الغرب والباقي: قضايا تداخل حضاري
(١) العالمية الغربية
في العالم الناشئ، لن تكون العلاقات بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة علاقاتٍ وثيقة، بل غالبًا ما ستكون عدائية، بيد أن هناك علاقات أكثر عرضةً للصراع من غيرها. على المستوى الأصغر، فإن أشدَّ خطوط التقسيم الحضاري عنفًا هي تلك الموجودة بين الإسلام وجيرانه الأرثوذوكس والهندوس والأفارقة والمسيحيين الغربيين. وعلى المستوى الأكبر، فإن التقسيم السائد هو بين «الغرب والآخرين» مع أشدِّ الصراعات القائمة بين المجتمعات الإسلامية وبعضها من جهة، والمجتمعات الإسلامية والغرب من جهةٍ أخرى. ومن المرجَّح أن تنشأ أخطر الصراعات في المستقبل نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصُّب الإسلامي والتوكيد الصيني.
من بين جميع الحضارات، فإن الحضارة الغربية هي الوحيدة التي كان لها تأثير رئيسي وأحيانًا مُدمر على كل الحضارات الأخرى. العلاقة بين قوة وثقافة الغرب، وقوة وثقافة الحضارات الأخرى هي — نتيجة لذلك — السمة الأكثر ظهورًا في عالم الحضارات. ومع زيادة القوة النسبية للحضارات الأخرى، يقلُّ التوجُّه نحو الثقافة الغربية وتزداد ثقة الشعوب غير الغربية بثقافتها الأصلية والالتزام بها. المشكلة الرئيسية في العلاقات بين الغرب والباقي بالتالي، هي التنافُر بين جهود الغرب — وبخاصة أمريكا — لنشر ثقافة غربية عالمية وانخفاض قُدرته على تحقيق ذلك، وقد فاقم سقوط الشيوعية من هذا التنافر بأن قَوَّى في الغرب النظرة إلى أن أيديولوجيته الليبرالية الديمقراطية قد انتصرت كونيًّا وبالتالي أصبحت صالحةً لتعميمها عالميًّا.
الغرب — وبخاصة الولايات المتحدة — الذي كان دائمًا أمةً تبشيرية، يعتقد أن الشعوب غير العربية لا بد أن تلتزم بالقِيَم الغربية فيما يتعلق بالديمقراطية والأسواق الحرة والحكومة المحدودة وحقوق الإنسان والفردانية وحكم القانون، وأنها لا بد أن تجسد تلك القيم في مؤسساتها. الأقليات في الحضارات الأخرى تتبنَّى هذه القِيَم وتُنميها، ولكن التوجهات السائدة نحوها تتراوح بين الشك فيها على نطاقٍ واسع والمعارضة الشديدة لها. وما يعتبره الغرب عالميةً يعتبره الباقي استعمارًا.
بالنسبة لحضارات التحدي: من المرجح أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصين متوترة على نحوٍ ثابت وعدائية جدًّا في معظم الأحوال. علاقات الغرب مع أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وهما حضارتان أضعف ومعتمدتان إلى حدٍّ ما على الغرب، سوف تتضمَّن مستوياتٍ أقلَّ من الصراع، وبخاصة بالنسبة لأمريكا اللاتينية. علاقات روسيا واليابان والهند بالغرب من المرجَّح أن تكون وسطًا بين العلاقات مع المجموعتَين السابقتَين، وتتضمَّن عوامل تعاون وصراع، حيث إن دول المركز الثلاث السابقة، تقف أحيانًا إلى جانب حضارات التحدي وأحيانًا إلى جانب الغرب. إنها حضارات «التأرجُح» بين الغرب من جهةٍ والحضارتين الإسلامية والصينية من جهةٍ أخرى. الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية، كل منهما ينتظِم تقاليد ثقافية عظيمة تختلف جدًّا عن التي لدى الغرب، وهي في نظرهما أرقى من تقاليد الغرب بمراحل لا محدودة. وقوة وتأكيد كليهما إزاء الغرب تتزايدان، كما يتزايد الصراع ويشتدُّ بين مصالحهما وقيمهما ومصالح وقِيَم الغرب. ولأن الحضارة الإسلامية تفتقر إلى دولة مركز، فإن علاقتها مع الغرب تتباين من دولةٍ إلى أخرى، إلا أنه منذ السبعينيات يوجَد اتجاهٌ معادٍ للغرب، ثابت تقريبًا: من علاماته صعود الأصولية وتحولات القوة داخل الدول الإسلامية من حكومات أكثر موالاة للغرب إلى حكومات أكثر عداءً له، وظهور ما يُشبه الحرب بين الجماعات الإسلامية والغرب، وضعف العلاقات الأمنية التي كانت قائمة بين بعض الدول الإسلامية والولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة.
وراء الخلافات حول القضايا المحددة يكمُن السؤال الأساسي الذي يتعلق بالدور الذي ستلعبه تلك الحضارات بالنسبة للغرب في تشكيل مستقبل العالم. هل ستعكس المؤسسات الكونية وتوزع القوى واقتصاد وسياسات الدول في القرن الواحد والعشرين القِيم والمصالح الغربية أساسًا، أم أنها سوف تتشكل حسب قيم ومصالح الإسلام والصين؟
النظرية الواقعية في العلاقات الدولية تتنبأ بأن دول المركز في الحضارات غير الغربية لا بد لها من أن تتآلف معًا لكي تُوازن قوى الغرب المسيطرة، وقد حدث ذلك بالفعل في بعض المجالات. إلا أن ائتلافًا شاملًا مضادًّا للغرب يبدو غير واردٍ في المستقبل القريب. الحضارتان الإسلامية والصينية مختلفتان أساسًا من ناحية الدين والثقافة والبنية الاجتماعية والتقاليد والسياسة والافتراضات الأساسية الجذرية في أساليب الحياة. وبطبيعتِها، يُوجَد بين الحضارتين الإسلامية والصينية أمور مشتركة أقلُّ مما بين كل منهما والحضارة الغربية ولكن في السياسة، العدو المشترك يخلق مصلحةً مشتركة. المجتمعات الإسلامية والصينية ترى الغرب عدوًّا لها، ولذلك لديها سبب للتعاون ضدَّه معًا، كما سبق أن فعل الحلفاء و«ستالين» ضد «هتلر». هذا التعاون يحدث حول عدة أمور تتضمن حقوق الإنسان والاقتصاد، والأهم من ذلك الجهود التي تبذلها المجتمعات في كلٍّ من الحضارتَين لتطوير قدراتها العسكرية، وبخاصة أسلحة الدمار الشامل والصواريخ اللازمة لاستخدامها وذلك لكي تواجِهَ التفوُّق العسكري التقليدي للغرب.
بأوائل التسعينيات، كان هناك «اتصال كونفوشي إسلامي» بين الصين وكوريا الشمالية من جهة، واتصال — بدرجات مختلفة — بين باكستان وإيران والعراق وسوريا وليبيا والجزائر من جهة أخرى لمواجهة الغرب بالنسبة لتلك المسائل.
- (١)
الحفاظ على تفوُّقه العسكري من خلال سياسات منع الانتشار والانتشار المضاد للأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية ووسائل استخدامها.
- (٢)
تنمية القيم والمؤسسات السياسية الغربية بالضغط على المجتمعات الأخرى لاحترام حقوق الإنسان كما يفهمها الغرب وتبنِّي الديمقراطية بالأسلوب الغربي.
- (٣)
حماية التماسُك الثقافي والاجتماعي والإثني للمجتمعات الغربية بتقييد عدد المسموح بقبولهم من غير الغربيين كمهاجرين أو لاجئين.
وفي تلك المجالات الثلاثة واجه الغرب، ومن المرجَّح أن يظلَّ يواجِهُ صعوبات لحماية مصالحه ضد مصالح المجتمعات غير الغربية.
(٢) نشر الأسلحة
انتشار القدرات العسكرية جاء نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي الكوني. عندما تُصبح اليابان والصين والدول الآسيوية الأخرى أغنى اقتصاديًّا، فإنها تصبح أقوى عسكريًّا … وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات الإسلامية في النهاية. وهكذا روسيا أيضًا إذا نجحت في إصلاح اقتصادها. وقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين دولًا كثيرة غير غربية تحصل على أسلحة متطورة عن طريق نقل السلاح من المجتمعات الغربية: روسيا، إسرائيل، الصين، كما تنشئ تسهيلات محلية لإنتاج أسلحة متقدمة جدًّا. هذه العمليات سوف تستمر وربما تتسارع خلال السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، إلا أن الغرب، وفي ذلك القرن أيضًا، (ونعني بالغرب الولايات المتحدة مع بعض الاستكمالات من بريطانيا وفرنسا)، سوف يكون هو الوحيد القادر على التدخُّل عسكريًّا في أي جزءٍ من العالم تقريبًا. الولايات المتحدة فقط هي التي سيكون لدَيها القوة الجوية القادرة فعلًا على قصف أي مكان في العالم. هذه هي العناصر الرئيسية للوضع العسكري للولايات المتحدة كقوة كونية وللغرب كحضارة مسيطرة في العالم. بالنسبة للمُستقبل القريب فإن توازن القوى العسكرية التقليدية بين الغرب والباقي سيكون في صالح الغرب بمراحل. الوقت والجهد والتكلفة المطلوبة لتطوير قدرة عسكرية تقليدية من الدرجة الأولى، يجعل الدول غير الغربية تبحث عن وسائل أخرى لمواجهة القوة العسكرية التقليدية للغرب. أسرع الطرق التي يمكن تصوُّرها لذلك هو الحصول على أسلحة الدمار الشامل ووسائل استخدامها. دول المركز في الحضارات والدول التي تُعتبر قوًى إقليمية مسيطرة أو تطمح لأن تكون كذلك، لديها دوافع خاصة للحصول على تلك الأسلحة.
ولذلك ليس من المستغرب أن تؤكد روسيا على دور الأسلحة النووية في تخطيطها الدفاعي، وفي سنة ١٩٩٥ استعدت لشراء صواريخ عابرة للقارات وقاذفات إضافية من أوكرانيا، كما علق أحد خبراء السلاح الأمريكان: «نحن نسمع الآن ما اعتدنا أن نقوله عن الروس في الخمسينيات. الروس يقولون اليوم: نحن في حاجة إلى الأسلحة النووية لكي نعوض تفوقهم التقليدي.»
الأسلحة النووية يمكن أن تهدد الغرب أيضًا على نحوٍ أكثر مباشَرة. الصين وروسيا لديهما أسلحة باليستية ذات رءوس نووية يمكن أن تصل إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. كوريا الشمالية وباكستان والهند يوسعون مدى صواريخهم ومن المحتمل أن تُصبح قادرة على تهديد الغرب، بالإضافة إلى ذلك فإن الأسلحة النووية يمكن أن يتمَّ توجيهها بوسائل أخرى. المحللون العسكريون وضعوا صورةً متخيلة لدرجات العنف بدءًا من أعمال وأشكال الحرب المحدودة، إلى الحروب الأوسع التي تتضمَّن قوات تقليدية كبيرة، إلى الحرب النووية.
الإرهاب، تاريخيًّا، هو سلاح الضعيف، أي سلاح أولئك الذين لا يملكون قوة عسكرية تقليدية. منذ الحرب العالمية الثانية كانت الأسلحة النووية هي السلاح الذي يعوض به الضعيف نقصه في الأسلحة التقليدية. في الماضي كان الإرهابيون لا يستطيعون سوى القيام بأعمال محدودة مثل قتل بعض الأفراد هنا أو تدمير منشأة هناك. كان لا بد من استخدام قوات عسكرية كبيرة للقيام بأعمال عنف على نطاق واسع، إلا أنه عند مدًى مُعين ستكون قلة من الإرهابيين قادرة على إحداث عنف واسع وتدمير واسع أيضًا، وأعمال العنف والأسلحة النووية، كل منها على حدة هي أسلحة غير الغربيين الضعاف. وعندما يجتمعان، إذا اجتمعا، فإن غير الغربي الضعيف يصبح قويًّا.
الرابطة الرئيسية في علاقات التسليح الكونفوشية الإسلامية هي العلاقة بين الصين وكوريا الشمالية — بدرجة أقل — من جانب، وباكستان وإيران من جانب آخر. بين عامي ١٩٨٠م و١٩٩١م كانت إيران وباكستان هما أكبر دولتَين مُتلقيتَين للسلاح الصيني، وكانت العراق هي الثانية في الترتيب.
كانت الصين أيضًا ممولًا رئيسيًّا بالصواريخ والتكنولوجيا الخاصة بها إلى إيران والتي تضمنت في نهاية الثمانينيات صواريخ «دودة الحرير» التي تم تسليمها عن طريق كوريا الشمالية وكذلك «عشرات وربما المئات من أنظمة توجيه الصواريخ والمعدات التي تعمل بالكمبيوتر» وذلك في سنة ١٩٩٤م - ١٩٩٥م.
إيران | باكستان | العراق | |
---|---|---|---|
دبابات قتال رئيسية | ٤٥٠ | ١١٠٠ | ١٣٠٠ |
ناقلات جند مدرعة | ٣٠٠ | - | ٦٥٠ |
صواريخ موجهة مضادة للدبابات | ٧٥٠٠ | ١٠٠ | - |
مدفعية/قاذفات صواريخ | ١٢٠٠* | ٥٠ | ٧٢٠ |
طائرات مقاتلة | ١٤٠ | ٢١٢ | - |
صواريخ مضادة للسفن | ٣٣٢ | ٣٢ | - |
صواريخ أرض/جو | ٧٨٨† | ٢٢٢ | - |
أثناء الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قد دخلتا في سباق تسليح تقليدي، لتطوير أسلحة نووية أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية وكذلك وسائل استخدامها. كانت حالة من التعزيز والتعزيز المضاد. في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت المنافسة الرئيسية في مجال التسليح من نوع مختلف.
أعداء الغرب يُحاولون الحصول على أسلحة الدمار الشامل، والغرب يحاول أن يمنعهم من ذلك. هذه ليست حالة تعزيز ضد تعزيز، بل لعلَّها حالة «تعزيز ضد إعاقة». حجم وإمكانيات الترسانة النووية الغربية — ودون أدنى مبالغة — ليسا جزءًا من المنافسة. إن محصلة سباق تسلح «تعزيز ضد تعزيز»، تعتمد على الموارد والالتزام والكفاءة لدى كل من الجانبين، وهي ليست مسألة قضاء وقدر. ومحصلة سباق تسلح بين «تعزيز وإعاقة» أكثر قابلية للتنبؤ بها. جهود الغرب للإعاقة قد تعوق جهود المجتمعات الأخرى للتسلح، ولكنهم لن يتوقفوا. النمو الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات غير الغربية، الحوافز التجارية لكل من المجتمعات الغربية وغير الغربية لتحقيق ثروات من خلال بيع السلاح والتكنولوجيا والخبرة، الدوافع السياسية لدول المركز والقوى الإقليمية من أجل حماية سيطرتها المحلية … كل ذلك معًا يهدم جهود الغرب التي يقوم بها لإعاقة الآخرين. الغرب يتبنَّى منع الانتشار كتعبيرٍ عن مصالح كل الدول في النظام والاستقرار العالمي.
إلا أنَّ هناك دولًا أخرى تنظر إليه على أنه يخدم مصالح السيطرة الغربية. هذه الحالة تظهر في الفرق في الاهتمام بقضية الانتشار بين الغرب — وبخاصة الولايات المتحدة — من جانب، والقوى الإقليمية التي سيتأثر أمنها بمنع الانتشار من جانب آخر، وكان ذلك ملحوظًا بالنسبة لكوريا. ففي عامي ١٩٩٣م، ١٩٩٤م شغلت الولايات المتحدة تفكيرها لدرجةٍ كبيرة بمستقبل الأسلحة النووية في كوريا الشمالية. وفي نوفمبر ١٩٩٣م قال الرئيس «كلينتون» بكل وضوح: «لن نسمح لكوريا الشمالية بصنع قنبلة نووية، ولا بد أن نكون في مُنتهى الحزم بالنسبة لهذا الأمر.» أعضاء مجلس الشيوخ والنواب والمسئولون السابقون في إدارة «بوش» ناقشوا مدى الحاجة إلى القيام بهجوم وقائي على المنشآت النووية في كوريا الشمالية. قلق الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي لكوريا الشمالية له جذوره إلى حدٍّ كبير في اهتمامها بمنع الانتشار في العالم. القدرة الكورية لن تعوق أو تعقد أعمال الولايات المتحدة في شرق آسيا فقط، ولكن كوريا الشمالية إذا استطاعت أن تبيع التكنولوجيا و/أو الأسلحة فيمكن أن تحقق آثارًا مثل أثر الولايات المتحدة في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
من ناحية أخرى، فإن كوريا الشمالية تنظر إلى القنبلة في ضوء علاقتها بمصالحها الإقليمية. كثير من أبناء كوريا الجنوبية ينظرون إلى قنبلة كوريا الشمالية كقنبلة كورية. قنبلة لن تُستخدَم أبدًا ضد كوريات أخرى، بل يمكن أن تُستخدَم ضد اليابان وغيرها من الأخطار المحتملة، دفاعًا عن الاستقلال والمصالح الكورية.
كوريا الشمالية سوف تتحمَّل التكلفة … والنقد العالمي الشديد لها لصناعة القنبلة. كوريا الجنوبية سترثها في النهاية. دمج الأسلحة النووية الشمالية ومع البراعة الصناعية الجنوبية سوف يمكن كوريا مُتحدة من الاضطلاع بدورها المناسب كلاعبٍ رئيسي على المسرح الشرق آسيوي، ونتيجة لذلك وجدت اختلافات بينَه وبين مدى رؤية واشنطن لأزمة تقوم على شبه الجزيرة الكورية في سنة ١٩٩٤م وغياب أي إحساس بوجود أزمة في سيئول، مما أحدث «فجوة ذعر» بين العاصمتين. وكما لاحظ أحد الصحفيين في يونيو ١٩٩٤م عندما كانت الأزمة في أوجِها، أن أحد «الأشياء الغريبة في التحفظ الكوري الشمالي النووي عما كان الأمر منذ عدة سنوات، هو أن الإحساس بالأزمة يتزايد كلما بعُد المرء عن كوريا.»
جهود الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لمنع انتشار الأسلحة «المعادلة» الخاصة بالدمار الشامل صادفت نجاحًا محدودًا والأرجح أنه سيظل هكذا.
في سنة ١٩٩٣م تحولت الأهداف الأولية للغرب كما هي محددة في السياسة الأمريكية، من منع الانتشار إلى الانتشار المضاد. وكان هذا التحول اعترافًا واقعيًّا بعدم القدرة على تجنُّب بعض الانتشار. وفي الوقت المناسب سوف تتحوَّل سياسة الولايات المتحدة من التصدي للانتشار إلى التكيف معه، وإلى كيفية خدمة مصالح الولايات المتحدة والغرب من خلال تبنِّي الانتشار، هذا إذا استطاعت الحكومة أن تهرب من أفكار الحرب الباردة. واعتبارًا من سنة ١٩٩٥م ظلت الولايات المتحدة والغرب ملتزمَين بسياسة «التعويق» المَقضيِّ بفشلها في النهاية. هذا الانتشار للأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، مظهر أساسي من مظاهر انتشار القوة البطيء، والذي لا مفرَّ منه مع ذلك، في عالم مُتعدِّد الحضارات.
(٣) حقوق الإنسان والديمقراطية
في السبعينيات والثمانينيات، تحول أكثر من ثلاثين دولة من أنظمة سياسية سلطوية إلى أنظمة ديمقراطية. موجة التحول هذه وراءها أسباب كثيرة. النمو الاقتصادي كان بلا شك هو العامل الرئيسي وراء ظهور هذه التغيرات السياسية، بالإضافة إلى ذلك فإن سياسات وتصرفات الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الغربية والمؤسسات الدولية ساعدت على تحقق الديمقراطية في إسبانيا والبرتغال وكثير من دول أمريكا اللاتينية والفلبين وكوريا الشمالية وأوروبا الشرقية. كان التحول الديمقراطي ناجحًا حيث كانت المؤثرات المسيحية والغربية قوية. واتضح أن استقرار الأنظمة الديمقراطية الجديدة في دول أوروبا الغربية والوسطى والتي كانت معظمها كاثوليكية أو بروتستانتية، أكثر احتمالًا عنه في دول أمريكا اللاتينية. في شرق آسيا، عادت الفلبين الكاثوليكية والخاضعة لتأثير أمريكي شديد إلى الديمقراطية في الثمانينيات، بينما في كوريا الجنوبية وتايوان تبنى القادة المسيحيون حركة نحو الديمقراطية. وكما أشرنا من قبل، في الاتحاد السوفيتي السابق: في جمهوريات البلطيق يتم إرساء الديمقراطية بنجاح، في الجمهوريات الأرثوذوكسية مستويات الديمقراطية ودرجات استقرارها مختلفة وغير مؤكدة، في الجمهوريات الإسلامية آفاق الديمقراطية غير واضحة. في التسعينيات، حدثت تحولات ديمقراطية في معظم دول العالم — خارج أفريقيا — باستثناء كوبا، حيث تعتنق الشعوبُ المسيحيةَ الغربية أو حيث تُوجَد مؤثرات مسيحية كثيرة. هذه التحولات، مع سقوط الاتحاد السوفيتي، ولدت اعتقادًا لدى الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة بأن هناك ثورة ديمقراطية كونية في الطريق، وأن المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان والأشكال الغربية للديمقراطية السياسية سوف تسود العالم بسرعة. وقد صدقت على ذلك إدارة «بوش» بإعلان «جيمس بيكر» وزير الخارجية في أبريل ١٩٩٠م إن «وراء الكبح، توجَد الديمقراطية.» وأنه من أجل عالَم ما بعد الحرب الباردة: «حدد الرئيس بوش مهمتنا الجديدة بأن تكون هي تبني الديمقراطية وتدعيمها.»
وفي حملته الانتخابية في ١٩٩٢م كرر «كلينتون» أكثر من مرة أن «تبني الديمقراطية» سيكون على رأس أوليات إدارته وأن التحول الديمقراطي كان الموضوع الوحيد للسياسة الخارجية، والذي كرس له خطابًا كاملًا في حملته. وبمجرد أن باشر مهامه كرئيس أوصى بزيادة بمقدار الثلثين في الاعتمادات المالية المخصصة للصندوق القومي للديمقراطية. كما حدد مساعده لشئون الأمن القومي الموضوع الرئيسي في سياسته الخارجية بأنه «توسيع الديمقراطية»، كما حدد وزير دفاعه تبني الديمقراطية كواحد من أربعة أهدافٍ رئيسية، وحاول أن يستحدث وظيفة عليا في إدارته لمتابعة هذا الهدف.
وبدرجة أقل وطرق أقل وضوحًا، حظي تبني حقوق الإنسان والديمقراطية بدور مهم في السياسة الخارجية للدول الأوروبية، وكذلك في المعايير التي تتبعها المنظمات والمؤسسات الاقتصادية الدولية الخاضعة للسيطرة الغربية، في تقديمها للقروض والمنح للدول النامية. واعتبارًا من ١٩٩٥م، فإن الجهود الأمريكية والأوروبية لتحقيق هذه الأهداف لم تحقق سوى القليل من النجاح. جميع الدول غير العربية تقريبًا كانت تقاوم ذلك الضغط الغربي، من بينها دول هندوسية وأرثوذوكسية وإفريقية، وإلى حدٍّ ما من أمريكا اللاتينية. أكبر مقاومة لجهود التحول الديمقراطي الغربي جاءت من الإسلام ومن آسيا وكانت هذه المقاومة عميقة الجذور في الحركات العريضة للتوكيد الثقافي المتجسد في الصحوة الإسلامية والإصرار الآسيوي.
فشل الولايات المتحدة بالنسبة لآسيا، نابع أساسًا من الثروة الاقتصادية المتزايدة وثقة الحكومات الآسيوية بنفسها، كما أن الخبراء الآسيويين كانوا يُذَكِّرون الغرب مرارًا وتكرارًا بأن عصر الاعتماد والتبعية القديم قد انقضى، وأن الغرب الذي كان يُحقق نصف نتاج العالم الاقتصادي في الأربعينيات، وسيطر على الأمم المتحدة وكتب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد أصبح في ذمة التاريخ.
- أولًا: يُعامَل معاملة مهينة في بكين ولا يحظى بأي بادرةٍ لحفظ ماء الوجه، ثم ردَّت على هذا السلوك بالتخلي عن سياستها السابقة والفصل بين حالة الدولة الأَولى بالرعاية وقضية حقوق الإنسان. وكرد فعلٍ أمام هذا الضعف البادي واصلت الصين ووسَّعت من سلوكها الذي كانت إدارة «كلينتون» تعترض عليه.
وعلى العكس من الاتفاق على التمديد غير المحدود لاتفاقية منع الانتشار، فإن الجهود الغربية لتبني حقوق الإنسان والديمقراطية في منظمات الأمم المتحدة عمومًا لم تصل إلى شيء. وباستثناءات قليلة مثل تلك التي أدانت العراق، فإن قرارات حقوق الإنسان كانت تقاوم غالبًا عند التصويت عليها في الأمم المتحدة. وبصرف النظر عن بعض دول أمريكا اللاتينية، كانت الحكومات الأخرى متردِّدة في أن تشارك في جهود تتبنى ما يراه آخرون «استعمار حقوق الإنسان».
الاختلافات حول حقوق الإنسان بين الغرب والحضارات الأخرى، وقدرة الغرب المحدودة على تحقيق أهدافه، ظهرت جليَّةً في مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي عقد في فيينا في يونيو ١٩٩٣م، كانت الدول الأوروبية ودول أمريكا الشمالية في جانب، وفي الجانب الآخر كان هناك كتلة من حوالي خمسين دولة غير غربية. أنشط ١٥ عضوًا فيها كانوا يمثلون حكومات دولة واحدة من أمريكا اللاتينية (كوبا) ودولة بوذية واحدة (ميانمار) وأربع دول كونفوشية ذات أيديولوجيات سياسية وأنظمة اقتصادية ومستويات تنمية متباينة (سنغافورة، فيتنام، كوريا الشمالية، الصين) و٩ دول إسلامية (ماليزيا، إندونيسيا، باكستان، إيران، العراق، سوريا، اليمن، السودان، ليبيا)، أما قيادة هذا التجمع الآسيوي-الإسلامي فكانت من الصين وسوريا وإيران. وبين هذين التجمُّعين كانت هناك دول أمريكا اللاتينية — بصرف النظر عن كوبا — التي غالبًا ما تؤيد الغرب، ودول إفريقية وأرثوذوكسية، أحيانًا كانت تؤيد المواقف الغربية وغالبًا ما كانت تعارضها.
ومما لا شك فيه أن المهتمين بالرياضة في العالم أكثر من المهتمين بحقوق الإنسان، إلا أن هزيمة الغرب في فيينا وأماكن أخرى بخصوص حقوق الإنسان، هذا الاستعراض المعزول للنفوذ الغربي كان كذلك تذكرة بضعف الغرب.
(٤) الهجرة
الغربيون بشكل ثابت وبالإجماع، يعارضون الانتشار النووي ويدعمون الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن نظرتهم إلى الهجرة على العكس من ذلك غير واضحة ومتغيرة مع تغير الموازين بوضوح في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
حتى السبعينيات، كانت الدول الأوروبية بشكل عام تتخذ موقفًا وديًّا من الهجرة وفي بعض الحالات — بالذات ألمانيا وسويسرا — كانت تشجع عليها لعلاج النقص في الأيدي العاملة. في سنة ١٩٦٥م ألغت الولايات المتحدة الحصص ذات التوجُّه الأوروبي والتي ترجع إلى العشرينيات وراجعت قوانينها بشدة لتسمح بزيادات هائلة ومصادر جديدة للمهاجرين في السبعينيات والثمانينيات. وبأواخر الثمانينيات فإن معدلات البطالة العالمية وأعداد المهاجرين المتزايدة وغلبة طبيعتهم اللاأوروبية، كل ذلك أحدث تغيرات حادة في التوجهات والسياسات الأوروبية وبعد سنوات قليلة أدت مشاكل مماثلة إلى تغيرٍ مُشابه في الولايات المتحدة.
الأغلبية من مهاجري ولاجئي أواخر القرن العشرين كانوا يتنقلون من مجتمعٍ غير غربي إلى آخر. تدفق المهاجرين على المجتمعات الغربية اقترب في أرقامه النهائية من أرقام هجرة القرن التاسع عشر، في سنة ١٩٩٠م كان هناك ما يُقدر بعشرين مليونًا من مهاجري الجيل الأول في الولايات المتحدة، و١٥٫٥ مليون في أوروبا، و٨ ملايين في أستراليا وكندا.
نسبة المهاجرين إلى التعداد الكلي وصلت حوالي ٧-٨٪ من السكان في سنة ١٩٩٤م وهو ضعف ما كان عليه الرقم في سنة ١٩٧٠م، وكانوا يشكلون ٢٥٥ من السكان في كاليفورنيا و١٦٪ من السكان في نيويورك.
في الثمانينيات دخل حوالي ٨٫٣ ملايين شخص إلى الولايات المتحدة و٤٫٥ ملايين في السنوات الأربع الأولى من التسعينيات.
الأغلبية الساحقة من المهاجرين الجدد من مجتمعات غير أوروبية. في ألمانيا وصل عدد الأجانب الأتراك المقيمين إلى ١٦٧٥٠٠٠ في ١٩٩٠م، واحتل القادمون من يوغوسلافيا وإيطاليا واليونان الجماعات الأكبر التالية. في إيطاليا كانت المصادر الرئيسية: المغرب والولايات المتحدة (أمريكيون إيطاليون عائدون) وتونس والفلبين. بمنتصف التسعينيات كان هناك حوالي ٤ ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، وحوالي ١٣ مليونًا في أوروبا الغربية إجمالًا. في الخمسينيات كان ثلثا المهاجرين إلى الولايات المتحدة من أوروبا وكندا، في الثمانينيات حوالي ٣٥٪ من أكبر عدد من المهاجرين جاءوا من آسيا و٤٥٪ من أمريكا اللاتينية وأقل من ١٥٪ من أوروبا وكندا. الزيادة الطبيعية في السكان في الولايات المتحدة منخفضة وفي أوروبا صفر.
المجتمعات الإسلامية سواء التركية في ألمانيا أو الجزائية في فرنسا، لم يتم اندماجها في الثقافات المضيفة، ومما يقلق الأوروبيين أن مؤشرات اندماجها ضيفة. هناك «خوف يتنامى في أوروبا كلها» كما قالت «جين مارس دوميناك» في ١٩٩١م «من مجتمع إسلامي يتقاطع مع الخطوط الأوروبية يصبح نوعًا من دولة ثالثة عشرة في الاتحاد الأوروبي.»
في أوروبا الغربية معاداة السامية الموجهة ضد العرب حلت بدرجة كبيرة محل معاداة السامية الموجهة ضد اليهود. المعارضة العامة للهجرة والعداء للمهاجرين ظهرا في أوضح صورهما في أعمال العنف ضد مجتمعات المهاجرين وضد الأفراد، الأمر الذي أصبح قضيةً مهمة في ألمانيا في بداية التسعينيات.
أما الأكثر دلالةً فكانت الزيادة في الأصوات بالنسبة للأحزاب اليمينية والقومية المعادية للهجرة. إلا أن تلك الأصوات نادرًا ما كانت كبيرة. الحزب الجمهوري الألماني حصل على أكثر من ٧٪ من الأصوات في الانتخابات الأوروبية في عام ١٩٨٩م. ولكنه في سنة ١٩٩٠م حصل على ٢٫١٪ في الانتخابات القومية.
وفي فرنسا نجد أن أصوات الجبهة القومية التي كانت ضئيلة في ١٩٨١م، ارتفعت إلى ٩٫٦٪ في سنة ١٩٨٩م ثم استقرت بين ١٢، ١٥٪ في الانتخابات الإقليمية والبرلمانية. في سنة ١٩٩٥م حصل المرشحان القوميان للرئاسة على ١٩٫٩ من الأصوات، والجبهة القومية انتخبت العمد في المدن الرئيسية بما فيها «تولون» و«نيس».
الأحزاب الأوروبية المعارضة للهجرة الإسلامية كانت إلى درجة كبيرة، هي المرآة التي تعكس صورة الأحزاب الإسلامية في الدول الإسلامية. كلاهما كان ضئيل الحظ في الفوز في الانتخابات، كلاهما يستهجن المؤسسة الفاسدة ويستغل المظالم الاقتصادية وبخاصة البطالة، ويتوسل أساليب إثنية ودينية ويهاجم النفوذ الأجنبي في مجتمعه، وفي الحالتين كانت الجماعات المتطرفة تلجأ إلى أعمال الإرهاب والعنف. في معظم الحالات كانت الأحزاب الإسلامية والأحزاب الأوروبية القومية تحقق نتائج أفضل في الانتخابات الوطنية.
المؤسسات السياسية الأوروبية والإسلامية ردت على تلك التطورات بنفس الأسلوب. في الدول الإسلامية كما رأينا، أصبحت الحكومات أكثر تأسلمًا في توجهاتها وسياساتها وممارساتها. في أوروبا، تبنت الأحزاب الرئيسية الخطاب والأساليب التي ينتهجها اليمين والأحزاب المعادية للهجرة. وحيث كانت السياسة الديمقراطية تعمل بكفاءة ويوجد حزبان أو أكثر كبديلين للحزب الإسلامي أو الحزب القومي، كانت أصواتهم تصل إلى سقف من حوالي ٢٠٪.
كانت أحزاب المعارضة تخترق هذا السقف فقط عندما لا يوجد بديل آخر للحزب أو للائتلاف الموجود في السلطة، كما حدث في الجزائر والنمسا وإيطاليا إلى حد بعيد.
في أوائل التسعينيات كان الزعماء السياسيون الأوروبيون ينافس بعضهم البعض في الاستجابة للشعور المعادي للهجرة. في فرنسا أعلن «جاك شيراك» في سنة ١٩٩٠م أن «الهجرة يجب أن توقف تمامًا»، وطالب وزير الداخلية «شارل باسكوا» في سنة ١٩٩٣م «بنسبة هجرة صفر»، و«فرانسوا ميتران»، و«إديث كريسون»، و«فاليري جيسكار ديستان» وسياسيون كثيرون كانت لهم مواقف معادية للهجرة. في الانتخابات البرلمانية في ١٩٩٣م كانت الهجرة قضية مهمة، وساعدت بجلاء على فوز أحزاب المحافظين. في أوائل التسعينيات تم تغيير سياسة الحكومة الفرنسية لتجعل من الصعب على أبناء الأجانب الحصول على الجنسية، وعلى عائلات الأجانب أن يهاجروا، وعلى الأجانب أن يحصلوا على حق اللجوء السياسي، وعلى الجزائريين أن يحصلوا على تأشيرات دخول إلى فرنسا، والمهاجرون بطرق غير قانونية تم ترحيلهم، كما تم تشديد صلاحيات الشرطة والسلطات الحكومية الخاصة بالهجرة.
في ألمانيا، عبر المستشار «هيلموت كول» وغيره من الزعماء السياسيين عن قلقهم بخصوص الهجرة، وفي أهم تحرك لها عدلت الحكومة المادة السادسة عشرة من الدستور الألماني التي تتضمن حق اللجوء السياسي ﻟ «أناس مضطهدين لأسباب سياسية» وقطعت المزايا الممنوحة لطالبي اللجوء. في سنة ١٩٩٢م كان عدد اللاجئين إلى ألمانيا ٤٣٨٠٠٠ شخص وانخفض العدد في ١٩٩٤م إلى ١٢٧٠٠٠ فقط. في ١٩٨٠م خفضت بريطانيا الهجرة إليها إلى حوالي ٥٠٠٠٠ في السنة ومن هنا كانت القضية تثير قلقًا ومعارضة أقل منها في أي بلد آخر في القارة الأوروبية. بين عامي ١٩٩٢م و١٩٩٤م خفضت عدد طالبي اللجوء المسموح لهم بالبقاء من أكثر من ٢٠٠٠٠ إلى أقل من ١٠٠٠٠. ومع تخفيض قيود الحركة داخل الاتحاد الأوروبي أصبحت المخاوف البريطانية مركزةً إلى حد كبير على هجرة غير الأوروبيين من القارة. وإجمالًا، فإن الدول الأوروبية الغربية في منتصف التسعينيات كانت تتحرك بلا هوادة نحو تخفيض الهجرة من المصادر غير الأوروبية إلى حدها الأدنى، إن لم يكن القضاء عليها تمامًا.
قضية الهجرة برزت إلى الصدارة في الولايات المتحدة بعد أوروبا بوقتٍ ما، ولكنها لم تولد نفس ذلك التوتر العاطفي.
فالولايات المتحدة كانت دائمًا بلد مهاجرين أو هكذا ترى نفسها، وتاريخيًّا، كانت تمارس عمليات ناجحة في استيعاب القادمين الجدد. بالإضافة إلى ذلك فإن نسبة البطالة في أواخر الثمانينيات والتسعينيات كانت أقل كثيرًا عنها في أوروبا، ولم يكن الخوف من فقدان الوظائف عاملًا حاسمًا في تشكيل المواقف بالنسبة للهجرة. كما أن مصادر الهجرة إلى أمريكا كانت أكثر تنوعًا عنها بالنسبة لأوروبا، وهكذا فإن الخوف من الغرق وسط مجموعة أجنبية واحدة لم يكن منتشرًا على المستوى القومي، رغم أنه كان كذلك في مواقع محلية معينة.
المسافة الثقافية بين أكبر جماعتي هجرة والثقافة المضيفة كانت أقلَّ مما هي عليه في أوروبا: فالمكسيكيون كاثوليك ويتحدثون الإسبانية، والفيلبينيون كاثوليك ويتحدثون الإنجليزية، ورغم هذه العوامل تحول الرأي العام الأمريكي بحدة في ربع القرن بعد صدور قانون ١٩٦٥م الذي سمح بالزيادة الكبيرة في الهجرة من آسيا وأمريكا اللاتينية.
ومثل أوروبا، كان أقوى رد فعل يُوجد على مستوى الولاية والمستويات المحلية التي تتحمَّل معظم نفقات المهاجرين.
والنتيجة أن «فلوريدا» في سنة ١٩٩٤م — وبعد ذلك انضمت إليها ست ولايات أخرى — قاضت الحكومة الفيدرالية من أجل ٨٨٤ مليون دولار سنويًّا لتغطية نفقات التعليم والرعاية الاجتماعية وإعمال القانون والنفقات الأخرى الناجمة عن الهجرة بأساليب غير قانونية. في كاليفورنيا، حيث يوجَد أكبر عددٍ من المهاجرين في الكم النهائي والنسبة، حصل العمدة «بيت ولسن» على التأييد العام بدعوته لحرمان أطفال المهاجرين غير القانونيين من التعليم ورفض منح جنسية الولايات المتحدة لمواليد المهاجرين غير القانونيين وإيقاف المدفوعات التي تتحملها الولاية من أجل الرعاية الطبية الطارئة للمهاجرين بطرقٍ غير قانونية.
وفي نوفمبر ١٩٩٤م وافق أهالي كاليفورنيا بالإجماع على مشروع القانون رقم ١٨٧ الذي يحرم المهاجرين بطرقٍ غير قانونية وأطفالهم من المزايا الصحية والتعليمية والاجتماعية.
كما تحركت إدارة «كلينتون» في ١٩٩٤م، في خطوة عكس موقفها السابق، نحو تشديد الرقابة على الهجرة وتشديد القواعد التي تحكم اللجوء السياسي وتوسيع الإدارة المعنية بالهجرة والتطبيع وتقوية دوريات المراقبة على الحدود وإقامة حواجز على طول الحدود مع المكسيك.
إيران | باكستان | العرق | |
---|---|---|---|
بيض غير هيسبانيين | ٧٤٪ | ٦٤٪ | ٥٣٪ |
هيسبانيون | ١٠ | ١٦ | ٢٥ |
سود | ١٢ | ١٣ | ١٤ |
سكان جزر آسيوية وباسيفكية | ٣ | ٦ | ٨ |
هنود أمريكيون/وألاسكا | ١ | ||
الإجمالي بالمليون | ٢٦٣ | ٣٢٣ | ٣٩٤ |
إلا أن المستقبل لا يتقرر بشكل نهائي، كما أنه لا يُوجد أي مستقبل دائم. القضية ليست ما إذا كانت أوروبا سوف تتحوَّل إلى الإسلام أو الولايات المتحدة إلى الهيسبانية. القضية هي إذا ما كانت أوروبا وأمريكا ستصبحان مجتمعات مشقوقة أو مصدوعة تضم مجتمعَين متمايزَين ومنفصلَين من حضارتَين مختلفتين إلى حدٍّ كبير. وهذا بدوره يتوقف على عدد المهاجرين ومدى استيعابهم في الثقافات الغربية السائدة في أوروبا وأمريكا. والمجتمعات الأوروبية بشكل عام إما أنها لا تريد أن تستوعب المهاجرين، أو أن لديها صعوبة شديدة في عمل ذلك، كما أن درجة رغبة المهاجرين المسلمين وأطفالهم في أن يتمَّ استيعابهم ليست واضحة. ومن هنا فإن الهجرة الكبيرة المتواصلة من المرجَّح أن تفرز أقطارًا منقسِمة إلى مجتمعاتٍ مسيحية وإسلامية، هذه النتيجة يمكن تجنُّبها لدرجة أن الحكومات والشعوب الأوروبية مستعدة لتحمل تكاليف الحد من تلك الهجرة، بما في ذلك التكاليف المالية المباشرة للإجراءات المضادة للهجرة، والتكاليف الاجتماعية اللازمة للمجتمعات المهاجرة الموجودة بالفعل، والتكاليف الاقتصادية المحتملة على المدى الطويل، نتيجة نقص الأيدي العاملة ونسبة الزيادة السكانية المنخفضة.
وطالما أن الضغط الديموغرافي يدفع إلى الهجرة، فإن الهجرة الإسلامية يمكن أن تقل بحلول عام ٢٠٢٥م، وإن كان هذا لا ينطبق على دول شبه الصحراء الإفريقية.
إذا حدث نمو اقتصادي وأدى إلى تعبئة اجتماعية في غرب ووسط أفريقيا فإن الدوافع وإمكانات الهجرة ستزيد، وتهديد أوروبا بخطر «الأسلمة» سيحل محله خطر «الأفرقة». إمكانية تحقيق هذا الخطر سوف تتأثر بمدى نقص السكان في أفريقيا نتيجة الإيدز والأوبئة الأخرى، ودرجات اجتذاب جنوب أفريقيا لمهاجرين من أماكن أخرى من القارة.
وحتى مع ذلك، ستظل القضية المركزية هي درجة استيعاب الهيسبان في المجتمع الأمريكي كما حدث بالنسبة لجماعات الهجرة السابقة.
١٩٩٥م | ٢٠٢٠م | ٢٠٥٠م | |
---|---|---|---|
بيض غير هيسبانيين | ٧٤٪ | ٦٤٪ | ٥٣٪ |
هيسيانيون | ١٠ | ١٦ | ٢٥ |
سود | ١٢ | ١٣ | ١٤ |
سكان جزر آسيوية وباسيفكية | ٣ | ٦ | ٨ |
هنود أمريكيون/وألاسكا | ١ | ||
الإجمالي بالمليون | ٢٦٣ | ٣٢٣ | ٣٩٤ |
الجيل الثاني والجيل الثالث من الهيسبان يواجهون مجموعة كبيرة من الدوافع والضغوط من أجل ذلك. من ناحية أخرى فإن الهجرة المكسيكية تختلف عن الهجرات الأخرى في جوانب قد تكون مهمة.
- أولًا: المهاجرون من أوروبا أو آسيا يعبرون محيطات. المكسيكيون يمشون عبر حدود برية أو يخوضون عبر بحار. هذا إلى جانب السهولة المتزايدة في وسائل الانتقال والاتصال التي تمكنهم من الحفاظ على صلات وثيقة وصلات هوية مع مجتمعاتهم في بلدانهم الأصلية.
- ثانيًا: المهاجرون المكسيك متمركزون في الولايات المتحدة الجنوبية الغربية ويشكلون جزءًا من مجتمع مكسيكي متصل وممتد من «يوكاتان إلى كلورادو» (انظر الخريطة ٨-١).
- ثالثًا: توحي بعض الدلائل بأن مقاومة الاستيعاب أقوى بين المكسيكيين المهاجرين عما كانت بين الجماعات المهاجرة الأخرى، وأن المكسيكيين يميلون إلى الاحتفاظ بهويتهم المكسيكية، كما ظهر في النضال ضد مشروع القانون رقم ١٨٧ في كاليفورنيا سنة ١٩٤٩م.
- رابعًا: المنطقة التي استقر بها المكسيكيون كانت الولايات المتحدة قد ضمَّتها بعد أن هزمت المكسيك في منتصف القرن التاسع عشر، ومن المؤكد أن التقدم الاقتصادي المكسيكي سوف يُولد مشاعر مكسيكية انتقامية. وفي الوقت المناسب فإن نتائج التوسع العسكري الأمريكي في القرن التاسع عشر ستواجه تهديدات، ربما يعكسها التوسع الديموغرافي المكسيكي في القرن الواحد والعشرين.
ميزان القوى المتغير بين الحضارات يجعل من الصعب على الغرب أكثر فأكثر أن يحقق أهدافه بالنسبة لانتشار الأسلحة وحقوق الإنسان والهجرة وغيرها من القضايا. ولكي يقلل خسائره في ذلك إلى حدها الأدنى، فإن الموقف يتطلب من الغرب أن يستخدم موارده الاقتصادية ببراعة بأسلوب الجزرة والعصا في التعامل مع المجتمعات الأخرى لكي يدعم وحدته وينسق سياساته، ولكي يجعل من الصعب على المجتمعات الأخرى، أن تستخدم دولة غربية ضد دولة غربية أخرى وأن ينمي ويستغل الخلافات بين الدول غير الغربية. إن قدرة الغرب على متابعة هذه الاستراتيجيات سوف تتشكل حسب طبيعة ومدى صراعاته مع حضارات التحدي من جانب ومدى قدرته على التوحد مع حضارات الحركة وتطوير المصالح المشتركة معها من جانب آخر.