فقط هيكله العظمى كشاهد على الوليمة، صعدتُ شجرة وجلست على فرع منها، لا يبتعد عن الأرض كثيرًا، سوف لا أنام وعندما تشرق الشمس غدًا … ربنا كريم. يبدو أنني نعست؛ لأنني أخذت أسمع صوتها يناديني، عميقًا دافئًا قرويًّا حنينًا ولا مبالٍ، وسمعت خطوات تتعثر ولكنها تقترب في ثبات.
– ولد الحاج عندلة، ولد الحاج عندلة، ولد الحا …
نعم هي ذاتها، والغريب في الأمر أنني لم أخف منها؛ بل صحت مباشرةً بأنني هنا على فرع الشجرة، واقتربتْ، لم أستطع أن أتبين ملامح وجهها ولكنها بلا شك كانت جميلة، إن الصوت دائمًا كما يقول صديقي — أبو ذر — دالة في الوجه، كانت تحمل بخسة من لبن البقر مخلوطًا بالسمن، وأنا أحب اللبن وأحب السمن أيضًا وأحب البنات طبعًا أكثر: أن أنجو.
طلبتْ مني أولًا أن نغادر هذه الغابة الملعونة، والتي هي أخطر من الرجال الذئاب، فهي مسكونة بالشياطين وكلاب السمع، ولا يجرؤ أحد من القرية دخولها ليلًا، وأنها لولاي لَمَا فعلت، فحملت حاجياتي، عَبَرْنا النهر، عَبْرَ بقايا الكبرى المتهالك ومشينا قليلًا على ضفة النهر الغربية، ثم أشارت إلى طريق أضاءت جزءًا منها بالبطارية، وقالت لي: إنها تقودني إلى قرية آمنة.
جلسنا تحت شجرة، أخذتُ من بين كفيها قرعة اللبن الدافئ المسمن، وفي شفطتين طويلتين أتيتُ على كل محتويات الماعون، وأخذت أتنفس بصورة متسارعة وألحس شاربي بلساني، متصيدًا بقايا اللبن عليه، مستفيدًا من أنها لا تستطيع أن ترى ذلك في الظلام، كنت جائعًا جدًّا، ثم أخذت أرتجف بصورة مرعبة، لا أدري لماذا أرتجف؛ خوفًا، شبعًا، أم باللبن شيء ما سوف يفقدني الوعي وأصبح فريسة ساهلة لهؤلاء المتوحشين؟ لا، لا … أنا أثق في المرأة؛ لأنني أحب النساء وكنت أعرف بيني وبين نفسي أنه يستحيل أن تُلحق امرأة بي ضررًا ولو يسيرًا؛ لأن لدى النساء مِسبار سريٌّ مسحور يعرفن به مَن هو عدوهن ومن هو العاشق، كما أنني استبعدت فكرة أن تتآمر هذه البنت عليَّ؛ لأنها هي التي أنقذتني، قلت لها بصوت مرتجف: أنا أشعر بالبرد … أشعر بالبرد والحمى.
فتحسست معصمي، ثم وضعت كفًّا على خدي، كما لو أنها تقيس درجة حرارته، ثم قالت: أنت بردان؛ لأنك عمت في البحر، أنت ما عارف الكُبري الجينا بيهو قبل شوية؟
– والله ما كنت عارفو، فقط سمعت به مجرد سمع.
قالت ببساطة وبكل براءة: تعال!
ثم نزعت ثوبًا كانت تلتف به، نزعت جلبابها وأخذتني إلى صدرها: حسِّي حَتحِسْ بالدفُو.
وعندما ضمتني إليها بشدة، تأكد لي صحة جملتها الأخيرة، كانت طويلة أطول مني، ذات جسد ممتلئ كالتيتل، ضمتني إليها مسقطة صدري بين نهديها الكبيرين، كانت تفوح منهما رائحة الكسرة الساخنة، كنت مندهشًا جدًّا لدرجة أنني ما كنت أفكر في شيء، ولا الحمى ذاتها، كانت مثل أُم أسطورية نزلت من الجنة الآن وهنا، ومن أجلي بالذات. قلت في ذاتي: سبحان الله! اللِّي يجيب قتالك يجيب حجازك، وعندما ضمتني إليها بشدة، أحسست بأن رجليَّ ما عادتا تحملاني؛ بل لا وجود لهما، وكل ما كنت أُحس به من أعضائي صدري، الذي في وسط بطنها الدافئ ورأسي التي بين طرقتي كسرة شهيتين، وكنت قد طوقت بذراعي وسطها في محاولة مني المشاركة في هذا الاحتفاء الإنساني البديع … هذا المهرجان الجسدي الحار … قلت لها: فلنرقد على الأرض، فأنا لا أستطيع الوقوف.
– أحسن، قالت: أحسن، نرقد في الواطا … هل اتحسنت ولا لِسَّع خايف؟
وكنت سأجيبها إذا كنت أعرف اتحسنت أم لا، ولكنني كنت بالتأكيد أحسن حالًا، فلقد أصبحت متماسكًا واختفت ما تشبه الحمى من جسدي، ولكن أصبت بحالة من ما لا يسعفني قاموسي اللغوي البسيط على تسميته، بالتأكيد إن لحالتي اسمًا، وكنت ببساطة … دعوني أقول لكم: أرقدتني على صدرها وطوَّقت خاصرتي بذراعيها الطويلين كأذرع الغوريلا، كانت شفتاي في نهاية حلمتي ثدييها اللذين من شعور غامض عرفت أنهما لا بد أن تكونا كبيرتين، ودون أن أفكر حركت رأسي قليلًا ناحية هرم ثديها، حيث واجهت شفتاي الحلمة الكبيرة الدافئة، أغرتني رائحة الكسرة الساخنة، ودونما تفكير أخذت أرضع كالطفل، تحرَّكتْ قليلًا، وأظنها كانت تبتسم مشفقة وهي تقول لي في حنان دافق: أنت جيعان لِسع … مسكين لو عارفة كنت جبت معاي لبن أكتر.
ثم أضافت في براءة: ما حتلقي لبن فيهم؛ لأنني لم ألد، زوجي توفي منذ أعوام كثيرة وأنا عروس، ما حتلقى فيهم أي شيء.
قلت لها: أنا ما عايز لبن.
– عايز شنو، شيء؟
قلت وأنا دائمًا جريء مع النساء ولا أخشى ردود أفعالهن؛ لأنني أعتبر نفسي صديقًا لكل بنات الدنيا وأنهن يوقعن فعلي وقولي الموقع الحسن: عايز أرضع وبس.
قالت وهي تضحك حقيقة في هذه المرة؛ لأنني سمعت ضحكتها بأذني.
– ارضع.
ودفعت بصدرها نحوي بغنج أنثوي دافئ.
وهي تسحب القطعة الوحيدة التي كنت أحتفظ بها من ملابسي، وبحركة رياضية بارعة أسقطت جزئي الأسفل ما بين نهريها، وفجأة وجدت نفسي منبلعًا كُلي في المرأة كما لو كانت شقًّا على الأرض انفتح فجأة ابتلعني ثم انسدَّت مرة أخرى، أنا دائمًا ما أقول: إن المرأة هي أصل كل شيء، وكل شيء يعود إلى المرأة، وأتفه العائدين إليها وأولهم هو الرجل، وهي أيضًا الحقيقة الوحيدة، وهي الدفء الوحيد في العالم بعد أن تغيب الشمس، وهي الأم التي باستطاعتها أن تلدنا في كل لحظة، ولم يقطع حبل امتداحي للمرأة سوى صرختها عندما بلغت قمة نشوتها: يا يوووووما …
خرجت الصرخة من عمقٍ سحيق وكأنها آتية من خلف قرن من الزمان، جلسنا نحكي لبعضنا عن بعضنا والأشياء، وقلت لها: عندما قالتِ لي اهرب، كنت أظن أن جدي الحاج عندلة قتل شخصًا ما أو أنه مطلوب في ثأر، وأنني إذا لم أهرب لثأروا مني، سَخِرَتْ مني ضاحكة في غنج جميل قائلة، وكنتُ أرى قربتَي لبنها تهتزان في الظلام: نحنا هنا ما عندنا تار.
ثم حكت لي كيف توحَّش نفر من رجال القرية، وأصبحوا من أكلة البشر، بالرغم من أنهم كانوا من خيرة سكان القرية: جاءت مفرزة من جيش الحكومة واختارتهم للتدريب، واختفوا لما يقارب الثلاثة أعوام، وعندما عادوا، جاءوا وهم كلما جنَّ الليل عَوَوْا، إلا أنهم حتى الآن لم يأكلوا أحدًا في القرية، ولو أنهم قتلوا رجلًا غريبًا قبل شهر إلا أن ناس القرية حالو بينهم وبين أكله؛ حيث حُفرت له مقبرة ودفن فيها، ولم نستطع أن نبلغ الحكومة، فنحن أُسرة واحدة، وهم من كل بيت، وإذا عرفت الحكومة ستقوم بإعدامهم، والناس يسعون لعلاجهم، فالآن بالخلوة يجلس عشرة من رجال القرآن والفقهاء وهم يَصِلون الليل بالنهار، إن شاء الله سيشفون عما قريب، هنا الناس لا يثقون في الحكومة ويظنون أنها لا تعرف كيف تتعامل مع المشاكل، وأنهم سيعالجون إشكالاتهم بأنفسهم وطرقهم الخاصة.
شيء غريب، يكون حصل ليهم شنو يا ربي!
الناس قاعدين يقولوا إنهم انقطعوا في منطقة مستنقعات، سنة كاملة، لا زول جاهم ولا أرسلوا ليهم أكل ولا جاهم جيش لينقذهم، كانت المليشيات محاصراهم من كل الجهات حتى السماء ذاتو، يسوا شنو.
حدثتني بأنهم، أكلوا القش والطين، أكلوا ثعابين الماء، الجرذان، أكلوا الصراصير والعنكبوت، أكلوا الذباب والباعوض، أكلوا الهواء والدود الأسود اللزج، ثم أكلوا بعضهم البعض، قالت: الأقوياء أكلوا الضعفاء، واحنا ناسنا؛ لأنهم من بلد واحدة اتحالفوا مع بعضهم وأكلوا البقية … المهم كلها قوالات وما في زول يعرف الحصل ليهم شنو، والغريب في الموضوع أنهم اكتشفوا بعد سنة كاملة من الخوف والجوع وأكل لحوم الزملاء إنو المحاصرنهم ما كانوا المليشيات لأ، كان جيشهم نفسه، زملاؤهم ذاتهم؛ لأنهم قايلنهم مليشيات، شوف كل زول خايف من التاني وقايلو العدو، سنة كاملة اتخيل، سنة كاملة، الحرب دي بلوة من الله وابتلانا بها، وبدون شعور قلتُ: ما تبلغوا الحكومة.
قالت منفعلة: حكومة شنو وهي ذاتها الحكومة وين؟
وأكدت لي أنهم لا يرون الحكومة إلا في الطيارات التي تعبر في السماء فوقهم، أو عندما جاءوا وأخذوا فتيان القرية للحرب أو عندما جاءوا هم وجاءت المليشيات وتَحَارَبُوا هناك عند الربوة العالية وغابة النبق، أسبوعًا كاملًا، فتطاعنوا، هشَّموا عظام بعضهم البعض، دفقوا دماءهم وصنعوا منها أنهارًا، أنهارًا حمراء، ثقبوا صدور بعضهم البعض بالرصاص الحار، هشَّموا رءُوسًا، قطعوا آذانًا، مثَّلوا، عقروا، سملوا، بالوا، عذَّبوا، قبضوا أرواح بعضهم البعض وأرسلوها إلى الله، ولم يبق سوى جندي واحد هزيل جريح بعين واحدة من الجيش، ولم يبق سوى جندي واحد هزيل جريح برجل واحدة من المليشيات.
فدقَّ أهل القرية النقارة، رقصوا على التل، على جثث الجند، وآلاتهم الحربية، ضحكوا على الجميع، أشعلوا النار على الأجساد المتقيحة المتحللة العفنة البائسة، ثم أتوا بالجريحين، أرقدوهما على الأرض جنبًا إلى جنب، ثم جاءوا بالعصي الكبيرة المصنوعة من القنا وانهالوا عليهما ضربًا حتى الموت، ثم قاموا بدفنهما في قبر واحدٍ ضيق، وهم ينشدون إنشادًا مرتجلًا أُلِّفَ في وقته في ذات موقع التل، شربوا ما بقي من مريسة، وعادوا إلى منازلهم، لقد انتهت الحرب، ولم نرَ منذ ذلك اليوم أحدًا من المليشيات أو الجيش، نحن هنا عايشين على الصيد والزراعة، ونحل مشاكلنا بطريقتنا الخاصة ولسنا في حاجة للحكومة، ثم سألتْني ببراءة: أنت من الحكومة؟!
قلت نافيًا بشدة: إنني لست من الحكومة وإنني جئت أبحث عن أخٍ تاه في هذه الأماكن منذ شهور مضت، كان يعمل بتهريب جلود الحيوانات البرية بعد أن يشتريها من الصيادين، وقلت لها بصراحة أيضًا: ويهرِّب البنقو.
فقالت لي وكأنها لم تسمع ما قلت: أنت تاجر بنقو مش كدا؟
– قلتُ لكِ أخي، أخي يتاجر في جلود الحيوانات البرية النادرة والبنقو.
قالت دون مقدمة: عايزة أشوف وشك.
ودون أن تنتظر إجابتي أضاءت البطارية في وجهي مباشرة، تجولت بالضوء حول أذني وشعري وعنقي وأيضًا صدري، مسحت بكفها على حواجبي قالت لي: افتح خشمك.
قذفتْ بحزمة ضوء في فمي، كانت أسناني بيضاء ومنتظمة وجميلة وستشع نورًا نتيجة لسقوط الضوء عليها وستعجبها أكثر من أنفي القبيح، والذي أعرف أنه قبيح جدًّا، ولو أن أذنيَّ جميلتان، قالت لي بصوت حالم: أنت حلو.
أخذتُ منها البطارية وأضأتها في وجهها، فصعقني الوجه برغبة واحدة جامحة، قلت لها: عايزك تاني، حسِّ.
قالت لي بشكل نهائي وحازم، وكأنها كانت تعد لإجابتها من زمان بعيد: لا، عشان تجي تاني.
– وين؟
– حلتنا.
– حلتكم دي؟
– لا، إنهم لليوم داك حيتعالجوا لا تخف، كل الناس تعرف أنهم حيكونوا كويسين زيُّهم ذي كل زول، أنا متأكدة، هو مرض وسيزول.
– خلي داك للظروف أنا عايزك حسِّ.
– لا، عشان تيجي، ما تحاول؛ لأني ما حأقدر، وأنا ما عملت معاك اللِّي عملتو إلا عشان أنت كنت بردان وبس.
وشبقت بها فعلًا … شبقت بها بشدة، بحرارة، بجنون، شبقت بها بصورة لا تغتفر، شبقت بها بالسماء كلها والأرض وأمي وأبي وأخي وأخواتي الثلاث، شبقت بها بالليل والانتعاظ ورقصة الجسد الأبدية، بكثرة، ﺑ «يا يُمَّا» بيا العالم كله وأصدقائي البائسين، شبقت بها بحنق، بعنف، بخوف، ببطء، بصبر، بسرعة رهيبة، بالأرض كلها تدور، ماء، بالموت والميلاد والبعث والضياء، باللبن، بثدييها المشهيين الشهيين، بحق الماء الذي أودعته فخذيها، بحق اللذة التي وهبتها إياها، بحق الصرخة البائسة، شبقت بها بحق اللبن المسمون الذي شربت، بحق أن أنقذتني، بحق أَكَلَة البشر، بحق كل شيء عزيز وكل شيء تافه، شبقت بها، والليل والطين والنهر والنساء والصديقات الجميلات الرائعات النائمات الآن الحالمات، الميتات، شبقت بها ورغبت فيها بشكل نهائي وسأموت في الحال إذا لم أنم معها أو سأندم حياتي كلها أو سأكسر عنقي أو سأقتلها، شبقت، رغبت، كنت منتعظًا بألم خرافي، أنا أريدها والآن.
ففي المرة الأولى حدثت الأشياء دون رغبة مني ودون حتى توقع؛ بل أتستطيع أن أقول دون لذة فعلية من جانبي، ولو أنها أمتعتني بصرختها تلك، إلا أنني لم أرَ حتى وجهها، ومعروف أن الوجه نصف اللذة، إذًا كنت مدفوعًا، أما الآن أحتاجها بإرادتي أنا وبرغبتي أنا وبشهوتي أنا وبشبقي الكوني اللانهائي … أنا، أنا أريدها امرأة، أريدها بلا مساومة الآن وسأنام معها.
كانت تمانع بإصرار تام واقتناع لا حدود له، وهي تمسك بيديَّ بعيدًا عن جسدها وكأنها ما صرخت شبقًا من فعلي قبل ساعة لا أكثر، وكأنها لا تعرفني من قبل؛ بل وكأنها ملاك وأنا إبليس بعينه، كأنها ليست امرأة ولستُ رجلًا، وكأنها …
– لا عشان تيجي تاني، لو عايزني.
– مش حا أجي تاني إطلاقًا.
ومشيتُ؛ بل هرولتُ قاصدًا الطريق التي وصفتها لي، والتي كما قالت ستقودني إلى قرية صغيرة آمنة، ويمكنني أن أبيت في بيت من بيوتها، وعندما تشرق أستطيع أن أتصيد اللواري الذاهبة للقضارف، فهي تسلك طريقًا من القرية على بُعد ميل أو ميل ونصف الميل.
كنت غاضبًا غضبًا حقيقيًّا، وشبِقًا شبَقًا حقيقيًّا، وفوق كل ذلك لا مباليًا بشيء، وعندما بعدت منها مسيرة دقيقتين أو ثلاث سمعت صوتها تصرخ قائلة: ما تزعل مني سامع، ما تزعل مني، أنا برضو عايزاك، ولكن …
قلت بصوتٍ عالٍ وقحٍ شاتمًا إياها: يا لبوة يا قذرة، تفو.
لم ترد، ولكني وأنا أسمع نُباح أول كلب من القرية، سمعت صوتها يأتي من بعيد … من عمق سحيق من الظلام مناديًا في وَهن، أنا برضو عايزاك ولكن عشان نتلاقى تاني.
وقفت أنظر نحوها … لم أر شيئًا، كان الظلام دامسًا، حملقت في الظلام، فجأة برق ضوء بطارية واهن من بعيد … بعيد جدًّا، إنها هي بالتأكيد، كانت تضيء وتطفئ، هي تريد أن تقول شيئًا أو تريدني أن أعود إليها، لقد تفهمتْ وجهة نظري، أو ربما أنها تودعني، لكني لم أفكر في الرجوع إليها على الأقل الآن، لقد كانت كريمة معي، كانت وقحة وعنيفة، إنها بنت قوية أقوى منى، لأول مرة تهزمني امرأة، أول مرة في حياتي أرغب امرأة بهذه القوة وهي معي، ولا أستطيع أن أنال منها … مستحيل … مستحيل، ربما قد تعجلتُ الانسحاب، كان عليَّ أن أحاورها أكثر عليَّ أن أرجوها، عليَّ أن أداعبها فالمداعبة تلين النساء، وتفقدهن السيطرة على أنفسهن، عليَّ أن أكون طويل النَّفَس، كنت أحمق وقصير النَّفَس ومغرورًا وأنانيًّا، ولم أُتح لنفسي تفهُّم وجهة نظرها، فَكَّرْتُ في نفسي وفي حاجتي الآنية، ولا أدري هل هي بريئة أم أنها مغرورة أيضًا، ولكنها كانت كريمة معي، كانت أُمًّا فعلية، لا، رحمًا عميقًا دافئًا، كنتُ سأمتدحها أكثر لولا أن هرتني كلاب شرسة وحاصرتني حصارًا تامًّا وكشفتني وجهرت عينيَّ بطاريات كثيرة، وصياح: مُنو، مُنو، وكدتُ أقول: ضيف، وكدت أقول: ابن الحاج عندلة، ولكني آثرت الصمت، الصمت التام.