في قريات الملح
وما كدتُ أصل إلى «قرياتِ الملح»، وهي أول بلد يدخل في منطقة نفوذ ابن السعود، وَأُبدي رغبتي لبعض زعماء القبائل لزيارة عاصمة نجد، حتى أُسرِع إلى إعداد قافلة مؤلَّفة من خمسة جمال امتطيتُ أحدها، وكان ركاب الأربعة الأخرى بمثابة خدم خاص، وتصادف أن كانت هناك قافلة كبرى قوامها خمسون جملًا ركابُها يحملون شتى أنواع السلع والبضائع، آتون بها من أسواق الشام يريدون تصريفها في قلب نجد، وعلمتُ أن هذه الرحلة تستغرق من «قريات الملح» إلى «الجوف» تسعة أيام، ومن «الجوف» إلى «حائل» عشرة أيام، ومن هذه إلى «بريده» ثمانية أيام، ومن هذه الأخيرة إلى «الرياض» عاصمة نجد ثمانية أيام أخرى؛ فتكون مجموع أيام هذه الرحلة في أرض نجد فقط خمسة وثلاثين يومًا، وهي مدة إذا أُضيف إليها ما يقضيه المسافر للراحة في الطريق بما لا يقل عن خمسة وعشرين يومًا فتكون جملتها شهرين كاملين، يضاف إليها مدة سبعة عشر يومًا من «الرياض» إلى «مكة المكرمة» عدا ما قضيناه هناك لزيارة الحرم الشريف وغيره، فيمكن للقارئ قبل المسافر أن يتصور مشقتها على نفسه، لا سيما إذا كان حضريًّا لم يسبق له في حياته أن أَقْدَمَ على مثل تلك الرحلة الشاقة.
وكنتُ قد استعددت لها، فابتعتُ ثيابًا بدوية، وساعد طول زمن هذا السفر «لحيتي» فطالت، فكان طولها أمرًا محتومًا على كل مسلِم يدخل أرض نجد، على أن رأسي لم تُعْدَم موسًى من هاتيك المواسي النجدية التي كانت عجائزنا في سالف الزمان يحلقن بها «الملوخية»، فكنت أحتمل لحيتي المُرْسَلَةِ وثقلها وغضاضة تلك الموسى مغتبطًا رجاء وصولي إلى قلب الصحراء، ولولا بقيةُ صَبْرٍ في نفسي ما استطعت أن أحتمل انعدام وسائل النظافة، ووقاية الجسم من أذى الحشرات اللاذعة، فالصابون لا يجده الإنسان في تلك البلاد إلا بصعوبة زائدة وبسعر مرتفع جدًّا، وقلما يخلع أحدهم ثيابه إلا وهي أَطْمَارٌ بالية، وَأَسْمَالٌ لم تَمَسَّها الماء، وأكثر سكان البادية لا يغسلون أيديهم حتى بعد تناول طعامهم؛ «فصابون العرب لِحَاهُم» كما يقولون هناك.
وقريات «الملح» التي بدأنا السير منها على ظهور الإبل قريةٌ صغيرةٌ تقع على الحدود الفاصلة بين نجد وإمارة شرق الأردن، وعلى مسيرة يوم ونصف يوم من حدود سوريا من ناحية جبل الدروز، يحكمها أمير نجدي طِبقًا لأحكام الشرع الإسلامي، وعدد سكانها لا يزيدون عن ستمائة نسمة، ويعيشون من زراعة القمح، وتمر النخل، وتربية الإبل والماشية، واستخراج الملح الذي يجففونه في أحواض، ويبيعونه للرحالة في قلب البادية، والضرائب هناك يسمونها الزكاة، فهي تُحَصَّلُ تارةً نقدًا بحساب سبعة مجيديات على كل ستة إبل، وعن كل عشر ناقات مائة وأحد عشر قرشًا مصريًّا، ورأسان من الغنم من كل مائة رأس، والسرقة والفاحشة معدومتان قطعًا في تلك البلاد، ويلقبون الحاكم بالأمير، وقد استقبلني أمير قريات الملح على «مصطبة» كان يجلس عليها بجانبه سيفه، وحوله عدد من أخصائه، وبعد أن قُدِّمَتْ لنا القهوة النجدية طلب إليَّ أن أظل في ضيافته أيامًا، ولكني اعتذرت لرغبتي بمواصلة السفر، وبعد أن قضيتُ يومًا دعاني لزيارة قبيلة «بني صخر» في معيته، وهي قبيلة تضرب في خيام من الشعر على مسافة خمسة عشر كيلومترًا من قريات الملح معروفة بشدة البأس وبكثرة الغزوات، وسنأتي على ما يستحق البيان عن هذه القبيلة فيما يلي.
وقبل أن نبرح قريات الملح شاهدنا آثار قصر يسمونه «قصر الصعيدي» لا نسبةً إلى صعيد مصر، ولكن لأنه شُيِّدَ على هضبةٍ رملية ذات صخور سوداء كبيرة يحيط به سور منها، فإذا بلغ رأس هذه الهضبة انكشف أمامه باب من الخشب يؤدي إلى داخله، فيرى آثار مقصورات متعددة. وقد اختلف الرواة في تاريخ تشييد هذا القصر؛ فمن قائل إن قبيلة بني صخر التي يعدُّونها مصرية الأصل، وبني عمومتهم من الدروز قام منها أخوان وسَكَنَا هذه الجهات فَبَنَيَا هذا القصر، ولكنهما اختلفا بعد ذلك فنزح أحدهما إلى جبل الدروز فأصبح منهم درزيًّا، وبقي الآخر في هذا القصر إلى أن مات، فاستولى عليه أمراء هذه البلاد، وسكنوه مدة طويلة إلى أن عفت آثاره، فتهدَّمت أركانه، وأصبحت أطلالًا دارسةً، ولم يَبْقَ منها إلا الاسم.
و«الجوف» على مسيرة تسعة أيام على ظهور الإبل، وممَّا يستحق الذكر أن هذه الطريق على طولها، لم يصادفنا فيها سوى ثلاث آبار أخذنا منها حاجتنا من الماء، وكان عجبي عظيمًا لتلك الإبل التي لم تُطْفِئ ظمأها خلال هذه التسعة الأيام إلا مرة واحدة، على أن رجال القافلة أبلغوني أنها تستطيع أن تظل بلا ماء في فصل الشتاء أكثر من خمسة عشر يومًا. ومن ألطف ما لاحظته في رفاقي، أنهم أثناء أداء الصلاة كانوا يراعون واجب المجاملة باعتباري مصريًّا، فيبتهلون إلى الله بالدعاء لمصر وأهلها وجلالة مليكها المعظم، فكانت هذه المجاملة في ذاتها تُسَرِّي عني وَعْثاء السفر، وتقرب القوم إلى قلبي كثيرًا، وتشعرني بعظمة الرابطة الإسلامية التي يدين بها شعوب الإسلام.
ومع أن أولئك البدو لا يزالون على سذاجتهم، فهم يُدلون بأقوالهم وأفعالهم على فطنةٍ وانتباه إلى ما يصدر منهم، فلا يتخذون من الشئون السياسية والمباحث الخاصة برجال دولتهم مثارًا للبحث أو التسلية كما يفعل غيرهم من أبناء الأمم الشرقية الأخرى، فهم يقتصرون على ترديد هذه العبارة: «المُلك لله ثم لعبد العزيز بن السعود.» وتراهم يقصرون أحاديثهم في طوال أسفارهم على رواية قصص مشاهير العرب من بطولة وكرم وتمسك بأصول الدين والفضائل، ومع أن الشعر نبت في أرض العرب، فإن أهل بادية نجد الوسطى تعدُّه حرامًا؛ لأنه تغلِب فيه الحماسة دون ذكر الله، أو الغزل، وهذا ما يعدُّه العرب نقيصة خلقية تَعَافُهَا نفوسهم، وأبلغ مثال على تطور أخلاق العرب أننا مررنا ببقعة تدعى «عظوظه» تقع على سفح تل رملي في وسط الصحراء ذات تربة طينية لزجة لا يستطيع الإنسان السير عليها، ولا يمكن أن تقربها أقدام الإبل، ويقول العرب إنها كانت مكان «مدينة لوط» التي غضب الله على أهلها كما جاء ذلك في الفرقان، ويقولون إن بطن هذه البقعة تحوي كنوزًا من الذهب وغيره من النفائس، ومع ذلك فلم تُحَدِّث نفس أفقر أعرابي في الوصول إليها، أو التطلع إلى ما يحويه جوفها من كنوزٍ؛ باعتبار أن أرضها نجسة، وقد غضب الله عليها وعلى كل من كان يعيش فوق أَدِيمِهَا في غابر الزمان! وهي نفسية تدل على تديُّن شديد، واستمساك متين بأوامر الله ونواهيه.