بين زعماء قبائل نجد
وعلى ذكر ما روته بعض الصحف أثناء وجود سعادة الطيب بك الهزازي رئيس ديوان جلالة الملك ابن السعود في مصر أخيرًا عن وجود خلاف بين بعض زعماء قبائل نجد أمثال فيصل الدويش زعيم قبيلة الأرطاوية، وسلطان بن مجاد زعيم قبيلة الغطغط من جهة، وبين جلالة ابن السعود من جهة أخرى، أقول إني سمعت شيئًا في هذا الموضوع أثناء وجودي في «الرياض»، ذلك أنهم يُعْزُونَ وقوع ذلك الخلاف إلى حادث الاعتداء على المحمل في مِنى، فقد قيل إن القتلى من النجديين كانوا من قبيلة فيصل الدويش. وقد اعتبر بعض علاة هذه القبيلة أن تَصَرُّفَ جلالة الملك عبد العزيز كان مهينًا لهم، وكان من واجبه أن يثأر لهم، ولكن ما كان أخيب رجاء الغُلَاة عندما علموا أن فيصلًا هذا ذهب إلى «الرياض» عقب وصول جلالة الملك بعد أن تَعَرَّفَ على الحقيقة من جلالته، وَأَمَّنَ عليها وانقضى بذلك كُلُّ قِيلٍ وقال.
أما سلطان بن مجاد فقد قيل إن نزاعًا قام بينه وبين جلالة الملك على تطبيق بعض الأمور الشرعية، ولكنه بعد أن تبيَّن الحقيقة قصد إلى «الرياض» وقابل جلالة الملك، وخرج من لدنه شاكرًا، ولكن يظهر أن بعض دعاة السوء أرادوا بث دعايتهم في قلب نجد بعد أن فشلوا في الحجاز، فلم يُفلحوا، وهكذا عادت المياه إلى مجاريها وانقضى الأمر.
عقائد النجديين في الحياة والخلود
ومما يستحقُّ الذكر عن عادات أهل نجد، أنهم يعتقدون أن النجدي سواء أكان حضريًّا أم بدويًّا إنما خُلِقَ لعبادة الله وطاعة شريعته، وأنه كُتب له في لوح القضاء أجلٌ محدودٌ، فعليه أن يعمل في حياته ما يُرضي الله إلى يوم مماته، وفي يقينه أنه منتقل إلى جوار ربه فَيُجازى على ما كسبته يداه؛ إن خيرًا فخير أو شرًّا فشر؛ ومن هنا تجيء علة انعدام الجرائم على اختلاف ضروبها حتى في الحرب، فهم يعتقدون أن من قَتَلَ عدوًّا لدين الله وشرعة نَبِيِّهِ الكريم دخل الجنة، ومن قُتِلَ منهم في سبيل الله فقد أُجْزِلَ له ثواب عمله؛ فترى البدوي منهم وهو في سبيل الجهاد يحمل أكفانه وهو ممتلئٌ يقينًا وإيمانًا بصحة عقيدته، ولعل ذلك كان سببًا في بذل مُهَجِهِم في الحروب، واندفاعهم إليها بغير تردُّد، حتى إذا سقط أحدهم في حومة الوغى قتيلًا كان آخر ما يصل إلى سمعه ممن بقي حيًّا: «وا خليلاه! لقد سبقتني إلى الجنة.» أما في حالة هزيمة عدوهم وإطباقهم عليه تراهم يقولون متهللين: «يا أهل التوحيد، يا أهل التوحيد، إياك نعبد وإياك نستعين!» ويطلقون على دَوِيِّ الرصاص: ريح الجنة، حتى إذا أصيب أحدهم أثناء القتال في ظهره عَدُّوه جبانًا يحاول الفرار لا يستحق عندهم تكريمًا حتى ولا الدفن.
أما عقائدهم الدينية فهي — كما أسلفنا — اتِّباعهم تعاليم السنة النبوية، فلا يقيمون المآتم لموتاهم، ولا يشيدون القباب على الأضرحة، لا ولا على المساجد؛ فهم يعتقدون أن الموتى في هذه الدنيا لا يستحقون تكبيرًا ولا تعظيمًا من جانبهم ما داموا سيبعثون بعثًا جديدًا، وينعمون بنعيم الجنة.
ولعل في هذا بعض الشبه من عقيدة البعث بما كان يعتقده قدماء المصريين بما هو مسطور على توابيت موميائهم، وما كانوا يعدُّونَه من الملابس والأطعمة ونحوها استعدادًا ليوم النشور، على أن هناك بطبيعة الحال فارقًا كبيرًا بين العقيدتين لا يخفى، فإن قدماء المصريين بتحنيطهم جثث موتاهم وإعدادهم الطعام ونحوه، إنما كانوا يعتقدون أن موتاهم سيبعثون بأجسامهم وهياكلهم البشرية بعينها في هذه الدنيا، ولكن أهل نجد يعتقدون كما يعتقد أهل السنة والجماعة من أهل المذاهب الأربعة، بالبعث المعروف في حياةٍ غير هذه الحياة.
حياة النجديين الاجتماعية
إن أهل نجد، ولا سيما سكان باديتها، يعدون الأرز طعامًا أساسيًّا لهم بمثابة الخبز عند سائر الشعوب الأخرى، ولما كان هذا النوع من الطعام يستلزم تناوُلَهُ بالملاعق فإن النجديين لا يستعملون سوى قبضة أيديهم، أما سائر ألوان الطعام الناضجة الأخرى، فلا يمكن أن تخلو من إضافة مسحوق «الكركم» عليها — ويسمونه البزار — ومع كثرة الألبان هناك فإنهم لا يعرفون الجبن، ولكنهم يصنعون شيئًا كثير الشبه به يسمونه «البقل»، وطريقة صنعه أنهم يغلون اللبن حتى يجف، ومن ثَمَّ يضعونه في الهواء فيزداد جفافًا، ويقطعونه قطعًا صغيرة بعد أن يضيفوا عليه قليلًا من المِلْحِ، ومن عوائدهم أن لا يتناولوا البصل نَيِّئًا؛ وحجتهم في ذلك عدم مضايقة المُصَلِّينَ برائحته، وهم لا يهتمون بتصنيف الطعام ألوانًا، ولا يهتمُّون بطهي الحلوى تمشيًا على ما كان عليه السلف الصالح.
ولا يوجد في نجد كلها سوى طبيب واحد، هو طبيب الملك الخاص، ومع أنه وحيد زمانه هناك فإن عمله قليل؛ والعلة في ذلك أن أسقام الناس تكاد تكون معدومة بسبب تقشُّفهم في المعيشة وفي تناوُل الأطعمة، ولأن يد الطبيعة هي التي تقوم مقام الطبيب هناك، يدلُّك على ذلك أن الوَفَيَات هناك قليلة جدًّا، ويندر أن يموت شخص في سن الأربعين أو الخمسين، ولهذه المناسبة أذكر مرة أن جاء بدوي إلى طبيب الملك أثناء وجوده وطلب إليه أن يَصِفَ دواء لامرأته التي كانت تقيم في قلب البادية وعلى مسير ثلاثة أيام، فاعتذر الطبيب عن وصف الدواء إلا إذا عاين المريضة وشخَّص داءها، فما كان من الأعرابي إلا أن هزأ بالطبيب والدواء، وقال: لعلها تكون قد شُفِيَتْ فلا حاجة بنا إليك. وانصرف لسبيله، وجاء بدوي آخر كان قد أصيب برصاصة في جانب من كتفه شَلَّتْ ساعده الأيمن، فلما أفهمه الطبيب أن إخراج الرصاصة يستدعي التخدير وإجراء عملية جراحية ضحك وقال: «لا والله، لن أموت إلا بريح الجنة!» ويقصد بذلك: برصاصة أخرى، لا أن يموت على مشرحة الطبيب.
ومن أعجب العجب أن أهل البادية الذين يقطعون القفار الشاسعة بلا دليل صناعي أو نحوه، بل بمراصد الشمس والقمر والنجوم وألوان رمال الأرض، يستطيعون أن يُنبئوك بأن أشخاصًا يتحدَّثون، وهم على بعد نصف يوم على ظهور الإبل في الصحراء؛ ولعل ذلك يرجع إلى شدة حاسة السمع والبصر عندهم، وصَفَاءِ أذهانهم، وإلى قوة اتجاه الريح الذي ينقل نبرات الأصوات مع الأثير.
والمواقيت هناك بالحساب الهجري، وقد يريد بعضهم أن يذكر لك مثلًا العام الذي انقضى منذ عشر سنوات، فبدلًا من أن يقول لك بالرقم يذكر لك أهم وقائع ذلك العهد؛ كأن يقول: سنة الأحساء، أو سنة الحجاز، وهلم جرًّا. ولا يمكن أن يخطئ أحدهم في فهم عدد السنوات التي مضت على ذلك الحادث، أو أن يكون جاهلًا لأهم ما جرى من وقائع تلك السنة. أما نطقهم العربي فلهجتهم تختلف عن لهجة عرب مصر، بل وعرب الحجاز أيضًا، فهم يُبْدِلُونَ الكاف تاءً مشددة. ومن عاداتهم أنهم قبلما يبدأ أحدهم بمحادثة آخر يدعو له بطول العمر، وهناك اختصار لجملة، أو لعدة جمل تقع في حرفي «س م» بفتح السين وسكون الميم، فعندما يقدم الساقي القهوة بدل أن يقول: «بسم الله» يختصرها بقوله: «سم»، وإذا أراد أحدهم أن يَصْدَعَ بأمر فبدل أن يقول سمعًا وطاعة أجاب بكلمة: «سم»، وإذا ناديت عليه وأراد أن يقول لك إني سامع هتف قائلًا: «سم»، وهلم جرًّا. وللقراءة عند أكثر قرائهم نغمة مخصوصة يُخَيَّلُ إلى سامعها من غير النجديين أنه يستمع «لأخنف»، ولكنهم يفعلون ذلك مبالغةً في الخشوع والتصوف، ولا سيما عند قراءة كتاب الله العزيز.
ولإسدالِ اللِّحى عندهم شأن كبير؛ فهم يعدون من حلق لحيته مخالِفًا لسنة رسول الله، وقد قصَّ عليَّ أحدهم، وهو يعبث بلحيته اعتزازًا بها — بعد استئذان الدكتور محجوب — أن اثنين اختلفا في أمر إطالة اللحية من عدمها، وكان أحدهما أجردَهَا، فذهبا إلى بيت رسول الله — عليه السلام — يحتكمان، فلما طرقا باب الدار أجابتهما السيدة عائشة — رضي الله عنها — بأن الرسول غائب فذهبا، ثم عادا وطرقاه ثانيًا، وكان ﷺ لم يعد بعدُ فأرادت السيدة عائشة أن تُقْسِمَ بأنه لم يعد فقالت: «والذي فضَّل الرجال باللحى إن الرسول ليس موجودًا.» وهكذا اكتفى ذو اللحية بهذا الحكم، وانتصر على زميله وانتهى الأمر.
قبائل بني صخر
أما قبائل بني صخر النازلة في حدود مملكة نجد من ناحية شرق الأردن، فهي لا تزال على فطرتها لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، وقَلَّمَا تَجِدُ من يعرف أداء الصلاة بفروضها، ومع أنهم خاضعون لحكم جلالة الملك ابن السعود الآن إلا أنهم لا يزالون في عُزلتهم التي كانوا عليها قبل دخولهم في حكم جلالته، فلهم عوائدهم وتقاليدهم، ولهم أزياؤهم، وأهم ما في أمرهم أنهم لا يأكلون القمح طحينًا، بل يسلقونه على مثال «البليلة» المعروفة في مصر، ويعتقد بنو صخر أنهم مصريون أصلًا وبنو عمومة للمصريين، وقد كان جَدُّهُم الأول مصريًّا، وقد كان لهذا الاعتقاد أثره معي؛ فقد استقبلني بعض مشايخ تلك القبيلة بأجلى مراسم التأهيل والترحيب، وشرعوا يقيمون الحفلات كأنما جاءهم قريب جليل القدر من ضفاف النيل.
وقد شهدتُ حفلة عرس، وقد جيء بقطعة من خشب العود، وأمسك بإحدى طرفيه كل من الزوج ووالد الزوجة، ومن ثَمَّ حاط بهما الحاضرون، وهنا قال والد الزوجة: «وحياة العود والرب المعبود جوزت ابنتي.» فيرد عليه الزوج قائلًا: «تجوزت ابنتك.» وعلى أثر ذلك تُنحر الذبائح، وتقام المآدب، وينتهي الأمر. وإلى هنا نكون قد انتهينا من وصف بلاد نجد؛ طرقها ومسالكها، عوائدها وتقاليدها، ودينها وطبائع أهلها من حضر وبدو، وقد رأينا قبل مبارحتنا الرياض عاصمة نجد أن نحظى بمقابلة جلالة الملك ابن السعود؛ كي نحصل منه على حديث مستفيض في شئون بلاده العامة من سياسية واجتماعية، ونستطلع رأيه في شأن الخلافة الإسلامية وما جرى في حادث الاعتداء على المحمل المصري، والنظام الجديد الذي وضعته حكومته لحكم الحجاز بعد فتحه، ورأيه في توظيف المصريين في مناصب دولته، وقد أبدى جلالته عظيم ارتياحه إلى محادثتنا فيما تقدم، وإلى القراء هذا الحديث.