امرأة من كمبو كديس
في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنتُ أتسكع في شوارع المدينة — كعادتي منذ أن طُردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين — سمعت صراخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير، وأصوات نسوة تندفع إليَّ مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة. كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك، هادئون كانوا دائمًا رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة، نعم قد يسمع نداء موسى السَّمِح الجزار بين الفينة والأخرى، وقد تتشاجر بائعتان، وقد … لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال! وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حسًّا تشكيكيًّا عميقًا هتف في: إن هنالك شيئًا ما في سوق النوبة.
وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البري تشممت طريقي إلى المكان.
عزيزة — ابنة كلتوم بائعة العرقِي، كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها أخصائية العرقِي — مرَّت أمام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل على كتفها أخاها الصغير منتصرًا، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة، بلعابه اللزج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث. كان أعجف صغيرًا، له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.
أعرفها جيدًا وأعرف أيضًا أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة نهارًا بالسوق، فكان لزامًا على عزيزة أن تحمل منتصرًا الرضيع ثلاث مرات في اليوم إلى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشدَ الحرص على ألا تفوت على ابنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعيد، ويموت؛ لأن منتصرًا كان نزقًا شقيًّا وهبَّاشًا، فما كانت كلتومة ترغب في إبقائه معها في السوق.
صرختُ فيها: يا بت، يا عزيزة.
التفتتْ إليَّ بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدَّتْ في سعيها إلى حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد ثلاث ثوانٍ، رأيت بؤسًا وألمًا مكثفًا متقنطرًا على وجهها الصغير الأملس، بؤسًا لا يمكن إخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسَّمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشرَّدي العالم لَمَا وسعوه. وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة أيضًا غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخًا: يا بنت.
أنا وأصدقائي من أبناء أعيان البلدة ومثقفيها نفضِّل أن نسكر من عَرقِي بلح كلتومة، وفي بيتها الصغير في كمبُو كديس؛ فهي امرأة أمينة صديقة، حيث إنها لا تسرقنا — كما تفعل الحبشيات وكثيرات من بائعات العرقي — آخذة منا ثمن عَرقِي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء، أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة «إنني لا أُطعم أبنائي الحرام».
كما أنها كانت دائمًا حافظةً لأسرارنا وخبائثِ فضائحِنا، «أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيوانًا مثقفًا لا أكثر، فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ على صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي — ضابط المجلس — وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه؛ بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين … إلى آخر مآسي يومي وأسرتي»، فكانت كلثومة — والحق يقال — تسمع باهتمام ولكنها لا تقول شيئًا، وكنا جميعًا نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا، وبالتالي «عزيزة» كانت لنا أختًا صغرى.
– يا بنت … قفي.
أمسكت بكمها القصير، ودون أن تنظر إليَّ قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات «منتصر» الحامضة المتدفقة تباعًا: أمي.
– أمي قبضوا عليها.
– «…»
إذًا فهمت كل شيء وشعرت بأن الدنيا أظلمت فجأة أمام عيني، وأن شعري تحول إلى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي، ولم أستطع أن أقول أو أفعل لها شيئًا سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود، تاركًا إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و«منتصر» مبللًا صدرها بلعابه اللزج الملبِّن يصليها بصرخاته وندائه المتواصل — بلثغته الحلوة الممتعة رغم مأساة الموقف — لأمه «أتوما.»
كثيرًا ما كنت أخجل من نفسي عندما أجدني عاجزًا أمام موقف ما، فإذا حدث ذلك بالأمس لذهبت إلى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي:
– صدر القرار منك؟
– كنت مجبرًا … فأنت تعرف، لا شيء بأيدينا تمامًا.
– ولماذا كلتومة … فهي تعول أطفالًا وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات.
– لم يكن الأمر بشأن كلتومة وحدها.
ولكن حظها، فلا بدَّ — كما تعرف — أن يكون هنالك ضحايا، قالوا: إن الوالي في زيارة جاسوسيَّة في كل مكان، ويجب أن يعرف أن الناس هنا تعمل، تحارب الفساد … إلى آخر الأوهام. كما أن كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش؛ لقد أخبرها «أحمد صالح.»
– ولكنهم وجدوا عندها جالونًا من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح.
– هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم، فهم غالبًا لا يجدون شيئًا عند هؤلاء النسوة.
– وما العمل؟
– كالعادة نخفف الحكم ما أمكن وبدلًا من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يَقُمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائمًا.
– هذا ما كان يحدث إذا وقعت إحدى «زبوناتنا» في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم «جلال الجميل؟!»
– فإن القاضيَ الجديد لا يشرب العرقي ولكن فقط الويسكي «والأنشا»، ويدعي مخافة الله والتقوى! وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.
جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه لا تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص إلى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها «مُشفقة أو شامتة»، إلا أنها كانت تُحاول إخفاءَ وجهها ما أمكن بين ساعديها، وتحاول بقدر المستطاع وبجدية ألا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يُخيل للشرطيين أو القضاة أو الجلاد أو جمهور المتفرجين أنه تَوَجُّع من وقع سوط «العنج» الأسود المشرب بالقطران، والذي يصلي ظهرها مشقًا مبرحًا ممزقًا لحميات عجفاء بائسة.
وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكانًا أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظة: ثمانية وثلاثين إإيه، هوب.
– تسعة وثلاثين إييه، هوب.
– أربعون، إيييه، آآه، تمامًا مولانا … أربعون جلدة.
قال القاضي — وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولًا من خلالها أن يكون تقيًّا عادلًا محبوبًا وحاسمًا في نفس الوقت: هيا قومي، استغفري ربك الله وأعلني توبتك، توبة نصوحة أمام الجميع.
– نظرتْ إليه كلتومة نظرةً فاحصة عميقة — أحسست أنها معتصرة من خلايا كبدها — ثم بصقت على الأرض بصاقًا داميًا مرًّا. وأُقسم أن جميع المتفرجين؛ الأعراب ذوو الجلابيب المسودة من الأوساخ، والتي تفوح منها رائحة وَبر الجمال والحمير، وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم، الشماسة، أبناء الشوارع المتشردين، أصحاب المتاجر؛ أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل أن يحضروا المحاكمة. الكلاب الضالة الحذرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضالة أيضًا.
أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء ناعقة، «المثقفاتية» مثلي والذين ليس بإمكانهم فعل شيء غير التعليق الذكي الصائب المُبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء؛ «الكسرة»، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات، أعضاء المحكمة «المتفلقصين» كمُخصيي القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون «معها أو مع السلطة» الجميع، الجميع بدون فرز «أُقسم أنهم جميعًا أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوفٌ في عمق حلوقهم مر كنقع الحنظل.»
ودون أن تحرك فوهتي عينيها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المُجهَد شطر بيتها — ساعية بخطًى ثابتة سريعة — رغم ما بها من إرهاق، فكان عليها أن تسرع حتى لا تُفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.