السياسة الكونية للحضارات
(١) دولة المركز وصراعات خط التقسيم الحضاري
الحضارات هي القبائل الإنسانية النهائية، وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق كوني. في العالم الناشئ، قد تقيم الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارتين مختلفتين علاقات وتحالفات تكتيكية محدودة وخاصة بغرض تنمية مصالحها ضد كيانات تنتمي إلى حضارة ثالثة أو من أجل أهداف مشتركة. على أن العلاقات بين الجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة غالبًا لن تكون وثيقة، بل عادة ما تكون باردة وعدائية في معظم الأحوال. العلاقات بين الدول التي تنتمي إلى حضارات مختلفة والموروثة عن الماضي مثل تحالفات الحرب الباردة العسكرية من المرجح أن تضعف أو تتبخر.
وفي عالم مكون من حضارات، لن تكون تلك هي العلاقة الوحيدة التي توصف بهذا المصطلح. السلام البارد، الحرب الباردة، حرب التجارة، شبه الحرب، السلام القلق، العلاقات المضطربة، التنافس الحاد، التعايش التنافسي، سباق التسلح … هذه العبارات كلها هي الوصف الأكثر احتمالًا للعلاقات بين الكيانات المنتمية لحضارات مختلفة. الثقة والصداقة ستكون عملة نادرة. الصراعات بين الحضارات تأخذ شكلين: على المستوى المحلي أو الصغير، تحدث صراعات خطوط التقسيم بين دول الجوار المنتمية إلى حضارات مختلفة، وبين جماعات تنتمي إلى حضارات مختلفة داخل دولة ما، وبين جماعات تحاول إقامة دول جديدة على أنقاض الدول القديمة كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق ويوغوسلافيا السابقة. صراعات خطوط التقسيم متفشية خاصة بين المسلمين وغير المسلمين، وسوف نتحرى أسباب هذه الصراعات وطبيعتها والقوى المحركة لها في الفصلين العاشر والحادي عشر.
- (١)
النفوذ النسبي في تشكيل التطورات الكونية وأداء المنظمات العالمية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
- (٢)
القوة النسبية التي تتجلى في الخلاف حول سياسات عدم الانتشار والتحكم في التسليح وسباقات التسلح.
- (٣)
القوة الاقتصادية والرفاه، والتي تتبدى في النزاع على التجارة والاستثمار وقضايا أخرى.
- (٤)
أناس يستخدمون جهود دولة من إحدى الحضارات لحماية أقارب لهم في حضارة أخرى أو للتفرقة ضد أناس من حضارة أخرى، أو لطرد أناس ينتمون إلى حضارة مختلفة من أراضيها.
- (٥)
القيم والثقافة التي تنشأ حولهما الصراعات عندما تحاول دولة ما أن تتبنى أو أن تفرض قيمها على شعب حضارة أخرى.
- (٦)
وأحيانًا أراض تصبح فيها دول المركز مشاركة في صراعات خطوط التقسيم بها.
هذه القضايا بالطبع هي مصادر الصراع بين البشر عبر التاريخ، وعندما تتورط في الصراع دول من حضارات مختلفة، فإن الاختلافات الثقافية تجعل الصراع أكثر حدة.
- أولًا: قد تتطور نتيجة تصعيد صراعات خطوط التقسيم بين الجماعات المحلية، حيث تحتشد جماعات القربى بما فيها دول المركز لدعم المقاتلين المحليين، هذه الإمكانية قد تخلق دافعًا أساسيًّا لدول المركز في الحضارات المعارضة لاحتواء صراع خط التقسيم أو حله.
- ثانيًا: حروب دول المركز قد تنتج عن تغير في ميزان القوى الكوني بين الحضارات. القوة المتزايدة لأثينا داخل الحضارة اليونانية — كما يقول «تشيديدس» — أدت إلى حرب «بيلوبونيسيان»، وتاريخ الحضارات الغربية بالمثل هو تاريخ «حروب سيطرة» بين قوى صاعدة وقوى منهارة.
يتوقف مدى تشجيع العوامل المماثلة للصراعات بين دول المركز الصاعدة والدول المنهارة في الحضارات المختلفة — إلى حدٍّ ما — على الطريقة التي تفضلها الدول للتكيف مع القوة الجديدة الناشئة، وهل هي التوازن معها أو الالتحاق بها. وبينما قد يبدو الالتحاق هو الأكثر تمييزًا للحضارات الآسيوية، إلا أن صعود القوة الصينية استطاع أن يُولِّدَ محاولات التوازن من دول في حضارات أخرى مثل الولايات المتحدة والهند وروسيا. حرب السيطرة المفقودة في التاريخ الغربي، هي تلك التي بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ومن المفترض أن التحول من سلام بريطاني إلى سلام أمريكي كان يرجع في حدٍّ كبير إلى علاقة القربى الثقافية الوثيقة بين المجتمعَين. غياب قربى من هذا النوع في ميزان القوى المتغير بين الغرب والصين لا يجعل الصراع المسلح مؤكدًا، وإن كان يجعله ممكنًا. القوى المحركة للإسلام هي المصدر المستمر لحروب كثيرة صغيرة نسبيًّا على حدود التقسيم، وصعود الصين هو المصدر المحتمل لحرب تداخل حضاري كبيرة بين دول المركز.
(٢) الإسلام والغرب
وبحلول القرن الخامس عشر. بدأ المد ينقلب، المسيحيون — بالتدريج — استعادوا أيبيريا مكملين المهمة حتى غرناطة في ١٤٩٢م، في نفس الوقت مكَّنت الابتكارات الأوروبية في الملاحة البحرية البرتغاليين ثم غيرهم من تطويق الأراضي الإسلامية، وشق طريقهم في المحيط الهندي وما وراءه، وفي نفس الوقت كان الروس قد أنهوا قرنين من حكم التتار. العثمانيون — بالتالي — قاموا باندفاعة أخيرة إلى الأمام ليحاصروا «فيينا» مرة ثانية في ١٦٨٣م.
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى، أطلقت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا رصاصة الرحمة، وأقاموا حكمهم المباشر أو غير المباشر على الأراضي العثمانية الباقية ما عدا مساحة الجمهورية التركية. وبحلول سنة ١٩٢٠م لم يكن هناك سوى أربع دول مستقلة على نحوٍ ما عن الحكم غير الإسلامي وهي، تركيا والسعودية وإيران وأفغانستان.
تراجع الكولونيالية الغربية بالتالي بدأ بطيئًا في العشرينيات والثلاثينيات، ثم تسارع بصورة كبيرة نتيجةً للحرب العالمية الثانية، كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي حقق الاستقلال لمجتمعات إسلامية إضافية. وطبقًا لأحد التقديرات، حدث ما يقرُب من ٩٢ حالة استيلاء على أراضٍ إسلامية من قِبَل حكوماتٍ غير إسلامية عامَي ١٧٥٧م و١٩١٩م، وبحلول عام ١٩٩٥م كان ٦٩ من تلك المساحات قد عاد مرة أخرى تحت الحكم الإسلامي، وفي حوالي ٤٥ دولة مستقلة كانت الأغلبية الساحقة من السكان مسلمين.
كلاهما يدَّعي أنه العقيدة الصحيحة الوحيدة التي يجب أن يتبعها الجميع. كلاهما دين تبشيري يعتقد أن مُتبعيه عليهم التزام بهداية غير المؤمنين وتحويلهم إلى ذلك الإيمان الصحيح.
مجموعة مشابهة من العوامل زادت من الصراع بين الإسلام والغرب في أواخر القرن العشرين.
- أولًا: خَلَّفَ النمو السكاني الإسلامي أعدادًا كبيرة من الشبان العاطلين والساخطين الذين أصبحوا مُجندين للقضايا الإسلامية ويشكلون ضغطًا على المجتمعات المجاورة ويهاجرون إلى الغرب.
- ثانيًا: أعطت الصحوة الإسلامية ثقة متجددة للمسلمين في طبيعة وقدرة حضارتهم وقيمهم المتميزة مقارنة بتلك التي لدى الغرب.
- ثالثًا: جهود الغرب المستمرة لتعميم قيمه ومؤسساته من أجل الحفاظ على تفوقه العسكري والاقتصادي، والتدخل في الصراعات في العالم الإسلامي تولد استياء شديدًا بين المسلمين.
- رابعًا: سقوط الشيوعية أزال عدوًّا مشتركًا للغرب والإسلام وترك كلًّا منهما لكي يصبح الخطر المتصور على الآخر.
- خامسًا: الاحتكاك والامتزاج المتزايد بين المسلمين والغربيين يُثير في كل من الجانبين إحساسًا بهويته الخاصة وكيف أنها مختلفة عن هوية الآخر.
التداخل والامتزاج أيضًا يفاقمان من الخلافات حول حقوق أبناء حضارة ما في دولة يسيطر عليها أبناء حضارة أخرى، في الثمانينيات والتسعينيات انهار بشدة ذلك التسامح بالنسبة للآخر في كل من المجتمعات الإسلامية والمسيحية. وهكذا فإن أسباب الصراع المتجدد بين الإسلام والغرب تُوجَد في الأسئلة الأساسية للقوة والثقافة. «من الفاعل ومن المفعول به؟» «من الذي يجب أن يحكم، ومن الذي يجب أن يكون محكومًا؟» القضية المركزية للسياسة كما حددها «لينين» هي جذر الخلاف بين الإسلام والغرب، إلا أن هناك أيضًا الصراع الإضافي الذي كان يراه «لينين» بلا معنى بين صورتَين مختلفتَين لما هو صواب وما هو خطأ، ونتيجة لذلك: من هو المحق ومن هو المخطئ؟
طالما أن الإسلام يظل (وسيظل) كما هو الإسلام، والغرب يظل (وهذا غير مؤكد) كما هو الغرب، فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتهما في المستقبل، كما حددها على مدى الأربعة عشر قرنًا السابقة. هذه العلاقات يزيد من تعكيرها عدد من القضايا الجوهرية تختلف عليها مواقفهم أو تتصارع.
تاريخيًّا: كانت إحدى القضايا الرئيسية هي السيطرة على مساحة من الأرض، ولكن ذلك — نسبيًّا — لم يكن مهمًّا. في منتصف التسعينيات كان هناك ١٩ صراعًا بين المسلمين والمسيحيين من مُجمل ٢٨ صراعًا بين المسلمين وغير المسلمين عبر خطوط التقسيم الحضاري. كان من بينها ١١ مع مسيحيين أرثوذوكس و٩ مع أتباع المسيحية الغربية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا. واحد فقط من هذه الصراعات العنيفة أو التي كان يمكن أن تكون عنيفة، هو ذلك الذي حدث مباشرة بين الكروات والبوسنيين على طول خط التقسيم بين الغرب والإسلام.
انتهاء الاستعمار الغربي للأراضي وغياب التوسع الإسلامي أحدثا نوعًا من العزلة الجغرافية لدرجة أن التجاور المباشر بين مجتمعات غربية وإسلامية لا يوجَد إلا في مناطق قليلة في البلقان. وهكذا فإن تركيز الصراع بين الغرب والإسلام على الأراضي أقل مما هو على قضايا التداخُل الحضاري الأوسع مثل نشر الأسلحة وحقوق الإنسان والتحكم في النفط والهجرة وإرهاب الإسلاميين والتدخل الغربي. شدة هذا العداء التاريخي المتزايد كانت أمرًا معترفًا به من قِبَل أبناء المجتمعَين في أعقاب الحرب الباردة. في سنة ١٩٩١م مثلًا كان «بارن بوزان» يرى عدة أسباب لنشوب حرب مجتمعية باردة «بين الغرب والإسلام تقف فيها أوروبا على خط المواجهة».
هذا التطور له علاقة بالقيم العلمانية مقابل القيم الدينية، له علاقة بالخصومة التاريخية بين المسيحية والإسلام، وبالغيرة من القوة الغربية، وبالاستياء من السيطرة الغربية الناجمة عن بنية الشرق الأوسط السياسية بعد زوال الاستعمار، وبالشعور بالمرارة والامتهان نتيجة المقارنة البغيضة بين إنجازات الحضارتَين الإسلامية والغربية في القرنَين الأخيرين.
كان زعماء المسلمين في الماضي يقولون لشعوبهم أحيانًا: «لا بد أن نتغرب.» ولو قال ذلك أي قائد مسلم في الربع الأخير من القرن العشرين لا بد أن يكون حالة فردية. والحقيقة أننا من الصعب أن نجد عبارات مديح للقِيَم والمؤسسات الغربية على لسان أي مسلم سواء من السياسيين أو الرسميين أو الأكاديميين أو رجال الأعمال. إنهم بدلًا من ذلك يؤكدون على الاختلافات بين حضارتهم والحضارة الغربية وعلى تفوق ثقافتهم والحاجة إلى الحفاظ على ثبات تلك الثقافة ضد الهجوم الغربي. المسلمون يخشون ويمتعضون من القوة الغربية وما يمثله ذلك من خطر لمجتمعاتهم ومعتقداتهم.
وهم يرَون الثقافة الغربية ثقافة مادية فاسدة متفسِّخة ولا أخلاقية، كما يرونها مغوية، ومن هنا يؤكدون أكثر فأكثر على الحاجة لمقاومة تأثيرها على أسلوب حياتهم. ويهاجم المسلمون الغرب بدرجة متزايدة لا لأن الغرب يتبع دينًا غير كامل أو خاطئ رغم أنه دين كتاب، بل يُهاجمونه لأنه لا يتبع أي دين بالمرة.
«الغرب» مادي و«إمبريالي» و«ألحق أذى» بالأمم المتحدة من خلال «الرعب الكولونيالي» (ص٣، ص٩). الفردانية، السمة الدامغة للثقافة الغربية «هي مصدر كل المتاعب» (ص٨) القوة الغربية مُخيفة. «الغرب منفردًا هو الذي يُقرر إذا ما كانت الأقمار الصناعية سوف تُستخدَم لتعليم العرب أو لإلقاء القنابل عليهم. إنه يسحق إمكانياتنا ويغزو حياتنا بمنتوجاته المستوردة وأفلامه المتلفزة التي تُغرق موجات الأثير … الغرب قوة تسحقنا، تحاصر أسواقنا وتتحكَّم في أقل مواردنا ومبادراتنا وقدراتنا. هكذا كنا نتخيَّل موقعنا، ثم جاءت حرب الخليج لتحول هذا التخيل إلى يقين.» (ص١٤٦-١٤٧).
الغرب «يصنع قوته من خلال البحث العسكري.» ثم يبيع منتوجات هذا البحث إلى الدول المتخلفة، «المستهلك السلبي» لها. ولكي يحرر نفسه من هذا الخنوع لا بد أن يقوم الإسلام بتخريج مهندسيه وعلمائه وصُنع أسلحته (سواء نووية أو تقليدية … لم تحدد) وتحرير نفسه من الاعتماد العسكري على الغرب. (ص٤٣-٤٤). وأكرر، هذه ليست أوامر واحد من آيات الله المعممين الملتحين.
الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال مباشرة كانت غربية عمومًا في أيديولوجيتها وسياستها وموالية للغرب في سياستها الخارجية مع استثناءات جذرية مثل الجزائر وإندونيسيا، حيث كان الاستقلال نتيجة ثورات وطنية. إلا أن الحكومات الموالية للغرب راحت واحدةً تلوَ الأخرى تخلي الطريق لحكومات أقلَّ توحدًا مع الغرب أو مُعادية له: في العراق وليبيا واليمن وسوريا وإيران والسودان وأفغانستان. كما حدثت تغيرات أقل درامية في نفس الاتجاه في توجهات وانحيازات دول أخرى من بينها تونس وإندونيسيا وماليزيا.
الحليفان العسكريان الرئيسيان للولايات المتحدة في سنوات الحرب الباردة هما تركيا وباكستان، واقعتان تحت ضغطٍ سياسي إسلامي في الداخل وروابطهما مع الغرب عرضة لتوتر مُتزايد. في عام ١٩٩٥م كانت الكويت هي الدولة الإسلامية الوحيدة الأكثر موالاة للغرب بكل وضوح عما كانت عليه قبل عشر سنوات.
أصدقاء الغرب المقربون في العالم الإسلامي الآن إما أنهم مثل الكويت والسعودية ومشيخات الخليج المعتمدة على القوة العسكرية الغربية، أو مثل مصر والجزائر يعتمدون عليها اقتصاديًّا. في أواخر الثمانينيات انهارت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية عندما أصبح واضحًا أن الاتحاد السوفيتي لم يعد قادرًا أو لن يكون قادرًا على تقديم العون الاقتصادي والعسكري لهم. وإذا اتضح أن الغرب لن يكون قادرًا على المحافظة على توابعه من الأنظمة الإسلامية، فالمرجَّح أنهم سيلقون نفس المصير.
العداء الإسلامي المتزايد للغرب، يمكن مُقارنته بالقلق الغربي المتزايد من «الخطر الإسلامي» المتمثل في التطرف. إنهم ينظرون إلى الإسلام كمصدر للانتشار النووي والإرهاب، وإلى المسلمين كمهاجرين غير مرغوب فيهم في أوروبا.
وهذه المخاوف تشترك فيها الجماهير والقادة معًا. في نوفمبر ١٩٩٤م عندما طُرِحَ سؤال إذا ما كان «الانبعاث الإسلامي» يُعتبر خطرًا على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مثلًا، كانت إجابة ٦١٪ من عينة قوامها ٣٥٠٠٠ أمريكي من المهتمين بالسياسة الخارجية هي «نعم». قبل ذلك بعام واحد عندما طُرِحَ سؤال: أي الدول يمثل أكثر خطرًا على الولايات المتحدة؟ حددت عينة عشوائية من الجمهور: إيران والصين والعراق كأعلى ثلاث دول. وفي سنة ١٩٩٤م عندما طُلِبَ تحديد «أخطر التهديدات» على الولايات المتحدة، أجاب ٧٢٪ من الجمهور و٦١٪ من قيادات السياسة الخارجية بأنه: «الانتشار النووي، وقال ٦٩٪ من الجمهور و٣٣٪ من القيادات إنه: الإرهاب الدولي، وهما قضيتان مرتبطتان بالإسلام لدرجةٍ كبيرة. بالإضافة إلى أن ٣٣٪ من الجمهور و٣٩٪ من القادة كانوا يرون تهديدًا في الاتساع المحتمل للأصولية الإسلامية.»
ومع الزوال الفعلي للتهديد العسكري من الشرق، يتجه تخطيط اﻟ «ناتو» بشكلٍ مُتزايد نحو التهديدات المحتملة من الجنوب. في سنة ١٩٩٢م لاحظ أحد المحللين العسكريين الأمريكيين أن: «الصف الجنوبي يحل محل الجبهة المركزية، كما أنه سيُصبح خط الجبهة الجديد ﻟ «ناتو» بسرعة.» ولمواجهة هذه التهديدات الجنوبية فإن الأعضاء الجنوبيين في اﻟ «ناتو»: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال قد بدءوا تخطيطًا عسكريًّا وعمليات مشتركة، وفي نفس الوقت حثت حكومات الغرب من خلال مشاورات بينها على مواجهة المتطرفين الإسلاميين.
- أولًا: لم يكن كل الإسلام يحارب كل الغرب. دولتان أصوليتان (إيران والسودان) وثلاث دول غير أصولية (العراق وليبيا وسوريا) بالإضافة إلى عددٍ كبير من المنظمات الإسلامية بدعمٍ من دول إسلامية أخرى مثل السعودية كانوا يحاربون الولايات المتحدة وأحيانًا بريطانيا ودولًا وجماعات غربية أخرى إلى جانب إسرائيل واليهود بوجهٍ عام.
- ثانيًا: هي شبه حرب لأنها — بصرف النظر عن حرب الخليج في ١٩٩٠-١٩٩١م — كانت تتم بوسائل محدودة: الإرهاب في جانب: والقوة الجوية والعمل السري والعقوبات الاقتصادية في الجانب الآخر.
- ثالثًا: هي شبه حرب؛ لأن العنف رغم تواصُله إلا أنه لم يكن بشكل مُستمر. كان يتضمن أعمالًا متقطعة من جانب، تثير ردودًا من الجانب الآخر. ومع ذلك تظل شِبه الحرب حربًا، وحتى مع استبعاد عشرات الألوف من الجنود والمدنيين العراقيين الذين قتلوا من جراء القصف في يناير وفبراير ١٩٩١م فإن الوفيات والخسائر الأخرى تصل إلى الألوف، وكانت تقع فعلًا في كل عام بعد ١٩٧٩م، وقد قُتِلَ غربيون كثيرون في شِبه الحرب هذه أكثر من الذين قُتِلُوا في الحرب الحقيقية في الخليج.
على الجانب الغربي، حددت الولايات المتحدة سبع دول «كدول إرهابية»، بينها خمس دول إسلامية (إيران – العراق – سوريا – ليبيا – السودان) والدولتان الأخريان هما كوبا وكوريا الشمالية. هذا في الواقع يصنفها كأعداء لأنها تهاجم الولايات المتحدة وأصدقاءها بأكثر الأسلحة فاعلية في أيديها، وبالتالي فهم يعترفون بوجود حالة حرب معهم. المسئولون الأمريكيون يشيرون إلى تلك الدول كدولٍ «خارجة على القانون» و«عنيفة» و«شاذة»، وهكذا يضعونها خارج المجتمع الحضاري العالمي ويجعلون منها أهدافًا شرعية لإجراءاتٍ مضادة جماعية أو فردية. حكومة الولايات المتحدة اتهمت الذين فجروا «مركز التجارة العالمي» بقصد: «شن حرب إرهاب مدني ضد الولايات المتحدة.» وقالت إن المتآمرين المتهمين بالتخطيط لأعمالٍ مشابهة في «مانهاتن» «كانوا جنودًا» في صراع «يتضمن الحرب» ضد الولايات المتحدة. فإذا كان المسلمون يزعمون أن الغرب يحارب الإسلام، والغربيون يزعمون أن الإسلام يحارب الغرب، يصبح من المعقول أن نستنتج أن ما يدور شيء يُشبه الحرب إلى حدٍّ كبير. في شبه الحرب هذه يعتمد كل طرف على جوانب قوته الخاصة وعلى جوانب الضعف لدى الآخر. من الناحية العسكرية هي حرب إرهاب ضد قوة جوية. المجندون الإسلاميون المخلصون لأفكارهم يستغلون المجتمعات المفتوحة في الغرب ويزرعون السيارات المفخخة في أهداف مختارة. العسكريون الغربيون المحترفون يستغلون السماوات المفتوحة في الدول الإسلامية ويلقون القنابل المدمرة على أهداف مختارة، المشاركون الإسلاميون يخططون لاغتيال شخصياتٍ غربية مهمة، الولايات المتحدة تتآمر لقلب الأنظمة الإسلامية المتطرفة. خلال السنوات الخمس عشرة بين ١٩٨٠م و١٩٩٥م وطبقًا لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية، شاركت الولايات المتحدة في ١٧ عملية في الشرق الأوسط كانت كلها موجهة ضد مسلمين، ولم تحدث أي عمليات أمريكية من هذا النمط ضد أي شعب من حضارة أخرى.
المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام: فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته وهاجسه ضآلة قوته.
المشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأمريكية ولا وزارة الدفاع. المشكلة هي الغرب: حضارة مختلفة شعبها مقتنع بعالمية ثقافته ويعتقد أن قوته المتفوقة إذا كانت متدهورة، فإنها تفرض عليه التزامًا بنشر هذه الثقافة في العالم. هذه هي المكونات الأساسية التي تُغذي الصراع بين الإسلام والغرب.
(٣) آسيا والصين وأمريكا
مرجل الحضارات. التغيرات الاقتصادية في آسيا وبخاصة في شرقها واحدة من أهم التطورات في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.
بحلول التسعينيات كان هذا النمو الاقتصادي قد ولد انتعاشة اقتصادية بين كثير من المراقبين الذين رأوا شرق آسيا وكل الإطار الباسيفيكي مرتبطين معًا في شبكة تجارية ممتدة يمكن أن تؤمِّن السلام والوئام بين الدول.
هذا التفاؤل كان مؤسسًا على افتراضٍ شديد الالتباس، وهو أنَّ التبادل التجاري قوة ثابتة من أجل السلام. إلا أن الحال ليست كذلك. النمو الاقتصادي يخلق عدم استقرار اقتصادي داخل الدول وبينها وبين بعضها، ويغير ميزان القوى في الدول والمناطق. التبادل التجاري يجعل الناس يتَّصِلون ويحتكون بعضهم ببعض ولكنه لا يُوصِّلهم إلى اتفاق. وتاريخيًّا، غالبًا ما كان يُنتج وعيًا أعمق بالاختلافات بين الشعوب ويثير المخاوف المتبادلة.
- أولًا: النمو الاقتصادي يُمَكِّنُ الدول الآسيوية من توسيع قدراتها العسكرية ويثير القلق بشأن العلاقات المستقبلية بين هذه الدول، ويدفع إلى الصدارة بقضايا ومنافساتٍ كانت مكبوحةً أثناء الحرب الباردة، وبالتالي يعجل باحتمالات الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة.
- ثانيًا: النمو الاقتصادي يزيد من حدة الصراعات بين المجتمعات الآسيوية والغرب، والولايات المتحدة أساسًا، ويقوي من قدرة المجتمعات الآسيوية على أن تسود في تلك الصراعات.
- ثالثًا: النمو الاقتصادي لأكبر قوة في آسيا يزيد من النفوذ الصيني في المنطقة كما يزيد من احتمال تأكيد الصين لسيطرتها التقليدية في شرق آسيا وبالتالي يضطر دولًا أخرى إما لأن «تنضم» وتُكيف نفسها مع هذا التطور، أو لأن «تتوازن» وتحاول احتواء النفوذ الصيني.
خلال القرون الطويلة للسطوة الغربية، كانت العلاقات الدولية المهمة لعبة غربية بين القوى الكبرى في الغرب، تكملها بدرجة ما، أولًا: روسيا في القرن الثامن عشر، ثم اليابان في القرن العشرين، وكانت أوروبا هي الساحة الرئيسية لصالح القوى الكبرى وللتعاون بينها. حتى أثناء الحرب الباردة، كان الخط الرئيسي للمواجهة بين القوى الكبرى يقع في قلب أوروبا. وطالما أن العلاقات الدولية المهمة فيما بعد الحرب الباردة لها حلبة سباق رئيسية، فإن هذه الحلبة هي آسيا أو بالتحديد شرق آسيا.
آسيا هي أتون الحضارات، وشرق آسيا وحده يضمُّ مجتمعات تنتمي إلى ست حضارات: اليابانية والصينية والأرثوذوكسية والبوذية والإسلامية والغربية، وجنوب آسيا يضيف إليها الهندوسية. دول المركز في أربع حضارات (اليابان والصين وروسيا والولايات المتحدة) لاعبون رئيسيون في شرق آسيا، وجنوب آسيا تضيف الهند، كما أن إندونيسيا قوة إسلامية صاعدة. بالإضافة إلى ذلك فإن شرق آسيا يضم قوى عديدة متوسطة المستوى ذات ثقلٍ اقتصادي متزايد مثل كوريا الشمالية وتايوان وماليزيا، إلى جانب فيتنام كقوة محتملة. والنتيجة … أنماط من العلاقات في غاية التعقيد، تُشبه في نواحٍ كثيرة تلك التي كانت قائمة في أوروبا في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، ومفعمة بكل الميوعة والشكوك التي تميز المواقف المتعددة الأقطاب.
القوة الاقتصادية المحركة ونزاعات الأراضي والخصومات الناشئة وعدم الاستقرار السياسي، كل ذلك يؤدي إلى زيادات ملحوظة في الميزانيات والإمكانيات العسكرية في شرق آسيا في الثمانينيات والتسعينيات. مستغلة الثروة الجديدة، وفي حالات كثيرة القوى البشرية الجيدة التعليم، تحركت الحكومات في شرق آسيا لإحلال قواتٍ عسكرية أصغر حجمًا وأكثر احترافًا وتجهيزًا بمعداتٍ تكنولوجية متقدمة، محل جيوش «الفلاحين» الكبيرة الرديئة التجهيز. ومع تزايد الشكوك بخصوص الالتزام الأمريكي في شرق آسيا، تسعى الدول لأن تكون معتمدةً على نفسها عسكريًّا. وبينما واصلت دول شرق آسيا استيراد كمياتٍ ضخمة من الأسلحة من أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، إلا أنها تُعطي أفضلية لاستيراد التكنولوجيا التي تمكنهم من إنتاج طائرات مُتقدمة وصواريخ ومعدات إلكترونية في بلادهم.
وفي موقف تغير علاقات القوى، تتساءل كل حكومة بالضرورة وبشكل مشروع: من سيكون عدوِّي بعد عشر سنوات من الآن؟ ومن سيكون صديقي إن كان هناك أحد؟
(٤) الحروب الآسيوية-الأمريكية الباردة
في بداية التسعينيات، أصبحت العلاقات اليابانية الأمريكية ساخنة بدرجة متزايدة بسبب الخلاف حول عددٍ كبير من القضايا: بما فيها دور اليابان في حرب الخليج والوجود العسكري الأمريكي في اليابان ومواقف اليابان حول سياسات حقوق الإنسان في الصين وغيرها من الدول، ومساهمات اليابان في حفظ السلام … والأهم من ذلك العلاقات الاقتصادية، والتجارة على نحو خاص.
وبمنتصف التسعينيات كان المسئولون الصينيون الرسميون والسلطات يصورون الولايات المتحدة كقوة معادية بشكل روتيني. العداء المتزايد بين الصين والولايات المتحدة كان مدفوعًا في جزءٍ منه بالسياسة الداخلية في كل من البلدَين، وكان الرأي العام الأمريكي منقسمًا تمامًا كما كان الحال بالنسبة لليابان. كثير من رجال المؤسسة كانوا إلى جانب الاتصال البَنَّاء بالصين وتوسيع العلاقات الاقتصادية، وجر الصين إلى ما يُسمى بمجتمع الدول. بينما كان آخرون يؤكدون على التهديد الصيني المحتمل للمصالح الأمريكية ويقولون إن التحركات التنازلية نحو الصين جاءت بنتائج عكسية، ويحثون على سياسة احتواء حازمة. في سنة ١٩٩٣م كان الشعب الأمريكي يضع الصين بعد إيران مباشرة كأكبر خطرٍ على الولايات المتحدة. السياسة الأمريكية كانت تقوم دائمًا بلمحات رمزية تغضب الصينيين مثل زيارة «لي» إلى «كورنل» ولقاء «كلينتون» ﺑ «الدالاي لاما»، وفي نفس الوقت تجعل الإدارة تضحي باعتبارات حقوق الإنسان من أجل المصالح الاقتصادية مثل تمديد معاملة الصين كدولة أولى بالرعاية. على الجانب الصيني كانت الحكومة تحتاج إلى عدوٍ جديد لكي تُصَلِّب ميولها نحو القومية الصينية وتُعطي قوة لشرعيتها. وحيث إن الصراع استمر وطال أمده، ظهر النفوذ السياسي للعسكر بشكلٍ واضح ولم يستطع الرئيس «جيانج» والمتنافسون الآخرون على السلطة بعد «دنج» أن يتقاعسوا عن متابعة المصالح الصينية.
وهكذا، على مدى عقد من الزمن، «تدهورت» العلاقات الأمريكية مع كل من اليابان والصين. التحول في العلاقات الآسيوية الأمريكية كان عريضًا، وشمل مجالات وقضايا كثيرة مختلفة، لدرجةٍ يبدو من الصعب معها أن نجد أسبابه في صراعات مصالح مفردة حول قطع غيار السيارات أو بيع آلات التصوير أو القواعد العسكرية من جانب، أو سجن المنشقين ونقل الأسلحة والقرصنة الفكرية من جانب آخر.
- أولًا: زيادة التفاعل بين المجتمعات الآسيوية والولايات المتحدة التي أخذت شكل اتصالات واسعة وتجارة واستثمار ومعرفة الآخر، ضاعفت من القضايا والموضوعات التي يمكن أن تتصادم فيها المصالح … وقد حدث. هذا التفاعل المتزايد جعل تهديد ممارسات ومعتقدات كل من المجتمعين المتباعدين للآخر يبدو غريبًا وغير ضار.
- ثانيًا: التهديد السوفيتي في الخمسينيات أدى إلى معاهدة للأمن المتبادل بين الولايات المتحدة واليابان. نمو القوة السوفيتية في السبعينيات أدى إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين في ١٩٧٩م، وإلى تعاون خاص بين الدولتَين لتنمية مصالحهما المشتركة في تحييد ذلك التهديد. انتهاء الحرب الباردة أزال هذا الصالح المشترك بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية ولم يترك شيئًا في مكانه، وبالتالي برزت إلى المواجهة قضايا أخرى يوجد فيها تعارُض مصالح واضح.
- ثالثًا: النمو الاقتصادي للدول الشرق آسيوية غَيَّرَ ميزان القوى الشامل بينها وبين الولايات المتحدة. والآسيويون كما رأينا راحوا يؤكدون بشكل متزايد صلاحية قِيَمهم ومؤسساتهم وتفوق ثقافاتهم على الثقافة الغربية. من الناحية الأخرى أصبح الأمريكيون خاصة بعد انتصارهم في الحرب الباردة، يميلون إلى افتراض أن قيمهم ومؤسساتهم صالحة عالميًّا، وأنهم ما زالوا يمتلكون القوة لتشكيل السياسات الخارجية والداخلية للمجتمعات الآسيوية.
الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية حولت دولتين من أكبر الدول العسكرية في العالم إلى دولتَين من أكبر الدول سلامية. إلا أنه يبدو من غير المرجح أن تفرض الولايات المتحدة أو اليابان هيروشيما اقتصادية على الآخر. النمو الاقتصادي أيضًا يمكن أن يغير البنية الاجتماعية في مجتمعٍ ما ويغير ثقافته تغييرًا عميقًا، كما حدث في إسبانيا بين أوائل الخمسينيات وأواخر السبعينيات. وربما تستطيع الثروة الاقتصادية أن تجعل من اليابان مجتمعًا أكثر شبهًا بأمريكا وذا توجهٍ استهلاكي. في أواخر الثمانينيات كان الشعب في كل من اليابان وأمريكا يقول إن بلدَه لا بد أن يُصبح مثل الآخر. وبشكل محدد، كانت الاتفاقية اليابانية الأمريكية بخصوص «مبادرات معوقات البنية» بهدف تنمية هذا التلاقي. ولكن فشل ذلك وغيره من المساعي المشابهة يشهد على تجذُّر الاختلافات الاقتصادية في ثقافة المجتمعين. وبينما الصراعات بين الولايات المتحدة وآسيا لها مصادرها في الاختلافات الثقافية، إلا أن نتائج هذه الصراعات عكست علاقات القوة المتغيرة بين الولايات المتحدة وآسيا.
الولايات المتحدة سجلت بعض الانتصارات في هذه الصراعات، ولكن الاتجاه كان آسيويًّا، والتغير في القوة صَعَّدَ الصراعات لدرجةٍ أبعد. الولايات المتحدة كانت تتوقع أن تقبل الحكومات الآسيوية بها زعيمًا «للمجتمع الدولي» وأن تنصاع لتطبيق المبادئ والقيم الغربية على مجتمعاتها. الآسيويون من الجانب الآخر — كما قال وزير الدولة المساعد «ونستون لورد» — كانوا «على وعيٍ متزايد بإنجازاتهم وفخورين بها.» «يتوقعون أن يُعامَلوا كأندادٍ ويميلون إلى اعتبار الولايات المتحدة «مِعْزَاة عالمية إن لم تكن بقرة».» ومع ذلك تفرض الاحتياجات العميقة في داخل الثقافة الأمريكية على الولايات المتحدة أن تكون «مِعْزَاة» على الأقل في الشئون الدولية إن لم تكن «بقرة»، ونتيجة لذلك كانت التوقعات الأمريكية مفارقة للتوقعات الآسيوية وبدرجة متزايدة.
التكيف الأمريكي التدريجي مع ميزان القوى المتغير، انعكس في السياسة الأمريكية تجاه آسيا في التسعينيات.
-
أولًا: بعد أن سلمت بأنها فعلًا قد فقدت الرغبة و/أو القدرة على الضغط على المجتمعات
الآسيوية، فصلت الولايات المتحدة المجالات التي يمكن أن تمارس ضغطًا فيها، عن المجالات
التي
تواجه فيها صراعًا. ورغم أن «كلينتون» وضع وأعلن حقوق الإنسان على رأس أوليات السياسة
الخارجية
بالنسبة للصين، إلا انه رضخ لضغوط رجال الأعمال الأمريكيين والتايوانيين وغيرهم للفصل
بين حقوق
الإنسان والقضايا الاقتصادية وتجنب استخدام تمديد حالة الدولة الأولى بالرعاية كوسيلة
للتأثير
على السلوك الصيني تجاه المنشقين السياسيين عليها.
وفي خطوة موازية، فصلت الإدارة بكل وضوح سياسة الأمن بالنسبة لليابان وهي المجال الذي كان من المفترض أن تمارس ضغطًا فيه، عن قضية التجارة وقضايا اقتصادية أخرى كانت علاقتها باليابان بخصوصها أكثر صراعًا. وهكذا سَلَّمَت الولايات المتحدة الأسلحة التي كان يمكن أن تستخدمها من أجل متابعة حقوق الإنسان في الصين والحصول على تنازلات تجارية من اليابان.
-
ثانيًا: انتهجت الولايات المتحدة وبشكل متكرر مسارًا لتبادلية امتيازات متوقعة مع الدول
الآسيوية، فقدمت تنازلات مُتَوقِّعة أن ذلك سوف يؤدي بدوره إلى تنازلات من جانب الآسيويين.
هذا
المسار كان غالبًا ما يتم تبريره بالإشارة إلى الحاجة إلى الحفاظ على «ارتباط بَنَّاء»
أو
«حوار» مع الدولة الآسيوية. وأكثر من مرة كانت الدولة الآسيوية تفسر التنازلات على أنها
علامة
ضعف أمريكي، ومن هنا يمكنها أن تستمر في رفض المطالب الأمريكية. هذا الأسلوب كان ملحوظًا
على
نحو خاص مع الصين التي استجابت لفصل أمريكا حالة الدولة الأولى بالرعاية، بجولة واسعة
من انتهاك
حقوق الإنسان.
وبسبب الولع الأمريكي للتوحيد بين العلاقات «الجيدة» والعلاقات «الودية» أصبحت الولايات المتحدة في وضع سيئ في المنافسة مع المجتمعات الآسيوية التي لا توحد بين العلاقات «الجيدة» وتلك التي تحقق لهم انتصارات. وبالنسبة للآسيويين، فإن التنازلات الأمريكية لا يجب أن يتم الرد عليها بمثلها … بل يجب استغلالها.
- ثالثًا: الأسلوب الذي تم اتباعه في الصراعات الأمريكية اليابانية المتواترة على القضايا التجارية، والذي يجعل الولايات المتحدة تقدم مطالب لليابان وتهدد بفرض عقوبات عليها إن هي لم تف بها. مفاوضات طويلة قد تبدأ، وفي آخر لحظة قبل البدء في تنفيذ العقوبات يعلن عن الوصول إلى اتفاق. وكانت الاتفاقات بشكل عام تصاغ بعبارات غامضة بحيث تستطيع الولايات المتحدة أن تدعي انتصارًا من ناحية المبدأ، واليابانيون يمكنهم أن يستخدموا أو لا يستخدموا الاتفاق كما يحلو لهم ويسير كل شيءٍ مثلما كان من قبل. وبنفس الأسلوب، قد يوافق الصينيون، بتردُّد، على بعض عبارات حول مبادئ عريضة تتعلق بحقوق الإنسان والملكية الفكرية أو نشر الأسلحة … لمجرد فهمها على نحوٍ مختلف ومواصلة سياساتها السابقة. هذه الاختلافات في الثقافة وميزان القوى المتغير بين آسيا وأمريكا، شجعت المجتمعات الآسيوية أن يدعم بعضها البعض في صراعها ضد الولايات المتحدة. في سنة ١٩٩٤م مثلًا تجمعت كل الدول الآسيوية بالفعل (من أستراليا إلى ماليزيا إلى كوريا الجنوبية) خلف اليابان في رفضها للمطلب الأمريكي لتروس رقمية للواردات. وفي نفس الوقت حدث تجمع مماثل لصالح معاملة الصين كدولةٍ أَولى بالرعاية، كان في مقدمته رئيس وزراء اليابان «هوزوجاوا» وهو يقول إن المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان لا يمكن أن «تطبق بعماء» على آسيا، و«لي كوان يو» رئيس وزراء سنغافورة وهو يحذر بأن الولايات المتحدة إذا ضغطت على الصين «فسوف تجد نفسها وحيدة تمامًا كما في الباسيفيك.»31 وفي استعراض آخر للتضامن تجمع الآسيويون والأفارقة وراء اليابانيين لدعم إعادة انتخاب رئيس منظمة الصحة العالمية الياباني ضد معارضة الغرب. كما دعمت اليابان مرشحًا من كوريا الجنوبية لرئاسة منظمة التجارة العالمية ضد المرشح الأمريكي «كارلوس ساليناس»، رئيس المكسيك السابق.
كما يوضح السجل بجلاء أنه بحلول التسعينيات كانت كل دولة في شرق آسيا تشعر أن بينها وبين دول شرق آسيا الأخرى عوامل مشتركة كثيرة بالنسبة للقضايا الباسيفيكية، أكثر مما بينها وبين الولايات المتحدة.
انتهاء الحرب الباردة وزيادة التداخل بين آسيا وأمريكا، التدهور النسبي في القوة الأمريكية … كل ذلك أبرز إلى السطح صدام الثقافات بين الولايات المتحدة واليابان والمجتمعات الآسيوية الأخرى، ومَكَّنَ الأخيرة من مقاومة الضغط الأمريكي. صعود الصين كان يمثل تحديًا أهمَّ بالنسبة للولايات المتحدة. صراعات الولايات المتحدة مع الصين كانت تغطي قضايا في مجالات أوسع عنها مع اليابان بما فيها المسائل الاقتصادية وحقوق الإنسان والتبت وتايوان وبحر الصين الجنوبي ونشر الأسلحة. الولايات المتحدة والصين، لا يوجد بينهما أهداف مشتركة في أي قضية أساسية تقريبًا. الاختلافات تمتدُّ عبر الحدود. وكما هو الأمر مع اليابان، فإن هذه الصراعات — في جزء كبير منها — مُتجذرة في الثقافتين المختلفتين للمجتمعين. الصراعات بين الولايات المتحدة والصين على أية حال، تضمنت كذلك قضايا أساسية تتعلق بالقوة. الصين غير مُستعدة لقبول زعامة أو هيمنة أمريكية في العالم، والولايات المتحدة غير مستعدة لقبول زعامة أو هيمنة صينية في آسيا. على مدى أكثر من مائتي عام، حاولت الولايات المتحدة أن تمنع انبثاق قوة مسيطرة بالكامل في أوروبا، وعلى مدى مائة عام تقريبًا وبدءًا من سياسة «الباب المفتوح» تجاه الصين، حاولت أن تفعل الشيء نفسه في شرق آسيا. ولتحقيق هذه الأهداف خاضت حربَين عالميتَين وحربًا باردة ضد ألمانيا الإمبراطورية، وألمانيا النازية، واليابان، والاتحاد السوفيتي، والصين الشيوعية. هذه المصلحة الأمريكية تظل كما هي، وقد أكدها الرئيسان «ريجان» و«بوش». إن انبثاق الصين كقوةٍ مسيطرة في شرق آسيا لو استمر، فإنه يشكل تحديًا لهذه المصلحة الأمريكية الرئيسية. السبب الرئيسي للصراع بين أمريكا والصين هو اختلافهما الأساسي حول ما ينبغي أن يكون عليه مستقبل توازن القوى في شرق آسيا.
(٥) الهيمنة الصينية: التوازن والالتحاق بالركب
تستطيع آسيا بما فيها من ست حضارات، وثماني عشرة دولة وأنظمة اقتصادية سريعة النمو، واختلافات سياسية واقتصادية واجتماعية جوهرية بين المجتمعات، أن تُطَوِّرَ أي شكل من الأشكال العديدة في العلاقات الدولية في أوائل القرن الواحد والعشرين. من المتصور أن تظهر مجموعة من العلاقات التعاونية والمتصارعة الشديدة التعقيد، تضم معظم القوى الكبرى والقوى ذات المستوى المتوسط في المنطقة. أو قد تتشكل قوة رئيسية ونظام دول متعدد الأقطاب ليضم الصين واليابان والولايات المتحدة وروسيا وربما الهند الذين يتوازنون ويتنافسون بعضهم مع بعض. أو بشكل آخر يمكن أن تسود السياسة الشرق آسيوية منافسة مستمرة ثنائية القطب بين الصين واليابان، أو بين الصين والولايات المتحدة مع دول أخرى تنحاز إلى جانب أو آخر أو تختار سياسة عدم الانحياز. أو ربما عادت السياسة الشرق آسيوية إلى شكلها التقليدي ذي القطب الواحد مع تسلسل قوة حول «بكين». إذا حافظت الصين على مستوياتها العالية من النمو الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين، وعلى وحدتها في حقبة ما بعد «دنج»، وإذا لم تعقْها صراعات مستمرة، فمن المرجح أن تحاول تحقيق آخر هذه النتائج. ونجاحها يتوقف على ردود أفعال اللاعبين الآخرين في لعبة سياسة القوة في شرق آسيا.
تاريخ الصين، ثقافتها، تقاليدها، حجمها، قواها المحركة اقتصاديًّا، صورتها عن نفسها … كل ذلك يجبرها على اتخاذ وضع هيمنة في شرق آسيا، وهذا الهدف نتيجة طبيعية لنموها الاقتصادي السريع. كل القوى الرئيسية الأخرى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تورَّطت في توسع خارجي وتوكيد واستعمار، وقد تواكب ذلك مع السنوات التي مرت فيها بنمو اقتصادي وصناعي سريع، أو بعدها. ولا يوجد سبب يدعونا للاعتقاد أن امتلاك قوة اقتصادية وعسكرية لن تكون له آثار مماثلة بالنسبة للصين. على مدى ألفي عام، كانت الصين هي القوة المتفوقة في شرق آسيا. والصينيون يؤكدون الآن، وبشكل متزايد، نيتهم على استئناف ذلك الدور التاريخي وأن ينهوا قرنًا طويلًا من الخنوع والتبعية لليابان والغرب، والذي كان قد بدأ بفرض بريطانيا معاهدة «نانكنج» سنة ١٨٤٢م. في أواخر الثمانينيات، بدأت الصين في تحويل مواردها الاقتصادية النامية إلى قوة عسكرية ونفوذ سياسي. ولو تواصل نموها الاقتصادي فإن عملية التحويل هذه ستأخذ نسبًا رئيسية. وطبقًا للأرقام الرسمية، فإن الإنفاق العسكري قد انخفض أثناء معظم الثمانينيات، إلا أنه بين عامي ١٩٨٨م و١٩٩٣م قد تضاعف بكميات جارية وزاد فعلًا بنسبة ٥٠٪. في عام ١٩٩٥م كان المخطط أن يزيد بنسبة ٢١٪، وتقديرات الإنفاق العسكري الصيني لسنة ١٩٩٣م تتراوح بين ٢٢ بليون دولار إلى ٣٧ بليونًا بمعدلات سعر التحويل الرسمية، وإلى ٩٠ بليونًا بسعر التعادل في القوة الشرائية. في أواخر الثمانينيات أعادت الصين رسم استراتيجيتها العسكرية، متحولةً من الدفاع ضد الغزو في حروب كبيرة مع الاتحاد السوفيتي إلى استراتيجية إقليمية تؤكد على تقدير القوة وطبقًا لهذا التحول، بدأت في تطوير قدراتها البحرية والحصول على طائرات مقاتلة حديثة بعيدة المدى، وتُطَوِّر إمكانيات تزويد الطائرات بالوقود في الجو، كما قررت الحصول على ناقلة طائرات، ودخلت في علاقة شراء سلاح مُفيدة للطرفَين. الصين في طريقها الآن لأن تُصبح قوةً مسيطرة في شرق آسيا، والنمو الاقتصادي في شرق آسيا يزداد توجهه نحوها أكثر فأكثر، يُغذيه النمو الاقتصادي على البر الرئيسي والصينات الثلاث الأخرى، بالإضافة إلى الدور المركزي الذي لعبه الصينيون الإثنيون في تطوير اقتصاد تايلاند وماليزيا وإندونيسيا والفلبين. والأكثر خطورةً أن الصين تزداد تصلبًا في مطالبتها ببحر الصين الجنوبي، وتطور قاعدتها على جزيرة باراسيل وتحارب الفيتناميين على عددٍ من الجزر في ١٩٨٨م وتقيم وجودًا عسكريًّا على سلسلة صخور بالقرب من الفلبين وتطالب بحقول للغاز مجاورة لجزيرة «ناتونا» الإندونيسية.
كما أنهت الصين تأييدها الخافت لوجود أمريكي مُستمر في شرق آسيا وبدأت تُعارض هذا الانتشار بنشاط.
وبنفس الأسلوب بدأت في سنوات ما بعد الحرب الباردة تُعبر عن قلقها لتعزيز اليابان لقدراتها العسكرية، رغم أنها كانت تحثها على تقويتها أثناء الحرب الباردة. وبتصرفها بأسلوب كلاسيكي كمُهيمن إقليمي، تحاول الصين أن تُقلل من العقبات التي تعترض طريقها لتحقيق التفوق العسكري الإقليمي إلى أقصى حد. وباستثناءات نادرة مثل بحر الصين الجنوبي ربما، لا يحتمل أن تتضمن الهيمنة الصينية في شرق آسيا بسطًا لسيطرتها الإقليمية عن طريق الاستخدام المباشر للقوة العسكرية.
-
تأييد التكامل الإقليمي الصيني والسيطرة الصينية على «التبت» و«جين جيانج» ودمج «هونج كونج» و«تايوان» في الصين.
-
الإذعان وقبول سيادة الصين على بحر الصين الجنوبي وربما على منغوليا أيضًا.
-
تأييد الصين في صراعاتها مع الغرب بشكلٍ عام بخصوص المسائل الاقتصادية وحقوق الإنسان ونشر الأسلحة وغيرها.
-
قبول السيادة العسكرية الصينية في المنطقة والرجوع عن امتلاك أسلحة نووية أو قوات تقليدية تهدد هذه السيادة.
-
تبني سياسات اقتصادية واستثمارية تتماشى مع المصالح الصينية وتؤدي إلى التقدم الاقتصادي الصيني.
-
الإذعان للقيادة الصينية في تناولها للمشكلات الإقليمية.
-
أن تكون مفتوحة بشكل عام للهجرة من الصين.
-
أن تمنع وتكبح أي تحركات معادية للصين وللصينيين في مجتمعاتها.
-
احترام حقوق الصينيين في مجتمعاتهم بما في ذلك حقهم في المحافظة على علاقاتهم بأقاربهم ومواطنهم الأصلية في الصين.
-
الامتناع عن التحالفات العسكرية أو الائتلافات المعادية للصين مع قوى أخرى.
-
تبني استخدام «الماندارين» كلغة إضافية إلى جانب الإنجليزية لكي تحل محلها في النهاية كلغة اتصال أشمل في شرق آسيا.
ويُشَبِّه المراقبون صعود الصين بصعود ألمانيا «ولهلم» كقوة مسيطرة في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر.
انبثاق قوى كبرى جديدة يؤدي إلى عدم الاستقرار بشكل كبير، وإذا حدث، فإن قيام الصين كقوة كبرى سوف يُقَزِّم أي ظاهرة مشابهة في النصف الأخير من الألف الثانية.
وإذا استمر النمو الاقتصادي الصيني عقدًا آخر — وهذا يبدو ممكنًا — ولو حققت الصين وحدتها خلال الفترة التالية — وهذا يبدو محتملًا — سيكون على دول شرق آسيا والعالم أن يستجيبوا لدور هذا اللاعب الأكبر في التاريخ الإنساني، والذي يزداد تأكيدًا.
وبشكل عام، فإن الدول يمكن أن تستجيب حيال انبثاق قوةٍ جديدة بأحد أسلوبَين، أو بمزيج منهما معًا. قد تقوم الدول فرادى أو بتحالفٍ مع دول أخرى، بمحاولة تأكيد أمنها بالتوازن ضد القوة المنبثقة واحتوائها، أو الدخول في حربٍ لهزيمتها عند الضرورة. وعلى نحوٍ آخر، يمكن أن تحاول الدول الالتحاق بالقوة المنبثقة والتكيف معها والاضطلاع بوضع ثانوي أو تابع لها مع توقع أن تكون مصالحها الرئيسية محمية.
- أولًا: يمكن أن تحاول الدولة «أ» أن توازن القوة ضد الدولة «ب»، التي تتصور أنها منافس محتمل، وذلك بالتحالف مع الدولتين «ج» و«د»، وبتطوير قوتها العسكرية وغيرها (الأمر الذي قد يؤدي إلى سباق تسلح)، أو من خلال الجمع بين هذه الوسائل. في هذا الموقف تكون الدولتان «أ» و«ب» هما الموازن الرئيسي كلٌّ منهما بالنسبة للآخر.
- ثانيًا: الدولة «أ» قد لا ترى أي دولة أخرى عدوًّا ممكنًا، ولكن قد يكون لها مصلحة في تنمية توازن قوى بين الدولتين «ب» و«ج» اللتين إذا أصبحت إحداهما قوية أكثر من اللازم فقد تُصبح خطرًا على الدولة «أ». في هذا الموقف تقوم الدولة «أ» بدور الموازن الثانوي بالنسبة للدولتين «ب» و«ج» اللتين قد تكونان موازنَين رئيسيَّيْن كل منهما بالنسبة للآخر.
كيف سيكون تصرف الدول مع الصين إذا بدأت في الظهور كقوة مهيمنة في شرق آسيا؟ لا شك أن الاستجابات سوف تختلف بدرجة كبيرة. وحيث إن الصين قد حددت الولايات المتحدة كعدوٍ رئيسي، فإن الميل الأمريكي المألوف سيكون في التصرف كموازن رئيسي لمنع الهيمنة الصينية. الاضطلاع بهذا الدور سيكون بالإبقاء على الاهتمام الأمريكي التقليدي لمنع السيطرة على أوروبا أو آسيا بواسطة قوةٍ واحدة. هذا الهدف لم يعُد متعلقًا بأوروبا ولكنه قد يكون كذلك بالنسبة لآسيا. إن اتحادًا فيدراليًّا واسعًا في أوروبا الغربية، وثيق الارتباط بالولايات المتحدة ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا لن يهدد الأمن الأمريكي. بينما صين متحدة قوية وجازمة يمكن أن تكون تهديدًا. فهل من صالح أمريكا أن تدخل حربًا لمنع هيمنة الصين على شرق آسيا إذا استدعت الضرورة ذلك؟
إذا استمر النمو الاقتصادي الصيني فإن ذلك سيكون القضية الأمنية الوحيدة والأشد خطرًا، التي يواجهها صانعو السياسة الأمريكيون في أوائل القرن الحادي والعشرين. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن توقف الهيمنة الصينية في شرق آسيا فستكون في حاجة إلى إعادة توجيه التحالف الياباني نحو هذا الغرض، وتطوير علاقات عسكرية وثيقة مع الدول الآسيوية الأخرى وتعزيز وجودها العسكري في آسيا، والقوة العسكرية التي يمكن أن تتحملها في آسيا. أما إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة في الحرب ضد الهيمنة الصينية، فستكون في حاجة إلى أن تتخلى عن عالميتها وتتعلم أن تعيش مع هذه الهيمنة وأن توطن نفسها على تخفيضٍ كبير في قدرتها على تشكيل الأحداث على الجانب البعيد من الباسيفيكي. وكلا المسارين ينطوي على تكلفة ومخاطر كبيرة. الخطر الأكبر هو ألا تحسم الولايات المتحدة خيارًا واضحًا وتنزلق إلى حرب مع الصين دون أن تحسب جيدًا إذا ما كان ذلك في مصلحتها القومية، ودون أن تكون مستعدة لأن تشنَّ حربًا كتلك بكفاءة عالية.
نظريًّا، قد تحاول الولايات المتحدة أن تحتوي الصين بأن تلعب دور توازن ثانويًّا، إذا لعبت دولة أخرى دور الموازن الرئيسي. الاحتمال الوحيد الذي يمكن تصوره هو اليابان، وهذا قد يتطلب تغيرات جوهرية في سياسة اليابان: إعادة تسلح واسعة، امتلاك أسلحة نووية، منافسة نشطة مع الصين من أجل الحصول على دعم القوى الآسيوية الأخرى. وبينما قد تكون اليابان على استعدادٍ للمشاركة في ائتلاف بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة الصين — رغم أن ذلك أيضًا ليس مؤكدًا — فإنه من غير المرجح أن تصبح هي الموازن الرئيسي للصين، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم تُبدِ اهتمامًا كبيرًا أو قدرة على لعب دور توازن ثانوي.
- أولًا: الالتحاق من المرجَّح أن يحدث بين دول تنتمي لنفس الحضارة أو ذات عوامل ثقافية مشتركة، عنه بين دول لا يُوجَد بينها أي مشترك ثقافي.
- ثانيًا: مستويات الثقة من المرجح أن تختلف عن المضمون. طفل صغير سوف يلتحق بأخيه الأكبر عندما يواجهان أطفالًا آخرين، والاحتمال الأقل هو أن يثق بشقيقه الأكبر عندما يكونان بمفردهما في المنزل. ومن هنا فإن التداخُلات المتبادلة بين الدول التي تنتمي إلى حضارات مختلفة سوف تشجع على الالتحاق في داخل الحضارات بشكل أكبر.
- ثالثًا: الميول للالتحاق والتوازن قد تختلف بين الحضارات، لأن مستويات الثقة بين أفرادها مختلفة. شيوع التوازن في الشرق الأوسط مثلًا قد يعكس مستوى الثقة الضعيف الذي يضرب به المثل في الثقافات العربية والشرق أوسطية.
وبالطبع، لم يتحقق المثل الأعلى الكونفوشي للنظام العالمي في الواقع بالكامل أبدًا، ورغم ذلك فإن النموذج الآسيوي لتسلسل القوة في السياسة الدولية يتعارض بشدة مع النموذج الأوروبي لتوازن القوى. ونتيجة لصورة النظام العالمي هذه، فإن الميل الصيني نحو الالتحاق في السياسة المحلية، موجود أيضًا في العلاقات الدولية. ودرجة تشكيله للسياسات الخارجية تميل للاختلاف حسب درجة اشتراكها في الثقافة الكونفوشية وعلاقاتها التاريخية مع الصين.
كوريا بينها وبين الصين عوامل ثقافية مشتركة كثيرة، وتاريخيًّا كانت دائمًا تميل إلى الصين. بالنسبة لسنغافورة كانت الصين الشيوعية عدوًّا أثناء الحرب الباردة. ورغم ذلك بدأت سنغافورة في تحويل موقفها في الثمانينيات، وكان قادتها يدافعون بشدة عن حاجة الولايات المتحدة والدول الأخرى لأن تتوصَّل إلى تفاهُم مع واقع القوة الصينية. ماليزيا أيضًا كانت تميل إلى الاتجاه الصيني بحجمها السكاني الصيني الكبير وميول قادتها المعادية للغرب. تايلاند حافظت على استقلالها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بأن كيفت نفسها مع أوروبا والاستعمار الياباني وأبدت كل النوايا لكي تفعل الشيء نفسه مع الصين، وهو ميل يقوي منه التهديد الأمني المحتمل الذي تراه من ناحية فيتنام.
الولايات المتحدة يمكن أن تكون أكثر قدرة على احتواء الصين، ولكن في منتصف التسعينيات لم يكن واضحًا إلى أي مدى سوف تمضي في مواجهة التوكيد الصيني بخصوص بحر الصين الجنوبي.
- (١)
القدرة الأمريكية الشاملة في أن تُبقي على نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم وأن تواصل قيادتها النشطة في الشئون الدولية.
- (٢)
الالتزام الأمريكي بأن تحافظ على وجودها في آسيا وأن تقاوم بعنفٍ مساعي الصين لتوسيع نفوذها.
- (٣)
قدرة الولايات المتحدة واليابان على احتواء الصين دون تكلفةٍ عالية بالنسبة للموارد، ودون مخاطر عالية بالنسبة للحرب.
في غياب عرض رئيسي للحل والالتزام من قِبَل الولايات المتحدة، يُحتمل أن تستطيع اليابان التكيف مع الصين.
عندما يفكر اليابانيون ببلادهم في المجتمع الدولي، فإن النماذج الداخلية غالبًا ما تُقدم لهم التناظرات اللازمة. اليابانيون يميلون إلى رؤية نظام عالمي يُعبر خارجيًّا عن الأنماط الثقافية المرعية داخليًّا في المجتمع الياباني، والتي تتميَّز ببنيتها التنظيمية الرأسية. صورة النظام العالمي هذه متأثرة بتجربة اليابان الطويلة بالعلاقات الصينية اليابانية القديمة (نظام تابع).
وبضعف دور الولايات المتحدة في آسيا وسيادة دور الصين، فإن السياسة اليابانية سوف تتكيف طبقًا لذلك، والحقيقة أنها قد بدأت بالفعل. وكما يقول «كيشوري محبوباني» فإن السؤال الرئيسي في العلاقات الصينية-اليابانية هو: «من هو رقم واحد؟» والإجابة تتضح شيئًا فشيئًا.
من المتصور أن يفضل القادة والشعب في اليابان نمط العقود العديدة الماضية، وأن يظلوا تحت الدرع الواقية لولايات متحدة أمريكية قوية. ومع تراجع تورط الولايات المتحدة في آسيا، فإن العوامل التي تحث اليابان على «الأسينة» ستزداد قوة، وسوف يقبل اليابانيون بالسيادة الصينية على المشهد في شرق آسيا كأمرٍ حتمي. في سنة ١٩٩٤م مثلًا، عندما طرح سؤال: ما هي الدولة التي ستكون صاحبة أكبر نفوذ في آسيا في القرن الواحد والعشرين؟
وكما تنبأ أحد كبار المسئولين في اليابان في ١٩٩٥م، أنها سيكون لديها «الانضباط» لكي تتكيف مع صعود الصين، ثم تساءل عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تفعل ذلك. افتراضه الأول معقول، أما إجابة سؤاله الثاني فليست أكيدة. الهيمنة الصينية سوف تُقلل من عدم الاستقرار والصراع في شرق آسيا، كما ستُقلل من النفوذ الأمريكي والغربي هناك وتجبر الولايات المتحدة على قبول ما كانت تحاول أن تمنعه على مرِّ التاريخ: سيطرة قوة أخرى على منطقة مهمة من العالم. مدى تهديد هذه الهيمنة لمصالح الدول الآسيوية الأخرى أو الولايات المتحدة يتوقف في جزءٍ منه على أية حال، على ما يحدث في الصين.
النمو الاقتصادي يُوَلِّدُ قوة عسكرية ونفوذًا سياسيًّا، ولكنه يمكن أيضًا أن يحفز على تقدم سياسي وتحرك نحو شكلٍ من السياسة أكثر انفتاحًا وتعددية وربما ديمقراطية. هناك آراء تقول إن هذا التأثير قد حدث بالفعل في كوريا الشمالية وتايوان. وفي كلتا الدولتين، كان القادة السياسيون الأكثر نشاطًا في الدفع نحو الديمقراطية مسيحيين.
تراث الصين الكونفوشي، وتوكيدها على السلطة والنظام والتسلسل الهرمي وسيادة الجماعية على الفرد كل ذلك يشكل عقبات أمام التحول الديمقراطي. إلا أن النمو الاقتصادي يخلق في جنوب الصين وبدرجةٍ متزايدة معدلات عالية من الثروة وبرجوازية نشطة وتراكمات للقوة الاقتصادية خارج نطاق السيطرة الحكومية، وطبقة متوسطة تتَّسع بسرعة بالإضافة إلى أن الصينيين مُنهمكون بعُمق في التجارة والاستثمار والتعليم في العالم الخارجي، وكل ذلك يخلق أساسًا ثقافيًّا للتحرُّك نحو التعددية السياسية.
الشرط المسبق للانفتاح السياسي عادة، هو وصول عناصر الإصلاح في النظام السلطوي إلى السلطة. فهل يحدث ذلك في الصين؟ ربما ليس في الخلافة الأولى بعد «دنج»، ولكن من الممكن أن يكون في الثانية. القرن الجديد قد يشهد ظهور جماعات في جنوب الصين تحمل جداول أعمال سياسية ستكون في الواقع — وليس اسمًا — أحزابًا سياسية جنينية. من المرجح أن تكون لها ارتباطات وثيقة مع الصينيين في تايوان وهونج كونج وسنغافورة وتتلقى منهم دعمًا. لو ظهرت هذه الحركات في جنوب الصين، وإذا استولى فصيل إصلاحي على السلطة في «بكين»، يمكن أن يحدث شكل من التحول السياسي. التحول الديمقراطي يمكن أن يشجع النزعات القومية عند السياسيين ويزيد من احتمالات الحرب، رغم أن نظامًا تعدديًّا مستقرًّا في الصين من الممكن أن ييسر علاقاتها مع القوى الأخرى على المدى الطويل. وربما يكون ماضي أوروبا هو مستقبل آسيا، كما يقول «فرايد بيرج». والأكثر احتمالًا أن يكون ماضي آسيا هو مستقبلها. الخيار أمام آسيا هو بين قوة متوازنة على حساب الصراع، أو سلام مضمون على حساب الهيمنة. المجتمعات الغربية قد تختار الصراع والتوازن، التاريخ والثقافة وحقائق القوة توحي بأن آسيا سوف تختار السلام والهيمنة. الحقبة التي بدأت بالاقتحامات الغربية في الأربعينيات والخمسينيات انتهت، الصين تستأنف مكانها كمُهيمن إقليمي، والشرق يعود إلى نفسه.
(٦) الحضارات ودول المركز: الانحيازات الناشئة
يقول «جراهام فوللر»: «إن تحالفًا كونفوشيًّا إسلاميًّا غير رسمي قد يتحقق، لا لأن «محمد» و«كونفوشيوس» معاديان للغرب، وإنما لأن هذه الثقافات تقدم أداة للتعبير عن الظلم الذي يُعتبر الغرب مسئولًا عنه — إلى حد ما — الغرب الذي يُعْمِل سيطرته السياسية والعسكرية والاقتصادية بشكل متزايد، في عالم تشعر فيه الدول بأنها «لم تعد تقبل ذلك». أشد الدعوات حماسًا لمثل هذا التعاون صدرت عن «معمر القذافي» الذي أعلن في مارس ١٩٩٤م:
إلا أن الحماس لتحالف وثيق بين الدول الكونفوشية والإسلامية، ومعادٍ للغرب، قد خمد على الجانب الصيني بإعلان الرئيس «جيانج زيمن» في ١٩٩٥م أن الصين لن تُقيم أي تحالفاتٍ مع أي دولة أخرى.
علاقات الغرب بأفريقيا لا بد أن تتضمن مستويات من الصراع أعلى قليلًا وذلك لأن أفريقيا أساسًا ضعيفة جدًّا، ولكن هناك وجودًا لبعض القضايا. جنوب أفريقيا لم تفعل كما فعلت البرازيل والأرجنتين، لم تتخلَّ عن برنامجها لتطوير الأسلحة النووية، قامت بتدمير أسلحتها النووية التي قد نفذتها بالفعل. كانت تلك الأسلحة قد تم إنتاجها بواسطة حكومة بيضاء لردع أي محاولة خارجية للهجوم على النظام العنصري، ولم ترغب تلك الحكومة في توريث الأسلحة لحكومة سوداء قد تستخدمها لأسبابٍ أخرى. إمكانية إنتاج أسلحة نووية لا يمكن أن تُدمر، ومن الممكن أن تقوم حكومة ما بعد عنصرية ببناء ترسانة نووية جديدة لتؤكد دورها كدولة مركز لأفريقيا، وردع تدخل الغرب في القارة. حقوق الإنسان والهجرة والقضايا الاقتصادية والإرهاب … كلها قضايا على جدول الأعمال بين أفريقيا والغرب. ورغم مساعي فرنسا للحفاظ على علاقات وثيقة مع مستعمراتها السابقة إلا أن عملية واسعة تجري للتخلص من التغريب في أفريقيا، كما أن اهتمامات ونفوذ القوى الغربية في انحسار، الثقافة المحلية تؤكد نفسها، وبمرور الوقت تضع جنوب أفريقيا العناصر الثقافية الإفريقية مكان العناصر الإنجليزية المتأفرقة. وبينما تُصبح أمريكا اللاتينية أكثر تغربًا، تصبح أفريقيا أقل. كلاهما يظل مع ذلك معتمدًا على الغرب على أنحاء مختلفة، وغير قادر على التأثير بحسم في التوازن بين الغرب ومتحدِّيه رغم أصوات الأمم المتحدة. وواضح أن تلك ليست الحال بالنسبة لحضارات المحور الثلاث.
- (١)
قبول روسيا لتوسع الاتحاد الأوروبي واﻟ «ناتو» لكي يضمَّا الدول المسيحية في وسط وشرق أوروبا والالتزام الأوروبي بعدم توسيع اﻟ «ناتو» أكثر من ذلك، إلا إذا انقسمت أوكرانيا إلى دولتَين.
- (٢)
معاهدة شراكة بين روسيا واﻟ «ناتو» تضمن عدم الاعتداء والتشاور المستمر حول القضايا الأمنية، وجهود تعاونية لتجنب المناقشة في التسلح وتفاوض للوصول إلى اتفاق حول التحكم في التسلح بما يتناسب مع احتياجاتهما الأمنية بعد الحرب الباردة.
- (٣)
اعتراف أوروبي ﺑ «روسيا» كمسئول رئيسي عن الحفاظ على الأمن بين الدول الأرثوذوكسية، وفي المناطق التي تسود فيها الأرثوذوكسية.
- (٤) اعتراف من الغرب بالمشكلات الأمنية الفعلية والمحتملة التي تواجهها روسيا من الشعوب الإسلامية جنوبها والاستعداد لمراجعة معاهدة CFE وأن يكون لديها الاستعداد لاتخاذ خطوات أخرى قد تكون روسيا في حاجة إليها لكي تتعامل مع تلك الأخطار.
- (٥)
اتفاق بين روسيا والغرب على التعاون كأطراف متساوية في تناول قضايا مثل البوسنة تتضمن مصالح غربية وأرثوذوكسية.
لو ظهر ترتيبٌ ما على امتداد هذه الخطوط أو ما يشبهها، فلن تمثل روسيا ولا الغرب أي تحدٍّ أمني طويل المدى بالنسبة للآخر. أوروبا وروسيا مجتمعات ناضجة ديموغرافيًّا وذات معدلات مواليد منخفضة وسكان طويلة العمر. مجتمعات كتلك ليس لها حمية الشباب لتكون ذات توجهات توسعية وعدوانية.
- أولًا: مدى استقرار العلاقات الروسية مع الغرب على أسس مُرْضِية للطرفين.
- ثانيًا: مدى تهديد صعود الصين في الهيمنة على شرق آسيا اقتصاديًّا وديموغرافيًّا وعسكريًّا.
الحيوية الاقتصادية الصينية تدفقت في سيبيريا، ورجال الأعمال الصينيون مع الكوريين واليابانيين راحوا يستكشفون ويستغلون الفرص هناك. الروس في سيبيريا يرون — وبدرجة متزايدة — مستقبلهم الاقتصادي متصلًا بشرق آسيا أكثر منه بروسيا الأوروبية.
التوسع الصيني قد يُصبح عسكريًّا أيضًا إذا قررت الصين أن تُعيد المطالبة بمنغوليا التي انتزعها الروس منها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت تابعًا سوفيتيًّا على مدى عدة عقود.
وعند مرحلة ما، فإن «قبائل الصفر» الذين كانوا يؤرقون الخيال الروسي منذ غزوات المغول قد تصبح حقيقة مرة أخرى.
علاقات روسيا بالإسلام يغلب عليها التراث التاريخي لقرونٍ من التوسع عن طريق الحرب ضد الأتراك وشعوب شمال القوقاز وإمارات آسيا الوسطى. روسيا تتعاون الآن مع حلفائها الأرثوذوكس: الصرب واليونان، لكي تواجِهَ النفوذ التركي في البلقان، ومع حليفها الأرثوذوكسي أرمينيا لتقييد ذلك النفوذ فيما وراء القوقاز. وقد حاولت بكل جدٍّ أن تحافظ على نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في جمهوريات آسيا الوسطى، فأدخلتهم في كومنولث الدول المستقلة كما نشرت قواتها فيها جميعًا. أبرز اهتمامات روسيا هي النفط واحتياطيات الغاز في بحر قزوين والمسارات التي سوف تسلكها هذه الموارد لكي تصل إلى الغرب وإلى شرق آسيا.
كذلك تخوض روسيا حربًا في شمال القوقاز ضد شعب شيشينيا المسلم، وحربًا ثانية في طاجيكستان داعمة للحكومة ضد صحوة تتضمَّن أصوليين إسلاميين. هذه المخاوف الأمنية تقدم حافزًا إضافيًّا للتعاون مع الصين من أجل احتواء «الخطر الإسلامي» في آسيا الوسطى، وهي أيضًا دافع رئيسي للتقارب الروسي مع إيران. روسيا باعت لإيران غواصات وطائرات مقاتلة متقدمة وقاذفات وصواريخ أرض جو ومعدات إلكترونية للاستطلاع العسكري. إلى جانب ذلك وافقت روسيا على بناء مفاعل «ماء خفيف» نووي في إيران وعلى أن تزودها بمعدات تخصيب اليورانيوم. وفي المقابل فإن روسيا — بوضوح — تتوقع من إيران أن تكبح انتشار الأصولية في آسيا الوسطى، وضمنًا أن تتعاون في مواجهة انتشار النفوذ التركي هناك وفي القوقاز. وبالنسبة للعقود القادمة فإن علاقات روسيا بالإسلام سوف تتحدَّد بشكل قاطع اعتمادًا على تصوراتها للأخطار التي يمثلها النمو السكاني الإسلامي الكبير على امتداد محيطها الجنوبي.
أثناء الحرب الباردة كانت الهند دولة المركز «المحورية» الثالثة، حليفًا للاتحاد السوفيتي، وخاضت حربًا مع الصين وحروبًا عديدة مع باكستان وعلاقاتها بالغرب وبخاصة الولايات المتحدة لم تكن ودية إن لم تكن معادية.
في عالم ما بعد الحرب الباردة من المرجح أن تظل علاقات الهند مع الباكستان متصارعة حول كشمير والأسلحة النووية والتوازن العسكري في شبه القارة بشكل عام.
في منتصف الثمانينيات كانت الهند تحصل من روسيا تقريبًا على جميع أنواع الأسلحة، بما في ذلك ناقلة طائرات وتكنولوجيا الصاروخ «كرايوجينيك» (المناسب للأجواء الباردة) التي أدت إلى فرض عقوبات من الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى نشر الأسلحة هناك قضايا أخرى بين الهند والولايات المتحدة تتضمَّن حقوق الإنسان وكشمير وتحرير الاقتصاد. وبمرور الوقت فإن برود العلاقات الأمريكية الباكستانية، والمصلحة المشتركة في احتواء الصين، من المرجح أن تقرب بين الولايات المتحدة والهند. توسع القوة الهندية في جنوب آسيا لن يضير الولايات المتحدة بل قد يخدمها.
العلاقات بين الحضارات ودول المركز فيها علاقات معقدة، وغالبًا غامضة ومتغيرة. معظم الدول في نفس الحضارة سوف تتبع قيادة دولة المركز في تحديد علاقتها بدول من حضارات أخرى.
ولكن ذلك لن يكون الحال دائمًا، وواضح أن جميع الدول في حضارة واحدة ليس لها علاقات متطابقة مع جميع الدول في حضارة أخرى. المصالح المشتركة، وعدو مشترك في حضارة ثالثة يمكن عادة أن تؤدي إلى تعاون بين دول من حضارتَين مختلفتَين.