العاشق
أستاذي العزيز جلال الجميل
أولًا اسمح لي أن أبدأ خطابي هذا بقولٍ تعلم أنه مأثور عندي: «قال سيدنا معاوية لابنه يزيد: يا بني مَن حاول خداعك فانخدعت له، فقد خدعته.» أستاذي، لقد انشغلت كثيرًا عنك ولكن تعذرني دائمًا لعلمك بمشاغل الجندية وغلبتها الكثيرة، ولكني سأواصل ما بدأته في رسائلي السابقة واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. فأنت فوق كل ذلك أستاذي، ولكني أرفض بشدة؛ بل أقولها لك صراحة: إنني لا أتسامح في أن تنظر إلى تَرْكِي للمدرسة وانخراطي في صفوف الكلية الحربية كمرحلة جديدة في تطور شبق القتل عندي.
وكما عبَّرت عن ذلك في رسالتك الأخيرة بالقول: «حيث تُتاح لك بشكل منظم قتل شخص آدمي بدمه وبلحمه، بدلًا من قتل الكلاب والقطط والأشجار، والتي كنت تسلخها من قشرتها وتدعها تموت تدريجيًّا في ألم تستمتع به دائمًا.» هذا يا أستاذي يُجانب الحقيقة، بل هو محضُ افتراء، فدخولي للكلية الحربية كان دافعُهُ وطنيًّا من الدرجة الأُولى فأنت تذكر — بل شرحت لنا ذلك عدة مرات في الفصل — حوادث ديسمبر ١٩٥٩م، والذي أسمته الصحافة بديسمبر المشئوم — كما قلت لنا بفمك — حيث أحاط الأعداء بالبلاد، من أمريكيين وإسرائيليين من جانب وما يدعمان به المعارضة الليبية بقيادة الخائن معاوية الدكين، وكوبيين وسوفييت من جانب آخر. وهما كما يعرف الجميع يقفان بكل وقاحة مع الحزب البائد أو ما يسمى بحزب العمال بقيادة ذلك الكافر أبو روف سليمان.
ولا أحد ينسى ما تُقدمه العراق وسوريا والقاهرة لليسار ماديًّا ومعنويًّا واستخباراتيًّا، وتذكر كيف انحاز الشارع كله — بما فيه أنت — في لحظة واحدة، لحظة صدق وطنية غالية إلى الحكومة الوطنية متمثلة في شخص الرئيس، مؤيدة له كحاكم أَوْحد للبلاد وقائد نهائي أبدي للجماهير. ولستُ وحدي مَن ترك المدرسة وانضم للجيش، آلاف مؤلفة من الشباب والعمال وكبار الموظفين وأساتذة الجامعات المنعمين تركوا مكاتبهم المكيفة والوجبات الساخنة واتجهوا إلى جبهات القتال في الشرق والغرب والجنوب والشمال، حيث كانت البلاد في حالة حرب مع الكثير من دول الجوار وكثير من المتمردين العملاء المحليين، إذا كان هذا هو الحال مع المواطنين — بالتأكيد كانت هناك قلةٌ ضئيلةٌ تُمثل طابورًا خامسًا، فئة خائنة أتذكر — كيف تتهمني بشبق القتل لكوني وقفت مع الحق؟!
حسنًا كما كتبت لك سابقًا، الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وسأُبرِّر لك كل الأشياء من وجهة نظري أنا أيضًا وسوف لن تظلمني. أول شخص قتلته، ولو أن كلمة قتلته بما فيها من قسوة لا تعبر عما فعلت به بالضبط، إلا أن قاموسي اللغوي — عكسك تمامًا — ليس به كلمات أُخرى أكثر تعبيرًا، المهم أنا متأكد بعدما تقرأ خطابي هذا ستجد كلمة أبلغ وأدق؛ كان أسيرًا هزيلًا، في الواقع لم نهتم باسمه فليس للأسرى أسماء، قبض عليه عساكري بعد معركة حامية الوطيس، خرجنا منها منهزمين، وبينما كنا ننسحب فارين — وأنا أكتب بالصراحة التي علمتني إياها، أي: أكتب الأشياء كما هي — إذا بنا نعثر على هذا الأسير مختبئًا في خندق صغير وقد فوجئ بنا، رفع يديه مستسلمًا مستأمنًا على حياته، طبعًا مقابل التخلي عن حريته.
فأمرت بتقييد يديه وحراسته وأخذه معنا أسيرًا، ولكن كنا مرهقين ومنهكين من الجري فوق الصخور والأعشاب الشوكية، وصندوق الذخيرة الأخير والوحيد يهدُّ أكتافَ العساكر ويتعبهم، فكر رقيب عجوز — دائمًا ما أنسى اسمه — بأن نفك وثاق الأسير ونحمله صندوق الذخيرة ونتركه يمشي أمامنا، هكذا كان سلفه يفعلون بالأسرى في الحروب، وكان دائمًا يقول: الأسرى ديل ما ينفعوا لشيء غير استعمالهم كحمير.
كانت فكرة صائبة وموضوعية أثنى عليها الجميع، وأنا لست إلا واحدًا من الكتيبة، فربطنا صندوق الذخيرة على ظهره بحبل يمر تحت إبطيه، ولو أن الأسير كان هزيلًا إلا أن بعظمه قوة بغل، ربما وهبها الخوف له، الخوف من الموت؛ لأنه إذا فشل في حمل الصندوق يعلم تمام العلم أنه ميت لا محالة، فإذا لم يصلح لشيء فمن الأحسن (يتفسح).
في الحقيقة كان المشي على الأشواك وبقايا الشجيرات والأعشاب الكثيفة متعبًا عندما أُجبرنا عدة مرات على خوض برك الطين ومرة أُخرى أُجبرنا على طلوع جبل صغير، وكان من حقه أن يتعب ضعف؛ بل أضعاف تعبنا نحن، طلب أن نسمح له بأخذ بعض الراحة؛ لأن الحبل الذي أدمى كتفه وإبطيه أصبح لا يطاق وقال: الحبل قاعد يضبحني ضبح.
فانتهرته بلهجة عسكرية آمرة أن يَجِدَّ في السير: وإلا.
كان يمشي كالسكران، يشوط الحجارة ببوته ويخوض الوحل يقع، يرفعه العساكر على قدميه، يقع، يرفعونه، نهدده، يقع ويقوم مثل السكران أخيرًا تَكَوَّم تحت شجرة مانجو كبيرة وأخذ يشخر من التعب مثل الثور المذبوح، العرق يملأ ملابسه كلها أما وجهه كأنه جمام، ولكن الغريبة فمه جاف وأبيض، كان شكله مزريًا وقبيحًا وبدأ يؤثر على نفسيات العساكر، فقلت له: قوم وَلَّا نملاك نار!
وشلته جندي في بطنه لحكمة كان يعرفها العساكر بأن الشلوت في البطن مفيد للرأس القوي.
ضربة عسكري همام آخر على وجهه لحكمة أُخرى لا أعرفها أنا، وصرخ واحد في أُذنيه لحكمة عادة لا يفصح عنها ضباط الصف، وعندما تكلم قال: الموت أحسن، أحسن الموت، أنتم بشر ولَّا حيوانات!
وهنا لا بدَّ أن أستخدم سلطتي العسكرية وإلا تعطلنا عن الانسحاب، وربما يلحق بنا العدو، فأمرت بالعد من واحد إلى عشرة كفرصة أخيرة له في أن ينهض ويشيل صندوق الذخيرة وينسحب معنا إلى أقرب نقطة ارتكاز، وإلا أمطرته بالرصاص.
وأخذ واحد من الضباط المشهود لهم بالأمانة والصدق يباشر مسألة العد، بينما جلس البقية يستطلعون وهم يشاهدون الموقف عن كثب وأعرف أنهم خائفون، وكل واحد منهم في سره يحمد الله أنه لم يكن في محل الأسير، والذي أصبحت حياته الآن بين رقم ما وعشرة، أما هو فبدا وكأنه ذهب في غيبوبة عميقة ودائرة من النعاس يصعب الانفكاك عنه، مستهينا بالتهديد.
– ثمانية، تسعة، عشرة.
فصرخت فيه منفعلًا: يا وسخ، خذ.
طاخ، في منتصف رأسه تمامًا، إطلاق الرصاص في منتصف الرأس أصبح سمة مميزة لأسلوبي في الإعدام الشرعي. نعم، العبارة المناسبة أو البديلة القتل هي (الإعدام الشرعي)، وجدتها، لقد كنتَ دائمًا تثني على أسلوبي الأدبي في الإنشاء، ولكن الجندية لم تترك شيئًا في الرأس، حسنًا؛ لدهشتي ودهشة جميع العساكر وربما لدهشته هو نفسه أن نهض ومشى سبع خطوات عسكرية سريعة ومقنعة لحد بعيد، ثم وقف للحظة طويلة وممطوطة وقفة مرعبة وصامتة، صمت حقيقي، ثم بدا وكأنه بصدد أن يلقي تحية عسكرية للواء عظيم غير مرئي قبل أن يسقط فجأة، سقطة عسكرية بارعة على وجهه ويموت، منهيًا بذلك عرضًا جنائزيًّا جميلًا.
انفجر الجميع بالضحك في لحظة واحدة، هي اللحظة ذاتها — اسمح لي أن أكتب كل شيء — التي تبلل فيها سروالي بسائل حار خرج في لذة مجنونة ورجفة لا توصف، أعترف أنه موت ممتع وبهيج أيقظ في نفسي لذة قديمة منسية، ولكنها ليست كشهية سلخ لحاء الأشجار ولا صب الماء الحار على النمل أو قتل القطط؛ حتى لا يلتبس عليك الأمر.
أستاذي العزيز جلال
في الواقع لم أُحس ولو للحظة عابرة بالندم؛ حتى عندما عبثنا في جيوبه ووجدنا صورًا لأفراد أُسرته وصورة اتفق الجميع على أنها زوجته أو خطيبته أو حبيبته أو حتى داعرةٌ ما، له علاقةٌ حميمة بها، سيدةٌ طويلةٌ لها ضفائر مسدلة على كتفيها، ترتدي فستانًا قصيرًا يُظهر ساقها وردفيها — ما أزال أحتفظ بالصورة، وعندما نلتقي اسألْني أنْ أُريك إياها — واتضح لنا أنه شخص مثلنا له من ينتظره ويحبه وربما هو عائلٌ لأسرة كبيرة.
بالرغم من ذلك كنت أتمنى وبكل صدق أن يحيا مرة أُخرى فأقتله، إذا كان باستطاعته القيامُ بذلك الاستعراض الممتع مرة أُخرى، أن يجعل جنازته تمشي مشيتها العسكرية الفريدة، ما الذي يجعلني أندم على قتله! لقد استخدمت حقًّا مشروعًا تجاهه، فقتلُ الأسير أمرٌ مشروع وخيارٌ جائزٌ لا اختلاف عليه. وهو نفسه اختار الموت بقوله: «الموت أحسن.» ولقد أساءنا واصفًا إيانا بالحيوانات، أيحق له أن يصف الإنسان الذي كَرَّمَه الله بالحيوان؟ وفوق ذلك كله أعطيناه فرصة كافية للتراجع عن إصراره على البقاء تحت شجرة المانجو، وذلك بالعد من واحد إلى عشرة. ذلك زمنٌ كافٍ لشخص يواجه الموت لكي يتخذ قرارًا في صالح بقائه حيًّا!
أستاذي العزيز
أنا حينما أصوغ هذه المبررات أُريد أنْ أؤكد لك شيئًا واحدًا وهو أن قتليَ لهذا الأسير ليس إشباعًا لغريزة حيوانية دنيئة أجدك تتهمني بها من وقت لآخر، إن قتليَ الشرعي له ليس إلا تمرين عادي وطبيعي وربما — بشيء من التحفظ — عاطفيًّا، أضيف أيضًا أنه بعد موته ارتفعت الروح المعنوية للعساكر. وبالرغم مما كانوا يشعرون به من أرق وعطش وجوع، حملوا صندوق الذخيرة على أكتافهم، وكأنه علبة كبريت فارغة وأخذوا ينشدون أجمل المارشات العسكرية، وهم يقفزون على بِرَك الطين، ويمشون على نتوءات الصخر الحادة وبقايا الأشجار الشوكية المتساقطة على الأرض مثلهم مثل الغزلان خفة ورشاقة وحيوية؛ خذ الأمر من وجهة نظر عسكرية وجند منسحبين ليس من وجهة نظر أُستاذ متقاعد يقضي وقته في حياة آمنة داخل منزله، وقَدِّرْ أيهما أفيد؟!
هل كان علينا أن نتركه عبئًا يغرق أنفسنا في طين الإحباط واليأس — وربما وقعنا تحت الأسر — لكسله وعدم مبالاته؟!
ولو أنني بدأت أحس بالغثيان وربما نتيجة المضايقة التي سببها لي السائل — والذي أخذ يخر على ساقي — يغمرني شعور أنه سيلان من الدم، كنت أتحسسه بين الحين والآخر بأناملي آخذًا عينة منه لأتفحصها بنظرة سريعة ثم أمسحها على بنطلون الكاكي — في الحقيقة ما كنت أرى ما بأصبعي — إلا أنه بعد تلك الحادثة نفذتُ إعدامًا شرعيًّا في سيدة وثلاثين رجلًا، وكانوا يموتون بصورة لا تتعدى المضحكة العادية والمتعة الجنسية المعروفة، ما عدا رجل واحد اسمه «تومي كريستو».
في السابع من مايو ١٩٨٥م رقِّيتُ إلى رتبة عميد وتسلمت قيادة جبهة الحرب الشرقية على مشارف مدينة تسني الإستراتيجية يحيط بنا جيش المتمردين من جهة الشمال والأحباش من الجنوب والإرتريون من جهة الشرق، يعني كنا في وضعية ما نسميه بالكماشة. وضع مثل هذا يحتاج إلى رجل حاسم وشجاع ليس لكي لا يسقط المعسكر؛ فإن المعسكر لن يسقط، نحن نعرف إستراتيجية حرب العصابات، إنهم يهدفون إلى تكبيدنا أكبر خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد، فلو أخلينا المعسكر — وهو أكبر معسكر لنا بالشرق — فإنهم لن يستولوا عليه، يجب أن يبقى مصيدة، يجب أن تبقى به آليات ويبقى به عساكر ومؤن كموضوع لشغبهم.
ولكن على قائد الجبهة أن يتخذ إستراتيجية دفاعية هجومية، ذات أقل خسائر ممكنة، ويسميها العسكريون القدامى: «سهر الدجاج ولا نومه»، فإذا هاجمنا العدو ندافع عن أنفسنا، وإذا لم نُهاجم رميناهم بالمدفعية الثقيلة والمقذوفات الصاروخية ونحن في موقعنا تحت دفاعاتنا، أما جواسيسنا ومصححو نيراننا فقريبون من مواقعهم، بالتالي جواسيسهم ومصححو نيرانهم يتسكعون بالقرب منا؛ لذا عندما قبضنا على «تومي كريستو» قرب همدهئييت لم يكن سهلًا أن نصدق ادعاءه بأنه رجل مريض يبحث عن أعشاب السنمكة — كانت بالفعل لا تنبت إلا على منخفض صغير قرب المعسكر — وهذا الرجل أدخلني في تجربة غريبة وغامضة ومؤذية جدًّا، ما زلت أعاني من آثارها إلى اليوم، وما زالت تنط إليَّ وعليَّ كلما شرعت في القيام بتنفيذ عملية شرعية، ولو أنني لا أعتبرها سوى مؤامرة بذيئة قام بها الشيطان ضدي أنا بالذات — وأنت تعرف مكائده — أقل منها إشارة إلهية ليست في صالحي.
بالعكس أنا رجل تقي جدًّا وأعتبر نفسي داعية دينيًّا أُفشي المعرفة الدينية بين مَن أقودهم، ضِفْ إلى ذلك ميولي الإنسانية العميقة — ولقد أبديتَ أنت ذات مرة ملاحظة تشير إلى هذا الأمر — ويدل على ذلك تبرُّعي السخيُّ المتواصل للمنظمة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويدل ذلك إحساسي بالغثيان إثر تنفيذ كل عملية شرعية، كما لو أنني ابتلعت ذبابة كبيرة.
ويدل على ذلك بحثي المستمر عن عقوبة أقل من الموت وبإمكانها إسكات الخصم أو تحييده للأبد، ويدل على ذلك اكتشافي لطريقة سهلة للعملية الشرعية؛ حيث لا يتألم المحكوم عليه كثيرًا؛ لأنها تؤدي إلى الموت الفوري، وهي إطلاق النار في منتصف الرأس بالضبط، وأتمنى من منظمات حقوق الإنسان ومن المشرعين الأمريكيين أن يأخذوا بها كأسلوب أمثل وأكثر إنسانية من غيره في تنفيذ أحكام الإعدام في سجون العالم.
أستاذي جلال
أنا لا أحب أن أتحدث عن نفسي كثيرًا؛ فأنا من أولئك القِلَّة من الرجال الذين لا يجيدون ولا يحبون أن يعرفهم الناس بواسطة ألسنتهم، فلن أخوض في ذلك، دعني أكتب لك عن تلك المؤامرة الشيطانية الغامضة بقيادة من يدعى ﺑ «تومي كريستو».
جاء حرس الدورية برجل فوق الخمسين بقليل، قالوا: إنهم وجدوه يتمشى بالقرب من معسكر همدهئييت، وادعى بأنه مريض … إلخ، وقد تعلمنا من التجربة ألَّا نثق في كل ما يقوله المعتقلون ولا حتى في القليل المنطقي منه، قام عساكر الاستخبارات في التحقيق معه مستخدمين — من أجل التوصل للحقيقة، مع العلم بأنها قد تكون في صالحه — كل ما تعلموه في الدورات التدريبية وما استحدثوه هم بأنفسهم، ولكن ظلَّ الرجل على ادعائه، فاعتُبر جاسوسًا جيد التدريب، فكثير من جواسيس المتمردين يأخذون جرعات عالية ومتقدمة في الخارج، واعتُبر أيضًا من ذوي الرتب العسكرية العالية. وجيء به إليَّ كدليل على اليأس وفقدان الأمل في التوصل إلى معلومة مفيدة منه بالرغم من أنهم خلعوا ثلاثةً من أظافر رجله وثلاثة من أظافر يده اليسرى، وانتزعت كل رموش عينيه حتى بدا شكله مثيرًا للإشفاق والضحك معًا، سألته: أنت جاسوس؟
قال — وهو يرتجف من الإعياء: لا، أنا رجل مواطن عادي، كنت أفتش عن سنمكة عشان أتعالج بها، وناس الحلة كلهم عارفني، حلة ضبابين.
– حلة ضبابين المحتلنها المتمردين؟
– أيوا، ولكن نحنا مواطنين ما عندنا أي علاقة بالمتمردين نحن همُّنا في عيشنا وأولادنا.
– كويس، لو كنت مواطن ما عندك علاقة بالمتمردين ليه ما جيت وانضميت لجيش الحكومة عشان تحرر بلدك منهم؟!
قال — بعد أن بصق في الأرض شيئًا لم أتبينه في حينه، ولكني عرفت فيما بعد أنها إحدى أسنانه: الحربُ يقوم بيها العساكر ونحن المدنيين ما عندنا معرفة في الحرب، نحن للزراعة والحصاد.
انظر يا أستاذي جلال إلى الموضوعية التي اتبعتها في حواري معه، وانظر إلى الخبث الذي يجاوبني به، حقيقة يصعب التعامل مع الجاسوس جيد التدريب؛ لأن له مقدرةً لا تحدها حدود على إثبات براءته. مما أغضبني، فشتمته بأبشع الألفاظ، وكثيرًا ما أشتم الذين بصدد الإعدام حتى إذا ردوا شتائمي أغضبوني وجدت دافعًا فوريًّا لقتلهم، وأكثر ما يؤلم — صراحة يا أستاذي — أن يظل المحكوم عليه باردًا وطيبًا ووديعًا وطائعًا إلى آخر لحظة إطلاق النار عليه، مثل هذا التومبي، أما إذا كان لئيمًا أحمقَ متمردًا فإن قَتْله أَرْيَحُ للنفس وللضمير وأكثرُ رفعًا للروح المعنوية.
فأخذتُه ومعي حرسي الخاص، والذين دائمًا قربي كظلي إلى حفريات خارج المدينة تُستخدم كدفاعات دائمة، استخدمتها أنا للتنفيذ الشرعي، طلبت منه الاعتراف كطلب أخير، ولكنه قال بفم مرتجف مملوء بالبصاق الدامي: أنا مريض جيت أشيل سنمكة وبس.
فعمَّرت مسدسي كإنذار أخير يعرفه العسكر تمامًا ووضعت فوهة المسدس في منتصف رأسه، وعندما أضع فوهة مسدسي على هذا المكان يصعب عليَّ عدم الضغط على زر إطلاق النار؛ لأنني حينها — وهذا سر أبوح إليك به لأول مرة — أُحس كما لو كنت في الثانية الأخيرة قبل الإيراق، والعاشق يعرف كم هي حرجة تلك اللحظة وحاسمة يصعب الرجوع عنها أو تضييعها.
قال: إن لديه أطفالًا صغارًا وثلاث نساء، وإنه العائل الأساسي للأسرة؛ لأن ابنه الأكبر سيتزوج قريبًا ويرحل عن الأسرة، وقال باستطاعته أن يفعل أي شيء أطلبه منه لإثبات براءت. قال كل ذلك — على ما أعتقد — في أقل من ثانية، قلت له ببرود أعصاب: اعترف بأنك جاسوس أو مصحح نيران، ولازم تديني دليل قوي على كلامك، وما عايز منك أكثر من ده.
عندما فقد الأمل قال: إذًا لا تقتلني، أعمني، اقطع يدي أو رجلي، فالموت ما شيء ساهل، الموت ما لعب.
الآن وجدت الكلمة التي بإمكانها إشعال فتيلة الشجار بيني وبينه.
– لعب يا وسخ تتجسسوا وتقول لعب.
وأخذت أركله بمقدمة البوت لكنه ظلَّ باردًا، فقط يحاول أن يعتذر وهو يحك مكان الشلوت، وافتعلت أيضًا من هذه الأخيرة خصامًا جديدًا وانتهرته في غضب.
– أيوه، تتلوى زي الكلب، يا جاسوس يا خائن، خذ.
وفي اللحظة التي تحركت فيها سبابتي للضغط على زرار إطلاق النار وجدت نفسي — وهذا ليس حلمًا ولا وهمًا ولا تخريفًا — وجدت نفسي محمولًا على أسنة رماح حادة توخزني في كل ذرة في جسدي، يحملني أقزام بيض لهم أعين لامعة كالمرآة كبيرة ومؤذية، كانوا يسيرون بي نحو بوابة ضخمة صفراء، وهي في الحقيقة ليست سوى جمرة كبيرة تُستخدم كبوابة للجحيم، وكنت أعرف هذه المعلومات دون أن يقولها لي أحدٌ، كانت مسجلة في ذاكرتي منذ أن ولدتُ.
وعرفت أيضًا أنه سُيرمى بي في الجحيم الآن بعد أن يقرأ ملاك — جاء للتوِّ — كتابًا ضخمًا مكتوبًا عليه بحبر أسودَ — وهو كتاب أسود أيضًا — كان يقرأ لي الأعمال الخيرة التي قمت بها قبل أن أحضر إلى هذا المكان على أسنة الرماح، وعندما فرغ كنت أتوقع قدوم ملاك آخر ليقرأ كتاب سيئاتي، ولكن يبدو أن ذلك لن يحدث، مما أوهمني بأنه لا سيئات لي، ولكن حينما أغلق كتاب الحسنات وخزني في مؤخرتي، ملاك أم شيطان؟ لست أدري، وخزة ما زلتُ أعاني منها إلى اليوم — وسأريك موضع الجرح عندما نلتقي — وهي دليل واضح على أنني لم أتوهم الأشياء، فصرخت بكل ما أوتيت من قوة مما أفزع رجلًا وسيمًا آمنًا محمولًا على فراش أخضر بهي على غيمة صفراء وتحوم فوقه العصافير والفراشات ويتبعه رهط من الحوريات في ذات اللحظة، عدت حيثما كنت سابقًا، أقف خلف الجاسوس، واضعًا فوهة مسدسي في منتصف رأسه وإبهامي يتحرك نحو ضغط زرار إطلاق النار.
فابتسمت، ابتسامة على ما أظن كانت كبيرة جدًّا، وباردة فابتسمت وأنا أحس بوخز الرمح في مؤخرتي ثم ضغطت على زرار إطلاق النار.
قل يا أستاذي: هل كان علي أنْ أحرمه من الجنة وأحرم نفسي!
هذا الخطاب مثَّل الوثيقة الوحيدة التي قُدِّم بواستطها العميد الزين طه للمحكمة الدولية في لاهاي؛ لمحاكمته كمجرم حرب.