إعادة التشكيل الثقافي للسياسة الكونية
(١) تلمُّس الطريق نحو التجمع: سياسة الهوية
السياسة الكونية يُعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية، مدفوعة بالتحديث. الشعوب ذات الثقافات المتشابهة تتقارب، والشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة تتباعد. الانحيازات التي تعتمد على الأيديولوجية والعلاقات مع القوى الكبرى تُفسح الطريق لتلك التي تعتمد على الثقافة والحضارة. الحدود السياسية يعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية: العرقية والدينية والحضارية. المجتمعات الثقافية تحلُّ محلَّ تكتلات الحرب الباردة، وخطوط التقسيم بين الحضارات تُصبح هي خطوط الصراع الرئيسية في السياسة العالمية.
أثناء الحرب الباردة، كان يمكن أن تكون هناك دولة غير منحازة، كما كان عددٌ كبير بالفعل، أو كان بإمكانها، كما فعل كثيرون — أن تغير انحيازها من جانب إلى آخر. كان يمكن لقادة تلك الدول أن يختاروا على ضوء إدراكهم لمصالحهم الأمنية وحساباتهم لموازين القوى وخياراتهم الأيديولوجية. في العالم الجديد، أصبحت الهوية الثقافية هي العامل الرئيسي في تحديد صداقات دولة ما وعداواتها. وبينما كانت دولة ما تستطيع أن تتجنَّب الانحياز أثناء الحرب الباردة، إلا أنها لا يمكن أن تفقد هويتها.
سؤال: «إلى أي جانبٍ أنت؟» حل محلَّه سؤال: «من أنت؟» وعلى كل دولة أن تجدَ له إجابة. هذه الإجابة هي هويتها الثقافية، وهي التي تحدد مكان الدولة في السياسة العالمية، كما تحدد أصدقاءها وأعداءها.
لقد شهدت التسعينيات انفجار أزمة هوية كونية. أينما تنظر تجد الناس يتساءلون: «من نحن؟» «لمن ننتمي؟» «من هو الآخر؟» وهي أسئلة مركزية، ليس فقط بالنسبة للشعوب التي تحاول أن تصوغ دولًا قومية جديدة كما في يوغوسلافيا السابقة، وإنما على المستوى العام كذلك.
القوى الأوروبية يُظْهِرُونَ صراحة أنهم لا يريدون دولةً إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يُسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) في القارة الأوروبية. في الشمال، تُثير نهاية الاتحاد السوفيتي ظهور أنماطٍ جديدة و(قديمة) من الارتباطات بين جمهوريات البلطيق وبين السويد وفنلندة.
رئيس وزراء السويد، يُذِكِّرُ روسيا بكل وضوح، أن جمهوريات البلطيق جزء من الخارج القريب للسويد، وأن السويد لا يمكن أن تكون محايدة في حال اعتداء روسيا عليها.
الآن، تُخلي هذه الانحيازات التي عاشت في ظل الحرب الباردة الطريق لانحيازاتٍ حضارية، جذورها في الإسلام والأرثوذوكسية. قادة البلقان يتحدثون عن بلورة تحالفٍ يوناني صربي بلغاري أرثوذوكسي. رئيس وزراء اليونان يزعم أن «حرب البلقان» أبرزت إلى السطح أصداء الروابط الأرثوذوكسية … كانت روابط كامنة، ولكن مع التطورات في البلقان أصبحت تأخذ شكلًا محددًا. في عالم مائع تمامًا، الناس يبحثون عن الهوية والأمان، وعن جذور وصلات لحماية أنفسهم من المجهول.
هذه الأفكار عَبَّرَ عنها زعيم حزب المعارضة الرئيسي في الصرب: «الموقف في جنوب شرق أوروبا، سيتطلب سريعًا تكوين تحالفٍ بلقاني جديد للدول الأرثوذوكسية، بما فيها الصرب وبلغاريا واليونان، وذلك لمقاومة زحف الإسلام.»
وإذا نظرنا جنوبًا، نجد أن الصرب الأرثوذوكسية ورومانيا تتعاونان بشدة للتعامل مع مشاكلهما المشتركة مع المجر. ومع اختفاء الخطر السوفيتي، نجد أن التحالف «غير الطبيعي» بين اليونان وتركيا يصبح بلا معنى، حيث تتسع الصراعات بينهما على: بحر إيجة، وقبرص، والتوازن العسكري، ودورهما في اﻟ «ناتو»، والاتحاد الأوروبي، وعلاقاتهما بالولايات المتحدة.
تركيا تعيد تأكيد دورها كحاميةٍ للبلقان وتدعم البوسنة. في يوغوسلافيا السابقة: روسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، ألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، الدول الإسلامية تُهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، الصرب يحاربون الكروات ومُسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا.
في نفس الوقت، في الاتحاد السوفيتي السابق: روسيا البيضاء (بيلاروسيا) الأرثوذوكسية ومالدافيا وأوكرانيا ينجذبون نحو روسيا، والأرمن والأذريون يتقاتلون، بينما أقاربهما الروس والأتراك يحاولون مساعدتهما واحتواء الصراع.
الجيش الروسي يحارب الأصوليين المسلمين في طاجيكستان والقوميين المسلمين في شيشينيا. الجمهوريات السوفيتية السابقة تعمل على تطوير أشكال مختلفة من الارتباط الاقتصادي والسياسي بين بعضها والبعض، ومن أجل توسيع ارتباطاتها بجيرانها المسلمين، بينما تكرس تركيا وإيران والسعودية الكثير من الجهد لإقامة علاقات مع الدول الجديدة.
في شبه القارة: الهند وباكستان تظلَّان على خلافهما حول كشمير والتوازن العسكري بينهما. القتال في كشمير يتسع، وفي داخل الهند تظهر صراعات جديدة بين الأصوليين المسلمين والهندوس.
في شرق آسيا، حيث شعوب تنتمي لستِّ حضارات: يحظى بها الجيوش بأهمية قصوى، والنزاعات الإقليمية تتواصل. الصينات (الدول الصينية) الأصغر: تايوان وهونج كونج وسنغافورة والمجتمعات الصينية ما وراء البحار في جنوب شرق آسيا، تصبح كلها أكثر توجهًا واهتمامًا واعتمادًا على البر الرئيسي. الكوريتان تتحركان بتردُّد، ولكن بهدف نحو الوحدة. العلاقات في جنوب شرق آسيا بين المسلمين من جانب، والمسيحيين والصينيين من جانب آخر تصبح أكثر توترًا، وأحيانًا أكثر عنفًا.
في أمريكا اللاتينية: الاتحادات الاقتصادية — «ميركوسار»، «حلف الأندين»، الحلف الثلاثي (المكسيك وكولومبيا وفنزويلا)، السوق المشتركة لأمريكا الوسطى — تتخذ حياة جديدة لتؤكد النقطة التي يُعبر عنها الاتحاد الأوروبي بيانيًّا، وهي أن التقدُّم الاقتصادي يكون أسرع وأعمق إذا قام على عوامل ثقافية مشتركة. في نفس الوقت فإن الولايات المتحدة وكندا تحاولان استيعاب المكسيك في منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، في عملية يعتمد نجاحها على المدى الطويل وإلى حد كبير، على قدرة المكسيك على إعادة تعريف نفسها ثقافيًّا من دولة أمريكية لاتينية إلى دولة أمريكية شمالية.
مع نهاية نظام الحرب الباردة، بدأت الدول في أنحاء العالم في تكشُّف وإعادة تنشيط عداوات وارتباطات قديمة. أصبحت تتلمس الطريق نحو التجمع، ويجدون هذه التجمعات مع دول لها نفس الثقافة ونفس الحضارة. السياسيون يناشدون، والجماهير تتوحَّد مع المجتمعات الثقافية «الأكبر»، التي تتخطى حدود الدولة القومية، ومن ضمنها «الصرب الكبرى»، «الصين الكبرى»، «تركيا الكبرى»، «هنغاريا الكبرى»، «كرواتيا الكبرى»، «أذربيجان الكبرى»، «روسيا الكبرى»، «ألبانيا الكبرى»، «إيران الكبرى»، «أوزبكستان الكبرى». فهل تتطابق الانحيازات السياسية والاقتصادية مع الانحيازات الثقافية والحضارية دائمًا؟ بالطبع لا.
- أولًا: يُوجَد لدى كل فرد هويات متعددة قد تتنافس مع بعضها وقد تقوي من بعضها البعض: القرابة، المهنة، الثقافة، المؤسسة، الإقليم، التعليم، الحزب، الأيديولوجيا … وغيرها. التوحُّد مع بُعدٍ واحد قد يتصادم مع أبعاد أخرى. في حالة نموذجية لذلك نجد الآتي: في سنة ١٩١٤م كان على العمال الألمان أن يختاروا بين التوحُّد الطبقي مع البروليتاريا العالمية أو التوحُّد القومي مع الشعب الألماني والإمبراطورية الألمانية. في العالم المعاصر، يأخذ التوحد الثقافي شكلًا متزايدًا في أهميته مقارنة بالأبعاد الأخرى للهوية. على امتداد بُعدٍ واحد تكون الهوية عادةً أكثر مغزًى على المستوى المباشر. والهويات الضيقة، على أية حال، لا تتصارع بالضرورة مع الهويات الأوسع. الضابط في القوات المسلحة يمكن أن يتوحَّد مؤسسيًّا مع سَرِيَّته، فَوْجِهِ، فِرْقَتِهِ، ومع الخدمة العسكرية عمومًا. ونفس الشيء بالنسبة للفرد الذي قد يتوحَّد ثقافيًّا مع قبيلته، جماعته العرقية، جنسيته، دينه، حضارته. البروز المتزايد للهوية الثقافية على المستويات الدنيا، قد يقوِّي بروزها على المستويات العليا. وكما يقول «بيرك»: «حبُّ الكل لا يطفئه الولع الثانوي … أو أن تكون متعلقًا بالجزء. أن نحب الفصيل الصغير الذي ننتمي إليه في المجتمع، هو المبدأ الأول (جرثومة) في الحب العام.» في عالم للثقافة فيه اعتبار: فإن الفصائل هي القبائل والجماعات العرقية والأفواج هي الأمم، والجيوش هي الحضارات. اتساع المدى الذي تميز به شعوبُ العالَم أنفُسَها على أساسِ الخطوط الثقافية، يعني أن الصراعات بين الجماعات الثقافية تتزايد أهميتها. الحضارات هي الكيانات الثقافية الأوسع، ومن هنا فإن الصراعات بين جماعات من حضاراتٍ مختلفة تُصبح مركزيةً في السياسة الدولية.
- ثانيًا: البروز المتزايد للهوية الثقافية، في جزءٍ كبير منه كما ناقشنا في الفصلين الثالث والرابع، هو نتيجة للتحديث الاجتماعي/الاقتصادي على المستوى الفردي، حيث يخلقُ التشوش والاغتراب الحاجة إلى هوياتٍ أكثرَ معنى. وكذلك على المستوى الاجتماعي، حيث تدفع القدرات الزائدة وقوة المجتمعات غير الغربية إلى إعادة تنشيط الهويات والثقافات الأصلية.
-
ثالثًا: الهوية على أي مستوى — شخصي، قبلي، عرقي، حضاري — يمكن أن تعرف فقط في علاقتها ﺑ
«الآخر»: شخص آخر، قبيلة أخرى، جنس آخر، حضارة أخرى.
تاريخيًّا كانت العلاقات بين دول أو كيانات أخرى في نفس الحضارة، تختلف عن العلاقات بين دول أو كيانات من حضارات مختلفة.
قوانين منفصلة، هي التي كانت تحكم سلوكنا تجاه أولئك الذين هم «مثلنا»، و«البرابرة» الذين ليسوا كذلك. قواعد دول «المسيحية» في التعامل مع بعضهم والبعض كانت تختلف عن تلك التي يتعاملون بها مع «الأتراك» و«الهمج» الآخرين. المسلمون كانوا يتصرفون على نحوٍ مختلف مع أولئك من «دار الإسلام»، وغيرهم من «دار الحرب». الصينيون كانوا يعاملون الصينيين الأجانب والأجانب غير الصينيين بطرُق مختلفة.
«نحن» الحضارية، و«هم» الذين خارج تلك الحضارية، من الثوابت في التاريخ الإنساني. هذه الاختلافات بين السلوك داخل الحضارة الواحدة والسلوك مع خارج تلك الحضارة نابعة من:- (١) مشاعر التفوق (وأحيانًا الدونية) تجاه الناس الذين يُعتبرون مختلفين تمامًا.
- (٢) الخوف من أمثال أولئك الناس وعدم الثقة بهم.
- (٣) صعوبة الاتصال معهم نتيجة اختلافات اللغة وما يعتبر سلوكًا مهذبًا.
- (٤) غياب الألفة مع الافتراضات والدوافع والعلاقات والممارسات الاجتماعية للآخرين.
في عالم اليوم، أدى التحسُّن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلاتٍ وعلاقات أكثر تكرارًا واتساعًا وتناسقًا وشمولًا بين شعوب من حضارات مختلفة. ونتيجة لذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزًا.
الفرنسيون والألمان والبلجيك والهولنديون يتزايد تفكيرهم في أنفسهم كأوروبيين. مسلمو الشرق الأوسط يتوحَّدون ويهرعون لمساعدة البوسنيين والشيشان. الصينيون في آسيا كلها يوحدون مصالحهم مع مصالح البر الرئيسي. الروس يتوحدون مع الصرب والشعوب الأرثوذوكسية الأخرى ويدعمونها. هذه الحدود الأوسع للهوية الحضارية تعني وعيًا أعمق بالاختلافات الحضارية والحاجة إلى حماية ما يميز «نحن» عن «هم».
-
رابعًا: مصادر الصراع بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة، بمقياس أوسع، هي
تلك التي كانت دائمًا تولد صراعًا بين الجماعات: السيطرة على الناس، الأرض، الثروة، الموارد،
القوة النسبية، أي القدرة على فرض القيم والثقافة والمؤسسات الخاصة على جماعة أخرى، مقارنة
بقدرة تلك الجماعة على أن تفعل ذلك بك. الصراع بين الجماعات المختلفة قد يتضمَّن أيضًا
قضايا
ثقافية. الاختلافات في الأيديولوجية العلمانية بين الماركسية اللينينية والديمقراطية
الليبرالية
يمكن على الأقل أن تكون محلَّ جدلٍ إن لم يتم حلها. الاختلافات في المصلحة المادية يمكن
أن يتمَّ
التفاوض بشأنها، وغالبًا ما تتمُّ تسويتُها عن طريق التفاهم وبأسلوبٍ لا يمكن اتباعه
بالنسبة
للقضايا الثقافية.
الهندوس والمسلمون لن يحلوا قضية الخلاف على بناء «معبد أم مسجد» في «أيوديا» ببناء الاثنين، أو عدم بناء الاثنين، ولا بإقامة بناء توفيقي يمكن أن يكون معبدًا ومسجدًا في نفس الوقت.
نفس الأمر بالنسبة لما قد يبدو قضية أرض بين الألبان المسلمين والصرب الأرثوذوكس بخصوص «كوسوفو»، ولا بين اليهود والعرب بخصوص «القدس»، طالما أن المكان له مغزًى تاريخي وثقافي وعاطفي عميق لدى كل طرف. نفس الشيء في فرنسا، فلا السلطات الفرنسية ولا أولياء الأمور المسلمين سيقبلون حلًّا وسطًا يسمح لطالبات المدارس بارتداء الزي الإسلامي بالتناوب مع الزي المدرسي أثناء العام الدراسي.
إجابات الأسئلة الثقافية من هذا النوع هي إما «لا» أو «نعم» ولا يُوجَد خيار آخر.
- خامسًا وأخيرًا: كلية وجود الصراع. الكره شيء إنساني. ولتعريف النفس ودفعها يحتاج الناس إلى أعداء: منافسين في العمل، خصوم في الإنجاز، وفي السياسة. ومن الطبيعي ألا يثق الناس في المختلفين عنهم ومَن لدَيهم القدرة على إلحاق الضرر بهم، بل يرونهم خطرًا عليهم. حل صراعٍ ما أو اختفاء عدو ما، يولد قوًى شخصية واجتماعية وسياسية تؤدي إلى نشوء صراعات جديدة أو أعداء جدد. نزعة اﻟ «نحن» واﻟ «هم»، كما يقول «علي المرزوقي»: «عامة تقريبًا في عالم السياسة.» اﻟ «هم» في العالم المعاصر، وعلى نحو متزايد، هم أناس ينتمون إلى حضارة أخرى. انتهاء الحرب الباردة لم يضع نهاية للصراع بين الجماعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة والتي هي على المستوى الأوسع: حضارات. في نفس الوقت، فإن الثقافة العامة أيضًا تشجع التعاون بين الدول والجماعات التي تشترك في تلك الثقافة، وهو التعاون الذي يمكن أن نلمسه في شكل الارتباطات الإقليمية التي تنشأ بين الدول، وبخاصة في المجال الاقتصادي.
(٢) الثقافة والتعاون الاقتصادي
في بداية التسعينيات كان يتردد كلام كثير عن الإقليمية و«أقلمة» السياسة العالمية. الصراعات الإقليمية حلت محل الصراع الكوني على جدول أعمال الأمن الدولي. القوى الرئيسية مثل روسيا والصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى القوى الثانوية مثل السويد وتركيا أعادت تعريف مصالحها على أساسٍ إقليمي واضح. التجارة داخل الأقاليم اتسعت أسرع منها بين الأقاليم، وكان كثيرون يتوقعون ظهور تكتلات اقتصادية إقليمية: أوروبية، شمال إفريقية، شرق آسيوية وربما غيرها.
اصطلاح «الإقليمية» على أية حال لا يصف ما كان يحدث على نحوٍ كافٍ. الأقاليم كيانات جغرافية وليست كيانات سياسية أو ثقافية، ومثل البلقان والشرق الأوسط قد تندفع نحو صراعات بين الحضارات المختلفة أو في داخل الحضارة الواحدة. الأقاليم أساس للتعاون بين الدول فقط، وبالقدر الذي تتطابق فيه الجغرافيا مع الثقافة.
والقرب المكاني إذا كان بعيدًا عن الثقافة لا يُنتج عوامل مشتركة، بل إنه قد يؤدي إلى العكس. التحالفات العسكرية والارتباطات الاقتصادية تتطلَّب تعاونًا بين الأعضاء، والتعاون يعتمد على الثقة، والثقة تنبع بسهولة من القيم والثقافة المشتركة. ونتيجة لذلك بينما يلعب الزمن والهدف دورًا، فإن الفعالية النهائية للمنظمات الإقليمية تتنوَّع عكسيًّا مع التنوع الحضاري للأعضاء.
وعلى العموم فإن المنظمات ذات الحضارة الواحدة تحقق أشياء أكثر، كما أنها تكون أكثر نجاحًا من المنظمات المكونة من دول تنتمي إلى حضارات متعددة، ويصدق ذلك بالنسبة للمنظمات السياسية والأمنية من جانب، والمنظمات الاقتصادية من جانب آخر.
إن نجاح حلف شمال الأطلنطي — اﻟ «ناتو» — نتج في جانب كبير منه، عن كونه المنظمة الأمنية الرئيسية للدول الغربية ذات القِيَم والافتراضات الفلسفية المشتركة. كما أن الاتحاد الأوروبي هو نتاج ثقافة أوروبية مشتركة. ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، من ناحية أخرى، تضمُّ دولًا تنتمي إلى ثلاث حضارات على الأقل، وذات قيم ومصالح مختلفة تشكل عقبات أساسية في سبيل تطويرها لهوية مؤسسية مهمة، ومجال أوسع من الأنشطة المؤثرة.
المستويات الأربعة المتعارف عليها للارتباط الاقتصادي بين الدول من الأقل إلى الأعلى تكاملًا هي:
-
(١)
منظمة تجارة حرة.
-
(٢)
وحدة نظام جمركي.
-
(٣)
سوق مشتركة.
-
(٤)
وحدة اقتصادية.
اتساع التجارة يتبع التكامل الاقتصادي، وفي الثمانينيات وأوائل التسعينيات أصبحت التجارة داخل الأقاليم والمناطق أكثر أهمية مقارنة بالتجارة بينها. التجارة داخل الاتحاد الأوروبي كانت تمثل ٦٠٫٥٪ من مجمل تجارة الاتحاد في سنة ١٩٨٠م، وارتفعت إلى ٥٨٫٩٪، كما حدثت تحولات مماثلة نحو التجارة الإقليمية في أمريكا الشمالية وشرق آسيا.
(٣) بنية الحضارات
في الحرب الباردة، كانت علاقة الدول بالقوتَين العُظمَيين على النحو التالي: إما حلفاء، أو توابع، أو عملاء، أو مُحايدين، أو غير مُنحازين. في عالم ما بعد الحرب الباردة: الدول في علاقتها بالحضارات: إما دول أعضاء، أو دول مركز، أو دول وحيدة، أو دول مصدوعة، أو دول ممزقة. والحضارات، مثل القبائل والأمم لها بنية سياسية. الدولة العضو هي دولة متوحدة ثقافيًّا مع إحدى الحضارات: مثل مصر مع الحضارة العربية الإسلامية، وإيطاليا مع الحضارة الأوروبية الغربية.
والحضارة أيضًا يمكن أن تضمَّ أناسًا يشتركون في نفس الثقافة ويتوحدون بها ولكنهم يعيشون في دول يُسيطر عليها أناس من حضارة أخرى. والحضارات لها مكان أو أكثر يراه أعضاؤها المصدر أو المصادر الرئيسية لثقافة تلك الحضارة. هذه المصادر غالبًا ما تكون موجودة في داخل دولة أو دول المركز في تلك الحضارة، أي إنها تكون الدولة أو الدول الأقوى وذات الثقافة المركزية. يختلف دور وعدد دول المركز من حضارة إلى أخرى، وقد يتغير بتغير الزمن. الحضارة اليابانية متطابقة فعلًا مع الدولة اليابانية المركزية الوحيدة. الحضارات الصينية والأرثوذوكسية والهندوسية، لكل منها دولة مركز ذات سيادة تامة، ودول أعضاء أخرى، وأناس مرتبطون بحضاراتهم في دول يسيطر عليها أناس من حضارة مختلفة. (الصينيون فيما وراء البحار، روس الخارج القريب، التاميل في سريلانكا). تاريخيًّا، كان للغرب عادة دول مركز عديدة، الآن له اثنتان: الولايات المتحدة، ومركز آخر فرانكو – ألماني في أوروبا، مع بريطانيا كمركز إضافي للقوة وتحت رحمة الرياح بينهما.
حضارات الإسلام وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، ليس لها دول مركز. وهذا في جزءٍ منه راجع إلى استعمار القوى الغربية لها، والتي قسمت بينها أفريقيا والشرق الأوسط، كما قسمت قبل ذلك أمريكا اللاتينية وإن كان بدرجةٍ أقل حدة.
عدم وجود دولة مركز إسلامية، يمثل مشكلات مهمة لكل من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية (نناقِشها في الفصل السابع). وبالنسبة لأمريكا اللاتينية، كان من المتصوَّر أن تكون إسبانيا هي دولة المركز لحضارةٍ ناطقة بالإسبانية أو حتى حضارة «أيبيرية»، ولكن زعماءها اختاروا — بوعي — أن يصبحوا دولةً عضوًا في الحضارة الأوروبية، وفي نفس الوقت يحافظون على الروابط الثقافية مع مستعمراتها السابقة.
الحجم والمصادر والسكان والقدرة العسكرية والاقتصادية تؤهِّل البرازيل لأن تكون زعيمةً لأمريكا اللاتينية، ويبدو ذلك ممكنًا، إلا أن البرازيل بالنسبة لأمريكا اللاتينية مثل إيران بالنسبة للإسلام. رغم أنها مؤهَّلة لأن تكون دولة مركز، إلا أن الفوارق الخاصة بالحضارات الفرعية (دينية في حالة إيران ولغوية في حالة البرازيل) تجعل من الصعب عليها أن تقوم بهذا الدور. وهكذا فإن أمريكا اللاتينية بها عدة دول: (البرازيل، المكسيك، فنزويلا، الأرجنتين) تتعاون وتتنافس على الزعامة. الموقف في أمريكا اللاتينية مُعقد كذلك بسبب محاولة المكسيك إعادة توحيد نفسها أو نسبة نفسها إلى أمريكا الشمالية بدلًا من أمريكا اللاتينية، وقد تتبعها شيلي ودول أخرى في ذلك.
وفي النهاية فإن حضارة أمريكا اللاتينية قد تمتزج معًا لتكون شكلًا فرعيًّا من حضارة أوروبية، ذا ثلاث شعب.
قدرة أي دولة مركز على زعامة أفريقيا شبه الصحراوية تتحدَّد بتقسيمها إلى بلادٍ ناطقة بالإنجليزية وأخرى ناطقة بالفرنسية. وإلى حدٍّ كبير كانت فرنسا هي دولة المركز بالنسبة لأفريقيا؛ لأنها أبقت على علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية وثيقة مع مُستعمراتها السابقة بعد استقلالها. الدولتان الإفريقيتان الأكثر تأهيلًا لتكونا دولتَي مركز، هما دولتان ناطقتان بالإنجليزية.
الحجم والموقع والمصادر، تجعل من نيجيريا دولةَ مركز ممكنة، ولكن تفكُّكها بسبب الحضارات الفرعية والفساد الواسع وعدم الاستقرار السياسي والحكومة القمعية والمشكلات الاقتصادية، كل ذلك قد حدَّ بشدةٍ من قدرتها على الاضطلاع بذلك الدور رغم قيامها به أحيانًا. تحول جنوب أفريقيا السِّلمي وانتقالها من التفرقة العنصرية، وقوتها الاقتصادية، ومستوى نموها الاقتصادي المرتفع بالنسبة للدول الإفريقية الأخرى، وقدرتها العسكرية، ومواردها الطبيعية وزعامتها السياسية السوداء البيضاء، كل ذلك يجعلها — بوضوح — زعيمة لأفريقيا الجنوبية وربما لأفريقيا الناطقة بالإنجليزية، ويمكن أن تتزعَّم كل أفريقيا شبه الصحراوية. الدولة الوحيدة «أو المنعزلة» تفتقر إلى العوامل الثقافية المشتركة مع المجتمعات الأخرى. إثيوبيا مثلًا دولة معزولة ثقافيًّا بلُغتها الأمهرية السائدة التي تكتب بحرفٍ إثيوبي، وديانتها الأرثوذوكسية القبطية وتاريخها الإمبراطوري، واختلافها الديني عن المجتمعات الإسلامية المحيطة بها. ورغم أن النخبة في «هايتي» يستطيبون روابطها الثقافية بفرنسا، إلا أن لغة هايتي «الكريولي»، وديانتها «الفودو»، وأصولها العبودية، وتاريخها القاسي، كل ذلك يجعل منها دولة وحيدة.
يقول «سيدني منتنر»: «كل أمة فريدة، ولكن هايتي وحدَها طبقة»، ونتيجة لذلك، فإنه أثناء أزمة «هايتي» في سنة ١٩٩٤م، لم تكن دول أمريكا اللاتينية تنظر إلى هايتي كمشكلة أمريكية لاتينية، ولم يكونوا على استعدادٍ لاستقبال لاجئين منها رغم قَبولهم للاجئين من كوبا. ويقول أحد المرشحين لرئاسة بنما: «في أمريكا اللاتينية لا يُعْتَرَفُ ﺑ «هايتي» كدولة من دول أمريكا اللاتينية، أهلها يتكلَّمون لغةً مختلفة، لهم جذور عرقية مختلفة وثقافة مختلفة … إنهم مختلفون تمامًا.»
وحدة اليابان يُعمقها أن ثقافتها خاصة جدًّا، ونخبوية لدرجةٍ كبيرة، ولا تتضمَّن دينًا عالميًّا (مثل الإسلام أو المسيحية)، أو أيديولوجية (مثل الليبرالية أو الشيوعية) والتي يمكن أن تُصدرها إلى مجتمعاتٍ أخرى وبالتالي تستطيع أن تُقيم صلةً ثقافية بالناس في تلك المجتمعات.
كل الدول تقريبًا مختلفة العناصر، بمعنى أنها تتضمَّن جماعتَين أو أكثر مختلفتَين في العرق أو الجنس أو الدين. وهناك دول كثيرة مُقسمة، بمعنى أن الفوارق والصراعات بين تلك الجماعات تلعب دورًا مهمًّا في سياسة الدولة، ويتغير عمق هذا الانقسام مع الزمن دائمًا.
الانقسامات العميقة في داخل الدولة قد تؤدي إلى عنفٍ واسع أو تهدد وجود الدولة ذاته. هذا الخطر الأخير، والتحركات نحو الحكم الذاتي أو الانفصال، يُصبح احتمال حدوثها كبيرًا عندما تتطابق الفوارق الثقافية مع الفوارق في الموقع الجغرافي. وإذا لم تتطابق الثقافة والجغرافيا يمكن جعلهما يتطابقان: إما عن طريق الإبادة الجماعية أو الهجرة الاضطرارية.
الدول ذات الجماعات الثقافية المتمايزة والتي تنتمي إلى نفس الحضارة قد يتعمق انقسامها بالانفصال الذي قد يحدث (تشيكوسلوفاكيا) أو المحتمل حدوثه (كندا). الانقسامات العميقة على أي حال، احتمال حدوثها كبير في دول الصدع، حيث تُوجَد جماعات كثيرة تنتمي إلى حضاراتٍ مختلفة. وغالبًا ما تتطور مثل تلك الانقسامات وما يَصحبها من تغيرات، عندما تكون هناك مجموعة تُمثل أغلبية تنتمي إلى حضارةٍ واحدة وتحاول أن تعتبر الدولة أداتها السياسية وأن تجعل لغتها ودينها ورموزها هي لغة ودين ورموز الدولة، كما حاول الهندوس والسنهاليون والمسلمون في الهند وسيرلانكا وماليزيا.
دول الصدع التي تركب الحدود على مناطق التماس بين الحضارات، تُواجه مشكلاتٍ خاصة في الحفاظ على وحدتها. في السودان مثلًا، استمرت الحرب الأهلية عدة عقود بين المسلمين في الشمال والأغلبية المسيحية في الجنوب. نفس الانقسام الحضاري هو الذي أفسد السياسة النيجيرية لفترةٍ زمنية مماثلة وأدى إلى حرب انفصالٍ كبيرة بالإضافة إلى الانقلابات والانتفاضات وأعمال العنف الأخرى.
الأثر الانشقاقي لخطوط التقسيم بين الحضارات كان ملحوظًا على نحوٍ خاص في دول الصدع التي جُمِعَت معًا أثناء الحرب الباردة بواسطة الأنظمة الشيوعية السلطوية، والتي أخذت شرعيتها من الأيديولوجية الماركسية اللينينية. وبسقوط الشيوعية حلَّت الثقافة محلَّ الأيديولوجية كمغناطيس للجذب والطرد، وتباعدت يوغوسلافيا عن الاتحاد السوفيتي وانقسم كلٌّ منهما إلى كيانات جديدة تتجمَّع على امتداد خطوط الحضارة: جمهوريات البلطيق (البروتستانت والكاثوليك) والأرثوذوكسية والإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق، وسلوفينيا الكاثوليكية وكرواتيا والبوسنة هيرزيجوفينا ذات الجزء المسلم والصرب مونتينجرو الأرثوذوكسية ومقدونيا في يوغوسلافيا السابقة. وحيث إن هذه الكيانات الجديدة ما زالت تضمُّ جماعات مُتعددة الثقافات، فإن انقسامات المرحلة الثانية قد ظهرت.
البوسنة هيرزيجوفينا قسَّمتها الحرب إلى صرب مسلمة وأجزاء كرواتية، وراح الصرب والكروات يتقاتلون في كرواتيا. الوضع السِّلمي ﻟ «كوسوفو» الألبانية المسلمة داخل الصرب الأرثوذوكسية السلافية غير مضمون. كما نشبت التوترات بين الأقلية الألبانية المسلمة والأغلبية السلافية الأرثوذوكسية في مقدونيا. جمهوريات سوفيتية سابقة كثيرة تركب خطوط التقسيم الحضاري، ويرجع ذلك في جزءٍ منه إلى أن الحكومة السوفيتية رسمت الحدود التي تصنع جمهوريات مقسَّمة: القرم الروسية تذهب إلى أوكرانيا، وناجورنو كاراباخ الأرمينية تذهب إلى أذربيجان. روسيا بها أقليات مُسلمة كثيرة وصغيرة نسبيًّا، على الأخص في شمال القوقاز ومنطقة الفولجا. أستونيا ولاتفيا وكازاخستان يُوجَد بها أقليات روسية أفرزتها أيضًا السياحة الروسية، أوكرانيا مقسَّمة بين الغرب المسيحي الشرقي القومي الناطق بالأوكرانية، والشرق الأرثوذوكسي الناطق بالروسية. الجماعات الرئيسية التي تنتمي إلى حضارتَين أو أكثر في دول الصدع تقول في الواقع: «نحن شعوب مختلفة وتنتمي إلى أماكن مختلفة»، قوى الطرد تُباعِد بينهم، وتجذبهم قوًى مغناطيسية حضارية نحو مجتمعات أخرى.
وعلى العكس من ذلك، فإن الدول الممزقة لها ثقافة واحدة سائدة تضعها في حضارة واحدة ولكن زعماءها يريدون الانتقال إلى حضارة أخرى. يقولون: «نحن في الواقع شعب واحد وننتمي كلنا إلى مكان واحد ولكننا نريد تغييره.» وعلى عكس شعوب دول الصدع، فإن شعوب الدولة الممزقة متفقون على «من هم»، مختلفون على أي حضارة هي حضارتهم الملائمة.
(٤) الدول الممزقة: فشل التحول الحضاري
روسيا: في التسعينيات كانت المكسيك دولة ممزقة وظلت كذلك عدة سنوات، وهكذا أيضًا كانت تركيا لعدة عقود. روسيا على العكس من ذلك كانت دولة ممزقة لعدة قرون، وعلى خلاف المكسيك أو تركيا الجمهورية فإنها دولة المركز في حضارة رئيسية. وإذا أعادت كل من تركيا والمكسيك تعريف نفسها كعضوٍ في الحضارة الغربية، فإن أثر ذلك على الحضارة الإسلامية أو الأمريكية اللاتينية سيكون قليلًا أو معتدلًا. أما إذا أصبحت روسيا غربية، فإن الحضارة الأرثوذوكسية لن يكون لها وجود. سقوط الاتحاد السوفيتي، أضرم الجدل من جديد حول القضية الرئيسية: روسيا والغرب.
وفي إصرار منه على جعل روسيا قوة في أوروبا وليس مجرد قوة أوروبية، ترك موسكو وأنشأ عاصمة جديدة في سان بطرسبورج، وشن الحرب الشمالية الكبرى ضد السويد لكي يُدشن روسيا كقوةٍ مهيمنة في البلطيق، ويجعل لها حضورًا في أوروبا. وفي محاولاته لجعل بلده حديثًا وغربيًّا، قَوَّى «بطرس الأكبر» سمات روسيا الآسيوية وذلك بإحكام الاستبداد واستئصال أي مصدرٍ مُحتمَل للتعدُّدية الاجتماعية أو السياسية.
لم تكن طبقة النبلاء الروسية قويةً في يوم من الأيام، و«بطرس الأكبر» خفضها أكثر وأكثر، ووسَّعَ طبقة نبلاء الخدمة ووضع «جدولًا للرُّتب» يعتمد على الجدارة وليس على المولد أو الوضع الاجتماعي.
وكانت للقيصر سلطة تعيين خليفته دون الرجوع إلى الممارسات السائدة بشأن الميراث. بهذه التغييرات بدأ «بطرس الأكبر»، وقدم مثالًا للصلة الوثيقة في روسيا بين التحديث والتغريب من ناحية، والاستبداد من ناحية أخرى. مُتبِّعين هذا النموذج البطرسي، حاول «لينين» و«ستالين» و— بدرجة أقل — «كاترين الثانية» و«إلكساندر الثاني» تحديث وتغريب روسيا وتقوية السلطة الأوتوقراطية بطرقٍ مختلفة. وحتى الثمانينيات على الأقل، كان دعاة الديمقراطية في روسيا دائمًا من المتغربين، ولكن المتغربين لم يكونوا من دعاة الديمقراطية.
الثورة البلشفية بدأت مرحلة ثالثة في العلاقة بين روسيا والغرب مختلفة تمامًا عن تلك المرحلة المرتبكة التي استمرت قرنين. خلقت نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا لا يمكن أن يوجد في الغرب وذلك باسم أيديولوجية صنعت في الغرب. المتحمسون للسلافية والمتغربون دار بينهم جدل حول ما إذا كانت روسيا يمكن أن تكون مختلفة عن الغرب دون أن تكون متخلفة عنه. الشيوعية حلت هذه القضية بذكاء: كانت روسيا مختلفة عن الغرب ومعارضة له أساسًا لأنها كانت أكثر تقدمًا عنه. كانت تأخذ زمام القيادة في الثورة البروليتارية التي سوف تنتشر في النهاية عبر العالم.
لم تكن روسيا تجسد ماضيًا آسيويًّا متخلفًا فقط، وإنما تجسد مستقبلًا سوفيتيًّا تقدميًّا. والواقع أن الثورة مكنت روسيا من أن تتخطى الغرب، ليس «لأنك متخلف ولا نريد أن نكون مثلك» وإنما «لأننا مختلفون وفي النهاية ستصبح أنت مثلنا»، هكذا كانت رسالة الشيوعية الدولية. ومع ذلك، في نفس الوقت الذي مكنت فيه الشيوعية الزعماء السوفيت أن يمتازوا عن الغرب، خلقت أيضًا علاقات قوية مع الغرب. «ماركس» و«إنجلز» ألمانيان، معظم العناصر الرئيسية لأفكارهما في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت أوروبية غربية. وبحلول عام ١٩١٠م كانت اتحادات عمالية كثيرة وأحزاب ديمقراطية اجتماعية وعمالية في المجتمعات الغربية قد أصبحت ملتزمة بأيديولوجيتهما وأصبحت ذات تأثير متزايد في السياسة الأوروبية.
بعد الثورة البلشفية انقسمت الأحزاب اليسارية إلى أحزاب شيوعية واشتراكية، وكلاهما كان قوة مؤثرة في الدول الأوروبية. المنظور الماركسي ساد معظم أنحاء الغرب: كان ينظر إلى الشيوعية والاشتراكية على أنهما موجة المستقبل، وكان يتم تبنيهما بشكل أو آخر بواسطة النخب السياسية والفكرية. الجدل في روسيا بين المتحمِّسين للسلافية والمتغربين حول مستقبل روسيا، حل محلَّه جدل في أوروبا بين اليسار واليمين حول مستقبل الغرب، وإذا ما كان الاتحاد السوفيتي هو الذي يمثل ذلك المستقبل.
بعد الحرب العالمية الثانية، دعمت سلطة الاتحاد السوفيتي التوجُّه نحو الشيوعية سواء في الغرب، أو — وعلى نحو أوضح — في تلك الحضارات غير الغربية التي كانت تعمل الآن ضد الغرب. النخب في المجتمعات غير الغربية التي كان يسيطر عليها الغرب والتي كانت تريد أن تُغوي الغرب بدأت تتكلَّم بلغة تقرير المصير والديمقراطية، وأولئك الذين كانوا يريدون مواجهة الغرب توسَّلوا الثورة والتحرر الوطني.
وبتبني الأيديولوجية الغربية واستخدامها لتحدي الغرب، فإن الروس على نحوٍ ما، أصبحوا أكثر قربًا وعلاقة بالغرب من أي وقتٍ مضى في التاريخ. ورغم أن أيديولوجيات الديمقراطية الليبرالية والشيوعية كانت تختلف جدًّا، إلا أن كِلا الجانبَين كان يتكلم نفس اللغة تقريبًا. انهيار الشيوعية والاتحاد السوفيتي أنهى هذا التداخُل السياسي-الفكري بين الغرب وروسيا. الغرب كان يتمنَّى ويعتقد أن النتيجة ستكون هي انتصار الديمقراطية الليبرالية في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن ذلك لم يكن مقدرًا له أن يحدث.
وبدءًا من سنة ١٩٩٥م بدا مستقبل الديمقراطية الليبرالية في روسيا وغيرها من الجمهوريات الأرثوذوكسية غير مؤكد. بالإضافة إلى أن الروس عندما توقَّفوا عن التصرُّف كماركسيين وبدءوا يتصرفون كروس، اتسعت الهوة بين روسيا والغرب.
الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية كان بين أيديولوجيتين، ورغم الفروق الأساسية بينهما إلا أنهما حديثتان وعلمانيتان وتشتركان في الزعم بأن أهدافهما النهائية هي الحرية والمساواة والرفاة المادي.
الديمقراطي الغربي يمكن أن يدخل في جدلٍ مع ماركسي سوفيتي، وسيكون من المستحيل بالنسبة له أن يفعل ذلك مع روسي قومي أرثوذوكسي. خلال السنوات السوفيتية، كان الصراع بين المتحمسين للسلافية والمتغربين معلقًا، حيث تحدى كل من «سولجنتسين» و«ساخاروف» التركيبة الشيوعية، ومع سقوط تلك التركيبة ظهر الجدل من جديدٍ وبقوة حول الهوية الحقيقية لروسيا. هل عليها أن تتبنى القِيَم والمؤسسات الغربية وتحاول أن تُصبح جزءًا من الغرب؟ أم أنها تُجسِّد حضارة أرثوذوكسية وآسيوية مائزة تختلف عن حضارة الغرب، مع قَدَرٍ خاص لوصل أوروبا بآسيا؟ النخب السياسية والفكرية والعامة أيضًا كانوا منقسِمين بحدة حول تلك القضايا.
وانتقد أصحاب هذا الرأي «يلتسين» لتقديمه مصالح الغرب على مصالح روسيا وتخفيضه للقوة العسكرية الروسية وفشله في مساعدة الأصدقاء التقليديين مثل الصرب، ولدفعه الإصلاح الاقتصادي والسياسي بطرقٍ ضارة بالشعب الروسي.
ويُعبر عن هذا التوجه الانتشار الجديد لأفكار «بيتر سافيتسكي» الذي كان يقول في العشرينيات إن روسيا هي حضارة أوراسية فريدة. القوميون الأكثر تطرفًا كانوا منقسِمين بين القوميين الروس مثل «سولجنتسين» الذي يؤيد قيام روسيا تضمُّ كل الروس بالإضافة إلى سكان روسيا البيضاء السلافيين الأرثوذوكس والأوكرانيين فقط، والقوميين الإمبراطوريين مثل «فلاديمير جرينوفسكي» الذي يريد أن يعيد إقامة الإمبراطورية السوفيتية والقوة الروسية العسكرية.
المنتمون للجماعة الثانية، كانوا أحيانًا مُعادين للسامية كما كانوا مُعادين للغرب ويريدون إعادة توجيه سياسة روسيا الخارجية نحو الشرق والجنوب، إما بالسيطرة على الجنوب المسلم (كما يدعي جرينوفسكي) أو بالتعاون مع الدول الإسلامية والصين ضد الغرب. القوميون أيضًا أيَّدوا الدعم الواسع للصرب في حربهم ضد المسلمين. الاختلافات بين الكوزموبوليتان والقوميين كانت تنعكس مؤسسيًّا في وجهات نظر وزارة الخارجية ووجهات النظر العسكرية. كما انعكست كذلك في تحوُّلات سياسات «يلتسين» الخارجية والأمنية من اتجاهٍ إلى آخر. الشعب الروسي كان مُنقسمًا مثل النخبة تمامًا. في اقتراع تم في سنة ١٩٩٢م على عينةٍ من ٢٠٦٩ روسيًّا أوروبيًّا، وُجِدَ أن ٤٠٪ من الذين أدلَوا بآرائهم كانوا «منفتحين على الغرب»، و٣٦٪ «منغلقين عن الغرب»، و٢٤٪ متردِّدين.
فخلع السلطان وأقام نظامًا جمهوريًّا للسلطة السياسية على النمط الغربي، وألغى الخلافة، المصدر الرئيسي للسلطة الدينية، وأنهى التعليم التقليدي والوزارات الدينية وألغى المدارس والمعاهد الدينية المستقلة وأقام نظامًا علمانيًّا للتعليم العام وألغى المحاكم الدينية التي كانت تُطبق الشريعة الإسلامية، وجاء مكانها بنظام جديد مؤسس على القانون الدولي السويسري. كما حل محل التقويم التقليدي التقويم الميلادي، وألغى أن يكون الإسلام الدين الرسمي للدولة.
وبعد الحرب الأوروبية ظلت النخبة التركية مؤيدة تمامًا لكون تركيا غربية وأوروبية. الحفاظ على عضوية اﻟ «ناتو» شيء لا يمكن الاستغناء عنه لأنها تقدم لهم رابطة تنظيمية وثيقة وحميمة بالغرب، كما أنها ضرورية لموازنة اليونان. تورط تركيا مع الغرب المتمثِّل في عضويتها في اﻟ «ناتو»، كان على أية حال نتاجًا للحرب الباردة. ونهاية الحرب الباردة تزيل السبب الرئيسي لهذا التورُّط وتؤدي إلى إضعاف وإعادة تعريف تلك الصلة. لم تعد تركيا مفيدة للغرب كحصنٍ ضد الخطر الرئيسي من الشمال، ولكنها بالأحرى — كما حدث في حرب الخليج — شريك ممكن في التعامل مع أخطار أقلَّ من ناحية الجنوب. في تلك الحرب، قدمت تركيا مساعدة أساسية للتحالف المضاد ﻟ «صدام حسين»، وذلك بإغلاق خط الأنابيب المارِّ عبر أراضيها، والذي كان يصل بترول العراق عن طريقِه إلى البحر الأبيض المتوسط، وكذلك بالسماح للطائرات الأمريكية أن تعمل ضدَّ العراق من قواعد في تركيا.
استعداد تركيا للعمل مع الغرب في تناول الأخطار الإسلامية من الجنوب غير مؤكد، وبدرجة أكبر مما كان استعدادها للوقوف معه ضد الخطر السوفيتي. أثناء حرب الخليج عارضت ألمانيا — الصديق التقليدي لتركيا — اعتبار أي هجومٍ عراقي بالصواريخ على تركيا، اعتداء على اﻟ «ناتو»، مما أوضح أن تركيا لا تستطيع أن تعتمد على الدعم الغربي ضد التهديدات الجنوبية. مواجهات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي لم تؤدِّ إلى إثارة سؤال الهوية الحضارية التركية، بينما علاقات ما بعد الحرب الباردة مع الدول العربية تؤدي إلى ذلك. ومنذ بداية الثمانينيات، كان أحد الأهداف الرئيسية، وربما «الهدف» الرئيسي الأول للسياسة الخارجية للنخبة التركية ذات التوجه الغربي، هو الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. تقدمت تركيا للعضوية رسميًّا في أبريل ١٩٨٧م، وفي ديسمبر ١٩٨٩م أبلغت أن طلبها لن يُنْظَرَ فيه قبل سنة ١٩٩٣م، وفي ١٩٩٤م قَبِل الاتحاد طلبات عضوية النمسا وفنلندة والسويد والنرويج. وكان من المتوقع جدًّا أن تشهد السنوات المقبلة موقفًا لصالح طلبات بولندة والمجر وجمهورية التشيك، وربما بالنسبة لطلبات سلوفينيا وسلوفاكيا وجمهوريات البلطيق فيما بعد.
لماذا تم تخطي تركيا؟ ولماذا تظهر دائمًا في نهاية الطابور؟ في العلن، يشير المسئولون الأوروبيون إلى المستوى التركي المتدني في النمو الاقتصادي، وإلى قلَّةِ احترامها لحقوق الإنسان عن دول إسكاندنافيا، وفي السرِّ فإن كلًّا من الأوروبيين والأتراك مُتفقون على أن الأسباب الحقيقية هي المعارضة الواسعة من قبل اليونانيين، ثم الأهم من ذلك وهو كون تركيا دولةً إسلامية. الدول الأوروبية لا تريد أن تواجِهَ احتمال فتح حدودها للهجرة من دولة ذات ستِّين مليون مُسلم ونسبة بطالة عالية. أما الأبعد من ذلك، فهو أنهم يشعرون أن الأتراك لا ينتمون إلى أوروبا ثقافيًّا. وكما قال الرئيس «أوزال» في سنة ١٩٩٢م: «سِجلُّ تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب مُلَفَّق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مُسلمون وهم مسيحيون.» ويضيف: «ولكنهم لا يقولون ذلك.» المسئولون الأوروبيون بدورهم يتفقون على أن الاتحاد عبارة عن «نادٍ مسيحيٍّ» وأن «تركيا فقيرة جدًّا، مكتظة بالسكان جدًّا، مسلمة جدًّا، فظَّة جدًّا، مختلفة ثقافيًّا جدًّا … وهي «جدًّا … في كل شيء».»
-
أولًا: بالنسبة لتركيا كما هو لدول أخرى كثيرة، أثار انتهاء الحرب الباردة بالإضافة إلى
الخلل الناتج عن النمو الاقتصادي والاجتماعي قضايا أساسية عن «الهوية القومية والانتماء
العرقي»32 وكان الدين هناك ليقدم الإجابة، وأصبح الميراث العلماني الأتاتوركي والنخبة التركية
لثلثي قرن، تحت النيران وبشكل متزايد. تجربة الأتراك في الخارج أدَّت إلى إثارة عواطف
الإسلاميين
في الداخل. الأتراك العائدون من ألمانيا الغربية «كان رد فعلهم على العداء هنا هو العودة
إلى ما
هو مألوف»، وأن «ذلك هو الإسلام». التوجه العام والسلوك أصبحا إسلامِيَّين … وبشكل متزايد.
في سنة
١٩٩٣م، كما يقول أحد التقارير، «زادت أعداد الملتحين والمحجبات في تركيا، وأصبحت المساجد
تجتذب
أعدادًا أكبر وازدحمت المحلات بالكتب والصحف الدينية والأسطوانات وأشرطة الكاسيت والفيديو
التي
تمجد التاريخ الإسلامي والمفاهيم الإسلامية كما تمجد الإمبراطورية العثمانية لحفاظها
على قِيَم
وتعاليم النبي «محمد».» ويقول التقرير إن «ما لا يقل عن ٢٩٠ دار نشر ومطبعة و٣٠٠ مطبوعة
(من
بينها أربعٌ يومية) وبعض المحطات الإذاعية غير المرخصة وحوالي ٣٠ قناة تليفزيونية غير
مرخصة
أيضًا، كانت كلها تُروِّج للأيديولوجية الإسلامية.»33
وإزاء مواجهتهم بهذا الشعور الإسلامي العارم، حاول الحكام الأتراك أن يتبنَّوا ممارسات أصولية وأن يستميلوا تأييد الأصوليين. الحكومة التي من المفترض أنها علمانية، أنشأت في الثمانينيات والتسعينيات مكتبًا للشئون الدينية بميزانية تزيد عن ميزانية بعض الوزارات وذلك لتمويل إنشاء المساجد والتعليم الديني في المدارس العامة، كما دعمت المدارس الدينية القائمة التي زاد عددها خمسة أضعاف في الثمانينيات وأصبحت تضم حوالي ١٥٪ من طلاب المدارس الثانوية وتخرج فيها الآلاف الذين التحقوا بعد ذلك بخدمة الحكومة.
وفي تناقض رمزي ولكنه درامي، سمحت الحكومة في فرنسا بالفعل للطالبات بارتداء غطاء الرأس الإسلامي التقليدي (الحجاب) بعد سبعين سنة من تحريم «أتاتورك» للطربوش.34 هذا الأداء الحكومي، والذي كان دافعه — إلى حدٍّ كبير — تفريغ أشرعة الإسلاميين من الهواء، يشهد على مدى قوة ذلك الهواء في الثمانينيات وأوائل التسعينيات. -
ثانيًا: الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية. كان القادة السياسيون وبالذات
«أوزال»، يوحِّدون أنفسهم بكل وضوح مع الرموز والسياسات الإسلامية. وفي تركيا — كما في
كل مكان —
تؤدي الديمقراطية إلى العودة إلى الأصول وإلى الدين. و«في تلهفهم على تملق الجماهير وكسب
رضاها
وأصواتهم الانتخابية، كان على السياسيين — حتى العسكريين الذين هم حصن العلمانية — أن
يضعوا
طموحات الناس الدينية في الاعتبار: وكان لكثير من التنازلات التي قدموها طعم الدهماوية.»٨⋆أصبحت الحركات الشعبية تنزع إلى الدين. وبينما كانت النخبة والجماعات البيروقراطية، خاصة العسكر، ذوي توجهات علمانية، إلا أن التوجهات الإسلامية كانت تُعبر عن نفسها بين صفوف القوات المسلحة، كما تم تطهير الأكاديميات العسكرية من مئات الطلاب في سنة ١٩٨٧م بسبب الشك في انتماءاتهم الإسلامية. الأحزاب السياسية الرئيسية أصبحت تستشعر الحاجة — وبدرجة متزايدة — إلى الدعم الانتخابي من الطرق الإسلامية التي تمَّ إحياؤها أو الجمعيات المختارة التي كان «أتاتورك» قد حظرها.35في الانتخابات المحلية التي أجريت في سنة ١٩٩٤م كان حزب الرفاه الأصولي، من بين خمسة أحزاب رئيسية، هو الوحيد الذي زاد نصيبه من الأصوات وحصل تقريبًا على ١٩٪ منها، مقارنة بنسبة ٢١٪ لحزب رئيسة الوزراء «الطريق القويم»، و٢٠٪ لحزب «أوزال» «الوطن الأم». كانت لحزب الرفاه السيطرة على المدينتَين الرئيسيتَين في تركيا: إسطنبول وأنقرة، كما كانت قوته تتزايد في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد. في انتخابات سنة ١٩٩٥م حصل حزب الرفاه على أصواتٍ ومقاعدَ أكثرَ من أي حزبٍ آخر في البرلمان، وبعد ستة أشهر شَكَّلَ مع أحد الأحزاب العلمانية حكومة ائتلافية. وكما حدث في بلاد أخرى، فإن دعم الأصوليين كان يجيء أساسًا من الشباب المهاجرين العائدين «المسحوقين والمعدمين» و«المهاجرين الجدد إلى المدينة»، «عراة المدن الكبرى».36
-
ثالثًا: انبعاث الإسلام أَثَّرَ على السياسة الخارجية التركية. كانت تركيا تحت قيادة الرئيس
«أوزال» منحازة إلى الغرب تمامًا في حرب الخليج، متوقعة أن ذلك سوف يُعزز عضويتها في
السوق
الأوروبية ولكن هذه النتيجة لم تتحقق، كما أن تردُّد اﻟ «ناتو» في القرار الذي يمكن أن
يتَّخذه في
حال هجوم العراق على تركيا أثناء تلك الحرب، لم يؤكد للأتراك كيف سيكون رد «الحلف» في
حال
تعرضهم لخطر غير روسي.37 حاول القادة الأتراك أن يوسعوا من علاقاتهم العسكرية مع إسرائيل، الأمر الذي أثار
انتقادات واسعة من قبل الإسلاميين الأتراك، وعلى نحو أكثر تحديدًا وَسَّعَت تركيا في
الثمانينيات من علاقاتها بالدول العربية والإسلامية الأخرى، وفي التسعينيات تبنَّت المصالح
الإسلامية بحماسٍ فقدمت دعمًا مهمًّا لمسلمي البوسنة وأذربيجان. كانت السياسة الخارجية
التركية
بالنسبة للبلقان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط تأخُذ شكلًا إسلاميًّا بشكلٍ متزايد، ولعدة
سنوات
كانت تركيا تفي باثنَين من المتطلَّبات الثلاثة الضرورية التي تحتاجها دولةٌ ممزقة لكي
تحول هويتها
الحضارية. كانت النخب التركية بالإجماع تؤيد هذا التحرك وبشكلٍ متزايد، وأذعنت الجماهير
لذلك،
أما نخب المتلقين للحضارة الغربية فلم يكونوا متقبِّلين له، وبينما كانت القضية معلقة
في الميزان،
نَشَّط انبعاث الإسلام داخل تركيا مشاعر العداء للغرب بين الجماهير، وبدأ التقليلُ من
شأن التوجُّه
العلماني الموالي للغرب بين النخب.
العقبات التي تَحُول دون أن تصبح تركيا دولة أوروبية بالكامل، وقدراتها المحدودة في أن تلعب دورًا مهمًّا بالنسبة للجمهوريات التركيكية في الاتحاد السوفيتي السابق، وصعود التوجهات الإسلامية الذي أضعف التراث الأتاتوركي … كل ذلك كان يؤكد أن تركيا ستظل دولة ممزقة.
وأثناء تعبيرهم عن عوامل الجذب المتصارعة هذه، كان القادة الأتراك يصفون بلادهم بانتظام بأنها جسر بين الثقافات. في سنة ١٩٩٣م كانت رئيسة الوزارة «تانسو تشيللر» تقول، إن تركيا «ديمقراطية غربية» و«جزء من الشرق الأوسط» في نفس الوقت. وإنها «جغرافيًّا وفلسفيًّا جسر بين حضارتَين».
ولكي تُعبر عن هذه الازدواجية كانت «تشيللر» تظهر في بلادها كمسلمة، ولكنها عندما كانت تخاطب اﻟ «ناتو» تقول: «الواقع الجغرافي والسياسي يقولان إن تركيا دولة أوروبية.» وعلى نفس المنوال كان الرئيس «سليمان ديميريل» يصف تركيا بأنها: «جسر مُهم في منطقةٍ تمتدُّ من الغرب إلى الشرق، أي من أوروبا إلى الصين.»38 الجسر على أية حال عمل صناعي يصِل بين كيانَين مُستقلَّين ولكنه ليس جزءًا من أيهما. وعندما يصف زعماء تركيا بلادهم بأنها جسر فإنهم يؤكدون — بطريقةٍ مخفَّفة — أنها ممزقة.
المتطلب الثالث لدولة ممزقة لكي تنجح في تحويل هويتها، هو القبول الجماهيري العام، رغم أنه ليس من الضروري أن يكون دعمًا. أهمية هذا العامل تعتمد في درجة منها على مدى أهمية رأي الجماهير في عملية اتخاذ القرار في بلدٍ ما. موقف المكسيك الموالي للغرب منذ ١٩٩٥م لم يُخْتَبَر من خلال التحول الديمقراطي. تمرُّد يوم رأس السنة الذي قامت به ألوف قليلة من أفراد العصابات المنظمة جيدًا في «شيباس» لم يكن دليلًا في حدِّ ذاته على مقاومة قوية «للتأمرك» الشمالي، كما توحي ردود الأفعال المتعاطفة التي تولَّدت عنه بين المثقفين والصحفيين وغيرهم ممن يشكلون الرأي العام، بأن عملية التأمرك وبخاصة اﻟ «نافتا» يمكن أن تلقى مقاومة متزايدة من النخب ومن الجماهير في المكسيك.
الرئيس «ساليناس» — وبكل وعي — أعطى الإصلاح الاقتصادي والتغريب أوليةً على الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي. إلا أن كلًّا من التقدُّم الاقتصادي والتورط المتزايد مع الولايات المتحدة سوف يُقَوِّي من العوامل التي تساعد على تحولٍ ديمقراطي حقيقي في النظام السياسي للمكسيك. ولكن السؤال الأساسي بالنسبة لمستقبل المكسيك هو: إلى أي مدى سوف يحفز التحديث والتحول الديمقراطي عملية الابتعاد عن الغرب ويؤدي إلى انسحابها من اﻟ «نافتا» أو إلى إضعافها الشديد، ويكون مُضارعًا للتغيرات التي فرضتها على المكسيك النخب الموالية للغرب في الثمانينيات والتسعينيات؟ هل تأمرُك المكسيك مُتساوٍ مع تحوُّلها الديمقراطي؟
أستراليا: على خلاف روسيا وتركيا والمكسيك، فإن أستراليا من الأصل مجتمع أوروبي. وعلى مدى القرن العشرين كانت مُتحالفة في البداية مع بريطانيا ثم مع الولايات المتحدة. وأثناء الحرب الباردة لم تكن فقط مجرد عضوٍ في الغرب، بل وفي صميم النظام (الأمريكي – البريطاني – الكندي – الأسترالي) العسكري والاستخباراتي الغربي.
على العكس من ذلك كانت صادرات أستراليا إلى السوق الأوروبية في سنة ١٩٩١م حوالي ١١٫٨٪ وإلى الولايات المتحدة ١٠٫١٪، هذه العلاقة الاقتصادية التي تتعمق مع آسيا كانت تقوى في العقول الأسترالية إلى جانب الاعتقاد بأن العالم يتحرك نحو ثلاثة تكتلات اقتصادية رئيسية، وأن مكان أستراليا لا بد أن يكون في الكتلة الشرق آسيوية. ورغم هذه العلاقات الاقتصادية، فإن الحيلة الأسترالية الآسيوية تبدو غير قادرة على الوفاء بأيٍّ من متطلبات النجاح اللازمة لعملية التحول الحضاري في بلدٍ ممزق.
- أولًا: في منتصف الستينيات كانت النخب الأسترالية بعيدة عن الحماس الكامل لهذا المسار، وإلى حدٍّ ما كان ذلك قضيةً مثارة بين قادة الحزب الليبرالي متأرجحِين أو مُعارضين. كانت حكومة العمل قد تعرضت أيضًا لنقدٍ عنيف من كثيرٍ من المثقفين والصحفيين. ولم يكن هناك إجماع نخبوي واضح على الخيار الآسيوي.
- ثانيًا: فإن الرأي العام كان مترددًا. ومن سنة ١٩٨٧م إلى سنة ١٩٩٣م كانت نسبة الشعب الأسترالي المؤيدة لإنهاء الملكية قد ارتفعت من ٢١٪ إلى ٤٦٪، وعند هذه الدرجة بدأ التأييد في التأرجح أو الهبوط، نسبة الجماهير المؤيدة لإزالة «جاك» الاتحاد من على العلَم الأسترالي هبطت من ٤٢٪ في مايو سنة ١٩٩٢م إلى ٣٥٪ في أغسطس ١٩٩٣م، وكما لاحظ مسئول أسترالي في عام ١٩٩٢م: «من الصعب أن تهضم الجماهير ذلك، وأستطيع أن أُطلعك على عدد خطابات الكراهية التي تَصِلني.»42
- ثالثَا: وهو الأهم، أن النخب في الدول الآسيوية كانت أقل تقبلًا لمساعي أستراليا، عن النخب الأوروبية بالنسبة لمساعي تركيا، وأعلنوا بوضوح أنه إذا كانت أستراليا تريد أن تكون جزءًا من آسيا فلا بد أن تُصبح آسيوية بحقٍّ، الأمر الذي يعتقدون أنه غير مُحتمَل، إن لم يكن مستحيلًا.
وكما قال أحد المسئولين الإندونيسيين: «نجاح أستراليا في التكامل مع آسيا يعتمد على شيءٍ واحد؛ وهو مدى ترحيب الدول الآسيوية بالنوايا الأسترالية. وقبول أستراليا في آسيا يتوقف على مدى فَهم الحكومة والشعب في أستراليا للثقافة والمجتمع الآسيوي.»
كان رئيس الوزراء «كيتنج» يحب أن يقول إنه يريد أن يحول أستراليا من «الرجل الغريب الخارجي إلى الرجل الغريب الداخلي» في آسيا. ولكن ذلك تناقض لفظي على أي حال: فالغرباء لا يدخلون.
وبهذا الاعتبار، يمكن أن تكون أستراليا الدولة الأولى بين دول غربية كثيرة تحاول أن تخرج عن الغرب وتلحق بعربة الحضارات غير الغربية الصاعدة.
إن تجمعًا كهذا، سوف يوفِّق بين الثقافة والاقتصاد، ويقدِّم هوية صُلبة ومتماسكة لأستراليا، لا يمكن أن تتحقَّق من خلال جهود لا طائل من ورائها بسعيها لأن تُصبح آسيوية.
الفيروس الغربي والشيزوفرانيا الآسيوية
بينما عكف قادة أستراليا على السعي نحو آسيا، فإن قادة الدول الممزقة الأخرى: تركيا والمكسيك وروسيا، حاولوا دمج الغرب في مجتمعاتهم ودمج مجتمعاتهم في الغرب. وتُبيِّنُ تجربتهم قوة ومرونة وتماسك الثقافات الأصلية وقدرتها على تجديد نفسها، ومقاومة واحتواء وتكييف الواردات الثقافية الغربية.
وبينما الاستجابة الرافضة للغرب مستحيلة، فإن الاستجابة الكمالية لم تكن ناجحة. إذا كانت المجتمعات غير الغربية تريد التحديث فيجب أن يكون ذلك على طريقتها وليس على الطريقة الأوروبية، وأن تحاكي اليابان وتبني على ما لدَيها من تقاليد ومؤسسات وقِيَم وتستخدمها. القادة السياسيون الذين تسيطر عليهم فكرة مُتغطرسة بأن بإمكانهم إعادة تشكيل مجتمعاتهم من الأساس لا بد أن يفشلوا. وبينما يمكنهم إدخال عناصر من الثقافة الغربية، فإنهم لا يستطيعون دائمًا كبحَ أو إزالة العناصر الجوهرية في ثقافتهم الأصلية. وعلى العكس من ذلك، فإن الفيروس الغربي بمجرد أن يسكن مجتمعًا آخَر، يصبح من الصعب استئصاله. الفيروس يبقى، ولكنه غير قاتل، يظل المريض على قيد الحياة، ولكنه يبقى مريضًا. القادة السياسيون يمكن أن يصنعوا التاريخ ولكنهم لا يستطيعون الهروب منه. إنهم يصنعون دولًا ممزقة ولا يصنعون مجتمعات غربية، ويُصيبون بلادهم بعدوى الشيزوفرانيا الثقافية التي تظل سمةً ملازمة لها على الدوام.