حذاء ساخن
عندما انتصف النهار في ساعة الملازم حديث التخرج المستبد، كانت الشاحنة المجروس عند التقاطع الرئيسي، وعلى السائق أن يتجه شرقًا ويسلك الطريق التُّرابية المؤدية إلى الموقع العسكري الحدودي، الذي يبعد مائة ميل عن مدينة كسلا، لا عربة غير هذه المجروس العجوز على الطريق، لن تكون هناك عربة أخرى، فالمنطقة معلنة كمنطقة عمليات حربية، حولها تنتشر أودية من الألغام البشرية، أما القرى المحيطة بها فهي خالية تمامًا من السكان، تسكنها الوطاويط، الحيَّات، الكلاب، القطط المتوحشة والذئاب، حولها الجنود نصف أموات، نصف أحياء، نصف بشر، يعتصمون بجثث آلاتهم الثقيلة، مدافع الهاون، الراجمات وما لا يدري أحد من المميتات.
الشاحنة المجروس تنهق على الشارع الترابي الوعر وهي تقفز على الخيران التي تظهر فجأة أمام السائق، كأنما يدفع بها شيطان ماكر على الطريق، مختلطة سحابة الأغبرة الكثيفة بحَرِّ الشمس الصيفية المُذاب في الهواء، كان الملازم حديث التخرج المستبد يركب يمين السائق، لئيمًا متكبرًا، يرى بينه وبين نفسه، بين فينة وأخرى، أن الله ما خلق هذا الكون إلا ليصبح مسرحًا لعنجهيته، في الحق كان لا يرى في الكون غير فرقته العسكرية ومعسكره الحدودي، إذا اتسعت مخيلته فالعالم هو السودان، أَمَّا بقية الدول فهي دولٌ خائنةٌ وعدوة وحتمًا سيُعينه الله على فتحها، أنا حَرَسُهُ الخاص، أستقل صندوق العربة الضخم المفتوح على السماء مباشرة، لا تحجبه عن الشمس غير الشمس ذاتها. كنت أُشوَى ببطء؛ فلست أكثر من مجند يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية كرهًا، وقد ألحقت بها بينما كنت في سفر إلى الخرطوم، بحثًا عن وظيفة ما أسد بها رمق أفواه تخصني، صادفت إحدى الكشات، ولو أن كثيرًا مما معي من المكشوشين هربوا، إلا أنني استسلمت للأمر الواقع: فلأي واقع بديل أهرب!
الشمس تشويني، أنا مغطًّى بغُبار أحمرَ ناعم ملعون، أحمل على كتفي بندقية ج٣ ثقيلة، محاولًا بقدر الإمكان أن أكون في وضع الاستعداد، وأن أكون منتبهًا، متفحِّصًا الخلاء حولنا، الصحراء قاحلة، ليست بها شجرةٌ واحدةٌ أو حيوانٌ، دعك من إنسان، تبدو الحجارة الصغيرة عليها من بعيد في أحجام الجنادل، هذه الميزة مَكَّنَتْني — وأيضًا السائق والملازم حديث التخرج المستبد — أن نميِّز وجود رجل على بُعد أميال كثيرة، ملابسه البيضاء تجعله كبقعة كبيرة من الضوء بعيدة، بعيدة تصغر كلما قربنا منها، ثم تبيناه: رجل شيخ يحمل إبريقًا وجرابًا صغيرًا وعصًا يتوكأُ عليها، ولأن الضابط حديثَ التخرج المتغطرسَ لديه وهمٌ أن كل من وجد وحيدًا على مسافة من منطقة عسكرية هو جاسوس؛ أوقف الشاحنة المجروس الضخمة: انزل يا حارس، وكن في وضع الاستعداد؛ لأنني سأستجوب هذا الجاسوس، فإذا بدرت منه أية بادرة عدوان أطلق الرصاص في الرأس أو القلب.
وكنت صائدًا ماهرًا (قنَّاصًا)؛ لهذا السبب اختِرْت كحرس لهذا الملازم حديث التخرج المتغطرس.
– حاضر سعاتو.
وكلمة سعاتو هذه تعمل في نفس الملازم حديث التخرج فعل السحر؛ فابتسم.
قال العجوز القويُّ والذي يحمل إبريقًا ومخلاة من جلد الماعز صغيرة على ظهره، يرتدي سروالًا وقميصًا نظيفين، يمشي حافيًا، وجهه نظيف، ولو أنه معروق ويبدو عليه الإرهاق: تشيلوني معاكم لقرية سماورا؟
القرية على بُعد عشرين ميلًا من حيث وجدناه، تأكد الملازم حديث التخريج أن هذا الشيخ لم يزرع ألغامًا، إلا أنه أفتاه قائلًا: دي عربية جيش ولا نِشيل شخصًا مدنيًّا، واحمد الله على أننا لم نقتلك، تأكد لنا أنك لست سوى سابل جائع منبوذ لا معرفة لك بزراعة الألغام وأُمور الحرب، مجرد ملكي ساكت.
كالعادة آخر من ركب هو أنا، تحركت الشاحنة المجروس تاركة الرجل للشمس: جحيم فوقه، جحيم تحته، وسرنا لمسافة مائة مترٍ فقط، توقفت العربة وعندها قفزت على الأرض في وضع الحماية وسألت: توقفت العربة من تلقاء نفسها؟
أجاب السائق.
وقدر ما حاول السائق إشعال المحرك إلا أن محاولاته كلها فشلت، فنطاس الوقود ملآن، البطارية مشحونة، الأسلاك جيدة التوصيل ناقلات الوقود والحركة فاعلة، لا شيء، لا شيء على الإطلاق، وبينما السائق يحاول مرة أُخرى إشعال المحرك إذا بالرجل الشيخ قريب منَّا قائلًا: تشيلوني معاكم؟
– ابعد من هنا، وإلا أمرت العسكري يديك طلقة في صلعتك دي.
ذهب الرجل دون أن يقول شيئًا وتحركت العربة لمسافة مائة متر أُخرى ثم توقفتْ من تلقاء نفسها، وبينما يحاول السائق إشعال المحرك إذا بالشيخ: تشيلوني معاكم؟
فانتهره الملازم حديث التخرج المتغطرس، الذي يظن أنه ما خلق الله العالم إلا ليكون مسرحًا لخيلائه.
– امش يا زول!
ثم خاطبني الملازم حديث التخرج المتغطرس قائلًا: إذا اقترب هذا الرجل منا مرة أخرى أطلق عليه النار.
فاقترحت على الملازم حديث التخرج المتغطرس اقتراحًا دعمه السائق، قائلًا: ليه ما نشيلو معانا ما ح يكلفنا حاجة.
– أنا المسئول وأنا اليشاء! أنتو شنو غير عساكر حاجات لتنفيذ الأوامر.
لا أدري كيف أحسست بأن الشخص هو الذي بقوة خفية كان يوقف العربة ثم يطلقها، وأن له كلمة قوية على الأشياء وأنه يستطيع، وأنه يفعل وأنه يريد، لكن كيف أجعل الملازم حديث التخرج المستبد يفهم، ولو أن السائق قد فهم ويبدو ذلك من تقعُّر عينيه كلما توقفت العربة. سمعت كثيرًا عن الأولياء والصالحين، قرأت طبقات ود ضيف الله، لكن كان ذلك لمجرد قراءة كتاب مهم لرجل جامعي مثلي، يجب أن يعرف الكثير عن السلطنة الزرقاء وبِنيتها الروحية، كنت أفكر: لن أؤمن بهذه الخرافات إلا إذا رأيت معجزة ما بعيني.
ثم تطوَّرت الفكرة في ذهني، لماذا لم أتمكن من معرفة حقيقة هذا الرجل؟ لماذا لم أُقنع الملازم حديث التخرج المتغطرس، إنها فرصة وضاعت، إنه طريقي لكي اعتزل حياة المادة بكل ضغوطها ومآسيها وأعيش نقيًّا شفافًا زاهدًا، متجولًا في الأرض أنشر المعجزات هنا وهناك. إنه يقودني إلى النقاء الإنساني الروحي، الذي هو حلم كل شخص، أن أمتلك المقدرة على التواجُد أينما شئت! أصبح صاحب سلطة على كل شيء حتى على الآلة، ولكن في العودة قد نجده على الطريق، عندها لن أبرحه، إلا بعد أن أعرف كل كبيرة وصغيرة بعد أن أفض أسراره، ولو كلفني ذلك العمر كله.
بينما أنا في هذا إذا بنا نصل قرية سماورا، ذلك بعد مسيرة ساعة كاملة بالشاحنة المجروس، عبر الطريق الترابية الوعرة، قرية سماورا كغيرها من القرى الحدودية، خالية من السكان مسكونة بالذئاب والنسور والصبرَات، كثير من الكلاب والقطط التي توحشت، هناك شخصٌ واحدٌ فقط يجلس تحت شجرة على جانب الطريق، عندما توقفت العربة قربه وجدناه هو ذاته الشيخ ذو الإبريق صاحب مخلاة الجلد، الحافي، ذو الوجه النظيف العرق، عندما شاهده الملازم حديث التخرج المتغطرس جحظت عيناه، جفَّ ريقه، حاول أن يهبط إليه، ربما ليقبله في رجليه، ليرجوه أن يسامحه، دمعت عيناه، لكن فجأة أمسك به السائق في كتفه، همس في أذنه، فتصبب الملازم حديث التخرج المتغطرس عرقًا غزيرًا، أدار السائق المحرك بسرعة رهيبة.
كنت أرقب كل شيء بحذر ولكني لم أحاول أن أُفسر ما حدث ولم تكن لديَّ الرغبة في ذلك وانطلقت المجروس — الشاحنة العسكرية العملاقة — مخلِّفة وراءها غابةً من الغبار وأخذ الغبار يهبط على رأسي وأنا جالسٌ على الأرض متخفيًا خلف قطية صغيرة حتى لا يراني السائق أو الملازم حديث التخرج المتغطرس بالمرآة، وعندما تأكدت تمامًا من أنه ليس بالإمكان رؤيتي خرجت من خلف القطية وذهبت نحو الشجرة التي كان الشيخ يجلس تحتها، ولم أجد أي أثر يدل عليه، نعم كانت هناك بقايا ماء على الأرض حيث يبدو أنه توضأ، ولكن هي لحظات فقط، ليست أكثر من دقيقة واحدة؛ بل ما يزال جعير المجروس مسموعًا وغباره يغرق المكان. وأخذت أصرخ وأنادي بأعلى صوت: أيها الشيخ … أيها الشيخ … أيها الشيخ … ولكن ليس مِن مجيب.
أخذت أبحث عنه داخل المنازل المهجورة فلم أجد سوى الكلاب والتي ذعرت لرؤيتي، حيث إنها لم تر إنسانًا حيًّا منذ سنوات مضت، كانت الكلاب المتوحشة تنبح خلفي وتحاول عضي وإعاقتي، كانت القطط تخرج هاربة من القطاطي المهجورة فزعة، خرج ضَبْعٌ كبير من إحدى الحجرات المهجورة وهرب، فهربتْ خلفه الكلاب حيث تركتني بحثًا عن فريسة سوف تصبح أكثر إشباعًا، كانت القرية خلاء، في الحق أصبت بهلع شديد وأنا رجل أعزل؛ حيث تركت البندقية على صندوق العربة حتى لا يَجِدُّوا في البحث عني من أجل البندقية هكذا تعلمنا: البندقية أهمُّ من الجندي — اترك بندقيتنا عندنا واذهب إلى الجحيم وحدك.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة مساء وأنا ما أزال أُنادي وأبحث عن الشيخ طالبًا منه — بصراخ حادٍّ — أن يأتي إليَّ؛ لأنني أؤمن به وأُريد أن أصبح له تلميذًا وخادمًا وحواريًّا، إنني سوف أُنفق ما تَبَقَّى لي من عمر في خدمته، لقد وجدت الآن طريق الله ولن أتخلى عنها أبدًا، جلست تحت الشجرة ذاتها حيث كان يجلس، كنت تعبًا مرهقًا وخائفًا أيضًا، الشمس الآن تذهب نحو المغيب وبالقرية لا شيء سوي الكلاب المتوحشة والذئاب وربما الأشباح أيضًا، نعم أنا شخص مادي ولا أومن بهذه الأشباح، ولكن الآن آمنت، هناك أُمور أعرفها بالباراسيكلوجي والميتافيزك، نعم، هل لبِنية عقلي المادية الصرفة أن تؤمن بأن هناك نفرًا من بيننا يمكنهم فعل أشياء خارقة للطبيعة؟
أناس يتواجدون حيثما شاءوا وكيفما أرادوا؟ أُناس لديهم سلطانٌ على العلم نفسه، العلم الصرف، يمنعون متحركًا من الدوران؟ يمنعون بندقيةً من أنْ تطلق النار؟ يختصرون الأميال في خطوة، الآن لا شيء فوق مقدرة هذا الإنسان! أعرف أنه لا عربة سوف تأتي بهذا الطريق، وأنني لا محالة مأكول، إما أن تتعشى بي الكلاب أو الذئاب وربما القطط المتوحشة والتي رأيتها بأم عيني تأكل بعضها، قرب الشجرة قطية قديمة، دُرت حولها، لها بابٌ قديم من الزنك، قمت بدفع الباب ببطء، داخل الحجرة عنقريب كبير يملأ معظم المكان، به هيكلان عظميان لطفلين، أغلقت الباب بسرعة وهربت، جريت بأسرع ما أستطيع على الشارع الترابي الوعر، كنت لا أعرف إلى أين أنا ذاهبٌ، المهم كنت أحسُّ بالطمأنينة كلما ابتعدت عن هذا المكان المرعب، والشمس تذهب بعيدًا نحو الغروب: يا أيها الشيخ، أين أنت؟
كان فمُه يرتجف وعيناه تزدادان اتساعًا كلما بعُدت الشمس عنه ولا أحد، كانت القرية تمضي بعيدًا عني، بعيدًا، بعيدًا، إلى أن اختفت أخيرًا، توقفتُ، قرأت المكان من حولي، الشمس كانت خلف ظهري، إذًا أسير شرقًا، فإذا واصلت السير ولم يعقني عائق ولم يتفجر تحت رجلي لغم فإنني سأدخل الحدود الإرترية بعد مسيرة عشر ساعات، ولكن لماذا لم أنتبه بأن هنالك ألغامًا مزروعة بين هنا وهناك ولا أحد يعرف كيف يتجنبها، الآن أحسست بالرعب الحقيقي؛ لأنني إذا خرجت حيًّا من هذا الحقل سأعتبر نفسي وليًّا ورجلًا صالحًا يأتي معجزات ذلك الشيخ الغريب.
وهنا أخذ العرق يتصبب على وجهي وبين فخذي وتحت إبطي، وأخذت أمشي كالحرباء واضعًا رجلًا على الأرض في خفة وبعد تردد أسحبها، إنه سوء تصرف من جانبي، جعلني أترك الشاحنة المجروس تمضي بدوني، لماذا لم أتريث؟ نعم، إذا تركت هذا جانبًا، لماذا عندما هربت من الهيكلين العظميين لم أتخذ طريق المجروس، وهي الطريق الوحيدة الخالية من الألغام، والغريبُ في الأمر أنني كنت حارسًا للمهندسين العسكريين الذين قاموا بزراعة الألغام حول هذه القرية ألف لغمٍ شخصيٍّ مغطاة بالبلاستيك حتى لا تتمكن أجهزة العدو النازعة للألغام اصطيادها، ولكن لا ذنب لي، فقد كنت مجرد منفذ للأوامر وأنا في داخلي وصميمي ضد هذه الحرب وقتل الإنسان؛ لأنه لا خصومة لي مع أحد ولا معرفة لي بالذي أُحاربه، فكيف أقتله؟
كان يمشي كالحرباء، تمامًا كالحرباء … وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، وحيد خائف ومتردد، قد ينقذه فجأة في الوقت المناسب، نعم، هكذا في القصص والأحاجي وكتاب الطبقات، فإن الأولياء يتدخلون لإنقاذ مُريديهم في اللحظات الحاسمة، وأنا أثق في هذا الرجل، إنه رجلٌ صالح … إنه رجلٌ صالح، إن لم يكن نبيَّ الله الخضر ذاته! والذي يتجول في العالم منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ناشرًا الحكمة والمعرفة بين الناس، من أدراك؟!
ليته عرف من جدَّتِه عنه الكثير، لكن وعلى حقيقة القرية المهجورة والقطاطي المسكونة بالهياكل العظمية والقطط التي تأكل بعضها، فكر في الشيخ نفسه، قد يكون شبحًا من الأشباح من أدراك؟!
ما كان يؤمن بالبعاتي واعتبره ظاهرة ورثها المجتمع السوداني أو المخيلة السودانية من النوبة أجدادهم قبل ستمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث كانوا يؤمنون بأن لكل إنسان في هذا العالم كا وبا وهذا الباء هو صنو الإنسان، وعندما يموت الأخير يكون الصلة بينه وبين الآخرين في الحياة الدنيا وأنه نسخة عنه، والآن أنت محاصر، الموت تحت أقدامك، ألغام الموت حولك، ذئاب وكلاب وقطط متوحشة، الموت من حيث لا تدري أشباح، ورغم كل هذا كنت متفائلًا بأنني لن أموت، قد تعود الشاحنة المجروس للبحث عني إذا افتقدني أحدهم، ولكن يا ترى بماذا همس السائق في أذن الملازم! لا، لا، إنه رجل طيب وصالح، أنا أثق به أنه ليس ﺑ «كا» ولا ﺑ «رجل صالح» وسينقذني! بل سيتخذني حواريًّا له.
أيها الشيخ، أيها الشيخ!
وكمن يؤذِّن في مالطا لا سميع ولا مجيب، وأخذ يمشي كما كان يمشي كالحرباء، وتمنيت أن يكون هذا الذي أنا فيه ليس سوى كابوس لا أكثر، سأستيقظ وأجد نفسي في أمان الله وحفظه على سرير في المعسكر وحولي جند يدخنون والحرس يصيح بين حين وآخر: ثابت!
الحياة مدرسةٌ ولكن لا يدخلها إلا الحمقى، مثل هذا الدرس الذي أتعلمه أنا ولا أحد غيري، يستحقه الملازم حديث التخرج المتغطرس.
تذكرتُ في هذا الحين بالذات إدجار آلان بو، القلب الذي أخبر السر، القط الأسود، برميل خمر أمنتنلادو، قناع الموت الأحمر، الحقيقة في قصة اغتيال فلادمير، سقوط بيت، ماذا … جيفا في ديو مور جبو، كنت أمشي وإذا حدث وسلمت وقصصت لشخص ما حكايتي هذه سيظنها ضربًا من الخيال، كنت أمشي كالحرباء وغابت الشمس، عجبت لماذا لم يصبني لغم حتى الآن، نعم، إنه لا مجال لذلك؛ لأنه لا توجد ألغام بالأرض طالما توجد الذئاب والحمر السائبة حول المكان.
وبمجرد أن خطرت هذه الفكرة في ذهنه انطلق جاريًا، يجب عليَّ أن لا أؤكل سهلًا، يجب ألا أستسلم للموت، ومرتْ بذهنه معاركُ خاضها؛ جثثٌ تموت بسهولة، يقف الشخص هناك ما أن تطلق عليه رصاصة تصيبه في صدره أو رأسه حتى يستسلم للموت ببرود، هكذا مات أصدقاؤه أيضًا، مات جنودٌ كانوا برفقته في الخندق، مات جنود أعداء، هكذا نساء سقطن وأطفال موتى أمام عينه عندما قذف صديق له جرانيت في مخبأ بين صخرتين اتخذته بعض الأسر ملجأً لها، ولكن لن يموت هكذا رخيصًا وباردًا، وهكذا الرجل التقي العنيد، لا يريد أن يستجيب لندائه ولترحيبه، رجل قاس، لا يلين له قلب، لا يرحم ولا يهزه رجاء، لا شفقة! ليتني! ولكن هل تنفع ليت؟!
وعرف الآن ما لم يهمس به السائق في أذنه وأنه تورط، والأسوأ إحساسه بأنه خُدع، والإحساس بالخديعة كالاستحمام بماء آسن، قرأ في سره: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا، ولأنه كفر به؛ عرفه أكثر وأوضح، عندما كفر به تفتحت بصيرة كان يعميها الإيمان الكامل المطلق: الكفر مفتاح الفرج.
عند الحادية عشرة ليلًا بالضبط — هكذا كانت تُشير ساعتُهُ — سمع حرس المعسكر يصرخ: ثابت!
وعندما ثبت قدمه على الأرض أَحَسَّ بشيء يرفعها، لم يسمع دويًّا كالذي سمعه كل المعسكر واستيقظ عليه الجنود النائمون وانبطح الحرس على أثره على الأرض وأخذ يطلق النار بطريقة عشوائية هستيرية، لقد كان الحارس مرهق الأعصاب نتيجة للسهر المتواصل وعدم أخذ قسط كافٍ من الراحة، لم يسمع دويًّا ولكنه رأى ضوءًا قويًّا كثيفًا يعمُّ المكان كله، ثم لم يعد يشعر بشيء سوى ظلام قاتم.