في الجوف
وفي اليوم الثامن وصلنا إلى مكان يسمونه «الفرجية» يحيط به عدة جبال كساها البرد، وأحاطت بها الحشائش الخضراء؛ فبانت للناظرين كأبدع ما تراه العيون في سويسرا ذات المناظر الطبيعية البهيجة، أضف إليها جمال الصحراء، وسكونها الرهيب، وجلالها الخاطف للألباب! وهكذا مَرَّ بنا ضحى اليوم التاسع مرَّ النسيم العليل، فأنستنا هاتيك المناظر ما سبقتها خلال الثمانية الأيام من طرق موحشة، وصحراء جرداء، ووصلنا إلى بلدة «الجوف» فما علم رجال أميرها عبد الله محمد بن عقيل بقدومنا حتى خَفُّوا إلى لقائنا، وكان الأمير ذاته على أبواب المدينة في انتظارنا ليحيينا، ويدعونا لضيافته باسم جلالة الملك ابن السعود، وهكذا لَبَّيْنَا الدعوة شاكرين.
و«الجوف» بلدة صغيرة تقع في وادٍ منخفض، تحوطُها الجبال من جميع جهاتها، ولَعَلَّ ذلك أصل تسميتها بالجوف؛ أي إنها واقعة في جوف الجبال والصحراء، ويكثُرُ فيها النخيل الذي يُؤتي ثمرًا ممتازًا على سواه بلَذَّةِ طعمه، وسرعة هضمه، ويزرع أهلها كذلك القمح والشعير، وبعض الخضر، وأشجار الفاكهة؛ كالليمون والبطيخ والخوخ والعنب والمشمش، ويشتغلون بالتجارة وبعض الصناعات؛ كدبغ الجلد، ونسيج الصوف الذي تُصنع منه العباءات المعروفة باسم «عبي الجوف»، وقد جاء ببعضها إلى هنا سمو الأمير سعود أثناء زيارته مصر. وتروج هناك تجارة الإبل والماشية، ويكثر في صحاريها طير النعام الذي يتخذه الخاصة والأمراء طعامًا لهم، وكذلك تكثر الغزلان والحمار الوحشي ذو الخطوط الذي نشاهده في مصر بحديقة الحيوانات بالجيزة.
السرقة والزنا معدومان
وقد قدَّم لي أمير «الجوف» من لحم الغزال والنعام طعامًا على مائدته فلم أَزْدَرِدْهُ بشهية؛ لعدم اعتيادي تناوله، ولكنهم يعدونه أفخر اللحوم وأجلها شأنًا في إكرام خاصة ضيوفهم، ولا يفوتُني أن أذكر أن الأمير عبد الله بن عقيل لم يكن بدويًّا قُحًّا كأكثر أمراء الجزيرة، ولكنه على جانب من العلم والاطِّلَاعِ غير قليل، وبلاده تُحْكَمُ طبقًا لأحكام الشرع، على أن مما يوجِب العجب أن جريمتي السرقة والزنا تكادان أن تكونا معدومتين قطعيًّا في تلك البلاد، وأذكر أن أحدَهُم حضر إلى مجلس الإمارة أمامنا، وأبلغ أن كيسًا من البن ضاع منه على مسيرة أربعة أيام من «الجوف» وهو قادم من جهة «حائل» ومضى إلى حال سبيله، وحدث بعد يومين أن حضر رجل كان قد سلك هذه الطريق فسأله الأمير عمَّا إذا كان قد وجد شيئًا في الطريق أثناء سفره، فقال إنه وجد كيسًا من البن، فسأله الأمير: ومن أين عرفت أن به بنًّا؟ فأجابه بأنه جَسَّهُ من الظاهر بعصاه ثم تركه مكانه، فما كان من الأمير إلا أن أمر بضربه خمسين عصا، وهنا رأيت أن أسأل الأمير عن سبب إنزال هذا العقاب بالرجل وهو لم يسرق، فأجابني قائلًا: كان يجب عليه أن يرى الكيس ولا يلمسه حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وقصَّ عليَّ الأمير على سبيل التدليل على أمانة أهل نجد وبُعدهم عن اقتراف السرقة مهما بلغ شأنها أن يرى أحدهم الذهب في الطريق، فلا تمسه يده مهما كان فقيرًا مُعْدِمًا.
وقصر الإمارة هناك يتصل ببناء قديم العهد بناه الإسرائيليون في أيام عِزِّهِمْ وصَوْلَتِهِمْ، ويطلق عليه اسم «قصر مارد» مشيد بالأحجار، وله برج كبير أشبه بقلعة حربية، ويقولون إنه بُنِيَ قبل ميلاد النبي — عليه الصلاة والسلام — بأربعمائة عام.
ويمتاز أهل «الجوف» على شدة فقرهم بحسن وفادة الغريب وإكرام الضيف، وسوادهم من أصحاء الأبدان لا يشكون مرضًا، ولا يذكرون علَّةً على شفاههم، والسر في ذلك هو جودة مناخ الجوف وطيب مائها وخصوبة أرضها. وعلى ذكر الزراعة فهم يستخرجون الماء للزراعة بواسطة دِلَاء من الجلد مشدودة بحبال قد ربطت أطرافُها بأعناق الإبل، فإذا مُلِئت الدلاء بالماء وشعرت الإبل بامتلائها، نزلت إلى منحدر بجانب البئر، وعندئذٍ تكون الدلاء قد ارتفعت إلى علوٍّ وأفرغت ما بها من الماء في حوض ذي فتحات متصلة بالأرض المراد ريُّها، ويسمون طريقة الري هذه «التني».
فشل محاولات استعمارية
وقبل أن نغادر «الجوف» قصَّ عليَّ الأمير أن جماعة من السواح الأمريكان والإنجليز طالما حاولوا ارتياد ما بعد الجوف بحجة الاستطلاعات العلمية والجغرافية، فلم يأذن لهم الملك ابن السعود مخافة أن يكون لهم شأن آخر كهاتيك الشئون الاستعمارية التي بدأها أمثال هؤلاء في غير بلاد العرب بمثل تلك الأسباب ثم كانت النتيجة بلاءً على أهلها. مثال ذلك: أن رجلًا إنجليزيًّا يدعى مستر «إبشر» ذهب إلى «الجوف» على رأس قافلة من السيارات كلَّفته أموالًا طائلة بحجة إقامة مصنع للفَخَّارِ من طينة معروفة بصلاحيتها لهذا النوع؛ فلم يأذن له الملك، وهكذا أصبح معروفًا في بلاد الغرب أن نجدًا لن تصلح أرضها لوطء أقدام السياح والعلماء والخبراء والمهندسين الأوروبيين، حتى إن أحدهم أكَّد أن في وسعه أن يفتح آبارًا للبترول «بالرياض» عاصمة نجد فرفض طلبه مع شدة حاجة أهلها إلى البترول وغلاء ثمنه، في حين أن ابن السعود لَيَتَمَنَّى أن تصل إلى بلاده بعثات علمية من كل مطلب ومشرب على أن تكون شرقية إسلامية بريئة لا مطمع لها ولا مأرب، فهو يحب العلم، ويقدِّره ويرجو لبلاده العمران والرفاه، ولكنه يرفض كل ذلك بشدة لو جاءه من طريق مريب.
و«حائل» تبعد عن الجوف نحو عشرة أيام على ظهور الإبل، وقد بدأنا السير في هذه الطريق فإذا بها طريق موحشة بَلْقع، فكنا نسير صاعدين فوق تلال ضيقة رملية تشرف على حزُونٍ بعيدة الغور، ثم نهبط منها منحدرين إلى مغاور ومجاهل يَشْرُدُ عندها اللُّب وينخلع لها القلب؛ ذلك لأنه إذا اختل توازن الراكب على الإبل قليلًا أو عَثَرَتْ أقدام الإبل كان الهلاك محققًا؛ إذ يسقط في هُوةٍ لا نجاة منها، وكانت عيون الماء خلال الستة الأيام الأولى معدومة، ولولا ما نحمله من الماء على ظهور الإبل، وما كانت تُملأ به أجوافها منه؛ لهلكنا نحن وهي ظمأً، على أننا مع ذلك لم نستطع قَطُّ أن نسرف في الماء، فلم نغتسل بقليل ولا بكثير منه، وما كاد فجر اليوم السابع يَنْبَلِجُ حتى وصلنا بلدة تدعى «جبه» ذات مبانٍ من طين أبيض يلفت الأنظار، فأخذنا حاجتنا منها بعد أن استرحنا قليلًا، وما كان أكبر دهشتي حين أقبل علينا نفر من أهل تلك البلدة يحتفون بنا ويسألون عني بالاسم! وقد علمت أن بعض رجال القافلة التي سبقتنا أنبأهم بوصول مصري متحضر ينوي زيارة أمير الرياض، فكأنهم بذلك عَبَّروا عن سليقة الكرم العربي جملةً، ونابوا عن أميرهم خاصةً.
وفي اليوم التاسع وصلنا إلى قرية تُدْعَى «قنا»، وينطقون الحرف الأول منها بالجيم كما ينطقها أهل مديرية قنا المصرية، وهذه القرية صغيرة جدًّا لا أثر فيها للأخذ والعطاء، حتى إننا أردنا شراء شاةٍ لطعامنا فلم نجدها، على أن ذلك لم يسؤنا كثيرًا، فقد وصلنا إلى حائل بعد ظهر اليوم التالي مارِّين في طريقنا بثلاث قرى؛ أكبرها «أم جلبان» ولا تزيد مبانيها على أربعة بيوت، يحيط بكل بيت بعض النخيل.
ولما صرنا على قيد أميال من حائل كان نائب الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي، وهو ابن عم جلالة الملك ابن السعود، في استقبالنا، وقد رحَّب بنا باسم أميره وسار بنا حتى دخلنا «حائل».