حديث ملكي هام
بدأ جلالته حديثه معنا قائلًا: أرجو أن لا تكونوا قد تأثرتُم بشيء ممَّا بدا لكم من خشونة بعض سكان البادية وجفاء طباعها أو شدة تعصبهم للدين، فذلك أمر يرجع إلى الفطرة التي نشأوا عليها، على أني شخصيًّا وكبار أقطاب دولتي لسنا على شيء من هذا؛ يدلك أن مندوبي الدول ذات الشأن بنا يدخلون معنا في مفاوضات طويلة فلا نشتد وإياهم، أو نسلك معهم مسلكًا ينأى بهم عنَّا بخلاف ما شاهدتموه أنتم شخصيًّا إذا طَوَّحَتْ بكم أحاديثُ كهذه مع قبائل البدو الذين هم على الفطرة، وإني أحمد الله أن شعبًا كهذا يدين بالولاء لمليكه، ويرفع كلمته عند الشدة، ويبذل مُهَجَهُ عند الضرورة، ويقنع بالقليل من أودِ الحياة، ولعل أخبار حربنا مع الشريفين، وما أبداه شعبنا من بسالة وإقدام وتَفَانٍ في رفع راية مليكه أكبر شاهد على ما أقول.
سألنا جلالته: وهل تتنازلون جلالتكم ببيان الأسباب المباشِرة لقيام الحرب الحجازية الأخيرة؟
فأجاب: نعم، وإني أقسم لك بأني ما كنتُ أبغي الحرب معهم لولا أن الشريف حسينًا هو الذي ألجأنا إلى قتاله بما ارتكبته عصابته في السنوات الأخيرة من سوء معاملة حجاج بيت الله الحرام، ليس بالنسبة للنجديين وحدهم، بل وسواهم من أمم الإسلام الأخرى، ولقد صبرنا عليهم صبرًا جميلًا وفوَّضنا الأمر فيهم لله تعالى، فما ازدادوا إلا بغيًا وعدوانًا، وأنذرناهم بَدَاءةَ بَدْءٍ بسوء المصير، ولكنهم تمادَوْا عُتُوًّا، وأعمل رجالهم صَلَفًا وإرهاقًا مما لا قِبَلَ لنا على المزيد من الصبر عليه، فاضطررنا في نهاية الأمر إلى تسيير جيشنا إلى الحجاز، وإذا سمعت مني كلمة «جيش» فليس ذلك الجيش إلا أولئك البدو البواسل الذين تشاهدهم حولك هنا وهناك، فعَلنا ذلك وكان يقيننا أننا نطهر أرض الحجاز من أهل البغي، ونُؤَمِّنُ طريق الحجاج، ونحمي أرواح المسلمين، ليس في نيتنا أن نتملَّك الحجاز لذاته، أو نزيد ملكنا بسطةً وسلطانًا؛ فقد كنَّا نعلم أن لأهل الحجاز عقائد وتقاليد تخالف عقائدنا وتقاليدنا، وهناك عصابات القتل والنهب والإخلال بالأمن من الصعب قطع دابرها أو تحويل عقائدهم وأحكامهم إلى مثل الحال في بلادنا نجد، وكنا نعلم أكثر من ذلك أن امتلاك الحجاز ربما يسبب لنا متاعب ويفتح الباب لتدخُّل بعض الدول الأوروبية معنا، ولكنَّا خضنا الحرب مع ذلك تحت تأثير غرضنا الأسمى الذي أسلفتُ لك بيانه، وهكذا كُتب لنا النصر بعد حرب لم تَدُمْ طويلًا بسبب تذمر الحجازيين من سوء حكم الشريف، حتى لقد كان رجالنا لا يَلْقَوْنَ في أكثر المواقع الحربية مقاومة تذكر، وكُنَّا كلما دخلنا مكانًا أهلَّ بنا أهله كافة، بل ما كدنا نطرد الشريف وعصبته ونقبض على ناصية الأمور في الحجاز ونعلن لأهلها عدم رغبتنا في حكم الحجاز حتى اجتمع زعماؤه وأصحاب الكلمة فيه، وأجمعوا رأيهم على مبايعتنا المُلك فيه، وهكذا لم نَرَ بُدًّا من أن نقبل هذه البيعة، وأن نقبل حكم الحجاز بدين الله وسنة نبيه الكريم.
وسألنا جلالته: وماذا أبدلتم من نظام الحكم في الحجاز؟
فأجاب جلالته: إن النظام الأساسي لحكومته لم يتغير؛ فأبقينا كبار الموظفين الذين عهدنا فيهم الصدق والإخلاص لنا، بل الذين كانوا في مقدمة الذين بايعونا الملك، وكل ما أحدثناه هو إبدال القوانين التي شرعها لهم الشريف باتِّبَاعِ حكم الشرع كما هو الحال في نجد، وقد استقبل الناس ما شرعناه لهم بمزيد الابتهاج والرضى، وقد كان لذلك أثره الفعال في سرعة تبدُّل الحال واستتباب الأمن وقطع دابر الفوضى من أرض الحجاز كما سوف ترى عندما تزورها.
وسألنا جلالته: قلتُم لنا إنه لم يكن بُدٌّ من تدخُّل بعض الدول في شأن من يحكم الحجاز، فماذا تقصدون جلالتكم بتلك الدول؟
فأجابنا: تعلمون أن أكثر دول أوروبا، وفي مقدمَتِهِم إنجلترا، تحكم أممًا إسلامية، فكان من البديهي أنها تهتم بشئون حجاجها، مثل ذلك أن الأزهر الشريف فيه رواق لكل دولة، ومن حقها أن تتدخل مع الحكومة المصرية في كل ما يمس شئون شيوخه وطلابه، فالمسألة في حكم الحجاز من حيث تدخُّل الدول لا تتعدى هذا الشأن فقط، وإذا جاز لي أن أخص بعض الدول بالثناء، فإنما هي إنجلترا التي برهنتْ في أكثر من موقفٍ على أنها لا تبغي بنا تحكُّمًا فيما هو خارج عن حدودها، فما دام رعاياها من الحجاج في أمن واطمئنان، وأسباب رعاية صحتهم متوفِّرة بينهم، فهي لا تحرك شأنًا قَلَّ أو عَظُم.
سألنا جلالته: وما رأيكم في الخلافة الإسلامية، ولماذا لا ترغبون فيها؟
فأجابني مبتسمًا: إني أعتذر لك عن الخوض في هذا الشأن الخطير لأسباب أراها لا تتفق مع تمسُّك أهل بلادنا بنصوص حكم الشرع، ولا أرى من اللياقة وحسن المجاملة أن أنبسط معك في هذا الموضوع.
قلنا لجلالته: وما رأيكم في توظيف أذكياء المصريين في وظائف دولتكم؟
فأجابنا جلالته قائلًا: إن حبي وتقديري لأبناء مصر فوق ما تتصور أنت، فهذا مستشاري الأمين وساعدي الأيمن فضيلة الشيخ حافظ وهبة، له عندي المقام الأسمى وعظيم التقدير، وإني أرحب بمن يرغب في تولي مناصب البلاد من أبناء مصر، لولا أني أعرف بأن مالية الدولة لا تتفق وما يستحقه أبناء هذا البلد الغني الوفير الخيرات، وإني أرجو الله أن يتَّسع نطاق العمران في بلادي على مدى الأيام، وتزيد موارد دولتي فيكون المجال فسيحًا أمام هؤلاء الإخوان الذين أتمنى وجود أكثر عدد منهم بين موظفي حكومتي.
قلنا لجلالته: وما رأيكم في حادث المحمل المصري؟
فَأَطْرَقَ جلالته قليلًا ثم قال: ليت تلك الساعة العصيبة التي وقع فيها هذا الحادث المنكود لم تكن مسطورة في حساب الدهر، فقد جَرَّهَا أناس لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم وهم في ساعة غليان، أحمد الله الذي كتب لحامية المحمل المصري السلامة، ولم يُحَمِّلنا وِزْرَ ما جرى، أو ما كان أن يكون؛ فمصر هي أقرب دول الإسلام جوارًا لنا، وجلالة مليكها فؤاد الأول له في فؤادنا أَجَلُّ مكانٍ، وإني أؤكد لك بأنه على توالي الأيام سيُدرك أمثال الذين أثاروا هذا الحادث بِرُعُونَتِهِم أن لا شيء أحب إليهم من تمتع الأراضي المقدسة بأعظم أنواع السلام والطمأنينة.
وكان هذا خاتمة حديثنا مع جلالته، وبعد أن شكرنا ما لقينا في بلاده من ضروب الحفاوة والإكرام، وما خصنا به جلالته وسائر أفراد أسرته الكريمة من الرعاية والعطف، استأذنَّاه في السفر إلى مكة المكرمة.