أسنان لا تُغَنِّي
تعادلنا ثلاث مرات على طاولة التنس، هي سريعة الحركة، لها طاقة لا تحدُّ، ماهرة كالشيطان، ذات حِرفية مدهشة في تحويل كل كرات الرد إلى كرات زوايا بعيدة، يصعب التعامل معها، وعندما انتهت اللعبة، مسحتِ العرق عن وجهها ببطن كفها، أطلقت شعرها الأشقر على ظهرها وكتفيها، ثم استدارت استدارة سريعة لتقف قربي، مادة إليَّ كفًّا بيضاء معروقة، تبدو الدماء الساخنة القرمزية منفعلة تحت بشرتها الناعمة الندية بفعل العرق.
استطاعت أن تتعادل معي!
قلتُ لها وأنا أقبض على كفها البيضاء الناعمة، بكفٍّ سوداء قوية بها جفاف متوارث من جدود عديدين: طالما كنت ألعب مع الشيطان، فكيف أكسب؟!
ضحكتْ إلى أن احمر وجهها الشاحب، ثم هزَّت رأسها مثل مُهرة تحتفي بجموح يخصها استشعرته فجأة، قالت: دعنا نتمشى قليلًا على الجسر.
عندما خرجتُ من حجرة الملابس رأيتُها تقف على الجانب الآخر من الطريق، تلبس كالعادة بنطلون الجينز المحزَّق اللاصق على فخذيها وكأنه جزء منها، قالت إنها تستمتع برياضة المشي وخاصة عبر الجسر، ثم سردت لي تاريخ بُناة الجسر، بينما كنا نهرول عبره. ثم فجأة سألتني: يقولون إنك من السودان!
– نعم.
– يعني ذلك أنك عربي.
– في الحقيقة أنا سوداني، ومسألة عربي وغير عربي عندنا في السودان مسألة شائكة وتحتاج إلى تنظير لا أُطيقه. قالت — في إلحاح: لا ينتمي السودان للجامعة العربية؟!
قلت متضايقًا: نعم.
– وهو أيضًا ضمن الدول الإسلامية.
أنا عادة لا أحب الخوض في مثل هذا الحوار مع غير السودانيين؛ لأن ثقافاتهم ضحلة فيما يخص السودان ومرجعياتهم — إن وُجدت — غير دقيقة، ولكن يبدو أن المرأة تعرف شيئًا. قلت: السودان دولة عربية إسلامية كما هو معلن، ولم يُستشر أحدٌ في ذلك، المهم، المواطنون، فيهم العربي وفيهم المسلم، وفيهم غير العربي وغير المسلم.
– ماذا عن نفسك أنت؟
– أنا، لست عربيًّا، ولكنني لست شيئًا آخر غير عربي، ولست مسلمًا، ولكنني لست شيئًا آخر غير مسلم، والأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير، فدائمًا ما أكتفي بأنني سوداني وحسب.
ضحكتْ، ربتت على كتفي، أشارتْ نحو الأفق، أبراج وطائرات، قطارات، سيارات، دخان عوادم، ضباب، نجوم، بشر، ألعاب نارية، وطاويط، كباري طائرة، قالت: نحن هنا أيضًا أمريكيون فقط.
– هل أنتِ مغنية؟
– الآن لا، ولكنني كنت مغنية، كنت أشهر مغنية في هذا النادي؛ بل كنت معروفة في أمريكا كلها، وغنيت خارج أمريكا أيضًا.
– لماذا تركت الغناء؟
بدت متأثرة وهي تقول: حدث لي حادث وبعده أصبح من المستحيل أن أغني.
حملقت في وجهها، في هيئتها، علَّني أجد أثرًا لهذا الحادث، لكن بدتْ كاملة متكاملة، لم تبدُ على وجهها أية آثار لعملية جراحية، المهم، بيني وبين نفسي عرفت أن الحادث كان عاطفيًّا، نفسيًّا أو جنائيًّا، من الأحسن ألا أُثير مثل هذه الشجون، وقررتُ تجنب الخوض في الموضوع، كما أن اهتمامي بالغناء وخاصة غير السوداني ضعيف، قالت: أنا أجيد صنع القهوة.
فوافقتُ، ولو أنني ما كنت أظن أنَّ المشوار سينتهي بشقتها، لكن لا بأس، هؤلاء الناس لا يزعجون أنفسهم في محاولة التفرقة ما بين حياتهم الخاصة والعامة، اتصلتُ بإحدى شركات التاكسي، في سبع دقائق كنا نمر بسرعةِ مائتي ميلٍ في الساعة عبر شوارع نيويورك، بعد عشرين دقيقة أخرى كنا في فيلتها الرائعة، يا إلهي! المكان لا يوصف، لاحظتْ أنني مندهش، قالت: بيت الأمريكي هو جنته.
– أنتِ دائمًا تتحدثين معي كأمريكية.
– أنا لا أقصد شيئًا سوى العموميات، فأنا أحب أمريكا، لكنني لا أفضلها على كل بلدان العالم، الرجاء أن تفهم ذلك.
– ماذا تقصدين بكلمة عموميات؟
– إنها لا تعني شيئًا غير عموميات فحسب، ثم ابتسمت.
وقبل أن أقول شيئًا، أخذت تمشط شعري بأظافرها الشاحبة غير المطلية، شعر رأسي الخشن المنكمش على نفسه في دوائر شبيهة بمنظومة من السلك، كنت في حاجة ماسة لمن يداعب أسلاكي تلك والعبث بها، تمامًا كما تفعل داني الآن.
– شعرك مدهش، ثم أضافت بسرعة: هل أنت متزوج؟
– نعم.
– أين زوجتك؟
– في السودان.
– هل لديك أطفال؟
– طفلة واحدة اسمها سارة.
– كم عمرها الآن؟
في الحقيقة ما كنت أعرف كم عمرها الآن، عندما جئت إلى أمريكا تركتها تمشي خطواتها الأولى، لا؛ بل كانت تجري وتلعب؛ لأنني أذكر أنها جرت خلفي إلى الباب، نعم، كانت تتكلم، سارة الآن قد تقارب الثامنة عشر، أهذا صحيح؟ أين هما الآن؛ بل أين هم: أمي، سارة، أمل، لقد قفلت هذه النافذة منذ زمن بعيد، ربما تزوجتْ أمل، ربما لا تزال في عصمتي، الأمر برمته لا يعني لديَّ الكثير، فعندما غادرتُ السودان غادرتُ كل شيء، ويجب أن أعي حقيقة ذلك، قلت لها: داني؟
– نعم.
– أنا لا أحب فتح هذه السيرة.
– حسنًا، كل إنسان في هذه الحياة لديه غرفة مظلمة مخيفة ممتلئة بالثعابين، لا يحب الولوج إليها ولا يرغب أن يدخلها أحد، أو يطرق بابها، مجرد طارق.
كنت دائمًا ما أستطيع تمييز أصول الأمريكيات، الإسبانية، الإنجليزية، الآسيوية، الفرنسية، الإيطالية، العربية، الكاريبية أو الزنجية، باللون أو الاسم أو اللكنة أو حتى مجرد مكان الإقامة، داني من أصل أيرلندي، وهي جميلة وبدينة بعض الشيء، كانت تتجلى في حجرة نومها كربة صغيرة من البلور، مدللة، عندما عدتُ من دورة المياه وجدتها هنالك، جلستُ قربها، قبلتها، قالت لي وهي تدلك فروة رأسي: أريد أن أستريح.
– وماذا يمنع؟
قالت وهي لا تزال تدلك فروة رأسي، ويبدو أنها أُثيرت بصورة أو بأُخرى: حرِّكْ تلك المنضدة قريبًا من هنا.
جذبتُ المنضدة ذات العجلات قريبًا، كانت الإضاءة خافته ولكن الرؤية واضحة وجيدة، على المنضدة قفازان ناعمان ارتدتهما، عملت أناملها في عينيها، فأخرجت عدستين لاصقتين وضعتهما على صحن صغير أعد لذلك، عملت أناملها في فمها، فانتزعت صفين من أسنانها البيضاء الجميلة والتي كانت تشع مستجيبة لغزل الضوء الخافت، طالما أعجبت بهما في صمت، وضعتهما في صحن أعد لذلك، قالت بفم خالٍ من الأسنان وقد بدا غريبًا: أترى؟ إن أسناني مستعارة.
وابتسمتْ ابتسامة في شكل فراغ كبير مظلم، ولكنها لم تثر اشمئزازي، فالمرأة — كما يقولون: في الظلام جسد ودفء. وأنا بالفعل استجبت لأناملها في فروة رأسي، أكثر من أي شيء آخر.
قالت وهي تميل بكامل جسدها نحوي، حيث ملأ عطرها أنفي تمامًا: ساعدني في إخراج البنطلون، أرجوك.
وكنت أظن أنني سأقوم بسحبه بالقوة، وقد بدأت في ذلك، إلا أنها أوقفتني قائلة: فقط حرر زرارين في الخلف.
ثم بسهولة سقط البنطلون على فخذيها، ثم جذبته بأناملها الرقيقة الشاحبة وتحررت منه تمامًا، ولدهشتي عندما وضعت البنطلون جانبًا، كان ثقيلًا، وعندما انتبهتُ وجدت داني بغير ساقيها، قالت في برود ورباطة جأش: أترى؟ إن ساقيَّ، هه.
وقبل أن أسأل أو أكمل دهشتي، تحدثتْ داني: هي حكاية عادية، كنت أغني للجنود الأمريكان شمال العراق جنوب السليمانية في عاصفة الصحراء، طبعًا لرفع الروح المعنوية للجنود حتى يتمكنوا من تحرير الكويت وهي بلدة عربية احتلها صدام، كنا وسط أصدقائنا من الأكراد والأتراك وبعض فعاليات المعارضة العراقية، ورغم ذلك كنا حذرين من المفاجآت، ولكن لسوء تقديرنا أن جنديًا من المعارضة العراقية، هو الذي نصب لنا لغمًا أودى بحياة ثلاثة جنود، وفعل بي ما فعل … هي الحرب! أنا لست غاضبة من أحد، النار لا تفرق بين جندي أو مغنية بوب.
انتزعتْ قميصها بنفسها، وكنت أنتظر مفاجأة أخرى، ولكن صدرها كان فتيًّا ونهداها معبآن جيدًا، ولا توجد تشوهات في صدرها وبطنها وظهرها، بأناملها المحمومة أخذتْ تفك زرار ملابسي، وأنا لا أدري فيمَ أفكر، ولكني كنت أرغب بشدة في الانفكاك من هذا المكان ومن هذه المرأة الصلدة، التي رغم كل ما رأيت من مآسيها تتعامل وكأنها تضع العالم كله في جيبها، قلت لها: أريد أن أذهب.
قالت بثقة: سوف لا تذهب، ستبقى معي للغد.
ابتسمتْ، بدا فمها هوة عميقة غامضة، ثم أخذت تدلك فروة رأسي بأناملها في صمت، وعن طريق نهايات أظافرها الحادة، كانت تمشط شعري الخشن، أستطيع أن أسمع خشيش احتكاك الأظافر بمنابت شعري، عاليًا مثل طرق صفيح فارغ.