دول المركز والدوائر المتحدة المركز والنظام الحضاري
(١) الحضارات والنظام
في السياسة الكونية الناشئة، تحلُّ دول المركز في الحضارات الرئيسية محل القوى الكبرى في الحرب الباردة، وتُصبح هي أقطاب الجذب والطرد بالنسبة للدول الأخرى. وتتضح هذه التغيرات بجلاء في الحضارات الغربية والأرثوذوكسية والصينية.
وفي هذه الأحوال تنبثق تجمُّعات حضارية تضمُّ دول مركز ودولًا أعضاء، وأقليَّات سكانية لها نفس ثقافة الدول المجاورة، ثم — وهذا هو الأكثر إثارة للجدل — شعوبًا من ثقافات أخرى في الدول المجاورة. وتنزع الدول في هذه التكتُّلات الحضارية إلى أن تُكوِّن دوائر متَّحدة المركز حول دولة أو دول المركز، معبرة عن درجة توحُّدها وتكامُلها مع تلك الكتلة. ولأن الإسلام يفتقر إلى دولة مركز، فإنه يقوم بتوسيع وعيِهِ المشترط، ولكنه لم يُحقق حتى الآن سوى بنيةٍ سياسية ناقصة.
وتميل الدول إلى اللحاق بركب الدول الأخرى التي لها نفس الثقافة، وإلى أن تتوازن ضد الدول التي لا تُوجَد عوامل ثقافية مشتركة معها، وهذا صحيح على نحوٍ خاص بالنسبة لدول المركز. قوة دول المركز تجذب أولئك الذين يُشبهونها ثقافيَّا وتطرد المختلفين عنها.
ولأسبابٍ أمنية، فقد تحاول دول المركز أن تندمج فيها بعض شعوب الحضارات الأخرى، أو أن تسيطر عليها، كما تحاول تلك الشعوب بدورها أن تُقاوم أو أن تهرب من تلك السيطرة. (الصين ضد سكان التبت والأويغر، وروسيا ضد التتار والشيشان ومُسلمي آسيا الوسطى). وقد أدَّت العلاقات التاريخية وتوازن القوى كذلك، ببعض الدول إلى أن تقاوم نفوذ دول المركز. جورجيا وروسيا دولتان أرثوذوكسيتان، ولكن الجيورجيين، تاريخيًّا، قد قاوموا السيطرة الروسية وكانوا ضد التقارب الوثيق معها. فيتنام والصين دولتان كونفوشيتان ومع ذلك يُوجَد بينهما نوع من العداء التاريخي، وبمرور الزمن تمكنت العوامل الثقافية المشتركة ونمو الوعي الحضاري الواسع والعميق من التقريب بين الدولتَين، مثلما حدث بين الدول الأوروبية الأخرى.
أثناء الحرب الباردة، كان النظام السائد هو نتيجة سيطرة كل من القوتَين العظميَين على كتلتها ونفوذ كلٍّ منهما في العالم الثالث، في العالم الناشئ، أصبحت القوة الكونية أسلوبًا قديمًا، وأصبح المجتمع الكوني حلمًا بعيد المنال.
لا تُوجَد أي دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، لها مصالح أمنية كونية مهمة. مكونات النظام في عالم اليوم الذي أصبح أكثر تعقيدًا وأقل تجانسًا، موجودة في داخل الحضارات وفيما بينها. العالم سيتمُّ تنظيمُه على أساس الحضارات أو لن ينظم أبدًا. في هذا العالم، دول المركز في الحضارات هي مصادر النظام، وذلك في داخل الحضارات ثم بين الحضارات وبعضها عن طريق التفاوض مع دول المركز في كل منها. العالم الذي تلعب فيه دول المركز دورًا قياديًّا أو مسيطرًا هو عالم مناطق نفوذ، ولكنه أيضًا عالم تضبط فيه دول المركز سياستها وتعدل من ممارستها لنفوذها عن طريق الثقافة التي تشترك فيها مع الدول الأعضاء في نفس الحضارة. العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية. وهكذا يُصبح من العبث أن نفعل كما فعل «بطرس غالي» الأمين العام للأمم المتحدة في سنة ١٩٩٤م بإعلان قاعدة: «منطقة حفظ النفوذ»، التي تقضي بأن القوة الإقليمية المسيطرة لا يجب أن تُسهم بأكثر من ثلث قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. هذا الشرط يتحدَّى الواقع السياسي، وهو أن السلام لا يمكن أن يتحقَّق أو أن يتمَّ الحفاظ عليه في أي منطقةٍ إلا بقيادة الدولة المسيطرة في تلك المنطقة. الأمم المتحدة ليست بديلًا عن القوة الإقليمية، والقوة الإقليمية تُصبح مسئولة وشرعية عندما تمارسها دولة المركز مع الدول الأعضاء في حضارتها. دولة المركز يمكن أن تقوم بوظيفتها النظامية؛ لأن الدول الأعضاء تنظر إليها كقربى ثقافية. الحضارة أسرة ممتدة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنًّا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب، وفي غيبة علاقة القربى هذه، فإن قدرة الدولة الأقوى على حلِّ الصراعات في منطقتها أو فرض النظام فيها تُصبح محدودة.
باكستان وبنجلاديش، حتى سريلانكا، لن تقبل بالهند لكي توفر لها النظام في جنوب آسيا، كما لن تقبل أي دولة شرق آسيوية أخرى أن تقوم اليابان بهذا الدور في نفس المنطقة. عندما تفتقر الحضارات لدول مركز، تصبح مشكلات إرساء النظام داخل الحضارات أو التفاوض عليه فيما بينها أكثر صعوبة. وغياب دولة مركز إسلامية قادرة على الاتصال بشعب البوسنة بشكلٍ شرعي وسلطوي، كما فعلت روسيا مع الصرب، وألمانيا مع الكروات، هو الذي دفع الولايات المتحدة للقيام بهذا الدور. أما عدم فاعليتها في ذلك فسببه غياب الاهتمام الأمريكي الاستراتيجي بالحدود التي كانت قد رسمت في يوغوسلافيا السابقة وعدم وجود أي علاقة ثقافية بين الولايات المتحدة والبوسنة، وذلك بالإضافة إلى المعارضة الأوروبية لإقامة دولة مسلمة في أوروبا. غياب دولة مركز في كل من أفريقيا والعالم الغربي، عَقَّدَ إلى درجةٍ كبيرة مساعيَ حل مشكلة الحرب الأهلية في السودان. من جانبٍ آخر، فإن العوامل الرئيسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات تُوجَد حيث تُوجَد دول المركز.
(٢) تعيين حدود الغرب
أثناء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة في المركز من تجمُّعٍ يضم دولًا متعددة الحضارات، تشترك كلها في هدف منع زيادة توسُّع الاتحاد السوفيتي. هذا التجمُّع الذي كان يُعرَف في الماضي باسم «العالم الحر» أو «الغرب» أو «الحلفاء» كان يضمُّ الكثير من المجتمعات الغربية. ولكن ليس جميعها: تركيا واليونان واليابان وكوريا والفلبين وإسرائيل، وإلى حدٍّ ما دولًا أخرى مثل تايوان وتايلاند وباكستان.
في معارضة لذلك كان هناك تجمع آخر من دولٍ أقل تجانسًا بدرجةٍ بسيطة يضمُّ كل البلاد الأرثوذوكسية باستثناء اليونان وعديد من الدول التي كانت غربية تاريخيًّا: فيتنام وكوبا، وبدرجةٍ أقل: الهند، وأحيانًا دولة أو اثنتين من أفريقيا. وبانتهاء الحرب الباردة، تفتتت تلك التجمعات المتعددة الحضارات والمتداخِلة الثقافات. ذوبان النظام السوفيتي، وبخاصة حلف وارسو، تم بشكلٍ درامي، «العالم الحر» المتعدِّد الحضارات، والذي كان موجودًا أثناء الحرب الباردة يتم إعادة تشكيلِه بطريقةٍ مشابهة، وإن كان ببطءٍ أكثر، في تجمُّع جديد ممتد مع الحضارة الأوروبية تقريبًا. وفي الطريق، هناك عملية تحديد تتضمن تعريف العضوية في المنظمات الدولية الغربية. دولتا المركز في الاتحاد الأوروبي: فرنسا وألمانيا، محاطتان أولًا بتجمُّع داخلي من بلجيكا وهولندة ولكسمبورج، وجميعها وافق على إزالة الحدود أمام التجارة والأفراد، ثم بدول أعضاء أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال والدانمرك وبريطانيا وأيرلندة واليونان، ثم بدول أصبحت أعضاء في الاتحاد الأوروبي في سنة ١٩٩٥م (أستراليا، فنلندة، السويد) ثم تلك التي كانت اعتبارًا من ذلك التاريخ أعضاء مُنتسِبين (بولندة، المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، بلغاريا، رومانيا)، وتعبيرًا عن هذا الواقع فإن كلًّا من الحزب الحاكم في ألمانيا وكبار المسئولين الفرنسيين تقدموا باقتراحاتٍ في خريف ١٩٩٤م من أجل إنشاء اتحادٍ مختلف من حيث الشكل والمهام.
كانت الخطة الألمانية تقترح أن يتكون قلب هذا الاتحاد من الأعضاء الأصليين فيما عدا إيطاليا وأن «تكون ألمانيا وفرنسا قلب هذا القلب». دول القلب هذه تحاول أن تُقيم وحدةً نقدية وأن تُكامل بين سياساتها الخارجية والدفاعية على وجه السرعة.
كما اقترح قادة سياسيون آخرون أشكالًا من الترتيبات الأخرى كلها تضمَّنت على أي حالٍ تجمعًا داخليًّا للدول الأشد ارتباطًا، ثم تجمعات خارجية من الدول الأقل تكاملًا مع الدولة المركز، حتى نصل إلى الخط الذي يفصل بين الأعضاء وغير الأعضاء.
كانت إقامة هذا الخط في أوروبا، أحد التحديات الرئيسية التي واجهت الغرب في عالم ما بعد الحرب الباردة. أثناء الحرب الباردة لم تكن أوروبا موجودة كوحدة، إلا أنه مع سقوط الشيوعية أصبح من الضروري الإجابة عن سؤال: ما هي أوروبا؟
حدود أوروبا في الشمال والغرب والجنوب مساحات من الماء يصاحبها في الجنوب فروق ثقافية واضحة. ولكن أين هي الحدود الشرقية لأوروبا؟ من الذي يمكن اعتباره أوروبيًّا وبالتالي يكون عضوًا محتملًا في الاتحاد الأوروبي واﻟ «ناتو» والمنظمات المشابهة؟ الإجابة الأكثر شيوعًا عن هذه الأسئلة يقدمها لنا الخط التاريخي الشهير الذي ظل لعدة قرون يفصل بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية والأرثوذوكسية. يعود تاريخ هذا الخط إلى تقسيم الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع، وإلى إقامة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن العاشر، وقد ظل في مكانه الحالي تقريبًا خمسمائة عام على الأقل. وهو يبدأ في الشمال ويمتدُّ على طول ما يعرف الآن بالحدود بين فنلندة وروسيا ودول البلطيق (أستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وروسيا عبر بيلاروسيا (روسيا البيضاء) الغربية، وأوكرانيا فاصلًا غربها الذي يتبع الكنيسة الشرقية عن شرقها الأرثوذوكسي، وعبر رومانيا بين ترانسيلفانيا بسكانها المجريين الكاثوليك وبقية البلاد، وعبر يوغوسلافيا السابقة على امتداد الحدِّ الذي يفصل بين سلوفينيا وكرواتيا عن الجمهوريات الأخرى.
في البلقان، يتوافق هذا الخط بالطبع مع التقسيم التاريخي بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية. هذا الخط هو الحدُّ الثقافي لأوروبا، وفي عالم ما بعد الحرب الباردة كان هو الحد السياسي والاقتصادي لأوروبا والغرب.
وهكذا يقدم النموذج الحضاري إجابة واضحة وملحَّة عن السؤال الذي يواجه الأوروبيين الغربيين: أين تنتهي أوروبا؟ أوروبا تنتهي حيث تنتهي المسيحية الغربية ويبدأ الإسلام والأرثوذوكسية. هذه هي الإجابة التي يريد الأوروبيون الغربيون أن يسمعوها، والتي يؤيدونها جميعًا همسًا، والتي كرَّسها بوضوح مُثقفون وقادة سياسيون كثيرون. ومن الضروري كما يقول «مايكل هوارد» أن نعترف بالتمايز الذي كان مطموسًا خلال السنوات السوفيتية، بين أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية على نحوٍ صحيح. تضمُّ أوروبا الوسطى «تلك الأراضي التي كانت تُكَوِّنُ في وقتٍ من الأوقات جزءًا من العالم المسيحي الغربي، والأراضي القديمة لإمبراطورية الهابسبورج والنمسا والمجر وتشيكوسلوفاكيا مع بولندة والتخوم الشرقية في ألمانيا».
ومصطلح «أوروبا الشرقية» يجب الاحتفاظ به للإشارة إلى تلك المناطق التي تطورت تحت رعاية الكنيسة الأرثوذوكسية: مجتمعات البحر الأسود في بلغاريا ورومانيا والتي لم تخرج من تحت السيطرة العثمانية إلا في القرن التاسع عشر، والأجزاء «الأوروبية» من الاتحاد السوفيتي.
كما يؤكد الناس في أوروبا الوسطى أيضًا على أهمية خط التقسيم ذلك. الدول التي أحرزت تقدمًا ملحوظًا في خلع نفسها من تراث الشيوعية وتحركت صوب السياسة الديمقراطية واقتصاد السوق، منعزلة عن تلك التي لم تنخلع، بواسطة الخط الذي يفصل بين الكاثوليكية والبروتستانتية من جانب والأرثوذوكسية من جانب آخر.
ومنذ قرون، كان رئيس ليوتانيا يقول إن الليتوانيين لا بد أن يختاروا بين «حضارتين»، وقد اختاروا «العالم اللاتيني وتحولوا إلى الكاثوليكية الرومانية، كما اختاروا شكلًا من تنظيم الدولة مؤسسًا على القانون.»
ويُملي منطق الحضارات نتيجةً مماثِلة بخصوص توسُّع اﻟ «ناتو». بدأت الحرب الباردة باتساع السيطرة السياسية والعسكرية السوفيتية في أوروبا الوسطى. الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية كَوَّنُوا اﻟ «ناتو» لردع الاتحاد السوفيتي أو دحر عدوانه عند الضرورة. في عالم ما بعد الحرب الباردة، يُصبح اﻟ «ناتو» هو المؤسسة الأمنية للحضارة الغربية. بانتهاء الحرب الباردة يُصبح ﻟ «ناتو» هدف واحد رئيسيٌّ ومهمٌّ، وهو تأكيد أن السيادة ما تزال له، عن طريق منع إعادة فرض السيطرة السياسية والعسكرية الروسية في أوروبا الوسطى. وحيث إنها المؤسسة الأمنية للغرب، تبقى اﻟ «ناتو» مفتوحة لعضوية الدول الغربية التي تريد الانضمام إليها والتي تنطبق عليها الشروط من ناحية الكفاءة العسكرية والديمقراطية السياسية والسيطرة المدنية على العسكر.
تشكل السياسة الأمريكية تجاه الإجراءات الأمنية الأوروبية بعد الحرب الباردة، من حيث المبدأ توجهًا أكثر عالمية، وقد تجسد ذلك في «الشراكة من أجل السلام» والتي ستكون مفتوحةً بشكل عامٍّ أمام الدول الأوروبية والدول الأوروبية الآسيوية، كما أكد هذا الأسلوب أيضًا على دور «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا»، وقد ظهر ذلك في ملاحظات الرئيس «كلينتون» عندما زار أوروبا في يناير ١٩٩٤م: «حدود الحرية الآن يجب أن يميزها سلوك جديد وليس التاريخ القديم. أقول للجميع ممن يريدون رسم خط جديد في أوروبا: إننا لن نعوق إمكانية تحقيق أفضل مستقبل ممكن لأوروبا الديمقراطية في كل مكان، اقتصاد السوق في كل مكان، دول تتعاون من أجل الأمن المتبادل في كل مكان، يجب ألا ترضى بنتيجة أقل من ذلك.»
بعد عام تقريبًا، اعترفت الإدارة بأهمية الحدود التي حدَّدها التاريخ القديم واضطرت لقبول «نتيجة أقلَّ من ذلك»، مما يعكس واقع الفروق الثقافية. تحركت الإدارة بهمَّةٍ لتطوير معايير وجدول توسيع العضوية في اﻟ «ناتو»، لكي يشمل في البداية: بولندة والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، ثم يمتد إلى سلوفينيا … وربما إلى جمهوريات البلطيق فيما بعد. روسيا عارضت بشدة أي توسع ﻟ «ناتو». الروس الذين من المفترض أنهم أكثر ليبرالية وموالاةً للغرب، يقولون إن هذا التوسع من شأنه أن يدعم القوى القومية والقوى السياسية المعارضة للغرب في روسيا. توسع اﻟ «ناتو» تحدد بالدول التي كانت تاريخيًّا جزءًا من المسيحية الأوروبية، ومع ذلك يضمن لروسيا أيضًا أنه سوف يستبعد الصرب وبلغاريا ورومانيا ومالدافيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا، طالما ظلت الأخيرة مُتحدة.
توسع اﻟ «ناتو» المقصور على الدول الغربية يؤكد كذلك دور روسيا كدولةِ مركز لحضارة أرثوذوكسية منفصلة، وبالتالي كدولةٍ يجب أن تكون مسئولة عن النظام في داخل الأرثوذوكسية وعلى امتداد حدودها. فائدة التمييز على أساس الحضارة تتضح بالنسبة لجمهوريات البلطيق، فهي الجمهوريات السوفيتية السابقة الوحيدة الواضح أنها غريبة من ناحية التاريخ والثقافة والدين، ومصيرها كان دائمًا محلَّ اهتمام رئيسيًّا من قِبَل الغرب.
لم تعترف الولايات المتحدة رسميًّا أبدًا باندماجها في الاتحاد السوفيتي، وكانت باستمرار تؤيد تحركها نحو الاستقلال أثناء عملية انهيار الاتحاد السوفيتي، كما كانت تصرُّ على أن يلتزم الروس بالجدول المتفق عليه لسحب قواتهم من تلك الجمهوريات.
عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي مشكلة، وعضويتها في اﻟ «ناتو» كانت محل هجوم من حزب الرفاه، والمرجَّح أنها ستظلُّ عضوًا في اﻟ «ناتو». اللهم إلا إذا حقق «الرفاه» فوزًا ساحقًا في الانتخابات أو إذا رفضت تركيا — عن وعي — كل موروثها الأتاتوركي وأعادت إعلان نفسها زعيمةً للإسلام. يمكن تصوُّر ذلك، ويمكن أن يكون مرغوبًا فيه من قِبَل تركيا، ولكنه غير وارد في المستقبل القريب.
ومهما كان دور تركيا في اﻟ «ناتو» فإنها ستواصل الحفاظ على مصالحها الخاصة والمتميزة مع البلقان والعالم العربي وآسيا الوسطى. اليونان ليست جزءًا من الحضارة الغربية، ولكنها كانت مهدًا لحضارة كلاسيكية هي أحد المصادر المهمة للحضارة الغربية. وفي معارضتهم للأتراك، فإن اليونانيين كانوا تاريخيًّا، يعتبرون أنفسهم حَمَلَة رماح المسيحية. وعلى خلاف الصرب والبلغاريين والرومانيين فإن تاريخهم (تاريخ اليونانيين) كان دائمًا مضفورًا بتاريخ الغرب. إلا أن اليونان أيضًا حالة شاذة. إنها الخارج الأرثوذوكسي في المنظمات الغربية، ولم تكن عضويتها سهلة أبدًا في الاتحاد الأوروبي ولا في اﻟ «ناتو»، كما كانت تجد صعوبةً دائمًا في التكيف مع أهداف كل منهما.
من منتصف الستينيات إلى منتصف السبعينيات كانت تحكمها مجموعة عسكرية ولم تتمكن من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا بعد أن تحولت إلى الديمقراطية. كان قادتها كثيرًا ما ينحرفون عن المبادئ الغربية ويُعادون الحكومات الغربية. كانت أفقر من دول الاتحاد واﻟ «ناتو» الآخرين، وغالبًا ما كانت تتبع سياسات اقتصادية تبدو إهانة للمستويات السائدة في بروكسل. تصرفاتها كرئيس لمجلس الاتحاد الأوروبي في سنة ١٩٩٤م أغضبت بقية الأعضاء، كما كان المسئولون الغربيون — في السر — يعتبرون عضويتها غلطة.
في ١٩٩٥م كان هناك حوالي ألفي عمل تجاري يملكها روس في قبرص، الصحف الروسية والكرواتية الصربية توزع هناك، كما تشتري الحكومة القبرصية اليونانية كميات رئيسية من السلاح الروسي. كما بحثت اليونان مع روسيا إمكانية نقل بترول القوقاز وآسيا الوسطى إلى البحر الأبيض المتوسط بواسطة خط أنابيب بلغاري – يوناني يتخطى تركيا والدول الإسلامية الأخرى. مجمل السياسات الخارجية اليونانية أخذت توجهًا أرثوذوكسيًّا واضحًا. ستظل اليونان بلا شك عضوًا رسميًّا في اﻟ «ناتو» والاتحاد الأوروبي، إلا أنه مع اتساع عملية إعادة التشكل الثقافي سوف تصبح تلك العضوية أكثر ضعفًا وأقلَّ معنًى وأكثر صعوبة للأطراف المعنية. وهكذا تحول عدو الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة إلى حليف لروسيا بعد زوال الحرب.
(٣) روسيا وخارجها القريب
كتلة حضارية تُشبه في جوانب كثيرة منها كتلة الغرب في أوروبا هي التي خلفت الإمبراطورية القيصرية والشيوعية. في مركز هذه الكتلة تُوجَد روسيا، المرادف لفرنسا وألمانيا، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدائرة داخلية تضمُّ الجمهوريتَين ذات الأغلبية الأرثوذوكسية السلافية الساحقة: بيلاروسيا (روسيا البيضاء) ومالدافيا، وكازاخستان التي تبلغ نسبة الروس بين سكانها ٤٠٪، وأرمينيا الحليف التاريخي لروسيا. في منتصف التسعينيات كانت هناك في تلك الدول كلها حكومات موالية لروسيا وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخاب بشكلٍ عام. تُوجَد بين روسيا وجورجيا علاقات عميقة ولكنها أكثر غموضًا (أغلبية جورجيا أرثوذوكس) وكذلك بينها وبين أوكرانيا (نسبة كبيرة أرثوذوكس) وكلاهما لدَيه إحساس قوي أيضًا بالهوية القومية والاستقلال السابق.
وفي البلقان الأرثوذوكسية توجد لروسيا علاقات حميمية مع بلغاريا واليونان وصربيا وقبرص، وعلاقات على درجةٍ أقلَّ مع رومانيا. الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق تظلُّ معتمدةً بدرجةٍ كبيرة على روسيا اقتصاديًّا وأمنيًّا. جمهوريات البلطيق على العكس من ذلك أبعدت نفسها عن النفوذ الروسي. روسيا كلها تكون تحت زعامتها كتلة أرثوذوكسية القلب ذات سياجٍ حاجز مُحيط من الدول الإسلامية الضعيفة نسبيًّا، والتي تسيطر عليها بدرجاتٍ مختلفة وستحاول أن تطرد القوى الأخرى منها.
تتوقَّع روسيا أيضًا أن يقبل العالم نظامها وأن يوافق عليه. الحكومات الأجنبية والدولية كما قال «يلتسين» في فبراير ١٩٩٣م في حاجة إلى أن «تمنح روسيا صلاحياتٍ خاصة كضامنٍ للسلام والاستقرار في مناطق الاتحاد السوفيتي السابق». وبينما كان الاتحاد السوفيتي قوة عظمى ذات مصالح كونية، فإن روسيا قوة رئيسية ذات مصالح إقليمية وحضارية. الدول الأرثوذوكسية في الاتحاد السوفيتي السابق ذات أهمية مركزية في تطوير كتلةٍ روسية متماسكة في الشئون الأوروبية الآسيوية والعالمية. أثناء تشقُّق الاتحاد السوفيتي تحركت تلك الدول الخمس كلها في اتجاهٍ قومي، مؤكدة على استقلالها الجديد وعلى الابتعاد عن موسكو. بعد ذلك أدى الاعتراف بالواقع وبالحقائق الثقافية والجيوبوليتيكية بالناخبين في أربع دولٍ منها، أن تنتخِب حكوماتٍ موالية لروسيا وأن تؤيد السياسات الموالية لها أيضًا. والشعوب في تلك الدول تتطلَّع إلى روسيا من أجل الدعم والحماية. وفي الدولة الخامسة «جورجيا»، أدى التدخل الروسي العسكري إلى تحول مماثل في موقف الحكومة. أرمينيا كانت دائمًا توحِّد مصالحها مع مصالح روسيا، كما كانت روسيا تفخر دائمًا بأنها المدافعة عنها ضدَّ جيرانها المسلمين. هذه العلاقة تعزَّزت في السنوات التالية لزوال الاتحاد السوفيتي. الأرمن يعتمِدون على الدعم الاقتصادي والعسكري الروسي، وقد أيَّدوا روسيا في القضايا الخاصة بالعلاقات بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، كما أن للدولتَين مصالح استراتيجية متقاربة.
وفي سنة ١٩٩٤م وافق الجورجيون على السماح للروس بالاحتفاظ بثلاث قواعد عسكرية في جورجيا لفترةٍ غير محدودة. وهكذا فإن التدخُّل العسكري الروسي الذي أضعف الحكومة الجورجية أولًا ثم حافظ عليها في النهاية، أدخل جورجيا ذات الفكر الاستقلالي إلى المعسكر الروسي.
وبصرف النظر عن روسيا، فإن جمهورية أوكرانيا هي الأكثر سكانًا والأكثر أهمية بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة. كانت أوكرانيا دولةً مستقلة في أوقاتٍ مختلفة من التاريخ، إلا أنها خلال معظم الحقبة الحديثة كانت جزءًا من كيانٍ سياسي يُحْكَم من موسكو، وفي سنة ١٦٥٤م وقع الحدث الحاسم عندما وافق «بودهان خميلنتسكي» زعيم القوزاق في ثورة ضد الحكم البولندي على أن يؤدي يمين الولاء للقيصر مقابل مساعدته ضد البولنديين، ومنذ ذلك الحين وحتى سنة ١٩٩١م — باستثناء فترة قصيرة كانت فيها مُستقلة بين ١٩١٧م و١٩٢٠م — فإن ما يعرف الآن باسم أوكرانيا كان يحكم سياسيًّا من موسكو.
ولكن أوكرانيا بلد مصدوع، ذو ثقافتَين مائزتَين. خط التقسيم الحضاري بين الغرب والأرثوذوكسية يمرُّ عبر قلبها وكان كذلك لعدة قرون. في الماضي وفي بعض الأحيان كانت أوكرانيا الغربية جزءًا من بولندة أو ليتوانيا أو الإمبراطورية النمساوية-المجرية. كان قطاع كبير من سكانها يتبعون الكنيسة الشرقية التي تمارس الشعائر الأرثوذوكسية ولكنها تعترف بسلطة البابا. ومن الناحية التاريخية كان سكان أوكرانيا الغربية يتكلمون الأوكرانية كما كانوا قوميين مُتشدِّدين في أفكارهم وآرائهم.
من جهة أخرى، كان شعب أوكرانيا الشرقية في أغلبيته الساحقة أرثوذوكس، وكان جزء كبير منه يتكلم الروسية. في أوائل التسعينيات كانت نسبة الروس ٢٢٪، والذين يتكلمون الروسية حوالي ٣١٪ من مجموع سكان أوكرانيا.
وكنتيجة لهذا التقسيم فإن العلاقات بين أوكرانيا وروسيا أمكن أن تتطوَّر بإحدى طرق ثلاث: في أوائل التسعينيات كانت هناك قضايا مُلحة جدًّا بين الدولتَين بخصوص الأسلحة النووية والقرم وحقوق الروس في أوكرانيا وأسطول البحر الأسود والعلاقات الاقتصادية.
وبينما حدث قتال خطير بين المسلِمين والمسيحيين في أماكن أخرى من الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أنه لم تحدُث أي أعمال عنفٍ بين الروس والأوكرانيين منذ ١٩٩٥م بالفعل.
وهناك احتمال آخر وارد بشدة، هو أن أوكرانيا يمكن أن تنشق بطول خط التقسيم إلى كيانين منفصلَين، يمكن أن يندمج الشرقي منهما مع روسيا. وقد ظهرت قضية الانفصال هذه أيضًا بخصوص القرم. فالشعب القرمي الذي يضمُّ حوالي ٧٠٪ من الروس كان في الأساس يؤيد استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي في استفتاء ديسمبر ١٩٩١م.
(٤) الصين العظمى ومجال الرخاء الاقتصادي المشترك التابع لها
الحضارة الصينية المعاصرة، أصبحت على نحوٍ مماثل، تتكوَّن من: القلب الرئيسي: صين هان، والأقاليم البعيدة التي هي جزءٌ من الصين ولكنها تتمتع باستقلالٍ كبير، والأقاليم التي هي — قانونًا — جزءٌ من الصين ولكنها مسكونة بكثافة غير صينية تنتمي إلى حضارات مختلفة (التبت وجين جيانج) والمجتمعات الصينية التي ستُصبح — أو هناك احتمال لأن تُصبح — جزءًا من الصين وعاصمتها بكين على أساس شروط محددة (هونج كونج وتايوان)، ودولة صينية في غالبيتها مُتوجهة صوب بكين (سنغافورة)، وتجمُّعات سكانية كبيرة ومؤثرة في تايلاند وفيتنام وماليزيا وإندونيسيا والفلبين، ومجتمعات غير صينية (كوريا الشمالية والجنوبية وفيتنام) والتي تشترك رغم ذلك، في الثقافة الكونفوشية مع الصين. وفي الخمسينيات، كانت الصين تُعرِّف نفسها بأنها حليف للاتحاد السوفيتي، وبعد الانشقاق الصيني السوفيتي أصبحت ترى نفسها زعيمةً للعالم الثالث ضدَّ كل من القوتَين العظميين، الأمر الذي كلفها كثيرًا وعاد عليها بنفع ضئيل. بعد التحوُّل في سياسة الولايات المتحدة في عهد إدارة «نيكسون»، أرادت الصين أن تكون الطرف الثالث في لعبة توازن القوى مع القوتَين العظميين، بأن اتخذت جانب الولايات المتحدة في السبعينيات عندما كانت الولايات المتحدة تبدو ضعيفة، ثم بعد ذلك تحوَّلت إلى وضعٍ متساوي البُعد في الثمانينيات عندما زادت القوة العسكرية للولايات المتحدة وانهار الاتحاد السوفيتي اقتصاديًّا وأصبح متورطًا في مُستنقَع أفغانستان. إلا أن الورقة الصينية فقدت قيمتها بانتهاء المنافسة بين القوتَين العظميين، وكان على الصين أن تُعيد تحديد دورِها مرةً أخرى في السياسة العالمية.
- أولًا: الأسلوب الذي تصف به الصين موقعها في الشئون العالمية.
- ثانيًا: مدى تورط الصينيين فيما وراء البحار اقتصاديًّا مع الصين.
- ثالثًا: العلاقات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية المتزايدة للكيانات الصينية الثلاثة الرئيسية الأخرى (هونج كونج – تايوان – سنغافورة) مع الصين، بالإضافة إلى التوجُّه المتسارع نحو الصين من قبل الدول الغرب آسيوية حيث يُوجَد للصينيين نفوذ سياسي مؤثر.
الحكومة الصينية تَعتبر كل من هم من أصلٍ صيني حتى وإن كانوا مواطنين في بلادٍ أخرى، أعضاء في المجتمع الصيني، ومن هنا فهُم يُعتبرون خاضعين لسلطة الحكومة الصينية على نحوٍ ما.
الهوية الصينية تتحدَّد على أساسٍ جنسي، والصينيون هم أولئك من نفس «الجنس والدم والثقافة» كما عبر عن ذلك أحد الباحثين في شئون الصين. وفي منتصف التسعينيات كانت هذه الفكرة تتردَّد من قِبَل مصادر صينية حكومية وغير حكومية. بالنسبة للصينيين ولمن هم من أصلٍ صيني، فإن العيش في متجمعات غير صينية يُصبح بمثابة «اختبار المرآة»: اختبار من هم … «اذهب وانظر في المرآة» … هذه هي النصيحة التي يُوجهها الصينيون الموالون لبكين إلى أولئك من أصل صيني ويحاولون أن يتمثلوا المجتمعات الأجنبية.
في إندونيسيا كان الصينيون في الثمانينيات يمثلون ٢-٣٪ من السكان ومع ذلك كانوا يملكون ٧٠٪ من رأس المال المحلي الخاص. كان هناك ١٦ من بين أكبر ٢٥ نشاطًا تجاريًّا في أيدي الصينيين. وكما تقول التقارير: كان أحد التكتلات الاقتصادية يحقق ٥٪ من مُجمل النتاج القومي لإندونيسيا.
في العالم الصيني، كما في كل مكانٍ آخر، تساعد العوامل الثقافية المشتركة على الارتباط الاقتصادي.
انخفاض التورُّط الاقتصادي الغربي في الصين بعد «تيانان من»، والذي جاء بعد عقدٍ من النمو الاقتصادي الصيني السريع، هيأ الفرصة والحافز للصينيين في الخارج أن يفيدوا من ثقافاتهم المشتركة واتصالاتهم الشخصية وأن يستثمروا بكثافة في الصين، وكانت النتيجة نموًّا هائلًا في كافة العلاقات الاقتصادية بين المجتمعات الصينية في سنة ١٩٩٢م كانت نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين ٨٠٪ (١١٫٣ بليون دولار) جاءت كلها من الصينيين في الخارج، وبشكل رئيسي من هونج كونج (٦٨٫٣٪) وتايوان (٩٫٣٪) وسنغافورة وماكاو وغيرها.
هذا بالإضافة إلى أن البر الرئيسي للصين كان أكبر الأسواق من ناحية الإمكانيات، وبمنتصف التسعينيات كانت الاستثمارات في الصين يتزايد توجُّهها نحو البيع في تلك السوق إلى جانب التصدير منها.
الصينيون في جنوب شرق آسيا يتمثَّلون السكان المحليين بدرجاتٍ مختلفة، بينما يُكِنُّ الآخرون غالبًا مشاعر معادية للصينيين قد تنفجر على شكل صراعٍ عنيف مثل الشغب الذي حدث في «ميدان» في إندونيسيا في أبريل ١٩٩٤م، وينتقد بعض الماليزيين والإندونيسيين تدفق الاستثمار الصيني على البر الرئيسي ويصفونه بأنه «هروب رأس المال»، كما كان على القادة السياسيين بزعامة الرئيس «سوهارتو» أن يؤكدوا لشعوبهم أن ذلك لن يؤديَ إلى دمار اقتصادهم. الصينيون في جنوب شرق آسيا كانوا يصرون بدورِهم على أن ولاءهم للبلاد التي ولدوا بها وليس لبلاد الأسلاف. في أوائل التسعينيات تدفق رأس المال الصيني من جنوب شرق آسيا على الصين، وكان يُقابله تدفق كثيف من الاستثمارات التايوانية على الفلبين وماليزيا وفيتنام.
إن الارتباط بين نمو القوة الاقتصادية والثقافة الصينية المشتركة أدى ﺑ (هونج كونج وتايوان وسنغافورة) إلى أن يزيدوا من تورُّطهم مع البر الرئيسي في الوطن الصيني الأصلي. ولكي يكيفوا أنفسهم مع انتقال السلطة القادم، بدأ صينيو هونج كونج يتواءمون مع الحكم من بكين أكثر منه من لندن.
وبمنتصف التسعينيات كان التكامل الاقتصادي بين هونج كونج وصين البر الرئيسي كاملًا بالفعل إلى جانب التكامل السياسي الذي سيصل إلى نهايته في سنة ١٩٩٧م.
اتساع علاقات تايوان بالبر الرئيسي للصين كان أقلَّ من اتساع علاقات هونج كونج بها، إلا أن تغيرات مهمة بدأت منذ أوائل الثمانينيات. على مدى ثلاثة عقود بعد سنة ١٩٤٩م كانت الجمهوريتان الصينيتان رافضتَين أن تعترف كل منهما بالأخرى … سواء بوجودها أو بشرعيتها ولم تكن بينهما اتصالات، وكانتا في حالة حربٍ بالفعل تظهر من وقتٍ لآخر على شكل تبادل للنيران في الجزر البعيدة عن الشاطئ.
في التسعينيات، ما زالت هناك قضايا أساسية بين تايبيه وبكين تتضمَّن مسألة السيادة ومشاركة تايوان في المنظمات العالمية وإمكانية أن تُعيد تايوان تعريف نفسها كدولةٍ مستقلة. ولكن احتمال تحقق الأمر الأخير أصبح بعيدًا بصورةٍ متزايدة على أية حال، حيث وجد الحزب الديمقراطي التقدمي، وهو المؤيد الرئيسي للاستقلال، أن الناخبين التايوانيين لا يريدون أن يخربوا العلاقات القائمة مع البر الرئيسي، وأن استعجال القضية سوف يُلحق الضرر بمستقبله الانتخابي.
ومن هنا أكد زعماء الحزب الديمقراطي التقدمي أنهم إذا وصلوا إلى السلطة فإن الاستقلال لن يكون موضوعًا عاجلًا على جدول أعمالهم. الحكومتان كان بينهما أيضًا اهتمامٌ مشترك لتأكيد سيادة الصين على «سبراتلي» والجزر الأخرى في بحر الصين الجنوبي والإجماع على أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر أفضليةً في التجارة مع البر الرئيسي. في أوائل التسعينيات كانت الصينان تتحركان ببطءٍ ولكن بإدراك وتَبَصُّرٍ ضرورِيَّين، كل منهما نحو الآخر لتطوير المصالح المشتركة، انطلاقًا من علاقاتهما الاقتصادية الواسعة وهويتهما الثقافية المشتركة. هذا التحرك نحو التكيف تم تعليقه فجأة عندما اندفعت حكومة تايوان بكل حدةٍ لتُطالب بالاعتراف الدبلوماسي بها والسماح لها بالانضمام إلى المنظمات الدولية، فقام الرئيس «لي تنج هيو» بزيارة «خاصة» للولايات المتحدة، كما أجرت تايوان انتخاباتٍ تشريعية في ديسمبر ١٩٩٥م تبعها انتخابات رئاسية في مارس ١٩٩٦م، وردًّا على ذلك قامت الحكومة الصينية بإجراء تجاربٍ للصواريخ في المياه القريبة من الموانئ الرئيسية وبدأت تدريبات عسكرية بالقُرب من الجزر التابعة لتايوان.
وقد أثارت هذه التطورات قضيتين رئيسيتين. بالنسبة للحاضر: هل يمكن أن تظل تايوان ديمقراطية دون أن تُصبح مستقلة رسميًّا؟ وفي المستقبل: هل يمكن أن تصبح تايوان ديمقراطية دون أن تظل مستقلة بالفعل؟
والحقيقة أن علاقات تايوان بالبر الرئيسي قد مرت عبر مرحلتَين وقد تدخل مرحلة ثالثة. على مدى عدة عقود كانت الحكومة الوطنية تزعم أنها حكومة كل الصين، وكان ذلك بوضوح معناه الصراع مع الحكومة التي كانت في الحقيقة حكومة كل الصين ما عدا تايوان. في الثمانينيات أسقطت حكومة تايوان هذا الادعاء، وحددت نفسها بأنها حكومة تايوان، الأمر الذي وضع أساسًا للتكيُّف مع مفهوم البر الرئيسي: «بلد واحد … نظامان.» يؤكد كثيرون أفرادًا وجماعات على تزايد هوية تايوان الثقافية المستقلة، وعلى الفترة القصيرة نسبيًّا تحت الحكم الصيني، ولغتها غير المفهومة للناطقين بالماندارين. لقد كانوا في الواقع يحاولون أن يعرفوا المجتمع التايواني بأنه مجتمع غير صيني، ومن هنا يكون مستقلًّا — شرعًا — عن الصين، بالإضافة إلى ذلك، فإن حكومة تايوان عندما أصبحت نشطةً دوليًّا بدت هي الأخرى وكأنها تقول إنها دولة مستقلة وليست جزءًا من الصين. وباختصار يبدو أن تعريف حكومة تايوان لنفسها قد تدرج من: حكومة كل الصين، إلى حكومة جزء من الصين، إلى حكومة لا شيء من الصين. والوضع الأخير الذي يُعطي الشكل الرسمي لاستقلالها القائم بالفعل، لن يكون مقبولًا بالمرة من حكومة بكين التي أكدت استعدادها مرارًا لاستخدام القوة لكي تحول دون تحقيق ذلك.
وكما قال قادة الحكومة الصينية أيضًا إنه بعد دمج هونج كونج في جمهورية الصين الشعبية في سنة ١٩٩٧م، وماكاو في سنة ١٩٩٩م، فإنهم سوف يتحركون لإعادة ربط تايوان بالبر الرئيسي. أما كيف يحدث ذلك، فإن الأمر فيما يبدو يعتمد على درجة تزايد تأييد الاستقلال الرسمي في تايوان، وحل صراع الخلافة في بكين الذي يساعد القادة السياسيين والعسكريين على أن يكونوا قوميين مُتشددين، وتطوير القدرات العسكرية الصينية، التي يمكن أن تجعل غزو تايوان واردًا. ومن المرجح أن تُصبح تايوان أكثر تكاملًا مع البر الرئيسي في وقتٍ باكر من القرن الواحد والعشرين، سواء عن طريق القسر أو التكيف، والأكثر احتمالًا هو أن يكون ذلك عن طريق المزج بين الأسلوبين.
حتى أواخر السبعينيات كانت العلاقات بين سنغافورة الشديدة العداء للشيوعية والصين الشعبية باردة جدًّا، وكان «لي كوان يو» وغيره من قادة سنغافورة ينظرون بازدراء إلى التخلف الصيني. وبعد انطلاق النمو الاقتصادي الصيني في الثمانينيات بدأت سنغافورة تُعيد توجيه نفسها صوب البر الرئيسي بأسلوبٍ كلاسيكي من أجل اللحاق به. وبحلول سنة ١٩٩٢م كانت قد استثمرت ١٫٩ بليون دولار في الصين، وفي العام التالي أُعلن عن مشروع لبناء مدينة صناعية «سنغافورة-٢» خارج شنغهاي باستثمارات تصل إلى بلايين الدولارات، وأصبح «لي» نصيرًا متحمسًا لمستقبل الصين الاقتصادي وشديد الإعجاب بقوتها.
(٥) الإسلام: وعي دون تماسُك
بنية الولاء السياسي بين العرب وبين المسلمين كانت بشكلٍ عامٍّ على العكس من تلك الموجودة في الغرب الحديث. بالنسبة للغرب، كانت الدولة القومية هي قمة الولاء السياسي، ثم تتبعها ولاءات أضيق تصنف حسب إخلاصها للدولة القومية. أما الجماعات التي تتجاوز الدولة القومية — المجتمعات اللغوية أو الدينية أو الحضارات — فيكون ولاؤها والتزامها أقل.
- أولًا: الإسلام مُقسَّم بين مراكز قوى متنافسة، يحاول كل منها أن يُفيد من توحُّده الإسلامي
بالأمة لكي يحقق بذلك تماسكًا إسلاميًّا تحت قيادته. هذه المنافسة تدور بين الأنظمة المستقرة
ومنظماتها من ناحية، والأنظمة الإسلامية ومنظماتها من ناحية أخرى. السعودية أخذت الخطوة
الأولى
بإنشاء «منظمة المؤتمر الإسلامي» وكان ذلك موجهًا إلى حدٍّ ما، ضد الجامعة العربية التي
كان يسيطر
عليها «عبد الناصر» آنذاك. وفي سنة ١٩٩١م، أنشأ الزعيم السوداني «حسن الترابي» بعد حرب
الخليج
«المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» PAIC، وفي سنة ١٩٩٥م كان يشارك في دورته الثالثة في الخرطوم
مئات من الوفود من المنظمات والحركات الإسلامية من ٨٠ دولة.30 وإلى جانب هذه المنظمات الرسمية، أفرزت حرب أفغانستان شبكةً واسعة من الأفراد
والجماعات غير الرسمية الذين ظهروا يُقاتلون من أجل قضايا إسلامية أو متأسلِمة في الجزائر
وشيشينيا ومصر وتونس والبوسنة وفلسطين والفلبين وغيرها. وبعد الحرب جددت تلك الجماعات
صفوفها
ودعمتها بالمقاتلين الذين تلقَّوا تدريبهم في جامعة الدعوة والجهاد خارج «بشاور» والمعسكرات
المشمولة برعاية ودعم جماعاتٍ عديدة وحماتها في أفغانستان. كانت المصالح المشتركة بين
الأنظمة
والحركات الراديكالية تتغلب أحيانًا على العداوات التقليدية، وبفضل الدعم الإيراني، عقدت
الصِّلات
بين الجماعات الأصولية السنية والشيعية.
وهناك تعاون عسكري وثيق بين السودان وإيران: القوات الجوية والبحرية الإيرانية استخدمت التسهيلات السودانية، وتعاونت الحكومتان لدعم الجماعات الأصولية في الجزائر وغيرها، كما يُقال إن «حسن الترابي» و«صدام حسين» كانا يُقيمان علاقات قوية في ١٩٩٤م وأن إيران والعراق تحركتا نحو تسوية.31
- ثانيًا: يفترض مفهوم الأمة عدم شرعية الدولة القومية، وبالتالي فإن الأمة يمكن أن تتوحَّد فقط من خلال أعمال دولة مركز واحدة قوية، أو أكثر من دولة وهذا غير متوفِّر حاليًّا. ومفهوم الإسلام كمجتمعٍ ديني-سياسي واحد، يعني أن دول المركز كانت تُوجَد في الماضي فقط عندما كانت تتَّحِد القيادتان الدينية والسياسية — الخلافة والسلطنة — في مؤسسةٍ حاكمة واحدة.
الفتح العربي السريع لشمال أفريقيا والشرق الأوسط في القرن السابع بلغ أوجَهُ في عهد الخلافة الأموية وعاصمتها دمشق، بعد ذلك استمرَّ في القرن الثامن مع الخلافة العباسية في بغداد والتي كانت متأثرةً بالفرس، ثم مع خلافات ثانوية ظهرت في القرن العاشر في القاهرة وقرطبة. بعد ذلك بأربعة قرون، اجتاح الأتراك العثمانيون الشرق الأوسط واستولوا على القسطنطينية في ١٤٥٣م، وأسسوا خلافةً جديدة في ١٥١٧م، وفي نفس الوقت تقريبًا غزت شعوب تركية أخرى الهند وأسَّست إمبراطورية المغول.
صعود الغرب قلَّل من شأن الإمبراطوريتَين العثمانية والمغولية، كما أن نهاية الإمبراطورية العثمانية تركت الإسلام دون دولة مركز. وتم تقسيم أراضيها بين قوًى غربية، وعندما انسحبت تلك القوى خلَّفت وراءها دولًا مؤسسةً على نموذجٍ غربي، بعيدٍ كل البعد عن تقاليد وتراث الإسلام. وهكذا فإنه على مدى مُعظم القرن العشرين، لم يكن لدى أيةِ دولةٍ إسلامية قوة كافية ولا ثقافة كافية ولا شرعية دينية للاضطلاع بهذا الدور لكي تُصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية، كزعيم للحضارة الإسلامية.
إن غياب دولة مركز إسلامية عامل مساعد وأساسي على الصراعات الخارجية والداخلية المستمرة التي تميز الإسلام، وعلى الوعي دون تماسك، كما أنه مصدر ضعف بالنسبة للإسلام ومصدر تهديد للحضارات الأخرى. فهل هناك احتمال أن تستمرَّ الحال هكذا؟ إن دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لدَيها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمة. وهناك ست دولٍ يتردَّد ذكرها من وقتٍ لآخر كزعاماتٍ ممكنة للحضارة الإسلامية، وفي الوقت الحالي لا تتوفر لأي منها الشروط اللازمة لكي تجعل منها دولة مركز ذات فعالية.
إندونيسيا: هي أكبر دولة إسلامية، واقتصادها ينمو بسرعة، إلا أنها تقع على حدود الإسلام بعيدًا عن مركزه العربي، كما أن إسلامَها تشكيلة متنوعة من جنوب شرق آسيا، وشعبها وثقافتها خليط من مؤثرات وأصول إسلامية وهندوسية وصينية ومسيحية.
مصر: بلد عربي تعدادها السكاني كبير، موقعها المركزي والاستراتيجي والجغرافي مُهم في الشرق الأوسط، ولدَيها الأزهر: المؤسسة القائدة في التعليم الديني … إلا أنها مع كل ذلك دولة فقيرة، تعتمد اقتصاديًّا على الولايات المتحدة وعلى المؤسسات الدولية التي يتحكَّم فيها الغرب والدول العربية النفطية.
إيران وباكستان والسعودية: ثلاثتهم يُعَرِّفون أنفسهم وبوضوح بأنهم دول إسلامية، وقد حاولوا بكل نشاط أن يمارسوا نفوذًا على الأمة وأن يتزعَّموها. يتنافسون في ذلك بعضهم مع البعض على رعاية المنظمات وتمويل الجماعات الإسلامية ودعم المقاتلين والمجاهدين في أفغانستان والتودُّد للشعوب الإسلامية في آسيا الوسطى.
إيران: لها الحجم والموقع المركزي وعدد السكان والتقاليد التاريخية والموارد النفطية والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي الذي يمكن أن يؤهلها لكي تكون دولة مركز إسلامية. إلا أن إيران شيعية، بينما ٩٠٪ من مُسلمي العالم سُنَّة. الفارسية هي اللغة الثانية في الحضارة الإسلامية، وتجيء بعد العربية بمسافةٍ بعيدة. كما أن العلاقات بين الفرس والمسلمين — تاريخيًّا — تتَّسِم بالعداء.
باكستان: لها الحجم وعدد السكان والقدرة العسكرية، كما أن زعماءها قاموا بدورٍ مُستمر للدعوة إلى التعاون بين الدول الإسلامية ويتحدثون للعالم باسم الإسلام. إلا أن باكستان فقيرة نسبيًّا وتعاني من انقسامات إثنية وإقليمية خطيرة في الداخل، ولها سجل من عدم الاستقرار السياسي، كما أن تركيزها على مشكلاتها الأمنية مع الهند يمكن أن يُبرر إلى حدٍّ كبير حرصها على إقامة علاقات وثيقة مع الدول الإسلامية الأخرى وكذلك مع دول غير إسلامية مثل الصين والولايات المتحدة.
السعودية: هي المهد الأصلي للإسلام، يُوجَد بها الحرمان الشريفان، لغتها العربية هي لغة الإسلام، لديها أعلى احتياطيات النفط في العالم وما يستتبع ذلك من نفوذ مالي، حكومتها شكلت المجتمع السعودي على خطوط إسلامية متشددة. في السبعينيات والثمانينيات كانت السعودية أكبر قوة مؤثرة في العالم الإسلامي، أنفقت بلايين الدولارات على دعم القضايا الإسلامية في العالم: من بناء المساجد ونشر الكتب إلى مساعدة الأحزاب السياسية والمنظمات الإسلامية والحركات الإرهابية، وكانت لا تُفرق بين أي شيء من ذلك. من جانب آخر فإن عدد سكانها الصغير نسبيًّا وعدم حصانتها جغرافيًّا يجعلانها تعتمد على الغرب من أجل أمنها.
وأخيرًا تركيا: تركيا لديها التاريخ وعدد السكان والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية والكفاءة … لكي تكون دولة مركز. ولكن «أتاتورك» حرم الجمهورية التركية من أن تخلف الإمبراطورية في هذا الدور، وذلك بسبب تحديدها بكل وضوحٍ كمجتمع علماني. إنها لم تتمكن حتى من أن تكون عضو ميثاق في منظمة المؤتمر الإسلامي بسبب التزامها بالعلمانية في دستورها، وطالما أن تركيا سوف تستمر في تعريف نفسها كدولة علمانية، فلن تكون لها زعامة الإسلام.
ولكن … ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطةٍ ما، يمكن أن تكون تركيا مستعدةً للتخلي عن دورها المحبط والمهين كمُتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخي الأكثر تأثيرًا ورُقيًّا كمحاورٍ رئيسي باسم الإسلام، وخصم للغرب. الأصولية في صعودٍ في تركيا. في عهد «أوزال» بذلت الدولة جهودًا ضخمة لتوحيد نفسها بالعالم العربي وأفادت من العلاقات العرقية واللغوية لتلعب دورًا متواضعًا في آسيا الوسطى وقدمت الدعم والتأييد لمسلمي البوسنة. وتنفرد تركيا بين الدول الإسلامية بصلاتها التاريخية الواسعة بمسلمي البلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى. ومن المتصور فعلًا أن «تقلد تركيا جنوب أفريقيا»: كأن تتخلى عن العلمانية كشيءٍ غريب عن وجودها كما تخلت جنوب أفريقيا عن الاضطهاد، وبالتالي تُحول نفسها من دولةٍ منبوذة في حضارتها، إلى دولةٍ زعيمة لها. فجنوب أفريقيا، بعد أن خبرت الجيد والسيئ في الغرب سواء بالنسبة للمسيحية أو الاضطهاد أصبحت مؤهلة لزعامة أفريقيا. وتركيا — بنفس الدرجة — يمكن أن تكون مؤهلة لزعامة الإسلام بعد أن خبرت الجيد والسيئ في الغرب بالنسبة للعلمانية والديمقراطية.
ولكنها لكي تفعل ذلك لا بد لها من أن تتخلى عن تراث «أتاتورك» وعلى نحو أشمل مما تخلَّت به روسيا عن تراث «لينين»، كما عليها أيضًا أن تجد زعيمًا بحجم «أتاتورك» يجمع بين الدين والشريعة السياسية ليُعيد بناء تركيا وتحويلها من دولةٍ ممزقة إلى دولة مركز.