جلالة الملك عبد العزيز
وأما جلالة الملك عبد العزيز بن السعود فطويل القامة، ممتلئ الجسم، نُحاسي اللون، برَّاق العينين، سَمْحُ المُحَيَّا، يضع على عينيه نظارة، وتبدو عليه مخايِلُ الذكاء المُفْرِطِ، وقوة الإرادة، وشدة العزم مع سماحة الخُلق، وَأَنَاةٍ وتدبُّر في كل ما يخرج من فمه من الكلام. وجلالته يناهز الخمسين من عمره، وقد أُصيب في إبهام يده اليسرى برصاصة أثناء الحرب فتركت أثرًا ظاهرًا فيه حتى الآن، ومن عادته إذا سار خفض برأسه نحو الأرض، ويلبس عباءة نجدية مزخرفة بالذهب، كثيرًا ما يرفع جزءًا منها تحت إبطه، لا يسرع أثناء سيره، وهو محبوب من شعبه، لا يتوجس خِيفَةَ شَرٍّ من أحد؛ فلا يهتم كثيرًا بملازمة الحرس إياه.
أول حديث ملكي معنا
وممَّا يجدر بي ذكره أنه بعد أن مَثَلْتُ بين يدي جلالة الملك كان أول ما ابتدرني به من الحديث أنَّه هنَّأني بسلامة الوصول، وطفق يسألني باهتمام عمَّا شاهدته أثناء سفري الطويل الشاق، فكان يبتسم ابتسامات الإعجاب كلما أجبته على سؤال بما لا يخرج عمَّا أسلفت بيانه في مقالاتي السابقة، ومن ثَمَّ بدأ جلالته يحدثني قائلًا: «ليس عندنا سوى دِين واحد ومذهب واحد، والجميع يؤدُّون الصلاة وراء إمام واحد، وهذا ما نشكر الله — سبحانه وتعالى — عليه. نعم إن المذاهب أربعة، ولكنَّنا نعتقد أن مذهب الإمام ابن حنبل هو أقرب المذاهب للسنة النبوية السمحة، فلا نجد عندنا إلا ما يقوله المسلم لأخيه المسلم: السلام عليكم. وهم مرتبطون جميعًا بكلمة التوحيد، وعلى هذا الأساس يقوم مُلكنا والحمد لله، نحن لا نبغي المُلك لذاته؛ فالمُلك لله الواحد القهار، فوالله وباللهِ لو أُعْطِينَا ممالك الأرض طُرًّا وأحسسنا أن بعضها شركًا لبعدنا عنها بُعد السماء عن الأرض، وليس يعنينا أن نقاتل الكفار، ولا نبغي إلا أن يهديهم الله سواء السبيل، فما داموا بعيدين عنَّا فليس ينالُنَا منهم شيء، ولا نحب أن نذهب إلى ديارهم ولا أن نتشبه بهم حتى، ولا نرتدي شيئًا مما يلبَسونه، إن المسلم الحقيقي هو الذي يتبع أصول دينه، ويرعى أمر الله، فمن شابَه الكفار أو تَشَبَّهَ بهم فلا خير له في الدنيا ولا الحياة الآخرة.»
تلك هي النفسية الدينية التي يدين بها الملك عبد العزيز الذي يحكم اليوم أرض نجد والحجاز، ويقبض على ناصية الأمر فيها بيدٍ من حديد، ولعل للأحكام الشرعية التي هي أساس قيادة الشعبين الأثر الفعال في قطع دابر حوادث السلب والنهب والاعتداء على الأرواح والأموال والأعراض كما كان يحدث قبلُ في بلاد الحجاز، وتأمين حُجَّاجِ بيت الله الحرام من هذه الناحية. ومع أن البدو أُنَاسٌ لا يخضعون لحكم أو سلطان، فمن العجيب أن يسري بينهم حكم الشرع ويخضعون له ذلك الخضوع، فمن البديهي أن دهاء هذا الملك ومقدرته على استمالة النفوس التي تأصَّل فيها الشر والفوضى منذ عدة قرون، كانت هي العامل الفعال لاستقرار حكم الشرع بين تلك القبائل.
وإذا ألقينا النظر على شكل حكومته لا نجد فيها هيئة وزارة، ولا مجلس وكلاء، ولا مستشارين، ولا رجال تشريع بالمعنى الذي نفهمه نحن، فالأموال العامة تُجْبَى من الأهالي بغاية السهولة، وتحت تأثير حكم الشرع، ويتولاها رجل واحد هو موضع ثقة الملك وحاشيته، فأكبر مبلغ وأقل مقدار من المال سواء أكان لمصلحة عامة أو خاصة إنما يُصرف بموجب قطعة ورق يكتب عليها الملك أو نائبه أمر الصرف دون الحاجة إلى إدارة خاصة بالحسابات وعدد كبير من الموظفين، ويتحتم أن تُعْرَضَ سائر مكاتبات الدولة في كافة شئونها عليه، وكذلك يطَّلع بذاته على ما يتحرر من المكاتبات ويبصمه بخاتمه الذي لا يفارق أصبعه. هذا فيما يتعلق بحكومة نجد فقط، أما الحجاز ففيها حكومة منظَّمَة، وإدارات متعددة كإدارة الأمن العام، وإدارة الشئون الخارجية وغيرها، على أن المرجع الأعلى لكافة شئون الحجاز أيضًا يجب أن تعرض على جلالة الملك عبد العزيز شخصيًّا.
المناداة بالسلطان عبد العزيز ملكًا
ولنعد إلى الرياض، فقد ذكرنا بأن جلالة الملك كان قد وصل إليها قبل أن نبلغها بأربعة أيام بعد أن غاب عنها زُهَاءَ ثلاث سنوات قضاها في الحجاز بعد انتصاره في الحرب المعلومة، فكان بديهيًّا أن تنتشر معالم الأفراح عند عودته فاتحًا ومنصورًا، وبعد غَيبة طويلة لم يسبق لها نظير من قبل، فقد غصَّت المدينة بوفود من أطراف البلاد للترحيب بمقدَمِه، وكانت مناظر ساحرة يُبْدِيهَا أولئك الوافدون من مظاهر التأهيل والاغتباط في وسط جذل آل البيت السعودي، فكنت ترى العطايا الملكية تفيض على فقراء الوافدين، والهدايا تُعطى لكرامهم، وألسنة الجميع لاهجةً بالشكر والحمد.
وقد دُعِيتُ لحفلة إعلان المناداة بجلالة عبد العزيز ملكًا على نجد بعد أن كان سلطانًا، وقد فاضتْ فيها ألسنة الشعراء والخطباء ببيان صفات مليكهم وما أحرزه من فخر الانتصار في فتح الحجاز، وقد قال أحدهم: «ما دامت الحجاز أصبحت من أملاكنا فلا يجوز أن نتفرد بوصف أنها دولة ملكية دون نجد التي لا تقل عنها شأنًا.»
حفلة زواج الأميرة سارة
ودُعِيتُ لحضور حفلة زواج الأميرة سارة ابنة جلالة الملك على ابن عمها الأمير فيصل بن سعد، فكانت حفلة غاية في البساطة؛ فقد فُرِشَتْ ساحة القصر بالأبسطة الفخمة، وَمُدَّتِ الموائد الشهية، وبعد أن تناول المدعوون ما لذَّ لهم وطاب أَمَرَ جلالته بنحر خمسمائة شاة، وتوزيع لحومها على الفقراء والمُعوزِينَ، وبعد انصراف المدعوين جِيء بأحد العلماء وتولَّى أداء المراسم الشرعية، فكانت حفلة عربية أمثال تلك التي حدَّثَنَا عنها السلف الصالح، فبساطة مصحوبة بإسداء التكرمة للجائع والمحروم وابن السبيل، ومظهر من مظاهر تعلُّق الشعب بمليكه، ومثل أعلى في تقرُّب الملوك من رعاياهم.
وأهل الرياض يشتغلون بجلب المتاجر من «الأحساء والكويت والجرين»، يتبادلون وتلك البلاد مصنوعات نجد وماشيتها، بل هناك مورد عظيم هو إجادة النجديين استخراج اللؤلؤ والمَرْجَانِ من قاع الخليج الفارسي، أما الحالة الزراعية فليست بذات شأن يُذكر حول الرياض، اللهم إلَّا بقدر حاجة السكان، فيمكن أن توصف الرياض والحالة هذه بأنها مركز تجاري، ومقر حكم تلك البلاد لا أكثر ولا أقل، ويتداول الأهالي هناك بالجنيه الإنكليزي والعثماني والروبية الهندية والريال الشوشي الذي أسلفنا ذكره عن «حائل»، وأجزاء هذه الريال «الجديدة»، بينما أجزاؤه في حائل «البشالك»، ويساوي الريال في الرياض ٤٣ جديدة، وأجزاء الجديدة ست قطع من البرونز مطلق عليها اسم «بيزه».
عند الأمير سعود
وقد دعاني سمو الأمير سعود إلى زيارته في قصره الخاص، فكان أول ما ابتدرني به قوله: «لن أنسى ما عشتُ أهلَ مصرَ وحفاوَتَهم بي، كما لا تبرح عن مُخَيِّلَتِي تلك المكارم التي طَوَّقَتْ بها عنقي الحكومةُ المصرية، ولا أنسى على مدى الدهر عطف حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأبوي أثناء تشرُّفي بمقابلته السَّنِيَّة؛ فهي صفحات خالدة ما فتئت أقلبها منذ وطئت قدماي أرض بلادي بعد عودتي من مصر، وإن قومي لَيَحفظون كل ذلك لمصر، ويعدون كل ما نلته من مظاهر الحفاوة والتكريم إنما اخْتُصُّوا هم به فكان موجهًا لهم بالذات.» قال: «ولن أنسى كذلك أن أخصَّ بالشكر رجال الصحافة المصرية الذين برهنوا على عظيم محبَّتِهِم للإسلام وأهله. وإني لذلك لا زلت أدعو لمصر بكل خير، وأتمنَّى من صميم قلبي إحكام صلات الوُدِّ والصفاء بين البلدين.»
حياة الملك اليومية
لقد اعتاد جلالته أن ينهض قبل انبثاق الفجر دون أن يُلْزِمَ أحدًا من خاصته بالنهوض في ذلك الوقت، وبعد أن يتوضأ ويتلو ما تَيَسَّرَ من القرآن الكريم، ويؤذِّن المؤذِّن بصلاة الفجر، يقصد إلى مسجد القصر حيث يكون في انتظاره هناك عدد من عبيدِه، فيؤدي صلاة الفجر، ومن ثَمَّ يعود إلى إيوانه فيتناول طعام الإفطار مع من يكون حاضرًا من أبنائه وأفراد أسرته، حتى إذا فرغ من هذا انتقل إلى مكتبه الخاص في ديوانه، فيأخذ في مطالعة الرسائل، واستعراض بعض المسائل وبحثها وإبداء رأيه كتابةً، ويَظَلُّ كذلك حتى بعد شروق الشمس بساعة، ومن ثَمَّ ينتقل إلى إحدى قاعات الاستقبال حيث يستقبل بعض أخصائه، ويرسل في طلب بعض مَنْ لَهُمْ به شأن هام، وبعد ذلك يستقبل وفود «الإخوان» فيقضي في الاحتفاء بهم ومسامرتهم وسماع ما يُدلون به إليه من الأقوال والأحوال وقتًا غير قليل، وممَّا يُذكر أن أولئك الإخوان يتحدَّثون إلى مليكهم كأنما يخاطبون واحدًا من إخوانهم البدو في الصحراء، وليس ذلك منهم كما يتبادر إلى بعض الأذهان «جحلفة بدوية» ولا قلة احترام لملوكهم، ولكنَّهم يفعلون ذلك تمسُّكًا بسُنَّة السلف الصالح، والسير على ما كان عليه المسلمون في أيام الخُلَفَاءِ الراشدين. مثال ذلك أني رأيت أحدهم يخاطب مولاه الملك بقوله: «يا عبد العزيز» فاستكبرتُ منه ذلك وكدت لا أصدق سمعي؛ لحقارة شأن المتكلم وسعة صدر جلالة المخاطَب، لولا أن أحدَهم همس في أذني قائلًا: «ذلك هو الدستور الذي شرعه لنا هذا الملك، فهو يَقْبَلُهُ على العين والرأس ولا يرضى سواه بديلًا.»
في المجلس الكبير
وعند الضحى ينتقل جلالته إلى قاعة تُعرف باسم «المجلس الكبير»، حيث يجتمع فيها عادةً أمراءُ الأسرة الرشيدية والعايدية، وهذه الأخيرة هي الأسرة التي كانت تحكم بلاد أبها التابعة لحكم نجد الآن، وكذلك بعض كبار أعيان نجد وزعماء باديتها، وهناك في هذا المجلس يستعرض جلالته الشئون العامة في كل ما دَقَّ وجلَّ، فبينما تراه يعلِّق على حديث نبوي إذا به يصل هذا التعليق بمسألة عامة أو بحادثة تاريخية أو بأمر مستقبل يريد أن يُوْمِئَ إليه بهذا الحديث، ومع أن جلالته صريح في بيانه فهو يتجنب بقدر الإمكان المغامز والإيماء، وما عساه أن يؤوَّل تأويلًا مسيئًا، ولا سيما عند بعض أفراد أسرة آل الرشيد وآل عايد، ولهذه المناسبة أذكر أن جلالته تفضَّل بدعوتي إلى هذا المجلس، وفي الأثناء لفت نظري إلى نبذة في إحدى الصحف السورية جاء فيها أن السيد عبد الله بن عايد تركَ مكة المكرمة، وأنه حشد جيشًا على جلالة الملك ابن السعود في حين أن السيد المشار إليه كان بين الحاضرين في المجلس، فلما قرأتُ هذا ابتسمتُ وقلت لجلالته: «وما آفة الأخبار إلا رواتها»، فلا يصح يا صاحب الجلالة أن تكون مثلُ هذه الرواية المكذوبة دليلًا قائمًا على أن الصحف سواسيةٌ في هذا الباب، يدلك على ذلك أن الصحافة المصرية مثلًا شديدة التدقيق في رواية الأخبار، فهي لا تقنع من صحة روايةٍ بما يصل إليها من مصدر معين إلا إذا تثبَّتَت كل التثبُّت من صدقه، وكذلك الشأن في كل صحيفة تحترم نفسها ولا تبغي سوى تقرير الحقائق وإنارة أذهان الجمهور بها. وهنا قال جلالته إنه يُجِلُّ الصحف المصرية ويعتبرها في طليعة صحف العالم الإسلامي، وما كان يقصد من لفت نظري إلى تلك النُبْذَةِ إلا ليلفتني كصحفي إلى أن كل ما يقال غير صحيح، وأن جلالته وجيرانه وكل من يتصل بملكه من كبار رجال العشائر وأقطابها على اتِّفَاقٍ ووئام، فأمَّن المجلس على قول جلالته، وفي مقدمتهم السيد عبد الله المذكور.
وبعد أن يَنْفَضَّ ذلك المجلس يذهب جلالته إلى القصر الخاص الذي يقيم فيه والده الشيخ، وهو — رغمًا عن كونه في العقد التاسع من عمره — على جانب عظيم من الذكاء وسرعة البديهة ورِقَّةِ الجانب، فضلًا عن كونه محبوبًا من سائر أهل نجد، وبعد أن يقضي في حضرته بُرْهَةً ينتقل إلى زيارةِ كبرى شقيقاته الأميرة «نوره» التي يُجِلُّهَا جلالته، ويضعها في مكان خاص من نفسه، فقد جرت عادة أهل نجد أنهم يخصون كبرى شقيقاتهم بأجلى مظاهر التوقير والإجلال، ومما أذكره أيضًا بالشكر والثناء لهذه الأميرة الجليلة ذلك الكرم العربي ومكارم الخلال، فقد كانت تبعث إليَّ يوميًّا بمختلف ألوان الطعام، ولا تنفكُّ تستفسر عن حالي، وتبالغ في إكرام جانبي.
ومن عادة جلالته بعد أداء فريضة العشاء أن يطوف بموظفي ديوانه ويستطلع ما لديهم من الأعمال، ويزودهم بما يَعِنُّ له من الآراء، وفي بعض الأحيان عندما يرى الظروف مناسبة يستقل سيارته ومعه بعض أفراد حاشيته ويذهب للصيد والقنص في البادية، وقد رأيت بين سيارات جلالته سيارة يهتم بها جِدَّ الاهتمام، ولا يركبها إلا في الحفلات الهامة، تلك هي السيارة الفخمة التي أهداها إليه حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول صاحب النيل.