مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليه نتكل وبه نستعين وهو خير معين، وبعد:
فلستُ أُنكر أنني كنت إلى ما قبل زيارة حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود ولي عهد نجد والحجاز لمصر في صيف العام الماضي، أجهل كل شيء عن أحوال البلاد العربية التي ندين وإياها بدين الإسلام الحنيف، اللهم إلا القدر الذي يعرفه سواد المتعلمين من أبناء مصر وغير أبنائها من الناحيتين التاريخية والجغرافية، وحسبي أنه لم يكتب واحد من رحَّالة العرب والإفرنج في الطور الحاضر شيئًا يُعْتَدُّ به عنها، بعد ذلك التطور السياسي الذي غيَّر من كل شيء على وجه الأرض، بعد الحرب العالمية الكبرى، وبخاصة عَقِبَ إدماج القطرين العربيين — نجد والحجاز — في حكم واحد وتحت سلطان ملك واحد، هو حضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز آل سعود. وإذا قلت هذا في شأن نجد والحجاز وحدهما دون الجزء المتمِّم لشبه الجزيرة العربية، وأعني به اليمن، فإنما قد قُيِّضَ لأهل الاطلاع وعشاق التعرف بأحوال الأمم من قام بارتياد هذا القطر من أبناء مصر في السنوات الأخيرة، ونشر ما كان مجهولًا عنه.
فقد قام حضرة صاحب السعادة العالِم المحقِّق أحمد زكي باشا برحلة في العام الماضي، فَقَصَّ علينا ما شهده من أحوال اليمن على صفحات الأهرام الغرَّاء، ممَّا لم يتعرض له أحد قبله من حيث الإفاضة في سائر نواحي تلك البلاد الاجتماعية والسياسية، ولعل النهضة العربية التي شملت كل شبه جزيرة العرب واشتراك مصر، بل قيامها بقسط غير قليل بجمع كلمة المسلمين، سواء أكان باهتمامها الدائم بشئون الأراضي المقدسة والخلافة الإسلامية، أم بنشر معالم الثقافة العربية وإعلاء شأنها، هو الذي حرك هِمَمَ المفكرين والباحثين لاستجلاء حقائق الحال في تلك البلاد والعمل على تقريب قلوب الشعوب الإسلامية نحو جاراتها، وتوطيد علائق الوُدِّ والصفاء بينها، وإن أَنْسَ لا أنسى ما أبداه سمو الأمير سعود أثناء زيارته مصر من هذه الرغبة السامية، ودعوته المفكِّرين لزيارة بلاده واستطلاع شئونها، ونشر الحقائق المجرَّدة عنها للناطقين بالضاد ممَّن لا يزالون يجهلون عنها كل شيء.
من أجل ذلك، ولأني منذ نعومة أظفاري أشعر بميل خاصٍّ إلى احتذاء أثر المستطلِعين لأحوال الأمم والبلدان، وكنت — ولا أزال — ممن يؤمنون بالتطور في كل شيء، حتى إني كنت أرقبُ عن كَثَبٍ خلال زيارة الأمير النجدي وحاشيته الكثيرة العدد مصرَ، ما تحدثه هذه الزيارة لمصر المتمدينة العظيمة التحضر في نفوسهم، من الأثر والتطور النسبي في حركاتهم وسكناتهم، ومقدار قابليتهم واستعدادهم للأخذ بأسباب الحضارة، فكنت ألمس أشياء كثيرة مما كنت أُؤمِنُ به من هذه الناحية الحساسة، سواء أكان في اجتماعاتهم بزائريهم من المصريين والأجانب، أو معاملاتهم الخاصة، وفي خلال مشاهداتهم لعظمة الحضارة المصرية وأسباب العمران الاجتماعي، وما اقتناه سمو أميرهم من نفائس المصنوعات وبدائع الأشياء، وتقديره لكل ما كان يقع تحت ناظريه ممَّا كان يُعَدُّ في نظره جديدًا غريبًا، فإذا أضفت إلى ما تقدم ما كان ينقله إلى سمعي الرُّوَاةُ عن فِعَالِ جلالة الملك عبد العزيز سواء في تدبير شئون بلاده من الوجهتين: الاجتماعية والسياسية، والأحاديث التي كانت تنشرها الصحف لجلالته مما يدل على سعة اطلاعه، وَحِدَّةِ ذهنه وبُعد نظره في جلائل الشئون، واتفاق قلوب رعاياه على حبه وإجلاله مع بقاء أكثرهم على بداوتهم، وشدة تمسُّكهم بالعمليات دون النظريات.
كان كُلُّ ما تقدم من الأسباب المباشرة التي دفعتني للقيام بهذه الرحلة الشاقة الطويلة، وحسبي أنني قصدتها لوجه العلم والاطِّلاع؛ فقد سلكت طريقًا لم يطرقها سواي حتى الآن من الأجانب عن تلك البلاد فتمَّ لي ما أَرَدْتُهُ من حيث الاستطلاع الصحيح وإصابة الهدف المقصود، وإني لَمَدِينٌ بشيء كثير من الفضل في نجاح هذه الرحلة إلى تلك الخِلال العربية الكريمة التي أبداها لي زعماء قبائل نجد عن طيبة خاطر، وإلى استتباب الأمن في تلك الربوع، وأخيرًا، بل وأولًا وآخرًا، إلى رعاية حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز التي شملتني قبل أن يعلم بأمر رحلتي، حتى بلغت «الرياض» أثر عودة جلالته إليها من الحجاز.
هذا وإذا كان حقًّا عليَّ بعد ذلك أن أخص أحدًا في مصر بالشكر والمنَّة، فإني أخص جريدة السياسة الغرَّاء التي تفضلتْ بنشر سلسلة مقالاتي عن هذه الرحلة، ومكتبة المنار التي تكرَّمَت بطبعها ونشرها على جمهور القراء، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا لتأييد الحق على الدوام.