في حائل
«حائل» هذه اسم على مسمى؛ فهي حائلٌ بين بلاد نجد وبين ملحقاتها الشمالية، وتعد بالنسبة إلى غيرها من البلاد التي مررنا بها مدينة عامرة ذات شوارع فسيحة منظَّمة، وفيها سوق كبيرة تروج فيها تجارة الماشية والإبل، وهي أقرب بلدان نجد إلى الحجاز، فهي تبعد عن المدينة المنورة بنحو ثمانية أيام فقط، وإلى الشام بنحو خمسة عشر يومًا، وإلى العراق بما يقرب من ذلك على ظهور الإبل، وهي محطة رحال التجار القادمين من هاتيك الديار والمسافرين إليها، وتروج فيها تجارة الأرز الذي يُجْلَبُ من الهند إليها، وهو بمثابة مادة أولية للغذاء نظير الحِنْطَةِ في مصر، وتزرع في جوارها مساحات كبيرة من الخضر والفاكهة، ومع كثرة وجود النخيل فإن ثمره رديء غير مرغوب فيه إلا عند الطبقة الفقيرة جدًّا. وقد شاهدنا بعض النسوة يبعن الخبز والفاكهة والخضر والدجاج والبيض في سوقها، وهن محجبات بجلابيب سوداء وفوقها جلباب بشكل العباءة، وهم في غاية الحشمة والوقار، لا نسمع لهن صوتًا ولا يتحدثن مع السابلة إلا بالقدر اللازم لبيع ما بأيديهن من السلع.
أما القصَّابون هناك فينحرون الماشية ويقسمونها إلى أربعة أجزاء يسمونها «أوصالًا» فيباع الجزء منها بمبلغ يترواح بين العشرة والثلاثة عشر قرشًا، أما أثمان الدجاج فرخيصة جدًّا؛ إذ تباع الدجاجة الكبيرة بثلاثة قروش فقط.
وأهل هذه المدينة يتعاملون بعملة فرنسية يسمونها «الشوشي» ويسميها بعضهم الريال، وهي قطعة فضية قيمتها أحد عشر قرشًا تقريبًا، أما أجزاؤها فهي «البيشلي»؛ قطعة من عملة تركية، وهي المعروفة بالبيشلك، بخلاف أهل قريات المِلْح والجوف؛ فإنهم يتعاملون بالمجيدي التركي.
في ضيافة أمير حائل
وفي اليوم التالي لوصولنا دعانا الأمير عبد العزيز بن مساعد إلى قصر الإمارة، وقد استقبلنا فيه استقبالًا حسنًا، وأنزلنا بمنزل خاص، ورتَّبَ لنا خدمة خاصة، وهذا الأمير يُخيل للرائي لأول نظرة أنه على شيء من العجرفة والكبرياء، ولكنه في الواقع على جانب كبير من رِقَّة الشمائل ومكارم الخلال، وهو مطلق الحكم في إقليمه وما يجاوره من ملحقات نجد الشمالية، فهو الحاكم المسموع الكلمة النافذ الإرادة بعد الملك ابن السعود، ومما يستحق الذكر أنه معروف بالشدة والبطش إذا خالف أحدٌ أحكامَ الشرع أو أَخَلَّ بالأمن العام، ويستخدم هذا الأمير في روحاته وغدواته وأسفاره سيارتين يؤتى لهما بما يلزمهما من وقود وأدوات من القدس وشرق الأردن، ويقوم بقيادتهما سائق سوري يساعده آخر نجدي.
وقد دعانا أحد رجال القصر لمشاهدة سجن المدينة، وكنت أحسبه عامرًا بالمحكوم عليهم، ولكني بُهِتُّ حين وجدته خاليًا إلا من حرَّاسه الذين ما كانوا يحرسون غير جدرانه وخشبته المستطيلة الأفقية التي تتدلى منها سلاسل حديدية تقيد بها أقدام المسجونين — إن وجدوا — وقد عرفت السر في خلو السجن من المسجونين؛ ذلك لأن الأحكام الشرعية وحدها هي خير وازِعٍ، تقطع خط الرجعة دون الجرائم على أشكالها وضروبها، وقد علمت أن المسجون رغمًا عن قيوده داخل سجنه فإنه يُعامَلُ معاملة حسنة ويطعم طعامًا عاديًّا، ويؤذَن له بأداء الصلاة في أوقاتها، والناس على اختلاف مشاربهم يحترمون القانون الشرعي، ويَعُدُّونَهُ تنزيلًا سماويًّا لا سبيل إلى مخالفته.
وحائل ذات مناخ معتدل، وفيها عين ماءٍ عذبة شافية من العلل يسمونها «ماء السماح» لا تقل أهميةً عن مياه «فيشي» المعدنية الشهيرة؛ فهي تُذيب الأملاح وتشفي أمراض الكُلى بسرعة، وتنقِّي الدم وتساعد على الهضم بصورة مدهشة، وأما مياه عيونها الأخرى فلا بأس بها أيضًا، يدلك على ذلك اعتدال صحة سكانها وامتلاء أجسامهم وانقطاع الأمراض بينهم، وقد كانت حائل فيما مضى عاصمة لملك ابن الرشيد الذي كان أميرًا عليها من لدن آل سعود، واستقل بها زمنًا ثم أعيدت إلى حظيرة آل سعود مما سنأتي عليه بعدُ.
وأهل حائل أصلهم من قبيلة «شمر» التي كانت تضرب في البادية، فانقسمتْ على نفسها ورحل جزء كبير منهم إلى حائل فَتَحَضَّرُوا فيها، وظل الجانب الآخر على حالته، ويشاهد في حائل «الإخوان» الذين يسمونهم «الحبَّان»، وهم يُعرفون بعمائمهم الكبيرة التي يضعونها فوق كوفية حمراء يسمونها «الغطرة»، وهي تختلف أوضاعًا وحجمًا، فمن كانت عمامته متوسطة الحجم كان عاديًّا، أما من ظهرت عمامته أكبر حجمًا عُرف بأنه شيخ من خاصة الحبَّان.
وللحبان في بلاد نجد المقام الأكبر والمكان الذي يفوق سواهم من عرب البادية، فهم أصحاب الغزوات المشهورة في حائل والأحساء والحجاز، وكانوا إلى ما قبل بضع سنوات لا يعرفون من الدين إلا اسمه، ولكنهم الآن باتوا على معرفة كبيرة بأصول الإسلام وقواعده وأوامره ونواهيه، وإليهم مرجع الفضل في إخضاع الحجاز إلى ملكهم، وطرد الحسين وأولاده من الأراضي المقدسة، ونشر تعاليم السُّنَّةِ المحمدية في نجد والحجاز على السواء.