اضمحلال الغرب: القوة والثقافة والعودة إلى المحلية
(١) القوة الغربية: السيطرة والاضمحلال
هناك صورتان لقوة الغرب بالنسبة للحضارات الأخرى. الأولى هي صورة لسيطرة وسيادة غربية شاملة. تفكك الاتحاد السوفيتي أزال المتحدي الخطير الوحيد بالنسبة للغرب، ونتيجة لذلك فإن العالم قد أصبح وسيظلُّ يتشكل طبقًا لأهداف وأوليات ومصالح الدول الأوروبية الغربية القوية وربما بمساعدة من اليابان أحيانًا. وحيث إنها القوة الكبرى الوحيدة المتبقية، فإن الولايات المتحدة، مع بريطانيا وفرنسا، يتخذون القرارات الحاسمة في القضايا السياسية والأمنية، والولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان يتخذون القرارات الحاسمة في القضايا الاقتصادية.
-
تمتلك وتدير النظام المصرفي العالمي.
-
تتحكم في كل العملات الصعبة.
-
الزبون الرئيسي في العالم.
-
تقدم غالبية سلع العالم الرئيسية.
-
تسيطر على أسواق العالم الرئيسية.
-
تمارس قيادة معنوية كبيرة داخل مجتمعات كثيرة.
-
قادرة على التدخل العسكري الواسع.
-
تتحكم في الطرق البحرية.
-
تقود معظم البحث العلمي والتطوير التقني.
-
تسيطر على وسائل الدخول إلى الفضاء.
-
تسيطر على الصناعة الخاصة بالفضاء.
-
تسيطر على وسائل الاتصال العالمية.
-
تسيطر على صناعة الأسلحة ذات التقنية العالية.1
الصورة الثانية للغرب مختلفة تمامًا. إنها صورة حضارة تنهار، نصيبها من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم في هبوط بالنسبة لنصيب الحضارات الأخرى. انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يسفر عن فوز، بل إنهاك. الغرب مُهتم بدرجة متزايدة بمشاكله واحتياجاته الداخلية، حيث يواجه نموًّا اقتصاديًّا بطيئًا وركودًا سكانيًّا وبطالة وعجزًا حكوميًّا وأخلاقيات عمل متدهورة ومعدلات ادخار منخفضة، وفي دول كثيرة بما فيها الولايات المتحدة يواجه تفككًا اجتماعيًّا بالإضافة إلى مشكلات المخدرات والجريمة. القوة الاقتصادية تنتقِل بسرعة إلى شرق آسيا، وبدأت تتبعها القوة العسكرية والنفوذ السياسي. الهند على حافة إقلاع اقتصادي والعالم الإسلامي يتزايد عداؤه للغرب. استعداد المجتمعات الأخرى لقبول أوامر الغرب أو التقيد بنصحائه يتبخر بسرعة، وكذلك ثقة الغرب بنفسه وإرادته في السيطرة. أواخر الثمانينيات شهدت جدلًا واسعًا حول أطروحة ضعف الولايات المتحدة، وفي منتصف التسعينيات انتهى تحليل متوازن إلى نفس الاستنتاج تقريبًا:
في جوانب كثيرة، سوف تتدهور القوة النسبية للولايات المتحدة بمعدل متسارع. ومن ناحية قدراتها الاقتصادية الخام فإن وضع الولايات المتحدة بالنسبة لليابان وفي النهاية بالنسبة للصين، من المحتمل أن يضعف أكثر من ذلك. في المجال العسكري فإن ميزان القدرات المؤثرة بين الولايات المتحدة وعدد من القوى الإقليمية النامية (بما فيها إيران والهند والصين) سوف يتحول من المركز إلى المحيط الخارجي.
فأيٌّ من هاتَين الصورتَين لمكانة الغرب في العالم يصف الحقيقة؟ الإجابة بالتأكيد: كلتاهما.
الغرب الآن مُسيطر بشكل طاغٍ وسيظل رقم واحد من ناحية القوة والنفوذ في القرن الواحد والعشرين. وهناك كذلك تغيرات تدريجية قوية وأساسية تحدث في موازين القوى بين الحضارات، وقوة الغرب بالنسبة لقوة الحضارات الأخرى سوف تستمر في الاضمحلال.
ومع تآكُل أولية الغرب، فإن معظم قوته سوف يتبخر والباقي منها سوف ينتشر على أساس إقليمي بين الحضارات الرئيسية العديدة ودولها المركزية. الزيادة البارزة في القوة تتراكم، وسوف تتراكم لدى الحضارات الآسيوية مع بروز الصين كمجتمعٍ هو الأكثر ترجيحًا لتهديد الغرب على النفوذ الكوني.
هذه التحولات في القوة بين الحضارات أدت وسوف تؤدي إلى يقظة المجتمعات غير الغربية وتوكيد ثقافتها، وإلى زيادة رفضها للثقافة الغربية.
- أولًا: هي عملية بطيئة. صعود القوة الغربية أخذ أربعة قرون. انحسارها قد يأخذ مثل تلك المدة الطويلة. في الثمانينيات كان الباحث البريطاني المتميز «هيدلي بول» يقول: «إن السيادة الغربية أو الأوروبية على المجتمع العالمي بكامله يمكن أن يقال إنها وصلت إلى أوجها حوالي سنة ١٩٠٠م.»3 الجزء الأول من كتاب «شبنجلر» ظهر سنة ١٩١٨م، وكان «اضمحلال الغرب» موضوعًا رئيسيًّا في تاريخ القرن العشرين. العملية نفسها امتدَّت عبر معظم القرن، وواضح أنها يمكن أن تتسارع. النمو الاقتصادي والزيادات الأخرى في مقدرات أي دولة تسير عادة بامتداد «منحنى» S: بداية بطيئة ثم تسارع يتبعه معدلات اتساع أقل ثم ثبات أو استواء. انهيار واضمحلال الدول يمكن أن يتم أيضًا بأسلوب المنحنى S المعكوس كما حدث بالنسبة للاتحاد السوفيتي. اعتدال في البداية ثم تسارع قبل الهبوط إلى القاع. انهيار الغرب ما زال في المرحلة الأولى البطيئة، ولكنه قد يتسارع بدرجةٍ كبيرة عندما يصل إلى نقطة مُعينة.
- ثانيًا: الانهيار لا يسير في خط مستقيم، وهو غير منتظم، به وقفات وانعكاسات وإعادة توكيد
للقوة الغربية على أثر تجليات للضعف. المجتمعات الغربية المنفتحة لديها إمكانات عظيمة
للتجدُّد،
بالإضافة إلى أن الغرب يُوجَد به مركزان رئيسيان للقوة، على عكس كثير من الحضارات. الانهيار
الذي
كان «بول» يرى بدايته في حوالي سنة ١٩٠٠م، كان في الأساس انهيار المكون الأوروبي في الحضارة
الغربية.
من سنة ١٩١٠م إلى سنة ١٩٤٥م كانت أوروبا منقسمة على نفسها ومشغولة بمشاكلها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي الأربعينيات بدأت المرحلة الأمريكية في السيادة الغربية، سادت الولايات المتحدة العالم في سنة ١٩٤٥م لفترة قصيرة، وإلى درجة يمكن أن تقارن بقوة الحلفاء في سنة ١٩١٨م.
انحسار الاستعمار الذي حدث بعد الحرب قلَّل من النفوذ الأوروبي بدرجة أكبر، ولكن ليس من نفوذ الولايات المتحدة الذي أحلَّ استعمارًا جديدًا مُتخطيًا للحدود القومية، بديلًا للإمبراطورية التقليدية. وأثناء الحرب الباردة، كانت القوة العسكرية الأمريكية تتناسب مع مثيلتها عند السوفيت، والقوة الاقتصادية الأمريكية تدهورت بالنسبة لمثيلتها في اليابان، إلا أن جهودًا كانت تبذل من وقت لآخر من أجل التجديد العسكري والاقتصادي.
في سنة ١٩٩١م كان الباحث الإنجليزي البارز «باري بوزان» يقول أيضًا: «الحقيقة الأعمق هي أن المركز قد أصبح الآن أكثر سيادة والمحيط أكثر تبعية عن أي وقتٍ مضى منذ بدأ انحسار الاستعمار.»4 إلا أن دقة هذه الملاحظة تضعف حيث إن النصر العسكري الذي أدى إلى قيامها كان هو الآخر يضعف تدريجيًّا.
- ثالثًا: القوة هي قدرة فرد أو جماعة ما على تغيير سلوك فرد أو جماعة أخرى، والسلوك يمكن أن يتغير عن طريق الإقناع أو القسر أو النصح، والذي يتطلب بدوره أن يكون لدى مُستخدِم القوة مصادر اقتصادية وعسكرية ومؤسسية وديموغرافية وتكنولوجية واجتماعية أو غيرها. قوة الجماعة أو الدولة هكذا تقدر عادة بحساب المصادر الموجودة تحت تصرفها، في مقابل تلك التي في يد الدول أو الجماعات التي تريد أن تمارس نفوذًا عليها.
نصيب الغرب من معظم — وليس كل — مصادر القوة المهمة وصل إلى أعلى مستوًى له في بدايات القرن العشرين، ثم بدأ في التدهور مقارنةً به لدى الحضارات الأخرى.
مساحة الأرض والسكان
في سنة ١٤٩٠م كانت المجتمعات الغربية تسيطر على معظم شبه الجزيرة الأوروبية خارج البلقان، أو ربما ١٫٥ مليون ميل مربع من مجمل مساحةٍ (باستثناء الأنتاراكتكا) تبلغ ٥٢٫٥ مليون ميل مربع. وفي قمة اتساعه المساحي في سنة ١٩٢٠م كان الغرب يحكم — مباشرة — ٢٥٫٥ مليون ميل مربع أو ما يقرب من نصف مساحة الكرة الأرضية. وبحلول ١٩٩٣م كانت هذه السيطرة قد انخفضت إلى النصف، أي إلى حوالي ١٢٫٧ مليون ميل مربع. عاد الغرب إلى مركزه الأوروبي الأصلي بالإضافة إلى أراضي الاستيطان المترامية في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندة.
في المقابل، ارتفعت مساحة المجتمعات الإسلامية المستقلة من ١٫٨ ميل مربع في سنة ١٩٩٣م وحدثت تغيرات مماثلة في السكان. في سنة ١٩٠٠م كان الغربيون يمثلون ٣٠٪ تقريبًا من سكان العالم، وكانت الحكومات الغربية تحكم قرابة ٤٥٪ من السكان آنذاك، و٤٨٪ في سنة ١٩٢٠م، وفي سنة ١٩٩٣م كانت الحكومات الغربية لا تحكم أحدًا سوى الغربيين، باستثناء بغض البقايا الاستعمارية مثل هونج كونج.
السنة | تقدير إجمالي لأراضي الحضارات محسوبة بألف ميل مربع | ||||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
المغربية | الإفريقية | الصينية | الهندو | الإسلامية | اليابانية | الأمريكية اللاتينية | أرثوذوكسية | آخرون | |
١٩٠٠ | ٢٠٢٩٠ | ١٦٤ | ٤٣١٧ | ٥٤ | ٣٥٩٢ | ١٦١ | ٧٧٢١ | ٨٧٣٣ | ٧٤٦٨ |
١٩٢٠ | ٢٥٤٤٧ | ٤٠٠ | ٣٩١٣ | ٥٤ | ١٨١١ | ٢٦١ | ٨٠٩٨ | ١٠٢٥٨ | ٢٢٥٨ |
١٩٧١ | ١٢٨٠٦ | ٤٦٣٦ | ٣٩٣٦ | ١٣١٦ | ٩١٨٣ | ١٤٢ | ٧٨٣٣ | ١٠٣٤٦ | ٢٣٠٢ |
١٩٩٣ | ١٢٧١١ | ٥٦٨٢ | ٣٩٢٣ | ١٢٧٩ | ١١٠٥٤ | ١٤٥ | ٧٨١٩ | ٧٩٦٩ | ٢٧١٨ |
تقدير الأراضي بالنسبة المئوية† | |||||||||
١٩٠٠م | ٥٣٨٫٧ | ٠٫٣ | ٨٫٢ | ٠٫١ | ٦٫٨ | ٠٫٣ | ١٤٫٧ | ١٦٫٦ | ١٤٫٣ |
١٩٢٠م | ٤٨ | ٠٫٨ | ٧٫٥ | ٠٫١ | ٣٫٥ | ٠٫٥ | ١٤٫٥ | ١٩٫٥ | ٤٫٣ |
١٩٧١م | ٢٤٫٤ | ٨٫٨ | ٧٫٥ | ٢٫٥ | ١٧٫٥ | ٠٫٣ | ١٤٫٩ | ١٩٫٧ | ٤٫٤ |
١٩٩٣م | ٢٤٫٢ | ١٠٫٨ | ٧٫٥ | ٢٫٤ | ٢١٫١ | ٠٫٣ | ١٤٫٠٩ | ١٣٫٧ | ٥٫٢ |
المصادر: Statesman’s year-book (New York: St Martin’s Press, 1901–1927) World Book Atlas (Chicago: Field Enterprises Education Corp., 1970); Britannica Book of the Year (Chicago: Encyclopedia Btitannica, Inc., 1992–1944).
ومن حيث عدد السكان الكلي، كان الغرب في سنة ١٩٩٣م يحتل المركز الرابع بعد الحضارات الصينية والإسلامية والهندية. الغربيون يمثلون إذن أقلية في سكان العالم وهي تتناقص باطراد.
من ناحية الكيف فإن الميزان بين الغرب وعدد سكان الحضارات الأخرى يتغير أيضًا. شعوب الدول غير العربية أصبحت أكثر صحة، أكثر تمدينًا، وزاد فيها عدد القادرين على القراءة والكتابة، كما أصبحت أفضل تعليمًا.
في بداية التسعينيات كانت معدلات الوفيات بين الأطفال في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وشرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، قد انخفضت من ثلث إلى نصف ما كانت عليه قبل ثلاثين عامًا. متوسط العمر المتوقع في تلك المناطق ارتفع ارتفاعًا ملحوظًا، بمعدلات تتراوح بين ١١ سنة في أفريقيا و٢٣ سنة في شرق آسيا. في بداية الستينيات كان عدد من يقرءون ويكتبون في معظم دول العالم الثالث أقل من ثلث عدد البالغين. في بداية التسعينيات كان من يستطيعون القراءة والكتابة في بلاد قليلة جدًّا ما عدا أفريقيا، أقل من نصف عدد السكان.
حوالي ٥٠٪ من الهنود و٧٥٪ من الصينيين يستطيعون القراءة والكتابة. معدلات القراءة والكتابة وصلت في الدول النامية في سنة ١٩٧٠م إلى ٤١٪ مما هي عليه في الدول المتقدمة وفي سنة ١٩٩٢م وصلت إلى ٧١٪، في بداية التسعينيات، كانت المجموعات العمرية الملائمة بالكامل مسجلة في التعليم الابتدائي بالفعل في جميع المناطق ما عدا أفريقيا. ومن الدلائل المهمة أنه في بداية الستينيات في آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا كان أقل من ثلث المجموعة العمرية الملائمة مُسجلًا في التعليم الثانوي، وفي أوائل التسعينيات وصل التسجيل إلى نصف المجموعة ما عدا أفريقيا.
الصينية | ١٣٤٠٩٠٠ | أمريكا اللاتينية | ٥٠٧٥٠٠ |
الإسلامية | ٩٢٧٦٠٠ | الإفريقية | ٣٩٢١٠٠ |
الهندو | ٩١٥٨٠٠ | الأرثوذوكسية | ٢٦١٣٠٠ |
الغربية | ٨٠٥٤٠٠ | اليابانية | ١٢٤٧٠٠ |
هذه التغيرات في معرفة القراءة والكتابة والتعليم والتمدين خلقت سكانًا معبَّئين اجتماعيًّا، لديهم إمكانيات سريعة وتوقعات أعلى يمكن أن تنشط من أجل أغراضٍ سياسية، وعلى نحو ما كان يمكن أن يحدث للفلاحين الأميين.
السنة | الغربية | الإفريقية | الصينية | الهندو | الإسلامية | اليابانية | الأمريكية اللاتينية | الأرثوذوكسية | آخرون |
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
الإجمالي العالمي† | |||||||||
١٩٠٠م [١٫٦] | ٤٤٫٣ | ٠٫٤ | ١٩٫٣ | ٠٫٣ | ٤٫٢ | ٣٫٥ | ٣٫٢ | ٨٫٥ | ١٦٫٣ |
١٩٢٠م [١٫٩] | ٤٨٫١ | ٠٫٧ | ١٧٫٣ | ٠٫٣ | ٢٫٤ | ٤٫١ | ٤٫٦ | ١٣٫٩ | ٨٫٦ |
١٩٧١م [٣٫٧] | ١٤٫٤ | ٥٫٦ | ٢٢٫٨ | ١٥٫٢ | ١٣٫٠ | ٢٫٨ | ٨٫٤ | ١٠٫٠ | ٥٫٥ |
١٩٩٠م [٥٫٣] | ١٤٫٧ | ٨٫٢ | ٢٤٫٣ | ١٦٫٣ | ١٣٫٤ | ٢٫٣ | ٩٫٢ | ٦٫٥ | ٥٫١ |
١٩٩٥م [٥٫٨] | ١٣٫١ | ٩٫٥ | ٢٤٫٠ | ١٦٫٤ | ١٥٫٩‡ | ٢٫٢ | ٩٫٣ | ٦٫١ | ٣٫٥ |
٢٠١٠م [٧٫٢] | ١١٫٥ | ١١٫٧ | ٢٢٫٣ | ١٧٫١ | ١٧٫٩§ | ١٫٨ | ١٠٫٣ | ٥٫٤ | ٢٫٠ |
٢٠٢٥م [٨٫٥] | ١٠٫١ | ١٤٫٤ | ٢١٫٠ | ١٦٫٩ | ١٩٫|| | ١٫٥ | ٩٫٢ | ٤٫٩ | ٢٫٨ |
هناك هوة كبيرة ما زالت تفصل الصينيين والهنود والعرب والأفارقة عن الغربيين واليابانيين والروس، إلا أنها تضيق بسرعة. وفي نفس الوقت هناك هوة أخرى مختلفة تتفتح. متوسط العمر عند الغربيين واليابانيين والروس يزيد باطراد، والنسبة الأكبر من السكان الذين لم يعودوا يعملون تفرض عبئًا كبيرًا على أولئك الذين ما زالوا يعملون وينتجون. الحضارات الأخرى مُثقلة بأعداد كبيرة من الأطفال، ولكن الأطفال هم عمال وجنود الغد.
النتاج الاقتصادي
نصيب الغرب من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي ربما يكون قد وصل إلى أعلى معدلاته في العشرينيات، وواضح أنه بدأ في الانهيار منذ الحرب العالمية الثانية. في سنة ١٧٥٠م كان نصيب الصين من النتاج الصناعي العالمي الثلث تقريبًا، والهند حوالي الربع، والغرب أقل من الخمس. في سنة ١٨٣٠م كان الغرب قد تقدم قليلًا على الصين. وفي العقود التالية كما يشير «بول بايروخ»، أدى تصنيع الغرب إلى عدم تصنيع بقية العالم، وفي ١٩١٣م كان النتاج الصناعي للدول غير الغربية ثلثي ما كان عليه تقريبًا في سنة ١٨٠٠م، ومع بداية منتصف القرن العشرين ارتفع نصيب الغرب بدرجة كبيرة ليصل إلى قمته في سنة ١٩٢٨م وتصبح نسبته ٤٨٫٢٪ من نتاج العالم الصناعي. وبعد ذلك انخفض نصيب الغرب حيث ظل معدل نموه متواضعًا، كما زادت الدول الأقل تصنيعًا من إنتاجها بعد الحرب العالمية الثانية.
الدولة/الحضارة | ١٧٥٠م | ١٨٠٠م | ١٨٣٠م | ١٨٦٠م | ١٨٨٠م | ١٩٠٠م | ١٩١٣م | ١٩٢٨م | ١٩٣٨م | ١٩٥٣م | ١٩٦٣م | ١٩٧٣م | ١٩٨٠م |
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
الغرب | ١٨٫٢ | ٢٣٫٣ | ٣١٫١ | ٥٣٫٧ | ٦٨٫٨ | ٧٧٫٤ | ٨١٫٦ | ٨٤٫٢ | ٧٨٫٦ | ٧٤٫٦ | ٦٥٫٤ | ٦١٫٢ | ٥٧٫٨ |
الصين | ٣٢٫٨ | ٣٣٫٣ | ٢٩٫٨ | ١٩٫٧ | ١٢٫٥ | ٦٫٢ | ٣٫٦ | ٣٫٤ | ٣٫١ | ٢٫٣ | ٣٫٥ | ٣٫٩ | ٥٫٢ |
اليابان | ٣٫٥ | ٣٫٥ | ٢٫٨ | ٢٫٦ | ٢٫٤ | ٢٫٤ | ٢٫٧ | ٣٫٣ | ٥٫٢ | ٢٫٩ | ٥٫١ | ٨٫٨ | ٩٫١ |
الهند/ باكستان | ٢٤٫٥ | ١٩٫٧ | ١٧٫٦ | ٨٫٦ | ٢٫٨ | ١٫٧ | ١٫٤ | ١٫٩ | ٢٫٤ | ١٫٧ | ١٫٨ | ٢٫١ | ٢٫٣ |
روسيا/ الاتحاد السوفيتي* | ٥٫٠ | ٥٫٦ | ٥٫٦ | ٧٫٠ | ٧٫٦ | ٨٫٨ | ٨٫٢ | ٥٫٣ | ٩٫٠ | ١٦٫٠ | ٢٠٫٩ | ٢٠٫١ | ٢١٫١ |
البرازيل/ المكسيك | - | - | - | ٠٫٨ | ٠٫٦ | ٠٫٧ | ٠٫٨ | ٠٫٨ | ٠٫٨ | ٠٫٩ | ١٫٢ | ١٫٦ | ٢٫٢ |
آخرون | ١٥٫٧ | ١٤٫٦ | ١٣٫١ | ٧٫٦ | ٥٫٣ | ٢٫٨ | ١٫٧ | ١٫١ | ٠٫٩ | ١٫٦ | ٢٫١ | ٢٫٣ | ٢٫٥ |
الأرقام الكلية عن النتاج الاقتصادي، تخفي جزئيًّا المميزات الكيفية للغرب. الغرب واليابان تقريبًا يسيطران تمامًا على الصناعات التكنولوجية المتقدمة. التكنولوجيات تنتشر، وإذا كان الغرب يريد أن يحافظ على تفوقه فسوف يفعل كل ما في وسعه ليكون ذلك الانتشار عند حدِّه الأدنى. وبفضل العالم الذي أصبح وثيق الاتصال، والذي خلقه الغرب، يصبح من الصعب عرقلة انتشار التكنولوجيا وتعطيل وصولها إلى حضارات أخرى. وتزداد الصعوبة في غياب خطرٍ واحد متفق عليه مثل ذلك الذي كان إبان الحرب الباردة والذي كان يعطي وسائل التحكم في نقل التكنولوجيا بعض الفعالية. ويبدو محتملًا أن الصين كان لديها أكبر اقتصاد في العالم على مدار معظم التاريخ.
السنة | الغربية | الإفريقية | الصينية | الهندو | الإسلامية | اليابانية | الأمريكية اللاتينية | الأرثوذوكسية† | آخرون‡ |
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
١٩٥٠م | ٦٢٫١ | ٠٫٢ | ٣٫٣ | ٣٫٨ | ٢٫٩ | ٣٫١ | ٥٫٦ | ١٦٫٠ | ١٫٠ |
١٩٧٠م | ٥٣٫٤ | ١٫٧ | ٤٫٨ | ٣٫٠ | ٤٫٦ | ٧٫٨ | ٦٫٢ | ١٧٫٤ | ١٫١ |
١٩٨٠م | ٤٨٫٦ | ٢٫٠ | ٦٫٤ | ٢٫٧ | ٦٫٣ | ٨٫٥ | ٧٫٧ | ١٦٫٤ | ١٫٤ |
١٩٩٢م | ٤٨٫٩ | ٢٫١ | ١٠٫٠ | ٣٫٥ | ١١٫٠ | ٨٫٠ | ٨٫٣ | ٦٫٢ | ٢٫٠ |
ونسب ١٩٩٢م محسوبة بناءً على تقديرات البنك الدولي للقوة الشرائية في الجدول رقم ٣٠ من: World Development Report 1994 (New York: Oxford University Press, 1994).
انتشار التكنولوجيا، والنمو الاقتصادي للدول غير الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين، يؤديان الآن إلى عودة النموذج التاريخي، وهذه ستكون عملية بطيئة. ولكن في منتصف القرن الواحد والعشرين — إن لم يكن قبل ذلك — يحتمل أن يماثل توزع النتاج الاقتصادي والنتاج الصناعي بين الحضارات الرئيسية، ما كان عليه في سنة ١٨٠٠م.
الضغطة الغربية التي استمرت مائتي عام على الاقتصاد العالمي سوف تنتهي.
القدرة العسكرية
للقدرة العسكرية أربعة أبعاد:
- بعد كمي: عدد الأفراد والأسلحة والمعدات والمصادر.
- بعد تكنولوجي: فاعلية وتعقد الأسلحة والمعدات.
- بعد تنظيمي: التماسُك والانضباط والتدريب ومعنويات القوات وفاعلية علاقات القيادة والسيطرة.
- بعد مجتمعي: القدرة والاستعداد لدى المجتمع لاستخدام القوة العسكرية بكفاءة.
في العشرينيات، كان الغرب سابقًا الجميع في كل تلك الأبعاد. في السنوات التالية لذلك انهارت قوة الغرب العسكرية بالنسبة لتلك التي لدى الحضارات الأخرى، وهو انهيار يتضح من الميزان المتغير في عدد العسكريين، أحد المقاييس رغم أنه ليس أهمها لقياس القدرة العسكرية.
التحديث والتقدم الاقتصادي يولدان المصادر والرغبة لدى الدول لتطوير قدراتها العسكرية، والقليل من الدول هو الذي يفعل ذلك. في الثلاثينيات أنشأت اليابان والاتحاد السوفيتي قوات مسلحة قوية، كما ظهر في الحرب العالمية الثانية. أثناء الحرب الباردة كان لدى الاتحاد السوفيتي واحدة من أقوى قوتين عسكريتين في العالم. وفي الوقت الحاضر، يحتكر الغرب المقدرة على نشر قوات عسكرية تقليدية كبيرة في أي مكان من العالم، ولا يُوجَد تأكيد على أنه سيستطيع الاحتفاظ بهذه القدرة. ويبدو مؤكدًا أنه لن تتمكن أي دولة ولا مجموعة من الدول غير الغربية أن تحقق مقدرةً مماثلة خلال العقود القادمة. بالإضافة إلى ذلك، كانت تسود السنوات التي تلت الحرب الباردة خمسة توجهات في تطور القدرات العسكرية الكونية الرئيسية:
السنة | الإجمالي العالمي | الغربية | الإفريقية | الصينية | الهندو | الإسلامية | اليابانية | الأمريكية اللاتينية | الأرثوذوكسية† | آخرون |
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
١٩٠٠م | (١٠٫٨٦) | ٤٣٫٧ | ١٫٦ | ١٠٫٠ | ٠٫٤ | ١٦٫٧ | ١٫٨ | ٩٫٤ | ١٦٫٦ | ٠٫١ |
١٩٢٠م | (٨٫٤٥) | ٤٨٫٥ | ٣٫٨ | ١٧٫٤ | ٠٫٤ | ٣٫٦ | ٢٫٩ | ١٠٫٢ | ١٢٫٨ | ٠٫٥ |
١٩٧٠م | (٢٣٩٩١) | ٢٦٫٨ | ٢٫١ | ٢٤٫٧ | ٦٫٦ | ١٠٫٤ | ٠٫٣ | ٤٫٠ | ٢٥٫١ | ٢٫٣ |
١٩٩١م | (٢٥٧٩٧) | ٢١٫١ | ٣٫٤ | ٢٥٫٧ | ٤٫٨ | ٢٠٫٠ | ١٫٠ | ٦٫٣ | ١٤٫٣ | ٣٫٥ |
إجمالي تقديرات القوات المسلحة (العاملة) مبينة بالألوف عن كل سنة.
المصادر: U.S Arms Control and Disarmament Agency, World Military Expenditure & Arms Transfers (Washington D.C.: The Agency, 1971–1994); Statesman’s Year Book (New York: St. Martin’s Press, 1091–1927).
- أولًا: بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي مباشرة، لم يعد للقوات المسلحة السوفيتية وجود. وبصرف النظر عن روسيا، فإن أوكرانيا فقط هي التي ورثت إمكانيات عسكرية بارزة. القوات الروسية تم تخفيض حجمها لدرجة كبيرة، وسحبت من أوروبا الوسطى ودول البلطيق. حلف وارسو انتهى. هدف تحدي البحرية الأمريكية تم التخلي عنه. المعدات العسكرية إما تم التخلص منها أو تركت لتسوء حالتها وتفقد صلاحيتها. مخصصات الدفاع في الميزانية خفضت جدًّا. انخفاض الروح المعنوية ساد صفوف الضباط والجنود. في نفس الوقت كانت العسكرية الروسية تعيد تحديد واجباتها ومبادئها وتعيد بناء نفسها من أجل الدور الجديد في حماية روسيا والتعامل مع الصراعات الإقليمية مع الجوار.
-
ثانيًا: التخفيض الشديد في الإمكانيات الروسية حفز تخفيضًا بطيئًا — وإن كان كبيرًا — في
الإنفاق العسكري الغربي، وكذلك في القوات والإمكانيات. وفي ظل خطط إدارتي «بوش» و«كلينتون»،
كان
المطلوب تخفيض الإنفاق العسكري بنسبة ٣٥٪ من ٣٤٢٫٣ بليون دولار في سنة ١٩٩٠م إلى ٢٢٢٫٣
بليون
دولار في ١٩٨٨م، وليصبح حجم القوات المسلحة في ذلك العام ما بين نصف إلى ثلثي ما كان
عليه في
نهاية الحرب الباردة.
ويهبط عدد الأفراد العسكريين من ٢٫١ مليون إلى ١٫٤ مليون تم إلغاء برامج تسليح رئيسية، ويجرى إلغاء أخرى. المشتروات السنوية من الأسلحة الرئيسية هبطت بين ١٩٨٥م و١٩٩٥م: السفن من ٢٦ إلى ٦، الطائرات من ٩٤٣ إلى ١٢٧، الدبابات من ٧٢٠ إلى صفر، الصواريخ الاستراتيجية من ٤٨ إلى ١٨.
وبدءًا من أواخر الثمانينيات نفذت بريطانيا وألمانيا وفرنسا تخفيضات مماثلة في نفقات الدفاع والإمكانيات العسكرية، وإن كان بدرجةٍ أقل. وفي منتصف التسعينيات كان المخطط هو تخفيض عدد أفراد القوات المسلحة الألمانية من ٣٧٠٠٠٠ إلى ٣٤٠٠٠٠ وربما إلى ٣٢٠٠٠٠، وتخفيض الجيش الفرنسي من ٢٩٠٠٠٠ في سنة ١٩٠٠م إلى ٢٢٥٠٠٠ في سنة ١٩٩٧م، كما تم تخفيض عدد الأفراد في القوات المسلحة البريطانية من ٣٧٧١٠٠ في سنة ١٩٨٥م إلى ٢٧٤٠٠٠ في سنة ١٩٩٣م، كما اختصرت دول القارة الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي NATO شروط التجنيد وناقشوا إمكانية إلغائه. - ثالثًا: : في آسيا، كانت التوجهات تختلف تمامًا عنها في روسيا والغرب. زيادة الإنفاق العسكري وتطوير القوات كانت بمثابة جدول الأعمال، كما كانت الصين هي محددة سرعة الانطلاق. الدول الشرق آسيوية الأخرى تقوم بتحديث قواتها العسكرية وزيادة حجمها، يحفزها إلى ذلك القوة الاقتصادية المتزايدة والتعاظم الصيني. اليابان واصلت تطوير قدراتها العسكرية المتقدمة. تايوان وكوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا … كلهم يزيدون من الإنفاق العسكري ويقومون بشراء الدبابات والطائرات والسفن من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول أخرى. وبينما هبط الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلنطي NATO بحوالي ١٠٪ بين عامَي ١٩٨٥م و١٩٩٣م (من ٥٣٩٫٦ بليون دولار إلى ٤٨٥ بليون دولار)، نجد أنه قد زاد في شرق آسيا بنسبة ٥٠٪ تقريبًا (من ٨٩٫٨ بليون دولار إلى ١٣٤٫٨ بليون دولار) وذلك خلال نفس الفترة.9
-
رابعًا: تنتشر الإمكانيات العسكرية بما فيها أسلحة الدمار الشامل على نطاقٍ واسع في العالم.
ومع تقدُّم الدول اقتصاديًّا، تُصبح لدَيها القدرة على إنتاج السلاح. بين الستينيات والثمانينيات
مثلًا زاد عدد دول العالم الثالث المنتجة للطائرات من ١–٨، والمنتجة للدبابات من ١–٦،
ولطائرات الهيلكوبتر من ١–٦، وللصواريخ التكتيكية من صفر-١، كما شهدت التسعينيات توجهًا
رئيسيًّا نحو عالمية صناعة الدفاع، الأمر الذي سيُقلل من أفضلية العسكرية الغربية.10
الكثير من الدول غير الغربية إما أنهم يمتلكون أسلحة نووية (روسيا – الصين – إسرائيل – الهند – باكستان – وربما كوريا الشمالية)، أو يقومون بجهود دءوبة للحصول عليها (إيران – العراق – ليبيا – وربما الجزائر)، أو في وضع يمكنهم من الحصول عليها بسرعة إن استدعت الحاجة (اليابان).
- وأخيرًا: فإن كل تلك التطورات تجعل تقسيم العالم إلى مناطق هو التوجُّه الرئيسي في الاستراتيجية والقوة العسكرية في عالَم ما بعد الحرب الباردة. هذا التقسيم الإقليمي يقف وراء منطق عمليات تخفيض القوات المسلحة في روسيا والغرب، وزيادتها في الدول الأخرى. لم يعد لروسيا قدرات عسكرية كونية، ولكنها تركز استراتيجيتها وقواتها على خارجها القريب. الصين أعادت توجيه استراتيجيتها وقواتها لتأكيد القوة المحلية والدفاع عن المصالح الصينية في شرق آسيا. الدول الأوروبية كذلك توجِّه قواتها من خلال كلٍّ من اﻟ «ناتو» و«الاتحاد الأوروبي الغربي» للتعامُل مع القلاقل على حدود وأطراف أوروبا الغربية. الولايات المتحدة حولت تخطيطها العسكري بوضوح من ردع وقتال الاتحاد السوفيتي على أساس كوني، لكي تكون مُستعدة للتعامُل مع الطوارئ الإقليمية في الخليج الفارسي وشمال شرق آسيا في نفس الوقت. ورغم ذلك لا يبدو أن الولايات المتحدة لديها الإمكانيات العسكرية للوفاء بهذه الأهداف. فلكي تهزم العراق، قامت الولايات المتحدة بنشر ٧٥٪ من طيرانها التكتيكي النشط في الخليج الفارسي، وكذلك ٤٢٪ من دباباتها الحديثة و٤٦٪ من رجال البحرية.
ومع التخفيض الكبير في القوات في المستقبل، سيكون من الصعب عليها أن تنفذ تدخلًا واحدًا، ومن الأكثر صعوبة أن تنفذ تدخُّلَين ضد قوى إقليمية كبيرة خارج نصف الكرة الغربي. إن الأمن العسكري في أنحاء العالم أصبح بشكلٍ متزايد لا يعتمد على التوزع الكوني للقوة، ولا على أعمال القوى الكبرى، وإنما على توزع القوة داخل كل منطقة في العالم وعلى أعمال دول المركز في الحضارات.
وباختصار، فإن الغرب سيظل أقوى الحضارات في العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وربما استمرت له الصدارة بعد ذلك من ناحية الموهبة العلمية وإمكانيات البحث والتطوير والإبداع التكنولوجي في النواحي المدنية والعسكرية.
السيطرة على مصادر القوة الأخرى أصبحت أيضًا موزعة وبشكلٍ مُتزايد بين دول المركز والدول القيادية في الحضارات غير الغربية.
سيطرة الغرب على تلك المصادر كانت قد بلغت ذروتها في العشرينيات، ومنذ ذلك أخذت تضمحل بشكل غير مُنظم وإن كان واضحًا. في سنة ٢٠٢٠م أي بعد حوالي مائة عام من تلك الذروة ستُصبح سيطرة الغرب على حوالي ٢٤٪ من مساحة العالم (بعد أن كانت ٤٩٪)، وعلى ١٠٪ من سكان العالم (بعد أن كانت ٤٨٪) وربما على ١٥–٢٠٪ من سكان العالم المعبَّئين اجتماعيًّا، وعلى حوالي ٣٠٪ من مجمل النتاج الاقتصادي العالمي (بعد أن كانت ٧٠٪) وربما على ٢٥٪ من النتاج الصناعي (بعد أن كانت ٨٤٪) وعلى أقل من ١٠٪ من مجمل القوة البشرية العسكرية في العالم (بعد أن كانت ٤٥٪).
في سنة ١٩١٩م كان «وودرو ويلسون» و«لويد جورج» و«جورج كليمنصو» يتحكمون في العالم بالفعل. وهم جالسون في باريس، قرروا ما هي الدول التي يجب أن تُوجَد وما هي التي لا ينبغي لها، ما هي الأقطار الجديدة التي تنشأ، ما هي حدودها ومن يحكمها، وكيف يجب أن يُقسَّم الشرق الأوسط وأرجاء أخرى من العالم بين القوى المنتصرة. كما اتخذوا قرارات بشأن التدخُّل العسكري في روسيا والتنازلات الاقتصادية التي يجب أن تنتزع من الصين. بعد مائة عام لن تكون أي مجموعة صغيرة من الدول قادرة على ممارسة قوة مماثلة. وإن حدث، فإن أي مجموعة تستطيع ذلك لن تكون مكونةً من ثلاث دول غربية، وإنما من قادة دول المركز في حضارات العالم السبع أو الثماني الرئيسية. خلفاء «ريجان» و«تاتشر» و«ميتران» و«كول» سوف يزاحمهم خلفاء «دنج زياوبنج» و«ناكاسوني» و«أنديرا غاندي» و«يلتسين» و«الخميني» و«سوهارتو».
عصر السيادة الغربية سينتهي، وفي نفس الوقت فإن اضمحلال الغرب وصعود مراكز قوى أخرى، سينمي عمليات التأصيل الكونية والعودة إلى المحلية وصحوة الثقافات غير الغربية.
(٢) التأصيل: صحوة الثقافات غير الغربية
توزُّع الثقافات في العالم يعكس توزُّع القوة. التجارة قد تتبع العلم وقد لا تتبعه، ولكن الثقافة تتبع القوة دائمًا. وعبر التاريخ كان توسع حضارة ما، يحدث دائمًا إبان ازدهار ثقافتها، وكان يتضمن دائمًا استخدام تلك القوة لنشر قيمها ومؤسساتها وممارساتها والوصول بها إلى مجتمعات أخرى.
ولكن ما الذي يجعل الثقافة والأيديولوجية جذابة؟ إنها تُصبح كذلك عندما ينظر إليها متجذرة في النجاح المادي وفي النفوذ. فالقوة اللينة لا تكون قوة إلا عندما تعتمد على أساس من القوة الصارمة. الزيادة في القوة الاقتصادية والعسكرية تولِّد ثقة بالنفس وغطرسة واعتقادًا بتفوق الثقافة الخاصة مقارنة بتلك التي لدى الآخرين، كما تزيد من جاذبيتها بالنسبة للغير. انهيار القوة الاقتصادية والعسكرية يؤدي إلى عدم الثقة بالنفس وإلى أزمة هوية والسعي لإيجاد مفاتيح للتقدم الاقتصادي والعسكري والسياسي لدى الثقافات الأخرى.
ومع انحسار النفوذ الغربي، لا يستطيع القادة الصغار الطموحون أن يتطلَّعوا إلى الغرب لكي يزوِّدَهم بالقوة والثروة. عليهم أن يبحثوا عن وسائل النجاح في داخل مجتمعاتهم، ومن هنا فلا بد لهم من أن يتأقلموا مع القِيَم والثقافة المحلية.
عملية التأصيل أو العودة إلى المحلية ليست في حاجةٍ لانتظار الجيل الثاني. قادة الجيل الأول القادرون، المدركون، والذين يستطيعون التكيُّف يقومون بعملية التأصيل بأنفسهم.
وتُوجَد لذلك ثلاث حالات جديرة بالذكر هي «محمد علي جناح» و«هاري لي» و«سولومون باندرانايكا». الثلاثة كانوا خريجين لامِعين من «أكسفورد» و«كمبردج» و«لنكولنز إن» على التوالي. محامون ممتازون ومن بين النخبة في مجتمعاتهم المتغربة تمامًا. «محمد علي جناح» كان علمانيًّا ملتزمًا، «لي» كما يصفه وزير بريطاني كان «أفضل إنجليزي شرق السويس»، «باندرانايكا» نشأت مسيحية. ولكي يقود الثلاثة بلادهم نحو الاستقلال وبعدَه كان عليهم أن يعودوا إلى الأصول … إلى المحلية. عادوا إلى ثقافاتهم، ارتدُّوا إلى ثقافات الأسلاف، وفي الطريق إلى ذلك غيروا أحيانًا هوياتهم، أسماءهم، ملابسهم، معتقداتهم.
المحامي الإنجليزي «محمد علي جناح» أصبح «القائد الأعظم» في الباكستان، «هاري لي» أصبح «لي كوان يو»، «جناح» العلماني أصبح المصلح الإسلامي المتحمس للإسلام كأساس لدولة إسلامية. «لي» المتأنجلز: تعلم «الماندارين» وأصبح داعية للكونوفوشية، «باندرانايكا» المسيحية تحولت إلى البوذية ولجأت إلى القومية السنهالية.
التأصيل والعودة إلى المحلية والجذور كانت هي جدول الأعمال في كل العالم غير الغربي في الثمانينيات والتسعينيات. الصحوة الإسلامية، والتأسلُم هي القضايا الرئيسية في المجتمعات الإسلامية، التوجُّه السائد في الهند هو رفض الأنماط والقيم الغربية والعمل على «تهنيد» السياسة والمجتمع. الحكومات في شرق آسيا تتبنى الكونفوشية، والقادة السياسيون والمفكرون يتحدثون عن «آسينة» بلادهم (جعلها آسيوية قلبًا وقالبًا).
مع نهاية الحرب الباردة، أصبحت روسيا «دولة ممزقة» مرة أخرى مع عودة ظهور الصراع التقليدي بين المتغربين والمتعصبين للسلاقية. لمدة عقد من الزمان تقريبًا كان التوجُّه من التغريب إلى السلاقية، عندما أفسح «جورباتشوف» المتغرب المجال أمام «يلتسين» الروسي الأسلوب والغربي الأفكار، والذي كان بدَوره مهددًا من قِبَل القوميين الذين يمثلون التأصيل الروسي الأرثوذوكسي. وعملية التأصيل تتعمَّق من خلال التناقُض الديمقراطي الظاهري: تبني المجتمعات غير الغربية للتقاليد الديمقراطية الغربية يُشجع ويفتح الطريق نحو السلطة أمام الحركات السياسية القومية والمعادية للغرب. في الستينيات والسبعينيات، كانت الحكومات المتغربة والموالية للغرب في الدول النامية مهددة بالانقلاب عليها والثورة ضدها. في الثمانينيات والتسعينيات كانت تواجه خطرًا متزايدًا بأن تخرج من السلطة عن طريق الانتخابات. التحول إلى الديمقراطية يتصادم مع التغريب، والديمقراطية في صميمها عملية محدودة وليست كوزموبوليتانية. والسياسيون في المجتمعات غير الغربية لا يفوزون في الانتخابات عن طريق إظهارهم مدى تغربهم أو تعلقهم بالغرب، بل إن المنافسة الانتخابية تغريهم، بدلًا من ذلك، بتقديم ما يتصورون أنه يُرضي المطالب الشعبية، والتي عادة ما تكون عرقية ودينية في طبيعتها.
والنتيجة، هي التعبئة الشعبية ضد النخب ذات الثقافة والتوجهات الغربية. الجماعات الإسلامية الأصولية فازت في بعض الانتخابات التي تمت في الدول الإسلامية، وكانت قاب قوسين أو أدنى من السلطة في الجزائر، لو لم يُقدِم العسكر على إلغاء انتخابات ١٩٩٢م.
قبل عام ١٩٤٩م كان كل من جنوب أفريقيا والنخب الغربية ينظرون إلى جنوب أفريقيا على أنها دولة غربية وبعد اتضاح شكل النظام العنصري، بدأت النخب الغربية تطرد جنوب أفريقيا من المعسكر الغربي بالتدريج، بينما استمر البيض في جنوب أفريقيا يعتبرون أنفسهم غربيين. ولكي يستعيدوا مكانهم في النظام العالمي الغربي، اضطروا إلى إدخال المؤسسات الديمقراطية الغربية التي أدت إلى وصول النخبة السوداء الشديدة التغريب إلى السلطة. وإذا قام عامل التأصيل في الجيل الثاني بمهامِّه بنجاح، فإن خلفاء تلك النخبة سيكونون أكثر انتماء لقبائل «الهاوسا» و«الزولو»، وأكثر إفريقية في توجيهاتهم، وسوف يتزايد تعريف جنوب أفريقيا لنفسها كدولة إفريقية.
في مراحل مختلفة قبل القرن التاسع عشر، كان البيزنطيون والعرب والصينيون والعثمانيون والمغول والروس، على ثقةٍ عالية بقوتهم وإنجازاتهم مقارنة بتلك التي لدى الغرب. في تلك المراحل أيضًا، كانوا يشعرون بازدراءٍ نحو ضعف الغرب الثقافي وتخلف مؤسساته وما به من فساد وتفسخ. ومع انخفاض نجاح الغرب نسبيًّا، تعود تلك الاتجاهات للظهور ويشعر الناس أنهم «ليسوا في حاجة للاقتباس عنه».
تتجلى عملية التأصيل الكونية هذه بشكل واضح في الإحياء الديني الذي يحدث في أجزاء كثيرة من العالم، خاصة ذلك الانبعاث الثقافي في الدول الآسيوية والإسلامية، الناجم في جزءٍ كبير منه عن نشاطها الثقافي ونموها الديموغرافي.
(٣) ثأر الله
في النصف الأول من القرن العشرين، كانت النخبة المثقفة تفترض أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي يؤدي إلى ذبول الدين كعاملٍ مُهم في وجود الإنسان. هذا الافتراض كان يشترك فيه المرحبون بهذا التوجُّه والمندِّدون به على السواء. العلمانيون من دعاة التحديث كانوا يرحبون بالمدى الذي وصل إليه العِلم والعقلانية والبراجماتية في القضاء على الخرافات والأساطير واللاعقلانية والطقوس التي تُكَوِّنُ جوهر الأديان الموجودة: المجتمع الناشئ سيكون مُتسامحًا، عقلانيًّا، عمليًّا، تقدميًّا، إنسانيًّا، وعلمانيًّا.
ومع إحياء الأرثوذوكسية في الجمهوريات السلافية، اجتاحت آسيا الوسطى صحوة إسلامية في نفس الوقت. في سنة ١٩٨٩م كان يُوجَد في آسيا الوسطى ١٦٠ مسجدًا عاملًا ومدرسة إسلامية واحدة. في أوائل ١٩٩٣م كان العدد قد أصبح عشرة آلاف مسجد وعشر مدارس.
الناس لا يعيشون بالعقل فقط، لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم. سياسة المصالح تفترض وجود الهوية. في أوقات التغير الاجتماعي السريع تذوب الهويات الراسخة، لا بد من إعادة تعريف الذات، هكذا تخلق هويات جديدة. بالنسبة لمن يواجهون احتياجًا لتحديد «من أنا؟» و«لمن أنتمي؟» يقدم الدين إجاباتٍ قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعاتٍ صغيرةً عوضًا عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين. كل الأديان، كما يقول «حسن الترابي» تزود الناس «بإحساس بالهوية وباتجاه في الحياة».
وإذا كانت الأديان التقليدية السائدة لا تشبع الاحتياجات العاطفية والاجتماعية للمجتثين من جذورهم، فإن جماعات دينية أخرى تتحرك، وأثناء ذلك تُوسِّع من عضويتها ومن إبراز دور الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية.
هذه التحولات في كوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية تعكس عجز البوذية والكاثوليكية الراسخة عن الوفاء بالاحتياجات النفسية والعاطفية والاجتماعية للناس الواقعين في فخ أذى التحديث. وحدوث تحولات أخرى مهمة في الالتزام الديني، يتوقف على مدى قدرة الدين القائم على الوفاء بتلك الاحتياجات. وبسبب جفافها العاطفي، تبدو الكونفوشية هي الأكثر تعرضًا للسقوط.
وبوجهٍ عام، فإن هذا السجل يُبين أنه حينما يُوجَد صراع، فإن «ثأر الله» يلعب الورقة الرابحة، ورقة العودة إلى الأصول:
فإذا كانت الاحتياجات الدينية للتحديث لا يمكن الوفاء بها عن طريق المعتقدات القديمة، فإن الناس يتحولون إلى المستوردات الدينية المشبِعة لعواطفهم. وبالإضافة إلى الصدمات النفسية والعاطفية والاجتماعية للتحديث، فإن المحفزات الأخرى على الصحوة الدينية تتضمَّن تراجع الغرب وانتهاء الحرب الباردة. مع بداية القرن التاسع عشر، كانت استجابات الحضارات غير الغربية للغرب بشكلٍ عام تتحرك خلال متوالية من الأيديولوجيات المستوردة من الغرب. وفي القرن التاسع عشر، كانت النخبة غير الغربية تتشرب القيم الليبرالية الغربية، وكان أول تعبير لهم عن معارضتهم للغرب يأخذ شكل القومية الليبرالية. في القرن العشرين، استوردت النخب الروسية والآسيوية والعربية والإفريقية والأمريكية اللاتينية، الأيديولوجيات الاشتراكية والماركسية ومزجتها بالقومية في معارضة للرأسمالية الغربية والاستعمار الغربي.
التحركات من أجل الإحياء الديني معادية للعلمانية، ومعادية للعالمية، ومعادية للحضارة الغربية أيضًا فيما عدا تجلياتها المسيحية. كما أنها معارضة للنسبية وللأنانية وللاستهلاكية المرتبطة بما يُطلِق عليه «بروس ب. لورانس»: «الحداثة» التي تختلف عن «العصرية»، وبشكل عام فإنهم لا يرفضون التمديُن ولا التصنيع ولا التنمية ولا الرأسمالية ولا العلم ولا التكنولوجيا ولا ما يعنيه أي من ذلك بالنسبة للمجتمع. وبهذا المعنى فهم ليسوا ضد الجديد. وهم يَقبلون «التحديث»، أو كما يقول «لي كوان يو»: «حتمية العلم والتكنولوجيا وما يوفرانه من أساليب الحياة» ولكنهم «لا يتقبلون فكرة أن يستغربوا».
في كوريا الجنوبية، كان نفس النوع من الناس يملأ الكنائس الكاثوليكية والمشيخية في الستينيات والسبعينيات.
هذه الصحوة ليست رفضًا للحداثة، بل هي رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة به. إنها رفض لما يطلق عليه «التسمُّم بالغرب» الذي يُصيب المجتمعات غير الغربية، وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب، إعلان كله كبرياء يقول: «سنكون حديثين، ولكننا لن نكون أنتم.»