إلى الرياض
مضينا في «بريدة» ثلاثة أيام، ثم استأنفنا السفر إلى «الرياض» عاصمة نجد، وللوصول إليها طريقان: طريق «الوادي» وطريق «المستوي»، وثانيهما أقصر من الأول، وحدث في الأثناء أن أُذيع خبر عودة جلالة الملك عبد العزيز من المدينة المنورة إلى عاصمة نجد للمرة الأولى بعد فتحه الحجاز، فاخترنا طريق المستوي كي نعجل بالوصول إلى الرياض لنشهد حفلات استقباله، وقد قطعنا اليوم الأول في طريق رملي ذي هضاب رملية، ووصلنا إلى قرية تُدْعَى «أبو شيجر» بعد مسير أربعة أيام، ومن هناك علمنا أن جلالة الملك وصل في موكبٍ فخم مُؤَلَّفٍ من ستٍّ وعشرين سيارة في ذلك اليوم، ولم أَرَ ما يستحق الذكر خلال هذا الطريق سوى أن أهل القرى هناك يأكلون الجراد، وهم ينتظرون مواسِمَهُ كما ينتظر سكان مصر موسم السمان … وأغرب من ذلك أنهم يتفاءلون بالخير إذا أقبل موسمه بقدر ما يتشاءم منه أهل مصر، ويتسلَّح الفلاحون المصريون لمطاردته، ومما يتحدثون عن فوائده من نجد أنه مُغَذٍّ كالشهد، شافٍ للعلل كالتِّرْيَاقِ، حتى بلغت بهم شدة الشغف لأكله أن يتخذوا منه قَدِيدًا، ولا أدري أهم يُقددونه بطريقة التعقيم، أم بطريقة أخرى لا تزال غائبةً عن معامل برشلونة … وقد قصَّ عليَّ أحد رجال القافلة أن بعض كبار التجار النجديين في مصر لا يزالون على عهدهم بقديد الجراد، يُرسَل إليهم في أكياس هي عندهم أعز من أكياس الحلوى التي تُهْدى في الأفراح.
ومررنا على بلدة «شجرة»، وهي كائنة في وسط إقليم يسمى «الرَّسِّ»، وهي ذات تجارة متوسطة، ويعدونها عاصمة ذلك الإقليم. ومررنا كذلك على بلدة تدعى «البره» إلى أن وصلنا إلى مدينة «الدرعية» بعد مرورنا على أطلال قرية يسمونها «العيينة» التي نشأ منها «مسيلمة الكذاب» الذي ادَّعى النبوة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام
و«الدرعية» مدينة أثرية كانت عاصمة لنجد، وفيها نشأت أسرة آل سعود، ومنها ظهرت الدعوة الوهابية، وحولها دارت الحرب بين جنود المغفور له إبراهيم باشا والي مصر، وبين الوهابيين، ولا تزال آثار مدافعه باديةً للأنظار في خرائب مدينة الدرعية القديمة.
عاصمة نجد تستقبل ملكها
بلغنا «الرياض» في صباح اليوم الثامن، وكانت المدينة قد لبستْ زخرفها، وانتشرت معالم الابتهاج بوصول مليكها إليها بعد فتحه الحجاز، وقد امتلأت بالوفود من أقصى أنحاء نجد للترحيب بمقدَمه.
تعطفات ملكية
وكان جلالة الملك قد علم بقدومنا، فأرسل مندوبًا عنه لاستقبالنا بباب المدينة، وسار بنا إلى قصر جلالته، وقد دخلنا عليه لأوَّل مرة فإذا به يستقبلنا استقبالًا وديًّا كأننا كُنَّا على صداقة قديمة بيننا وبين جلالته، ولما علم بغرضنا من رحلتنا سُرَّ وأظهر عطفه على رغبتنا في استطلاع أحوال شبه الجزيرة العربية، وأمر بإعداد منزل خاص لإقامتنا، وطلب إلينا أن نحظى بمجلسه في أي وقتٍ شئنا، ومن ثَمَّ أخذنا نتعرف بكبار ذوي الشأن في عاصمة نجد؛ لنستطلِعَ ما جَلَّ ودَقَّ من شئون البلاد جملةً وتفصيلًا. وبدأنا نجمع المعلومات الدقيقة عمَّا كان قبل إعلان الحرب على الهاشميين، وفي خلال تلك الحرب، وما جرى بعد ذلك من التطورات حتى الآن مما سنأتي عليه.
وصف العاصمة النجدية
«الرياض» تعد أكبر مدن نجد وأعظمها شأنًا باعتبار أنها عاصمة الديار النجدية، ذات مبانٍ متعددة بينها عدة عمارات كبيرة أكثر شبهًا بمنازل أعيان أقاليم القطر المصري، أما قصور أمراء الأسرة المالكة فتمتاز عن سائر مباني الرياض باتِّساعها وبهاء شكلها، ويحيط بالمدينة سور فخم له عدة أبواب كثيرة على مثال أبواب المدن الشرقية في سالف الزمان، وهي تُقفل عند اللزوم، وتحيط بالعاصمة المزارع وأشجار النخيل، وهناك مزرعة خاصة بأمراء البيت المالك لم يستوقِفْ نظري فيها سوى بعض شجيرات من الورد وأخرى من القطن، ولعل في زرع شجيرات القطن معنًى خاصًّا يجول في نفس جلالة ابن السعود، هو ذات المعنى الذي جال في نفس المغفور له محمد علي باشا محيى مصر، يوم أمر بزرع بعض شجيرات من القطن للمرة الأولى في مصر في حديقة قصره، فلما أعجبه شكلُها، وسرَّه تَفَتُّح لويزات القطن وظهور خيوطها البيضاء، وما كان منه بعد ذلك حيث أمر بتعميم زراعته في سائر بلاد القطر، فكان ذلك سببًا في رخاء البلاد وسعادة العباد. على أن تحقيق هذه الأمنية السعودية قد يتم على مدى الزمان إذا أُعِدَّت الأراضي التي تصلح للزراعة، وَمُهدَتْ لها وسائل الري.
وفي الرياض عدة مدارس دينية أشبه بكتاتيب المساجد عندنا، يدخلها الصبيان فيتعلمون مبادئ القراءة والكتابة، ويحفظون القرآن عن ظهر قلب، ولا يتبحَّر في العلوم الدينية إلا النادر من الذين يريدون الانقطاع لخدمة العلم والدين، فيلقَّنون تفسير القرآن وأحكام الشرع، ومن هؤلاء يتخرَّج أئمة المساجد ووعَّاظها. وفي الرياض ستة مساجد خالية من مظاهر الزخرف والفرش بغير قباب، وأغلبها بغير سقف، وتقام صلاة الجماعة في أيام الجُمَعِ والعيدين في مسجد واحد، ويبلغ اهتمام بعضهم بسماع الخطبة المنبرية أن يبكِّر في الحضور إلى المسجد؛ ليأخذ له مكانًا فيه خشية الزحام، فإذا طرأ عليه ما يستوجب مبارحته المسجد وضع عصاه أو أي شيء آخر في مكانه ومضى إلى سبيله، حتى إذا أُذِّنَ للصلاة عاد إلى مكانه دون أن يرى من يجرؤ على احتلاله. ولا تستعمل القناديل في إضاءة المساجد ليلًا، فيكتفون ببعض الشموع. ومن أعجب ما لاحظته عند صلاة الفجر بعد الانتهاء من الصلاة أن ينادي المؤذن بأسماء الذين اعتادوا الصلاة في مسجده، فإذا تخلَّف أحدهم دون عذر شرعي عوقِب للمرة الأولى بمصادرة «كوفيته»، فإذا عاد عوقب بأخذ «عباءته»، أما إذا عاد للمرة الثالثة، فيأمر به مجلس الشرع بالضرب والسجن عدة أيام.
وقد جرتِ العادة بعد صلاة الجمعة أن يجلس الملك ونائبه في ردْهَةِ القصر الملكي ويستقبل المصلين، فيمر بهم الساقي بالشاي، ثم بالقهوة النجدية، ومن ثَمَّ يطوف بالحاضرين رجلان يحملان مبخرة يتضوَّع منها عبير المسك والعنبر، ويعدون هذا بعد صلاة الجماعة مسك الختام فيبتهلون بطول العمر والتأييد للملك.
أما القصر الملكي فهو مشيد على نمط عربي صِرْفٍ تقوم في وسطه أعمدة من الجبس الأبيض الناصع ذات نقوش عربية تستوقف الأنظار بدقتها وجمالها، وهو يتألَّف من طابقين: الطابق الأول وفيه قاعة المائدة الخاصة بضيوف الملك الأخصاء، وغرف أخرى خاصة بإطعام اللاجئين لساحته الملكية من فقراء البدو والسابلة، أما الطابق الأعلى ففيه عدة ردهات كبيرة، وبهو يسع نحو ثلاثمائة شخص، وقد خُصص جناح للديوان الملكي يشمل مكتبة الملك الخاصة، وديوان سمو الأمير سعود، وغرف خاصة لسكنى كبار موظفي القصر وطبيب الملك الخاص، ويلاصق بناء القصر بناء كبير خاصٌّ بالحرم والوصيفات والجواري والعبيد، وعددهم جميعًا لا يقل عن أربعمائة شخص بين ذكور وإناث.