الاقتصاد والديموغرافيا وحضارات التحدي
العودة إلى الأصول وإحياء الدين ظاهرة عالمية، وقد تبدَّت في أوضح صورها في التوكيد الثقافي وتحديات الغرب التي جاءت من آسيا ومن الإسلام، وهي الحضارات الديناميكية في الربع الأخير من القرن العشرين.
ويتجلى التحدي الإسلامي في الصحوة الثقافية والاجتماعية والسياسية العامة للإسلام في العالم الإسلامي، وما يُصاحبه من رفضٍ لقِيَم الغرب ومؤسساته الاجتماعية. كما يتجلَّى التحدي الآسيوي في كل الحضارات الشرق آسيوية — الصينية، اليابانية، البوذية، الإسلامية — ويؤكد على الاختلافات الثقافية بينها وبين الغرب، وأحيانًا على ما هو مشترك فيما بينها هي والذي يتحدَّد غالبًا بالكونفوشية. كل من الآسيويين والمسلمين يؤكد على تفوق ثقافته على الثقافة الغربية. الناس في الحضارات غير الغربية الأخرى — الهندوسية، الأمريكية اللاتينية (الإفريقية) — قد يؤكدون على الشخصية المتميزة لثقافاتهم، ولكنهم منذ منتصف التسعينيات أصبحوا يتردَّدون في إعلان تفوُّقهم على ثقافة الغرب. الحضارتان الآسيوية والإسلامية تقف كل منهما منفردةً في ثقتها المتزايدة وتأكيد نفسها بالنسبة للغرب، وأحيانًا تقفان معًا. هناك أسباب تتعلق بهذه التحديات ولكنها مختلفة. التوكيد الآسيوي جذوره في النمو الاقتصادي، التوكيد الإسلامي نابع إلى حدٍّ كبير من التعبئة الاجتماعية والنمو السكاني. كل من هذه التحديات له — وستبقى له — آثاره على عدم استقرار السياسة العالمية في القرن الواحد والعشرين، ولكن طبيعة تلك الآثار تختلف فيما بينها.
النمو الاقتصادي للصين والمجتمعات الآسيوية الأخرى، يزود حكوماتها بالدوافع والمصادر لكي تصبح أكثر قوة في تعاملها مع الدول الأخرى. النمو السكاني في الدول الإسلامية، وبخاصة زيادة نسبة من هم بين الخامسة عشرة والثانية والعشرين، يقدم مجنَّدين جددًا للأصولية والإرهاب والتمرد والهجرة. النمو الاقتصادي يقوي الحكومات الآسيوية، بينما يُهدد النمو الديموغرافي الحكومات الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية.
(١) التوكيد الآسيوي
النمو الاقتصادي في شرق آسيا هو أحد التطورات المهمة في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. هذه العملية بدأت في اليابان في الخمسينيات، وقد ظلَّت اليابان لفترةٍ تعتبر الاستثناء: دولة غير غربية تنجح في التحديث وتتقدَّم اقتصاديًّا. وانتقلت عملية النمو الاقتصادي بسرعةٍ إلى النمور الأربعة (هونج كونج – تايوان – كوريا الجنوبية – سنغافورة)، ثم إلى الصين واليابان وتايلاند وإندونيسيا، كما تترسخ في الفلبين والهند وفيتنام. هذه الدول حافظت غالبًا لمدة عقد من الزمان أو أكثر على معدل تنمية سنوي بين ٨٪ و١٠٪ أو يزيد. كما حدث نمو مماثل في مجال التجارة، بين آسيا والعالم أولًا، ثم بعد ذلك في داخل آسيا.
التنمية الناجحة تُوَلِّدُ ثقةً بالنفس لمن يحققونها ولمن يستفيدون منها. والثروة مثل القوة، يفترض أنها دليل على الأفضلية واستعراض للتفوُّق الأخلاقي والثقافي.
هذه النهضة تعبر عن نفسها في التوكيد المتزايد على تميز الهوية الثقافية لكل دولة آسيوية، وفي نفس الوقت على العوامل المشتركة بين الثقافات الآسيوية والتي تميزهما معًا عن الثقافة الغربية. ومغزى هذا الإحياء الثقافي واضح في التفاعل المتغير بين المجتمعَين الآسيويين الرئيسيين والثقافة الغربية. عندما فرض الغرب نفسه على الصين واليابان في منتصف القرن التاسع عشر، اختارت النُّخَب السائدة استراتيجيةً إصلاحية بعد افتتان وجيز بالكمالية. وبعد «إحياء أسرة ميجي»، وصلت إلى السلطة في اليابان جماعة نشطة من المصلِحين، درسوا واستعاروا الأساليب الفنية والممارسات والمؤسسات الغربية وبدءوا عملية تحديث في اليابان. وفعلوا ذلك بأسلوبٍ يحافظ على أساسيات الثقافة اليابانية التقليدية التي ساعدت من جوانب كثيرة على عملية التحديث، وجعلت اليابان قادرة على استلهام وإعادة صياغة عناصر تلك الثقافة والبناء عليها، لاستثارة الدعم لها وتبرير سيادتها في الثلاثينيات والأربعينيات.
في الصين، من ناحية أخرى، كانت أسرة «منج» المضمحلة، عاجزة عن التكيف بنجاح مع تأثير الغرب. كانت الصين مهزومة، ومُستَغَلة، ومستذلة من اليابان والقوى الكبرى، وتبع سقوط الأسرة في سنة ١٩١٠م انقسام وحرب أهلية وتوسل لمفاهيم غربية منافسة من قِبلَ المثقفين الصينيين والقادة السياسيين المتنافسين: مبادئ «صن يات صن» الثلاثة: «الماركسية والديمقراطية وقوت الشعب»، ليبرالية «ليانج تشي تشاو»، الماركسية اللينينية عند «ماوتسي تونج». وفي نهاية الأربعينيات انتصرت الواردات السوفيتية على الواردات الغربية — القومية، الليبرالية، الديمقراطية، المسيحية — وتحدَّدَ شكل الصين مجتمعًا اشتراكيًّا.
وفي نهاية السبعينيات، كان فشل الشيوعية في إحداث تقدُّم اقتصادي ونجاح الرأسمالية في اليابان ومجتمعات آسيوية أخرى قد أدى بالقيادة الصينية الجديدة إلى أن تبتعد عن النموذج السوفيتي. انهيار الاتحاد السوفيتي بعد عقدٍ من الزمان، زاد من تأكيد فشل تلك الواردات. وهكذا واجه الصينيون قضيةَ الخيار بين التوجُّه غربًا أو التوجُّه داخليًّا.
القومية التي يتبناها النظام هي قومية «هان»، التي تهدف إلى كبح كل الاختلافات اللغوية والإقليمية والاقتصادية بين ٩٠٪ من سكان الصين، وفي نفس الوقت تؤكد على الاختلافات بينها وبين الأقليات العرقية غير الصينية التي تمثل أقل من ١٠٪ من السكان وإن كانت تشغل ٦٠٪ من المساحة. كما تقدم أساسًا لمعارضة النظام للمسيحية، والمنظمات المسيحية، ودخول الناس المسيحية التي تقدم عقيدةً غريبة بديلة لملء الفراغ الناجم عن سقوط الماوية اللينينية. في نفس الوقت، كان النمو الاقتصادي الناجح في اليابان يتناقض مع الفشل والتدهور الملحوظ في الاقتصاد والنظام الاجتماعي الأمريكيين، وأدى ذلك باليابانيين — وبشكل متزايد — إلى أن يُصبحوا أقل انبهارًا بالنماذج الغربية، ويزداد اقتناعهم بأن مصادر نجاحهم لا بد أن تكون موجودة في ثقافاتهم. الثقافة اليابانية التي أدت إلى كارثة عسكرية في سنة ١٩٤٥م، وبالتالي كان لا بد من رفضها، هي التي أنتجت انتصارًا اقتصاديًّا، بحلول عام ١٩٨٥م، وبالتالي كان لا بد من تبنِّيها. ألفة اليابانيين المتزايدة مع المجتمع الغربي جعلتْهم يُدركون «أن يكونوا غربيين، فذلك ليس شيئًا رائعًا في حد ذاته أو بسببه، وإنما يمكن أن يُحققوا ذلك من خلال نظامهم».
- أولًا: إعادة التوحد بالتقاليد الثقافية اليابانية والتوكيد المتجدِّد على قِيَم تلك التقاليد.
- ثانيًا: الأكثر إشكالية: السعي لأسينة اليابان وربطها — رغم حضارتها المائزة — بثقافة آسيوية عامة. ورغم اتساع صلة اليابان بالغرب بعد الحرب العالمية الثانية على عكس الصين، ورغم أن الغرب — مع كل فشله — لم يُواجه انهيارًا كاملًا كما حدث للاتحاد السوفيتي، فإن حوافز اليابان لرفض الغرب بالكلية لم تصِل إلى المدى الذي وصلت إليه حوافز الصين لإبعاد نفسِها عن كلا النموذجَين السوفيتي والغربي. من جانب آخر فإن فرادة الحضارة اليابانية، وذكريات الاستعمار الياباني في الدول الأخرى، والتمركُز الاقتصادي الصيني في معظم الدول الآسيوية الأخرى، كل ذلك يعني أيضًا أنه سيكون من الأسهل على اليابان أن تُبعد نفسها عن الغرب، وعن الامتزاج بآسيا.9
- أولًا: يعتقد الآسيويون أن شرق آسيا سوف يحافظ على نموه الاقتصادي السريع، وأنه سوف يتفوق
على الغرب بسرعة في النتاج الاقتصادي، وبالتالي سوف يُصبح قويًّا — وبشكل متزايد — في
الشئون
الدولية مقارنة به. النمو الاقتصادي يُثير بين المجتمعات الآسيوية شعورًا بالقوة وتأكيدًا
لقدرتها على التصدي للغرب. في سنة ١٩٩٣م صرح صحفي ياباني بارز: «لقد ولت تلك الأيام …
عندما كانت
الولايات المتحدة تعطس فتُصاب آسيا بالزكام.» ويضيف مسئول ماليزي إلى هذا المجاز الطبي:
«حتى
الحُمى الشديدة في أمريكا لن تجعل آسيا تسعل.»
ويقول زعيم آسيوي آخر: «الآن، الآسيويون في نهاية حقبةِ الرهبة وبداية حقبة الردِّ بقوة» في علاقتهم بالولايات المتحدة.
ويؤكد نائب رئيس وزراء ماليزيا: «الازدهار المتزايد في آسيا يجعلها الآن في وضعِ من يستطيع أن يُقدِّم بدائل خطيرة للترتيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العالمية السائدة.»10ويقول الآسيويون إن ذلك يعني أن الغرب يفقد — وبسرعة — قُدرتَه على جعل المجتمعات الآسيوية تعمل وفقَ المعايير الغربية فيما يتعلق بحقوق الإنسان وغيرها من القِيَم.
- ثانيًا: يعتقد الآسيويون أن هذا النجاح الاقتصادي جاء نتيجةً للثقافة الآسيوية التي هي أرقى
من ثقافة الغرب المتفسِّخ ثقافيًّا واجتماعيًّا. أثناء فورة الثمانينيات، عندما كان الاقتصاد
والصادرات والميزان التجاري واحتياطيات النقد الأجنبي اليابانية كلها تتعاظم، كان اليابانيون
مثل السعوديين من قبلِهم يتفاخرون بقوتهم الاقتصادية الجديدة ويتكلمون بازدراء عن انهيار
الغرب،
ويَعزُون نجاحهم والفشل الغربي، إلى تفوُّق ثقافتهم وتفسُّخ الثقافة الغربية.
في بداية التسعينيات، ظهر الانتصار الآسيوي من جديدٍ على نحو واضح فيما يمكن أن يوصف فقط ﺑ «الهجوم الثقافي السنغافوري». وابتداء من «لي كوان يو» كان قادة سنغافورة يتكلَّمون بملء الفم عن صعود آسيا بالنسبة للغرب، ويقارنون بين قيم الثقافة الآسيوية التي هي كونوفشية في الأساس، (النظام، الانضباط، مسئولية الأسرة، العمل الجاد، الجماعية، الاعتدال) وقيم الغرب المتمثلة في الانغماس الذاتي والكسل والفردانية والجريمة والتعليم الهابط وعدم احترام السلطة و«التحجر العقلي»، وكلها مسئولة عن انهياره. وكانت المحاجَّة هي: إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تنافس الشرق «فعليها أن تُعيد النظر وبكل شك، في نُظمِها الاجتماعية والسياسية، وأثناء ذلك تحاول أن تتعلم شيئًا أو أكثر من المجتمعات الشرق آسيوية».11ويعتقد الشرق آسيويون أن نجاحهم هو على نحوٍ خاص، نتيجة للتأكيد الشرق آسيوي على الجماعية أكثر من الفردية. «القِيَم والممارسات الأكثر مجتمعيةً لدى الشرق آسيويين بخاصة — اليابانيون، الكوريون، التايوانيون، الهونج كونجيون، السنغافوريون — أثبتت أنها أصول استثمارية واضحة في عملية اللحاق بالنهضة»، كما يقول «لي كوان يو»: «القيم التي ترفعها وتتبناها الثقافة الآسيوية، مثل أولية مصالح الجماعة على المصالح الفردية، تدعم جُهد الجماعة الضروري من أجل التقدُّم السريع»، «أخلاقيات العمل عند اليابانيين والكوريين، والتي تكون من الانضباط والإخلاص والعمل الجاد» كما يقول رئيس وزراء ماليزيا: «كانت بمثابة القوة الدافعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي لدولهم.» أخلاقيات العمل هذه، نابعة من الفلسفة التي تعلن أن الجماعة والدولة أهم من الفرد.12
- ثالثًا: وبينما يدركون الاختلافات بين المجتمعات الآسيوية وبين الحضارات، يقول الشرق
آسيويون كذلك إن هناك عواملَ كثيرة مشتركة بينهم. في المركز من هذه الأشياء كما لاحظ
أحد
المنشقين الصينيين: «نظام القيمة في الكونفوشية — الذي يمجده التاريخ وتشترك فيه معظم
دول
المنطقة»، وبخاصة تأكيده على الاقتصاد (بمعنى عدم الإسراف) والأسرة، والعمل، والانضباط.
وعلى
نفس الدرجة من الأهمية: الرفض المشترك للفردانية وسيادة «سلطوية» ناعمة أو أشكال محدودة
جدًّا
من الديمقراطية.
المجتمعات الآسيوية لها مصالح مشتركة في مواجهة الغرب دفاعًا عن هذه القيم المتميزة ومتابعة لمصالحها الاقتصادية الخاصة. ويرى الآسيويون أن ذلك يتطلب تطوير أشكال جديدة من التعاون الآسيوي، مثل توسيع اتحاد الأمم الشرق آسيوية Association of South East Asian Nations – (ASEAN) وإنشاء المؤتمر الاقتصادي لشرق آسيا East Asian Economic Caucus (EAEC). وبينما الوصول إلى الأسواق الأوروبية هو الاهتمام الاقتصادي المباشر للمجتمعات الشرق آسيوية، إلا أن الإقليمية الاقتصادية من المحتمل أن تسود في المدى البعيد، وبناء عليه فإن شرق آسيا لا بد أن يزيد بشكلٍ متصاعد من التجارة والاستثمار داخل وبين دوله.13على نحوٍ خاص، من الضروري لليابان كقائدٍ للتنمية الآسيوية أن تنتقل من سياستها التاريخية «سياسة عدم التوجُّه نحو آسيا وموالاة الغرب» وأن تتبع «طريق العودة إلى الآسيوية»، أو أن تتبع على نحو أوسع «أسينة آسيا» وهي الطريق التي أقرها المسئولون في سنغافورة.14
- رابعًا: يعتقد الشرق آسيويون أن التقدم الآسيوي والقِيَم الآسيوية نماذج يجب على الدول غير الغربية محاكاتها في سعيِها للحاق بالغرب، وأن الغرب يجب عليه أن يتبنَّاها لكي يُجدد نفسه. «نموذج التقدم الأنجلو ساكسوني، الذي كان يحظى بالتقدير على مدى العقود الأربعة الماضية كأحدث وسيلة لتجديد الاقتصاد في الدول النامية وبناء نظام سياسي ذي جدوى، لم يعد صالحًا»، هكذا يزعم الشرق آسيويون. النموذج الشرق آسيوي يحل محله، حيث تحاول دول من المكسيك إلى إيران وتركيا والجمهوريات السوفيتية السابقة أن تتعلم من نجاحه الآن، كما كانت الأجيال السابقة تحاول أن تتعلم من النجاح الغربي. آسيا لا بد «أن تنقل إلى بقية العالم تلك القيم الآسيوية ذات الجدوى العالمية … فكل هذا النموذج يعني تصدير نظام آسيا الاجتماعي، نظام شرق آسيا تحديدًا، من الضروري لليابان والدول الآسيوية الأخرى أن تتبنى «كوكبة آسيوية»، أن «تعولم آسيا»، وبالتالي «تشكل طبيعة النظام العالمي الجديد على نحو حاسم»».15
التوكيد الثقافي يتبع النجاح المادي. القوة الصلبة تولد القوة اللينة.
(٢) الصحوة الإسلامية
الصحوة الإسلامية هي الجهد الذي يبذله المسلمون لتحقيق هذا الهدف، وهي حركة فكرية ثقافية اجتماعية سياسية عريضة مُنتشرة في معظم أنحاء العالم العربي.
«هي كثيرة: الاهتمام المتزايد بالطقوس الدينية (الذهاب إلى المسجد، الصلاة، الصيام)»، نشر البرامج والمطبوعات الدينية، تركيز كبير على الملبس والقيم الإسلامية، إعادة الحياة للصوفية. هذا التجديد بقاعدتِهِ العريضة يُصاحبه تأكيد لحضور الإسلام في الحياة العامة: زيادة في عدد الحكومات والمؤسسات والقوانين والبنوك والخدمات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية ذات التوجُّه الإسلامي. الحكومات والحركات المعارضة اتجهت نحو الإسلام لتقوية سُلطتها وحشد التأييد الجماهيري … معظم الحكام والحكومات بما فيها الدول الأكثر علمانية مثل تركيا وتونس أصبحت على دراية بالقوة المحتملة للإسلام وأظهرت حساسية وقلقًا بخصوص القضايا الإسلامية.
«ثأر الله» ظاهرة كونية، ولكن الله قد جعل ثأره متغلغلًا في «الأمة» … مجتمع الإسلام.
وفي تجلياتها السياسية تأخذ الصحوة الإسلامية بعض الشبه مع الماركسية: نصوصها المكتوبة، رؤيتها للمجتمع المثالي، الالتزام بتغيير جوهري، رفضها للدولة القومية، وما يمكن أن يُصبح دولة، وتنوُّع مذهبي يتراوح بين الإصلاح المعتدل والعنف الثوري. وهناك تشابُه أهمُّ بينها وبين الإصلاح البروتستانتي. كلاهما ردُّ فعلٍ لفساد وكساد المؤسسات القائمة، كلاهما يؤيد العودة إلى صيغةٍ أنقى ومطلوبة من الدِّين، تدعو للعمل وللنظام والانضباط، كلاهما يستهوي أبناء الطبقة المتوسطة النشطة، وكلاهما أيضًا حركة مُعقدة ذات جدائل متنوعة، فيما عدا جديلتَين رئيسيتَين: اللوثرية والكالفينية، الشيعة والسنة الأصولية، حتى التشابه بين «جون كالفن» و«آية الله الخميني» والانضباط الرهباني الذي يريدان فرضه على مجتمعاتهما.
الروح الرئيسية في كلٍّ من الإصلاح والصحوة هي الإصلاح الجذري. «الإصلاح لا بد أن يكون شاملًا» … كما صرح أحد الكهنة المتطهرين … إصلاح جميع الأماكن، جميع الأفراد، جميع الأعمال والمهن، إصلاح مقاعد القضاء، القضاة، إصلاح الجامعات، المدن، الريف، المدارس، المعاهد، إصلاح يوم الأحد، إصلاح الطقوس وعبادة الله.
وتجاهل أثر الصحوة الإسلامية على سياسة نصف الكرة الشرقي في أواخر القرن العشرين، يعادل تجاهل أثر الإصلاح البروتستانتي على السياسة الأوروبية في أواخر القرن السادس عشر. إلا أن الصحوة تختلف عن الإصلاح في جانبٍ واحد أساسي: أثر الإصلاح كان محدودًا بأوروبا الشمالية، حقق نجاحًا قليلًا في إسبانيا وإيطاليا وشرق أوروبا وأراضي الهابسبورج عمومًا. وعلى العكس من ذلك لمست الصحوة كل مجتمعٍ في العالم تقريبًا. مع بداية السبعينيات اكتسبت الرموز والمعتقدات والمبادئ والممارسات والسياسات والتنظيمات الإسلامية التزامًا متزايدًا ودعمًا في كل أنحاء العالم المكون من بليون مسلم والممتد من المغرب إلى إندونيسيا، ومن نيجيريا إلى كازاخستان. عنيت عملية الأسلمة أن تتم أولًا في عالم الثقافة ثم تنتقل إلى المجالات الاجتماعية والسياسية. لم يستطع قادة الفكر والسياسة سواء كانوا معها أو ضدها أن يتجاهلوها أو يتجنبوا التكيف معها على نحو أو آخر.
في إندونيسيا، انتشرت المنظمات الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات، ومع بداية ١٩٨٠م، كانت «المحمدية»، أكبر تلك المنظمات، تتكوَّن من ستة ملايين عضو، الأمر الذي يمثل «دولة دينية اجتماعية داخل الدولة العلمانية» وكانت تُقدم الخدمات «من المهد إلى اللحد» لكل المجتمع من خلال شبكة واسعة من المدارس والمستوصفات والمستشفيات والمؤسسات التي تصل إلى مستوى الجامعة.
التجليات السياسية لللصحوة الإسلامية أقل تغلغلًا وانتشارًا عن تجلياتها الاجتماعية والثقافية، ولكنها ما تزال التطور السياسي المهم والوحيد في المجتمعات الإسلامية في الربع الأخير من القرن العشرين.
العامل الأساسي الثالث في المقوم الإسلامي هو: المهاجرون الجدد إلى المدينة. في السبعينيات والثمانينيات زاد عدد سكان المدن في أنحاء العالم الإسلامي بمعدلات رهيبة. المهاجرون المكدَّسون في الأحياء العشوائية والحقيرة من المدن كانوا دائمًا في حاجةٍ إلى الخدمات الاجتماعية التي توفِّرها لهم المنظمات والمؤسسات الإسلامية، وكانوا هم المستفيدين منها. بالإضافة إلى ذلك كما يشير «إرنست جلنر»، فإن الإسلام قدَّمَ إلى «تلك الجموع المجتثة من جذورها حديثًا» هوية محترمة.
بمنتصف التسعينيات، وصلت الحكومات الإسلامية إلى السلطة في إيران والسودان فقط. في عدد صغير من الدول الإسلامية مثل تركيا وباكستان، تُوجَد أنظمة تدَّعي الشرعية والديمقراطية إلى حدٍّ ما، أما حكومات العشرين دولة الإسلامية الأخرى فكانت غير ديمقراطية: هي ملكيات، أنظمة الحزب الواحد، أنظمة عسكرية، دكتاتوريات شخصية، أو بعض من هذه التركيبات مجتمعة، عادة تعتمد على أسرة واحدة، أساس قبلي أو عشائري، وفي بعض الحالات تعتمد على الدعم الخارجي. هناك نظامان في المغرب والسعودية حاولا توسُّل شكلٍ من أشكال الشرعية الإسلامية. ومعظم هذه الحكومات مفتقدة لأي أساس يمكن أن تُبرر به حكمها على أساس من الإسلام أو الديمقراطية أو القيم الوطنية. وبعبارة «كليمنت هنري مور»: «هي أنظمة مُتحجرة، قمعية، فاسدة، معزولة تمامًا عن احتياجات وتطلعات مجتمعاتها. أنظمة كهذه يمكن أن تحافظ على نفسها لفترات طويلة، ومع ذلك يظل احتمال تغييرها أو سقوطها كبيرًا في العالم الحديث. وهكذا كانت إحدى القضايا الأساسية في منتصف التسعينيات هي البدائل المحتملة: من أو ماذا سيخلُفها؟ وفي منتصف التسعينيات كان الخلَف الأكثر احتمالًا هو نظام متأسلِم.»
في السبعينيات والثمانينيات اجتاحت العالم موجةٌ من التحوُّل إلى الديمقراطية، وكان لهذه الموجة أثرها على المجتمعات الإسلامية وإن كان محدودًا. وبينما كانت الحركات الديمقراطية تكتسب قوة وتصِل إلى السلطة في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية والمحيط الشرق آسيوي وأوروبا الوسطى، كانت الحركات المتأسلِمة تكتسب قوة في البلاد الإسلامية في نفس الوقت. التأسلُم كان هو البديل العملي للمعارضة الديمقراطية للسلطوية في المجتمعات المسيحية، وكان في جانبٍ كبير منه نتاج أسباب مشابهة: التعبئة الاجتماعية، فقدان الأنظمة السلطوية لشرعية الأداء، والبيئة العالمية المتغيرة بما في ذلك الزيادة في أسعار النفط والتي شجعت التوجُّهات المتأسلمة في العالم الإسلامي أكثر مما شجعت التوجهات الديمقراطية. القساوسة والكهنة والجماعات الدينية العادية، كلهم لعبوا أدوارًا رئيسية في معارضة الأنظمة السلطوية في المجتمعات المسيحية. العلماء والجماعات المتمركزة في المساجد والمتأسلمون، لعبوا أدورًا مماثلة في الدول الإسلامية. «البابا» كان عاملًا مركزيًّا في إنهاء النظام الشيوعي في بولندة، و«آية الله» في إسقاط نظام الشاه في إيران.
في الثمانينيات والتسعينيات سيطرت الحركات المتأسلمة، واحتكرت غالبًا عملية المعارضة للحكومات في الدول الإسلامية. قوتها كانت تعود في جزءٍ منها إلى ضعف مصادر المعارضة البديلة. الحركات اليسارية والشيوعية فقدت مصداقيتها ثم قلَّ شأنها لدرجة كبيرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية. جماعات المعارضة الديمقراطية الليبرالية كانت موجودة في معظم المجتمعات الإسلامية، ولكنها كانت تقتصر عادة على أعدادٍ محدودة من المثقفين وغيرهم من ذوي الارتباطات أو الجذور الغربية. ومع استثناءات قليلة، كان الديمقراطيون الليبراليون عاجزين عن كسب الدعم الشعبي في المجتمعات الإسلامية، حتى الليبرالية الإسلامية فشلت في تكوين جذور لها.
في أوقات مختلفة أثناء الحرب الباردة، كانت حكومات كثيرة، بما فيها تلك في الجزائر وتركيا والأردن ومصر وإسرائيل، تشجع وتدعم المتأسلمين كإجراءٍ مضادٍّ للحركات الشيوعية أو الحركات الوطنية المعارضة. وحتى حرب الخليج على الأقل، كانت السعودية ودول الخليج الأخرى تقدِّم تمويلًا هائلًا للإخوان المسلمين وجماعات التأسلُم في دولٍ مختلفة. قدرة الجماعات المتأسلمة على السيطرة على المعارضة، كان يُذكيها أيضًا قمع الحكومات للمعارضة العلمانية.
ومثل التجليات الأخرى للإحياء الديني العالمي، فإن الصحوة الإسلامية نتاج للتحديث، وفي نفس الوقت سعيٌ للإمساك به.
وأسبابه هي تلك المسئولة عادة عن اتجاهات التأصيل في المجتمعات غير الغربية: التمدين، التعبئة الاجتماعية، المعدلات العالية في زيادة أعداد القادرين على القراءة والكتابة، وسائل الاتصال الواسعة، الاستهلاك الإعلامي والتفاعُل المتزايد مع الثقافات الغربية وغيرها. هذه التطورات تُقلل من شأن روابط القرية والقبيلة التقليدية، وتخلق الاغتراب وأزمة الهوية.
الحكومات السعودية والليبية وغيرها استخدمت ثرواتها النفطية لاستثارة وتمويل عملية الإحياء الإسلامي، والثروة الإسلامية أدت بالمسلمين إلى أن يتحولوا بسرعة عن الافتتان بالثقافة الغربية إلى الانغماس العميق في ثقافاتهم والاستعداد لتوكيد مكانة وأهمية الإسلام في الدول غير الإسلامية. ومثلما كان يُنظَر في السابق إلى الثروة الغربية كدليل على تفوق ثقافة الغرب، أصبح يُنْظَر إلى الثروة النفطية كدليل على تفوق الإسلام. الزخم الذي صنعه الارتفاع الشديد في أسعار النفط هبط في الثمانينيات، ولكن النمو السكاني كان قوة دافعة باستمرار.
وبينما صعود شرق آسيا تدعمه معدلات نمو اقتصادي عالية جدًّا، فإن الصحوة الإسلامية تدعمها وبنفس الدرجة معدلات نمو سكاني عالية جدًّا. الزيادة السكانية في الدول الإسلامية، خاصة البلقان، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، أعلى بكثير منها في الدول المجاورة وفي العالم بوجهٍ عام. بين عامي ١٩٦٥م و١٩٩٠م ارتفع عدد سكان العالم من ٣٫٣ بليون نسمة إلى ٥٫٣ بليون بنسبة زيادة سنوية ١٫٨٥٪، في المجتمعات الإسلامية كانت نسبة الزيادة ٢٫٠٪ تقريبًا، وغالبًا كانت تتخطى ٢٫٥٪ وأحيانًا كانت تصل إلى أعلى من ٣٫٠٪.
وبين ١٩٦٥م و١٩٩٠م مثلًا، زاد عدد سكان المغرب بمعدل ٢٫٦٥٪ في السنة، أي من ٢٩٫٨ مليون نسمة إلى ٥٩ مليونًا (الجزائريون يتكاثرون بمعدل ٣٫٠٪ سنويًّا).
خلال نفس الفترة زاد عدد سكان مصر بمعدل ٢٫٣٪، أي من ٢٩٫٤ مليون نسمة إلى ٥٢٫٤ مليون.
في آسيا الوسطى ارتفع عدد السكان بين عامي ١٩٧٠م و١٩٩٣م بالمعدلات التالية: ٢٫٩٪ في طاجيكستان، ٢٫٦٪ في أوزبكستان، ٢٫٥٪، ٢٫٥٪ في تركمانستان ١٫٩٧٪ في كورجيستان، بينما زاد بنسبة ١٫١٪ في كازاخستان التي يبلغ عدد سكانها نصف عدد سكان روسيا تقريبًا.
- أولًا: الشباب هم أبطال الاحتجاج وعدم الاستقرار والإصلاح والثورة. وتاريخيًّا، فإن وجود مجموعات عمرية شبابية كبيرة يتصادف دائمًا مع تلك الحركات. وكما يُقال فإن «الإصلاح البروتستانتي مثال على إحدى الحركات الشبابية البارزة في التاريخ».
بعد أربعة عقود من الحرب العالمية الثانية، ظهرت آثار الزيادة الكبيرة في جيل الأطفال في مظاهرات واحتجاجات الطلاب في الستينيات. شباب الإسلام لهم علامتُهم الواضحة في الصحوة الإسلامية. عندما بدأت الصحوة في السبعينيات، وقوِيت شوكتُها في الثمانينيات كانت نسبة الشباب (بين ١٥ و٢٤ سنة) في معظم البلاد الإسلامية قد ارتفعت بشكل كبير، وبدأت تتخطى نسبة اﻟ ٢٠٪ من عدد السكان.
في كثير من الدول الإسلامية وصل البروز الشبابي إلى ذروته في السبعينيات والثمانينيات، وسيصل في دولٍ أُخرى إلى ذروته باكرًا في القرن القادم، الذرا الحقيقية أو المتوقعة في كل تلك البلاد، مع استثناءٍ واحد هي فوق اﻟ ٢٠٪، الذروة السعودية المتوقعة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أقل من ذلك بكثير. هؤلاء الشباب يزودون المنظمات الإسلامية والحركات السياسية بالقوة البشرية. وربما لا يكون بالمصادفة تمامًا أن نسبة الشباب بين سكان إيران قد ارتفعت بشكلٍ كبير في السبعينيات لتصِل إلى ٢٠٪ في النصف الأخير من تلك الحقبة، وأن الثورة الإيرانية حدثت في سنة ١٩٧٩م، أو أن تلك العلاقة المحددة قد تم الوصول إليها في الجزائر في أوائل التسعينيات، عندما كانت الجبهة الإسلامية تكتسب التأييد الشعبي وتسجل انتصارات في الانتخابات.
الكثرة السكانية تحتاج إلى موارد أكثر، ومن هنا فإن الناس الذين ينتمون إلى مجتمعاتٍ تتزايد أعدادها بكثافة و/أو بسرعة يميلون إلى الاندفاع نحو الخارج، يحتلون أرضًا، يبسطون ضغوطهم على المجتمعات الأخرى الأقل نموًّا من الناحية الديموغرافية.
وهكذا يكون النموُّ السكاني الإسلامي عاملًا مساعدًا ومُهمًّا في الصراعات على طول حدود العالم الإسلامي بين المسلمين والشعوب الأخرى.
في السبعينيات | في الثمانينيات | في التسعينيات | في سنة ٢٠٠٠ | في العقد الأول من سنة ٢٠٠٠ |
---|---|---|---|---|
البوسنة | سوريا | الجزائر | طاجيكستان | قرغيزستان |
البحرين | ألبانيا | العراق | تركمانستان | ماليزيا |
دولة الإمارات | اليمن | الأردن | مصر | باكستان |
إيران | تركيا | المغرب | إيران | سوريا |
مصر | تونس | بنجلاديش | السعودية | اليمن |
كازاخستان | باكستان | إندونيسيا | الكويت | الأردن |
ماليزيا | السودان | العراق | ||
قرغيزستان | عمان | |||
طاجيكستان | ليبيا | |||
تركمانستان | أفغانستان | |||
أذربيجان |
نفس الشيء، فإن النمو السريع في عدد الألبانيين لا يريح الصرب ولا اليونانيين ولا الإيطاليين. الإسرائيليون قلقون كذلك بسبب معدلات الزيادة المرتفعة بين الفلسطينيين. إسبانيا بمعدلها السكاني الذي يزيد بأقل من خُمس واحد بالمائة يُقلقها وجود جيران مغاربة يزيد نموُّهم السكاني بمعدل أكثر منها عشر مرات، مع معدل زيادة في دخل الفرد حوالي العُشر بالنسبة لما تُحققه.
(٣) تحديات متغيرة
لا يُوجَد مجتمع يستطيع أن يواصل نموًّا اقتصاديًّا من رقمَين إلى ما لا نهاية. والطفرة الاقتصادية الآسيوية سوف تستقرُّ في وقتٍ ما في بداية القرن الواحد والعشرين. معدلات النمو الياباني هبطت بشدة في منتصف السبعينيات، وبعد ذلك لم تكن أعلى كثيرًا عنها في الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ودول «المعجزات الاقتصادية» الآسيوية، سوف تشهد واحدة بعد أخرى انهيارًا في معدلات نموِّها لتصِل إلى المستويات «العادية» في الأنظمة الاقتصادية المعقدة. وبالمثل، فإن أي إحياء ديني — أو حركة ثقافية — لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وعند نقطةٍ ما سوف تخمد الصحوة الإسلامية وتذوب في التاريخ. ومن المرجح أن يحدث ذلك عندما يضعف الدفع الديموغرافي الذي يقوِّيها في العقدين الثاني والثالث من القرن الواحد والعشرين. حينذاك ستضعف صفوف المجاهدين والمقاتلين والمهاجرين، ومن المرجح أن تهبط معدلات الصراع العالية داخل الدول الإسلامية وبين المسلمين وغيرهم. (انظر الفصل العاشر).
لن تصبح العلاقات بين الإسلام والغرب وثيقة، ولكنها ستصبح أقل صراعًا أو ما يُشبه الحرب. (انظر الفصل التاسع). سيكون الطريق مفتوحًا أمام حرب باردة وربما سلام بارد. النمو الاقتصادي في آسيا سوف يُخلف ميراثًا من أنظمة اقتصادية أكثر ثروة وأكثر تعقيدًا، ذات اهتماماتٍ دولية واسعة، وبرجوازيات مزدهرة، وطبقات متوسطة غنية، والمرجح أن يقود ذلك كله نحوَ سياساتٍ أكثر تعدُّدية وأكثر ديمقراطية، ولن تكون أكثر توجهًا نحو الغرب بالضرورة. القوة الزائدة، على العكس من ذلك، سوف تنمي من التوكيد الآسيوي في الشئون الدولية والسعي نحو دفع التوجهات الكونية بأساليب غير ملائمة للغرب، ولإعادة تشكيل المنظمات والمؤسسات الدولية بعيدًا عن النماذج والأنماط الغربية.
الصحوة الإسلامية مثل كل الحركات المشابهة، بما فيها الإصلاح، سوف تخلف أيضًا ميراثًا مهمًّا. سيُصبح المسلمون أكثر وعيًا بالعوامل المشتركة بينهم وبما يميزهم عن غيرهم.
الجيل الجديد من القيادات التي سوف تتسلم الزمام عندما يكبر أولئك الشبان لن يكون أصوليًّا بالضرورة، ولكنه سيكون أكثر التزامًا بالإسلام عن سلفه. التأصيل سيتعزز، الصحوة الإسلامية ستخلف شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإسلامية داخل التجمُّعات والمجتمعات التي تمتدُّ إليها. ستكون الصحوة قد أثبتت أن «الإسلام هو الحل» لمشكلات الأخلاق والهوية والمعنى والاعتقاد، ولكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري.
هذا الفشل يمكن أن يُوَلِّد خيبة أمل واسعة في الإسلام السياسي وربما وَلَّدَ رد فعل ضده ومحاولة للبحث عن «حلول» أخرى لتلك المشكلات. ويمكن حتى أن نتصوَّر ظهور قوميات أكثر حدَّة في عدائها للغرب، تُحمله مسئولية فشل الإسلام.
أو من ناحية أخرى، لو واصلت كل من إندونيسيا وماليزيا نموَّهما الاقتصادي، فربما يقدمان نموذجًا للتنمية ينافس النموذجَين الغربي والآسيوي. على أية حال، خلال العقود القادمة سيكون للنمو الاقتصادي الآسيوي آثار عميقة، تؤدي إلى عدم استقرار النظام العالمي الذي يُسيطر عليه الغرب وذلك بسبب تقدم الصين — إذا استمر — والذي يؤدي بدوره إلى تحوُّلٍ هائل في القوة بين الحضارات. بالإضافة إلى ذلك، سوف تتحرك الهند نحو نموٍّ اقتصادي سريع وتظهر كمنافس على النفوذ في الشئون الدولية. في نفس الوقت، سيكون النموُّ السكاني الإسلامي قوةً تؤدي إلى عدم الاستقرار في داخل المجتمعات الإسلامية وجيرانها. العدد الغفير من الشباب الحاصلين على التعليم الثانوي سوف يواصلون دعم الصحوة الإسلامية وتنمية الجهاد الإسلامي والقوة العسكرية والهجرة.
ونتيجة لذلك، فإن السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين من المرجَّح أن تشهد صحوة مستمرة في القوة والثقافة غير الغربية، وفي الصراع بين شعوب الحضارات غير الغربية والحضارات الغربية، وبين بعضها والبعض.