في بُرَيْدَة
مدينة «بريدة» على مسيرة ثمانية أيام في طريق سهلة، وكانت أول قرية صادفناها قرية تُدْعى «العدوة»، يحيط بها أراضٍ منزرعة بالغلال، وجبال شاهقة الارتفاع ذات منظر ساحر على يمينها أرض رملية يضرب لونها إلى وَهَجِ الذهب تؤلِّف منظرًا يخطف الألباب، وحدث أثناء سفرنا أن افتقد أحد رجال قافلة تقدمتنا في السفر ناقةً له أثناء الليل، فأرسلوا بعض رجالهم للبحث عنها، فعادوا وأخبرونا بأنهم لم يعثروا عليها، وفي الأثناء حضر بدوي وأبلغهم أنه شاهد ناقة في طريقه، وأعطى أوصافها، وكانت هي الناقة الضالة، وذكر أنه كان في وسعه أن يقودها معه إليهم لولا خوفه من أن يُتَّهم بسرقتها، فشكره صاحب الناقة، وهكذا جَدَّ رجال القافلة حتى عثروا عليها قبل أن يصل أمرها إلى ولاة الأمور، فاستخلصتُ من ذلك ما أيَّد لي أمانة القوم، وانعدام حوادث السرقة انعدامًا باتًّا في قلب نجد.
ووصلنا إلى بريدة بعد مسيرة عدة أيام، صادفنا نحو أربعة قرى هي: «الكهفة والجوارة ووثال والشقة»، وينزل في ثانيتها بعض الإخوان المتحضرين منذ زمن بعيد، وبجوار البلدة الرابعة جبل يستخرج منه المِلْح دون أن يدفع عنه الأهالي ضريبة أو ثمنًا. وكان أمير بريدة قد بلغه خبر قدومنا، وهو يُدعى مبارك بن مبيريك، فخفَّ لاستقبالنا باسم جلالة الملك ابن السعود استقبالًا هو غاية في الوُدِّ ونهاية في الكرم، وأنزلنا في داره ضيوفًا كرامًا.
و«بريدة» هذه تقع في سهلٍ رملي. ذات مبانٍ متعددة كحائل تحيط بها المزارع وأشجار النخيل، ويمتاز ثمرها بقصره وسمنَتِهِ، والأهالي هناك يجففونه ويسمونه «اليبيس»، وأحسنه ما تنبته نخيل «عنيزة»، ومع أنه شديد الحلاوة لذيذ الطعم إلا أنه غير سهل الهضم.
باريس نجد
ويعدُّون «بُرَيْدَةَ» عاصمة لسائر القرى التي تحيط بها، وهي في جملتها تدعى «القصيم»، وأهم مدنها «عنيزة» وهي التي أسماها الشاعر الأشهر أمين الريحاني عند زيارته لها «باريس نجد»؛ ذلك لأن منازلها مؤلَّفة من ثلاث طبقات على نسق مباني المدن المتحضرة. وأهل القصيم؛ ولا سيما سكان بريدة وَعُنَيْزَةَ، يُعَدُّون أغنى أهل نجد جميعًا، وأكثرهم تحضرًا وأنشطهم حركة، وأعرفهم بأساليب التجارة، ولقد رأيت كثيرين منهم في الشام ومصر يتبادلون المتاجر، فيجلبون إلى مصر مثلًا الخيل والإبل والماشية والجلود والسمن، ويبتاعون الأقمشة وشتى أنواع المصنوعات والسلع، بل منهم من له شأن تجاري يُغْبَطُ عليه في أسواق الهند ومدن الحجاز، وكان ذلك سببًا في تطور أخلاقهم وعاداتهم، وميلهم إلى الأخذ بأساليب المدنية وسهولة الطباع، وعدم التعصب لمذهب دون آخر، زِدْ على ذلك أن في وسع الغريب عن ديارهم أن يفهم لهجة كلامهم بسرعة، فإذا أضاف بعضهم غريبًا متحضرًا أدهشه ما يراه على موائدهم من أصناف الأطعمة ولوازم المائدة، ممَّا يجعله لا يصدق أنه في قلب نجد. كما أني لاحظت بعضهم يدخن سرًّا، وعلى ذكر الدخان الذي يسمونه النجديون «التَيْتَن» أقول إنه لا يوجد له أثر في نجد، فإذا عُثِرَ عليه عوقب صاحبه كما يعاقب مُحرز الحشيش والمخدرات السامة في مصر. وعلى ذكر سكان بريدة فيما أسلفنا نذكر أن جلالة ابن السعود يختار عادة من مفكريها ورجالها المتعلمين من يمثِّلون بلاده في الخارج، أمثال حضرة الشيخ فوزان السابق معتمده في مصر، والشيخ يس الرواف معتمده في سوريا.