في النود
١
كانت نيكول ترقص. كان شريكها في رقصة الفالس هو هنري. كانا شابين وعاشقين متيمين. وكانت الموسيقى الجميلة تملأ قاعة الرقص الهائلة ويتحرك في جنباتها نحو عشرين راقصًا وراقصة في تناغم. كانت نيكول تبدو فاتنة في ثوبها الأبيض الطويل. ولم يرفع هنري عينيه عن عينيها. كان يمسك خصرها بقوة، ومع هذا كانت تشعر على نحو ما أنها تتمتع بحريتها كاملةً.
كان والدها أحد الواقفين حول حافة ساحة الرقص. وكان يتكئ على عمود ضخم يرتفع بمقدار عشرين قدمًا تقريبًا إلى السقف ذي القبة. وعندما اقتربت منه نيكول وهي ترقص بين ذراعي أميرها لوَّح لها وابتسم.
بدا أن رقصة الفالس لن تتوقف أبدًا. وعندما انتهت، أمسك هنري بيدَي نيكول وقال لها إنه يريد أن يطلب منها شيئًا مهمًّا جدًّا. لكن في هذه اللحظة لمس والدها ظهرها. وهمس لها قائلًا: «يجب أن نرحل يا نيكول. فقد تأخر الوقت كثيرًا.»
انحنت نيكول للأمير. فبدا عليه أنه لا يريد أن يترك يديها. وقال: «غدًا. سنتحدث غدًا.» وبعث إليها بقبلة في الهواء وهي تغادر ساحة الرقص.
عندما خرجت نيكول من القاعة كانت الشمس أوشكت أن تغيب. وكانت سيارة والدها تنتظرها. وبعد هذا بلحظات كانت ترتدي قميصًا وبنطال جينز وهي جالسة بجوار والدها في السيارة المنطلقة بسرعة في الطريق السريع الواقع على ضفة نهر لوار. كانت نيكول أصغر سنًّا الآن — في الرابعة عشرة تقريبًا — ووالدها كانت يقود السيارة بسرعة أكبر من المعتاد. قال والدها: «لا نريد أن نتأخر. فالمهرجان يبدأ في الثامنة.»
لاحت لهما قلعة أوسيه. كانت هذه القلعة بأبراجها وقممها المستدقة العديدة هي التي ألهمت شارل بيرو كتابة النسخة الأصلية من قصة «الجمال النائم». وتقع القلعة جنوب النهر على بعد كيلومترات قليلة من بوفوا، وتعد دائمًا أحد الأماكن المفضلة لوالدها.
في كل عام عشية المهرجان السنوي تُعرض قصة «الجمال النائم» أمام الجمهور. وتحضر نيكول العرض مع بيير كل عام. وفي كل مرة كانت نيكول تتمنى من أعماقها أن تنجو أورورا من المغزل المميت الذي يؤدي إلى إصابتها بغيبوبة. وفي كل عام كانت تسكب الدموع عندما تستيقظ الجميلة النائمة من نومها الشبيه بالموت نتيجة قبلة الأمير الوسيم.
انتهى المهرجان، ورحل الجمهور. فصعدت نيكول درجات السلم الدائري الذي يؤدي إلى البرج حيث من المفترض أن تكون الجميلة النائمة الحقيقية قد راحت في غيبوبة وهي داخله. كانت الصبيَّة تصعد السلم مسرعة وهي تضحك، ووالدها وراءها بمسافة كبيرة.
تقع غرفة أورورا على الجانب المقابل للنافذة الطويلة. شهقت نيكول وهي تحدق في الأثاث الفخم. فالسرير تعلوه ظُلة، ومناضد الزينة تكسوها زخارفُ أنيقةٌ. وكل ما في الغرفة مزدان بزينة بيضاء. كانت غرفة رائعة. عادت نيكول ببصرها إلى الفتاة النائمة وشهقت. لقد كانت الفتاة هي نيكول ترقد على السرير مرتديةً فستانًا أبيض!
خفق قلبها بقوة وهي تسمع صوت الباب يُفتح، وتسمع وقع الأقدام تتجه إليها في الغرفة. ظلت عيناها مغمضتين ورائحة أنفاسه المشبعة بالنعناع تتسلل إلى أنفها. وأحست بسعادة غامرة. طبع قبلة رقيقة على شفتيها. فشعرت وكأنها تطير فوق أرقِّ سحابة. وتعالت نغمات الموسيقى حولها. ففتحت عينيها ورأت هنري يبتسم في وجهها على بعد سنتيمترات قليلة. فمدت ذراعيها إليه فقبلها مرة أخرى، ولكن هذه المرة بحرارة جارفة.
قبلته نيكول، دون أدنى محاولة منها لإخفاء مشاعرها، وأخبرته بقبلتها أنها أصبحت له. ولكنه ابتعد. وقد عقد حاجبيه. وأشار إلى وجهها. ثم تراجع ببطء إلى الخلف وغادر الغرفة.
ما إن بدأت تبكي حتى اقتحم حلمها صوت قادم من بعيد. كان هناك باب ينفتح، وبدأ الضوء يدخل الغرفة. فأخذت تطرف بعينيها، ثم أغمضت عينيها لتحميهما من الضوء. عادت مجموعة الأسلاك الرفيعة جدًّا المصنوعة من مادة شبيهة بالبلاستيك التي كانت ملتصقة بجسدها تلقائيًّا إلى أماكنها على جانبَي فراشها المصنوع من الخيش.
استيقظت نيكول ببطء شديد. كان الحلم واضحًا كفلق الصبح. ولم يتلاشَ إحساسها بالحزن كما تلاشى الحلم. فحاولت أن تواجه حزنها بتذكير نفسها بأن هذا مجرد حلم.
«هل ستظلين نائمة إلى الأبد؟» هكذا قالت كيتي، التي كانت نائمة إلى يسارها، مستيقظة ومائلة فوقها.
ابتسمت نيكول. وقالت: «كلَّا، لكني أعترف أنني أشعر بالدوار بعض الشيء. كنت في منتصف حلم … كم نمنا هذه المرة؟»
أجابت سيمون وهي في الجانب الآخر: «ما يقل عن خمسة أسابيع بيوم.» كانت ابنتها الكبرى جالسةً تسوي شعرها الطويل الذي تشابك أثناء الاختبار بلا مبالاة.
نظرت نيكول في ساعتها وجلست بعد أن تأكدت أن سيمون على صواب. ثم تثاءبت. وقالت للفتاتين: «بم تشعران؟»
أجابت كيتي ذات الأحد عشر عامًا بابتسامة عريضة قائلةً: «كلي طاقة. أريد أن أجري وأقفز وأتصارع مع باتريك … أتمنى أن تكون هذه آخر مرة ننام فيها طويلًا.»
أجابت نيكول: «يقول الرجل النسر إن هذه ستكون آخر مرة. وهم يأملون أن يكونوا قد حصلوا على ما يكفي من البيانات.» ثم ابتسمت. وتابعت حديثها قائلة: «يقول الرجل النسر إن فهم النساء أصعب من فهم الرجال؛ بسبب التغيرات الشهرية الشديدة التي تطرأ على هرموناتنا.»
وقفت نيكول وتمطت وقبلت كيتي. ثم اتجهت نحو سيمون وعانقتها. ومع أن سيمون لم تبلغ الرابعة عشرة، فقد كانت في نفس طول نيكول تقريبًا. وكانت شابة رائعة ذات وجه بني غامق وعينين رقيقتين. ودائمًا ما كانت تبدو هادئةً رصينةً، وهي بذلك النقيض التام لكيتي الميالة دائمًا إلى الحركة والنشاط وسرعة السأم.
سألت كيتي متذمرةً قليلًا: «لماذا لم تخضع إيلي معنا لهذا الاختبار؟ إنها فتاة مثلنا، ولكن يبدو أنها غير ملزمة بالقيام بأي شيء.»
أحاطت نيكول كيتي بذراعها وهن الثلاث متوجهات نحو الباب والنور. وقالت: «إنها لم تتجاوز الرابعة من عمرها يا كيتي، وكما قال الرجل النسر، إنها صغيرة الحجم بدرجة تحول دون تمكنهم من الحصول على أي معلومات مهمة يحتاجونها.»
ارتدين بذلاتهن الضيقة، وخوذاتهن الشفافة، والأحذية التي تثبت أقدامهن على الأرض في الفناء الصغير المضاء الذي يتفرع مباشرة من الغرفة التي نمن فيها نحو خمسة أسابيع. تحققت نيكول بعناية من أن زي الفتاتين في موضعه قبل أن تضغط على الزر لتفتح باب المقصورة الخارجي. لم يكن هناك داعٍ للقلق. فالباب لم يكن ليُفتح في حالة عدم استعداد أيٍّ منهن لمواجهة التغيرات البيئية.
لو لم تكن نيكول قد رأت هي والفتيات الغرفة الكبيرة الواقعة خارج مقصورتهن عدة مرات من قبل، لتسمَّرن دهشةً وعجزن عن رفع أعينهن عنها قبل عدة دقائق. إذ كانت هناك غرفة طويلة تمتد أمامهن يبلغ طولها مائة مترٍ أو أكثر ويبلغ عرضها خمسين مترًا. ويصل ارتفاع السقف فوقهن إلى نحو خمسة أمتار ويعج بصفوف من المصابيح. وتجمع الغرفة بين خصائص غرف العمليات بالمستشفيات ومصانع أشباه الموصلات على كوكب الأرض. ولم تكن لها حوائط داخلية كبيرة أو صغيرة تقسمها إلى وحدات منفصلة، غير أنه من الواضح أن أجزاءها مستطيلة الشكل كانت مخصصة لمهام مختلفة. وكانت الغرفة تموج بالنشاط؛ فالآليون ما بين محلل للبيانات التي أظهرتها مجموعة من مجموعات الاختبار وقائم بالاستعدادات اللازمة للحصول على مجموعة أخرى. وتوجد بطول حافة الغرفة مقصورات تُجرى فيها «التجارب» وتشبه المقصورة التي نامت فيها نيكول وسيمون وكيتي نحو خمسة أسابيع.
ذهبت كيتي إلى أقرب مقصورة تقع إلى اليسار. وكانت غائرة في الركن ومعلقة على محورين عموديين يربطانها بالحائط والسقف. وإلى جوار بابها المعدني توجد شاشة عرض تظهر عليها مجموعة كبيرة مما يُعتقد أنه بيانات مكتوبة بحروف مسمارية غريبة.
سألت كيتي وهي تشير إلى المقصورة: «ألم نكن في هذه الغرفة المرة السابقة؟ أليس هذا هو المكان الذي نمنا فيه على ذلك الفوم الأبيض الغريب وشعرنا فيه بالضغط بأكمله؟»
انتقل سؤالها إلى خوذتَي والدتها وأختها. فأومأتا برأسيهما ثم أخذتا تحدقان معها في الشاشة التي تظهر بها كتابة غير مفهومة.
قالت نيكول: «يعتقد والدك أنهم يحاولون التوصل إلى وسيلة تجعلنا ننام أثناء مدة زيادة السرعة التي تستمر عدة أشهر. لكن الرجل النسر لن يؤكد هذا التخمين أو ينكره.»
مع أن النساء الثلاث مررن معًا بأربعة اختبارات منفصلة في هذا المعمل، فلم ترَ أيٌّ منهن أي شكل من أشكال الحياة أو الذكاء باستثناء الكائنات الفضائية الآلية التي يبلغ عددها اثني عشر أو نحو ذلك، ويبدو أنها مسئولة عن القيام بهذه المهمة. يطلق البشر على هذه الكائنات «المكعبات الآلية» لأنها كلها عبارة عن قطع مستطيلة مصمتة تشبه المكعبات التي يلعب بها الأطفال على كوكب الأرض، باستثناء «الأقدام» الأسطوانية التي تمكنها من التدحرج على الأرض.
سألت كيتي الآن: «في رأيك، لماذا لم نرَ قط أيًّا من الكائنات الآخرى؟ أعني هنا. إننا نراها لمدةِ ثانية أو ثانيتين في العربة الناقلة وحسب. ونحن ندري بوجودهم وأننا لسنا الوحيدين الذين يخضعون للاختبار.»
أجابت والدتها: «جدول هذه الغرفة منظم بعناية شديدة. من الواضح أنهم لا يريدوننا أن نرى الآخرين، اللهم إلا إذا كانت رؤية عابرة.»
واصلت كيتي أسئلتها بإصرار: «ولكن لماذا؟ كان يجب على الرجل النسر أن …»
قاطعتها سيمون قائلة: «معذرة. ولكنني أعتقد أن المكعب الكبير قادم لرؤيتنا.»
عادةً ما يجلس أكبر المكعبات الآلية في منطقة التحكم المربعة الواقعة في وسط الغرفة ويراقب كل التجارب التي تُجرى. في تلك اللحظة كان يسير باتجاههن في أحد ممرات الغرفة التي تتخذ معًا شكل شبكة.
ذهبت كيتي إلى مقصورة أخرى على بعد حوالي عشرين مترًا. واستدلت من النشاط الظاهر في الشاشة المعلقة على حائطها الخارجي على أن هناك تجربة تجرى بالداخل.
وفجأة، أخذت تدق على المعدن دقًّا عنيفًا بيدها التي يغطيها القفاز.
صاحت نيكول: «كيتي.»
في نفس الوقت صدر صوت من المكعب الكبير. قال: «توقفي.» كان على بعد نحو خمسين مترًا وأخذ يقترب منهن بسرعة كبيرة. وقال بلغة إنجليزية سليمة ولكن بلهجة تخلو من أي تعبير: «يجب ألا تفعلي هذا.»
قالت كيتي بتحدٍّ والمكعب الكبير الذي يبلغ طوله خمسة أمتار يتجاهل نيكول وسيمون ويتوجه نحو الفتاة الصغيرة مباشرةً: «وما الذي ستفعله؟!» فأسرعت نيكول نحو ابنتها لتحميها.
قال المكعب الكبير وقد أصبح لا يفصله عن نيكول وكيتي سوى مترين: «يجب أن ترحلن الآن. لقد انتهى اختباركن. ستجدن المخرج هناك عند الأضواء التي تضيء وتنطفئ.»
شدت نيكول ذراع كيتي بحزم، فسارت معها الفتاة تجاه المخرج على مضض. فقالت كيتي في عناد: «ولكن ماذا سيفعلون لو قررنا أن نظل هنا حتى تنتهي تجربة أخرى؟ من يدري؟ ربما يكون واحد من كائنات الأوكتوسبايدر هنا الآن. لماذا لا يسمحون لنا أبدًا بأن نلتقي بأي كائن آخر؟»
أجابت نيكول وقد بدت في صوتها مسحة من الغضب: «لقد شرح الرجل النسر أكثر من مرة أنه في خلال «هذه المرحلة» لن يسمح لنا إلا برؤية المخلوقات الأخرى دون أي تواصل آخر معها. وقد سأل والدك عن السبب مرارًا وتكرارًا وكان الرجل النسر دائمًا ما يجيب بأننا سنكتشف في الوقت المناسب … آمل أن تحاولي الكف عن العناد، أيتها الصغيرة.»
تذمرت كيتي قائلةً: «هذا لا يختلف كثيرًا عن السجن. نحن لا نتمتع إلا بأقل قدر من الحرية هنا. وهم لا يجيبون أبدًا عن الأسئلة المهمة.»
كن قد وصلن إلى الممر الطويل الذي يربط المعمل بمركز المواصلات. فوجدن مركبة صغيرة في انتظارهن بجانب رصيف متحرك. وعندما دخلن انغلق الجانب العلوي من السيارة عليهن وأُضيئت الأنوار الداخلية. قالت نيكول لكيتي وهي تخلع خوذتها بعد أن بدأت السيارة تتحرك: «قبل أن تسألي، أخبرك أنه غير مسموح لنا برؤية ما بالخارج أثناء هذه المرحلة من الانتقال لأننا نمر بأجزاء من الوحدة الهندسية غير مسموح لنا بالحصول على معلومات عنها. وقد طرح والدك والعم مايكل أسئلة حول هذا الموضوع بعد اختبار النوم الأول الذي مروا به.»
بعد دقائق من الصمت، سألت سيمون: «هل تتفقين مع والدي في أننا نمر بكل اختبارات النوم هذه تمهيدًا لرحلة فضائية ما؟»
أجابت نيكول: «يبدو هذا محتملًا. ولكننا لسنا متأكدين، بالطبع.»
سألت كيتي: «وإلى أين سيرسلوننا؟»
أجابت نيكول: «ليست لدي أدنى فكرة. فالرجل النسر يراوغنا بشدة عندما نطرح أي سؤال يتعلق بمستقبلنا.»
كانت السيارة تنطلق بسرعة نحو عشرين كيلومترًا في الساعة. وتوقفت بعد خمس عشرة دقيقة من السير. انحسر «غطاء» المركبة حالما ارتدين خوذاتهن جميعًا ثانيةً. وخرج النساء إلى مركز المواصلات الرئيسي التابع للوحدة الهندسية. كان تصميم المركز دائريًّا ويبلغ ارتفاعه عشرين مترًا. وكان يضم مبنيَين ضخمين متعددَي الطوابق تنطلق منهما عربات ناقلة أنيقة، بالإضافة إلى بضعة أرصفة متحركة تؤدي إلى أماكن تقع داخل الوحدة. تنقل هذه القطارات المعدات والآليين والكائنات الحية من وإلى وحدة الإسكان والوحدة الهندسية ووحدة الإدارة، وهي المجمعات الثلاثة الضخمة الكروية الشكل التي تمثل المكونات الرئيسية للنود.
ما إن دخلت نيكول وابنتاها إلى المحطة، حتى سمعن صوتًا في سماعات الاستقبال المركبة في خوذاتهن. كان يقول: «عربتكن في الطابق الثاني. اركبن المصعد الموجود إلى اليمين. ستغادر العربة في غضون أربع دقائق.»
أدارت كيتي عينيها في المكان متفحصةً مركز المواصلات. فرأت أرففًا عليها معدات، وسيارات تنتظر لكي تقل المسافرين إلى أماكن تقع داخل الوحدة الهندسية، كما رأت أضواءً ومصاعد وأرصفة محطات. غير أن كل شيء كان ساكنًا، ولم يكن هناك آليون أو كائنات حية.
قالت لأختها ووالدتها: «ماذا سيحدث لو رفضنا الصعود إلى أعلى؟» ثم توقفت في منتصف المحطة. وصاحت وهي تنظر إلى السقف المرتفع قائلةً: «عندها لن يسير جدولكم كما خططتم.»
قالت نيكول بنفاد صبر: «كفى، يا كيتي، لقد سبق وناقشنا هذا الأمر منذ قليل في المعمل.»
عادت كيتي إلى السير. وقالت متذمرةً: «ولكنني أريد حقًّا أن أرى شيئًا مختلفًا. أعرف أن هذا المكان لا يكون خاليًا هكذا طوال الوقت. لماذا إذن يعزلوننا؟ وكأننا نفتقر إلى النظافة أو شيء من هذا القبيل؟»
قال الصوت الآلي: «ستغادر عربتكن خلال دقيقتين. توجهن إلى الطابق الثاني على اليمين.»
عندما وصلن إلى المصعد علَّقت سيمون قائلةً: «أليس من المدهش أن الآليين والمتحكمين في المكان يستطيعون التواصل مع كل نوع بلغته؟»
أجابت كيتي: «أعتقد أن هذا الأمر غريب. كم أود لو رأيت الكائن أو الشيء الذي يتحكم في هذا المكان يرتكب خطأً، ولو لمرة واحدة. كل شيء هنا متقن إلى حد مبالغ فيه. كم أود أن يتحدثوا إلينا بلغة المخلوقات الطائرة. أو أسمعهم وهم يكلمون المخلوقات الطائرة نفسها.»
في الطابق الثاني، مَشَين ببطء على رصيف مسافة أربعين مترًا تقريبًا حتى وصلن إلى مركبة شفافة على شكل رصاصة في نفس حجم سيارة كبيرة جدًّا من سيارات الأرض. كانت المركبة واقفة كالمعتاد في مسار يقع إلى يسار المنطقة الوسطى. هناك أربعة مسارات متوازية على الرصيف؛ اثنان على الجانب الأيمن من المنطقة الوسطى واثنان على الجانب الأيسر. وكانت جميع المسارات الأخرى شاغرة في الوقت الحالي.
استدارت نيكول ونظرت إلى الجانب الآخر من مركز المواصلات. ورأت بزاوية ستين درجة محطة عربات ناقلة مماثلة. تؤدي العربات الموجودة على الجانب الآخر إلى وحدة الإدارة. كانت سيمون تراقب والدتها. وسألتها: «هل ذهبت إلى هناك من قبل؟»
أجابت نيكول: «لا. ولكنني متأكدة أن هذا سيكون ممتعًا. فوالدك يقول إنها تبدو غريبة على نحو رائع عن قرب.»
قالت نيكول في نفسها: ما أشد ولع ريتشارد بالاستكشاف! وتذكرت تلك الليلة التي مر عليها عام والتي رحل فيها زوجها ليتطفل على إحدى المركبات المتوجهة إلى وحدة الإدارة. فارتعدت. في تلك الليلة، خرجت إلى الردهة مع ريتشارد وحاولت أن تثنيه عن الخروج وهو يرتدي بذلة الفضاء. وكان قد توصل إلى طريقة يضلل بها مراقب الباب (في اليوم التالي ركب الراميُّون نظامًا جديدًا آمنًا) ولم يطق صبرًا على القيام بجولة «لا يشرف عليها أحد».
في تلك الليلة لم يغمض لنيكول جفن إلا قليلًا. وفي الصباح الباكر كشفت لوحة الأضواء عن وجود شخص ما أو شيء ما في الردهة. وعندما نظرت رأت على الشاشة رجلًا أشبه بطائر يقف هناك حاملًا بين ذراعيه زوجها المغشي عليه. وكان هذا أول لقاء لهما بالرجل النسر …
ثبت اندفاع العربة أظهرهن للحظات في مساند مقاعدهن وأعاد نيكول إلى الحاضر. ثم انطلقت بهن خارجًا من الوحدة الهندسية. وفي أقل من دقيقة، كن يندفعن بأقصى سرعة في الأسطوانة الطويلة الشديدة الضيق التي تصل بين الوحدتين.
تقع المنطقة الوسطى ومسارات العربات الأربع في منتصف الأسطوانة الطويلة. وإلى اليمين على مدى البصر، كانت أضواء وحدة الإدارة المستديرة تلمع في الفضاء الأزرق. أخرجت كيتي نظارتها المكبرة الصغيرة. وقالت: «أريد أن أكون مستعدة. فهي دائمًا ما تمر بسرعة شديدة.»
وبعد دقائق أعلنت قائلةً: «إنها قادمة»، وتكدس الثلاثة في الجانب الأيمن من المركبة. ورأين في الأفق عربة تقترب على الجانب الآخر من المسار. وبعد ثوانٍ، صارت في جوارهن لكن لم يكن أمامهن سوى ثانية يحدقن خلالها في ركاب المركبة المتجهة إلى الوحدة الهندسية.
قالت كيتي والعربة تندفع بجوارهن: «مذهل!»
وقالت سيمون: «رأيت نوعين مختلفين من المخلوقات.»
قالت كيتي: «مجموع عددهما ثمانية أو عشرة مخلوقات.»
قالت سيمون: «مجموعة ذات لون وردي ومجموعة ذات لون ذهبي. والمجموعتان تضمان مخلوقات مستديرة الشكل في معظمها.»
«ولها مجسات طويلة نحيلة تشبه الخيوط التي تظهر في الهواء حين تكون السماء شديدة الصفاء. كم يبلغ حجمها برأيك يا أمي؟»
فأجابتها نيكول: «قد يصل قطر كلٍّ منها إلى خمسة أو ستة أمتار. إنها أكبر منَّا كثيرًا.»
قالت كيتي مرة أخرى: «مذهل! كان هذا مثيرًا حقًّا.» كان الانفعال يطل من عينيها. هذه الفتاة كانت تهوى الإحساس باندفاع الأدرينالين في جسدها.
حدثت نيكول نفسها قائلةً: «أنا أيضًا لم تتوقف دهشتي أبدًا. ولو مرة واحدة طوال الثلاثة عشر شهرًا الماضية. ولكن هل هذا هو كل شيء؟ هل أحضرونا كل هذه المسافة من الأرض لكي يُجروا علينا الاختبارات؟ ولكي يثيروا اهتمامنا بمعرفة أن هناك كائنات من عوالم أخرى؟ أم أن هناك هدفًا آخر أهم؟»
خيم الصمت دقائق على المركبة المسرعة. قربت نيكول ابنتيها منها؛ إذ كانت تجلس بينهما. وقالت: «تعرفان أني أحبكما، أليس كذلك؟»
أجابت سيمون: «بلي يا أمي. ونحن أيضًا نحبك.»
٢
كان حفل لَمِّ الشمل رائعًا. احتضن بينجي سيمون التي يعشقها حالما دخلت الشقة. وفي خلال أقل من دقيقة ألقت كيتي باتريك على الأرض وثبتته عليها.
وقالت: «انظر، لا يزال بإمكاني أن أغلبك.»
أجاب: «ولكن ليس بسهولة. فأنا أزداد قوةً. ومن الأفضل لك أن تأخذي حذرك بعد هذا.»
احتضنت نيكول ريتشارد ومايكل قبل أن تجري إيلي الصغيرة وتلقي بنفسها بين ذراعيها. وقعت هذه الأحداث في المساء، وتحديدًا بعد العشاء بساعتين وفقًا للساعة المقسمة إلى أربع وعشرين ساعة التي تستخدمها الأسرة، وكانت إيلي على استعداد للخلود إلى النوم عند وصول والدتها وأختيها. فتركتهم وتوجهت إلى غرفتها بعد أن تباهت أمام نيكول بقدرتها على قراءة كلمات «قطة» و«كلب» و«ولد».
ترك الكبار باتريك مستيقظًا إلى أن شعر بالإرهاق. ثم حمله مايكل إلى الفراش وغطته نيكول. فقال: «أنا سعيد بعودتك يا أمي. افتقدتك كثيرًا.»
أجابت نيكول: «وأنا أيضًا افتقدتك كثيرًا. لا أظن أنني سأتغيب طويلًا مرة أخرى.»
قال الطفل ذو السنوات الست: «آمل هذا. فأنا أحب وجودك هنا.»
في الساعة الواحدة صباحًا، كان الجميع نائمين ما عدا نيكول. لم تكن متعبة. ففي النهاية، لقد استيقظت للتو من نوم دام خمسة أسابيع. وبعد أن ظلت راقدة بجوار ريتشارد في ضجر طوال ثلاثين دقيقة قررت أن تتمشى.
ليست هناك نوافذ في شقتهم نفسها، ولكن الردهة الصغيرة التي تتفرع من المدخل لها نافذة تطل على مشهد رائع لرأسَي النود. مشت نيكول إلى الردهة وارتدت بذلة الفضاء ووقفت أمام الباب الخارجي. لم ينفتح الباب. فابتسمت لنفسها. وقالت: «ربما تكون كيتي محقة، ربما نكون مجرد سجناء هنا.» كان من الواضح منذ بداية إقامتهم أن الباب الخارجي كان يجري إغلاقه من وقت إلى آخر؛ إذ أوضح الرجل النسر أن هذا «ضروري» لحمايتهم من رؤية أشياء «لن يستطيعوا فهمها».
نظرت نيكول من النافذة. فرأت في هذه اللحظة مركبة مكوكية لها نفس شكل المركبة التي أقلتهم إلى النود منذ ثلاثة عشر شهرًا، تقترب من مركز المواصلات الملحق بوحدة الإسكان. تساءلت في نفسها: «ترى أي مخلوقات رائعة على متن هذا المكوك؟ وهل تشعر هذه المخلوقات بنفس الدهشة التي شعرنا بها في بداية وصولنا إلى هنا؟»
•••
لن تنسى نيكول أبدًا أول مشهد للنود وقع عليه بصرها. بعد أن رحل جميع أفراد الأسرة من محطة الترانزيت ظنوا أنهم سيصلون إلى المحطة التالية في غضون عدة ساعات. ولكنهم كانوا مخطئين. إذ أخذوا ينفصلون عن مركبة راما المضيئة ببطء، وبعد مرور ست ساعات لم يعد بوسعهم رؤية أي أثر لها عن يسارهم. وبدأت أضواء محطة الترانزيت خلفهم تخفت. وكانوا جميعًا متعبين. وفي نهاية الأمر نام كل أفراد الأسرة.
وبعد هذا، كانت كيتي هي أول من أيقظتهم. إذ صاحت بانفعال جارف وبلهجة ملؤها الانتصار قائلةً: «أرى الوجهة التي نتجه إليها.» ثم أشارت إلى خارج نافذة المكوك الأمامية جهة اليمين قليلًا حيث كان هناك شعاع ضوء قوي ينقسم إلى ثلاثة أفرع. إذ أخذت صورة النود تزداد وضوحًا على مدى الساعات الأربع التالية. كان المشهد خلابًا من هذه المسافة؛ إذ ظهر أمامهم مثلث متساوي الأضلاع تحتل رءوسَه ثلاثُ كرات شفافة متوهجة. يا له من كيان هائل! إن تجربتهم في راما على ما تحويه من عجائب لم تهيئهم لمواجهة عظمة هذا التكوين الهندسي المبتكر. إذ يزيد طول كلٍّ من أضلاعه عن مائة وخمسين كيلومترًا وهذه الأضلاع تعد ممرات نقل طويلة تصل بين الوحدات الكروية. ويبلغ قطر الكرات الواقعة على رءوس المثلث خمسة وعشرين كيلومترًا. وبالرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل البشر عن النود، كان بإمكانهم تمييز النشاط الدائر في عدة مستويات منفصلة داخل الوحدات.
عندما غير المكوك طريقه وبدأ يتوجه نحو أحد رءوس المثلث، سأل باتريك نيكول بقلق: «ماذا سيحدث الآن؟»
حملت نيكول باتريك وضمته بين ذراعيها. وقالت له بهدوء: «لا أدري يا حبيبي. ليس أمامنا إلا الانتظار.»
كان بينجي تتملكه الرهبة الشديدة. وأخذ يحدق ساعات في المثلث الهائل المضيء في الفضاء. وكثيرًا ما وقفت سيمون بجانبه وهي ممسكة بيده. وحين كان المكوك يقترب من إحدى الكرات شعرت أن عضلاته مشدودة. فقالت له محاولةً أن تطمئنه: «لا تقلق يا بينجي، كل شيء سيكون على ما يرام.»
دخل المكوك الذي يُقلُّهم ممرًّا ضيقًا محفورًا في الجسم الكروي، ثم دخل في رصيف يقع عند حافة مركز المواصلات. غادر أفراد الأسرة المكوك في حذر وهم يحملون حقائبهم وكمبيوتر ريتشارد. وبعدها على الفور رحل المكوك، فأثار خوف الجميع حتى الكبار منهم باختفائه السريع. وبعد أقل من دقيقة سمعوا أول صوت آلي غير محدد المصدر.
قال الصوت متحدثًا بوتيرة واحدة: «مرحبًا. لقد وصلتم إلى وحدة الإسكان. سيروا في خط مستقيم للأمام وتوقفوا أمام الحائط الرمادي.»
سألت كيتي: «من أين يأتي هذا الصوت؟» وظهر في صوتها الرعب الذي كان ينتابهم جميعًا.
أجاب ريتشارد: «من كل مكان. فهو فوقنا وحولنا وتحتنا.» ثم أخذوا يقلبون بصرهم في الحوائط والسقف.
تساءلت سيمون: «كيف تعلم الإنجليزية؟ هل هناك أناس آخرون في هذا المكان؟»
ضحك ريتشارد ضحكة تنم عن القلق. وأجاب: «هذا غير محتمل. الأرجح أن هذا المكان يتواصل مع راما على نحو ما، ولديه خوارزمية لغوية رئيسية. تُرى …»
قاطعه الصوت قائلًا: «سيروا إلى الأمام من فضلكم. إنكم في محطة مواصلات. المركبة التي ستقلكم إلى المكان الخاص بكم من الوحدة منتظرة في طابق سفلي.»
استغرق الأمر منهم عدة دقائق حتى وصلوا إلى الحائط الرمادي. لم يمر الأطفال بحالة انعدام وزن تام كهذه من قبل. فما كان من كيتي وباتريك إلا أن قفزا من على الرصيف وتشقلبا في الهواء ودارا حول نفسيهما. عندما رأى بينجي أنهما يتسليان حاول أن يقلد حركاتهما الغريبة عليه. لكن لسوء الحظ، لم يستطع أن يفهم كيف يستخدم السقف والحوائط ليعود إلى الرصيف. وعندما أنقذته سيمون كان قد فقد إحساسه بالمكان تمامًا.
عندما أخذ أفراد الأسرة الوضع الصحيح أمام الحائط الرمادي ومعهم أمتعتهم، انفتح باب واسع فدخلوا حجرة صغيرة. وجدوا هناك بِذلًا ضيقة وخوذات وأحذية مرتبة على مقعد. قال الصوت باللهجة الرتيبة نفسها: «ليس هناك غلاف جوي يناسب نوعكم في محطة المواصلات وفي معظم المناطق العامة في النود. لذا ستحتاجون إلى ارتداء هذه الملابس في كل مكان إلا شقتكم.»
عندما ارتدى الجميع الملابس انفتح باب على الجانب المقابل من الحجرة ودخلوا القاعة الرئيسية في مركز المواصلات الملحق بوحدة الإسكان. كانت المحطة مطابقة لمحطة الوحدة الهندسية التي سيدخلونها فيما بعد أثناء الاختبار. نزلت نيكول وأسرتها طابقين، حسب تعليمات الصوت، وداروا حول الحد الخارجي الدائري إلى حيث تنتظرهم «الحافلة» الخاصة بهم. كانت الحافلة مريحة وجيدة الإضاءة ولكنهم لم يستطيعوا أن يروا ما بالخارج طوال الساعة والنصف التي قضوها في التنقل عبر متاهة الممرات. أخيرًا، توقفت الحافلة وانفتح بابها العلوي.
ما إن وقفوا على الأرض المعدنية حتى أعطاهم صوت آخر شبيه بالأول التعليمات: «سيروا في القاعة التي تقع يسارًا. ستجدون أنها تنقسم إلى ممرين بعد أربعمائة مترٍ. اسلكوا الممر الأيمن وتوقفوا أمام ثالث علامة مربعة تقع إلى اليسار. هذا هو باب شقتكم.»
انطلق باتريك إلى داخل إحدى القاعات. فأعلن الصوت دون أي تغيير في طبقته: «دخلت قاعة خطأ. عد إلى مكان وقوف المركبات وادخل القاعة التالية التي تقع إلى يسارك.»
لم يروا أي شيء في الطريق من المحطة إلى شقتهم. وخلال الشهور التالية كانوا سيسلكون هذا الطريق مرارًا وتكرارًا إما ذهابًا إلى غرفة التمرينات أو إلى الغرفة التي يخضعون فيها لاختبارات من حين إلى آخر في أعلى الوحدة الهندسية، ولن يروا أي شيء سوى الجدران والأسقف والعلامات المربعة التي سيتضح لهم أنها أبواب. كان من الواضح أن المكان يخضع لمراقبة دقيقة. ومع هذا فقد كان كلٌّ من نيكول وريتشارد ينتابهما من البداية إحساس يقيني بأن بعض الشقق المجاورة لهم — أو ربما الكثير منها — يسكنها شخص أو شيء ما، ولكنهم لم يروا في الممرات أيًّا من الآخرين قط.
بعد أن وجدوا الباب المحدد ودخلوا منه إلى شقتهم، خلعت نيكول وأفراد أسرتها الملابس الخاصة في الردهة ووضعوها في خزانات صنعت لهذا الغرض. وأثناء انتظار انفتاح الباب الداخلي، تناوب الأطفال النظر عبر النافذة إلى الوحدتين الكرويتين الأخريين. وبعد بضع دقائق شاهدوا بيتهم الجديد من الداخل لأول مرة.
انتاب الجميعَ شعورٌ بالانبهار. فشقة هذه الأسرة في النود تعد جنةً مقارنة بظروف المعيشة البدائية نسبيًّا التي كانوا يعيشون في ظلها في راما. إذ كان لكلٍّ من الأطفال غرفته الخاصة. وكان لمايكل جناح خاص به في أحد أطراف الشقة، وفي الطرف المقابل له تقع غرفة رائعة خاصة بريتشارد ونيكول، بها جميع التجهيزات وسرير كبير، وهي بالقرب من المدخل. كما تضم الشقة أربعة حمامات ومطبخًا وغرفة طعام وحتى غرفة لعب مخصصة للأطفال. بل إن كل قطعة أثاث كانت تناسب الغرفة التي صنعت لها تناسبًا يبعث على الدهشة وتتميز كلها بتصميم رفيع الذوق. وتزيد مساحة الشقة الداخلية عن أربعمائة مترٍ مربع.
وكانت الدهشة تسيطر على البالغين كذلك. ففي أول ليلة سألت نيكول ريتشارد بعيدًا عن مسامع الأطفال الذين كانوا يشعرون ببهجة عارمة: «بربك كيف استطاعوا فعل هذا؟»
ألقى ريتشارد نظرة مرتبكة في أنحاء المكان. وأجاب: «لا يسعني سوى أن أخمن أنهم كانوا يراقبون كل أفعالنا في راما ويرسلونها إلى هنا في النود. ومن المؤكد أنهم استطاعوا أيضًا الوصول إلى قواعد البيانات الخاصة بنا واستنتجوا طريقة حياتنا من تلك المعلومات.» ابتسم ريتشارد ابتسامة عريضة. وتابع قائلًا: «وبالطبع إذا كانت لديهم أجهزة استقبال حساسة يمكنهم — من هنا ونحن على هذه المسافة الشاسعة من الأرض — التقاط الإشارات التليفزيونية التي تنطلق من كوكب الأرض. أليس من المخجل أن يمثلنا …»
انطلق صوتٌ آخر مماثل ليقاطع سيل أفكار ريتشارد، قائلًا: «مرحبًا.» وكان يبدو أنه يصدر من كل الاتجاهات. وأضاف: «نأمل أن يكون كل ما في شقتكم قد نال رضاكم. إذا لم يكن كذلك، نرجو إبلاغنا. لا يمكننا الرد على كل ما يقوله كلٌّ منكم في جميع الأوقات. لذا وضعنا نظام اتصال بسيطًا. ستجدون على منضدة مطبخكم زرًّا أبيض. سنفترض أن كل ما يقوله أي شخص بعد الضغط على هذا الزر موجه لنا. عندما تنتهون اضغطوا على الزر مرة أخرى. بهذه الطريقة …»
قاطعته كيتي. كانت قد أسرعت إلى المطبخ وضغطت الزر. وقالت: «لدي سؤال أولًا. من أنتم؟»
تأخرت الإجابة ثانية تقريبًا. ثم جاءت هكذا: «نحن الذكاء الجماعي الذي يحكم النود. نحن هنا لنساعدكم ونوفر لكم الراحة ونمدكم باحتياجاتكم الأساسية. وسنطلب منكم من حين إلى آخر أن تقوموا بمهام محددة تساعدنا على فهمكم فهمًا أفضل …»
•••
لم تعد نيكول ترى المكوك الذي كانت تراقبه عبر النافذة. في الواقع، كانت مستغرقة في ذكرى وصولهم إلى النود حتى نسيت الوافدين بعض الوقت. الآن، وقد عادت إلى الحاضر، أخذت تتخيل جمعًا من المخلوقات الغريبة ينزلون من مركبتهم إلى الرصيف ويفاجئون عند سماعهم صوتًا يخاطبهم بلغتهم الأم. وقالت في نفسها: لا بد أن الإحساس بالدهشة إحساس عام، تشعر به كل المخلوقات العاقلة.
رفعت عينيها بعيدًا عن مجال الرؤية القريب وأخذت تتأمل وحدة الإدارة البعيدة. وسألت نفسها: «ما الذي يحدث هناك؟ نحن مخلوقات بائسة تقطع الطريق جيئةً وذهابًا بين وحدة الإسكان والوحدة الهندسية. ويبدو أن كل هذا يخضع لتخطيط منطقي. ولكن من هو المتحكم في كل هذا؟ ولماذا؟ ما المبرر الذي يدفع أحدًا ليأتي بكل هذه الكائنات إلى هذا العالم الصناعي؟»
لم تجد نيكول إجابة عن هذه الأسئلة اللانهائية. وكالمعتاد، جعلتها هذه الأسئلة تشعر بإحساس قوي بضآلتها. فشعرت برغبة تلقائية في الدخول واحتضان أحد أبنائها. وهذا الشعور جعلها تضحك على نفسها. وتقول في نفسها: هاتان الصورتان مؤشران صادقان على وضعنا في هذا الكون. إننا مهمون للغاية لأبنائنا ولكننا لا نمثل أي أهمية في النظام الهائل الذي يحكم الوجود. ويتطلب الأمر حكمة بالغة لإدراك أن وجهتَي النظر هاتين ليستا متناقضتين.
٣
كان الإفطار رائعًا. فقد طلب أفراد الأسرة من الطباخين المهرة الذين يطهون طعامهم إعداد مأدبة. وكان الذين صمموا شقتهم قد حرصوا على توفير أفران وثلاجة مليئة بالمواد الغذائية ليستخدموهما إذا ما احتاجوا إلى إعداد وجباتهم الخاصة من المواد الخام. غير أن الطباخين من المخلوقات الفضائية (أو من الآليين) كانوا بارعين جدًّا وتعلموا الطهي بسرعة كبيرة، وهو ما أغنى نيكول وأسرتها عن إعداد وجباتهم بأنفسهم معظم الوقت؛ إذ كانوا فقط يضغطون على الزر الأبيض ويطلبون ما يشاءون.
في المطبخ قالت كيتي: «اليوم أريد فطائر محلاة.»
وأضاف أخوها المقرب باتريك: «وأنا أيضًا، وأنا أيضًا.»
نطق الصوت بنبرة رتيبة: «أي نوع من أنواع الفطائر المحلاة؟ في ذاكرتنا أربعة أنواع مختلفة. هناك فطيرة الحنطة السوداء، وفطيرة اللبن المخيض …»
قاطعته كيتي قائلةً: «فطيرة اللبن المخيض. نريد ثلاث فطائر.» ثم نظرت إلى أخيها الصغير. وأضافت: «أربع أفضل.»
صاح باتريك: «بالزبد وشراب القيقب.»
قال الصوت: «أربع فطائر محلاة بالزبد وشراب القيقب. هل هذا كل شيء؟»
فردت كيتي بعد أن تشاورت قليلًا مع باتريك: «كوب عصير تفاح وآخر برتقال.»
قال الصوت: «سيكون الطعام جاهزًا بعد ست دقائق وثماني عشرة ثانية.»
عندما أُعد الطعام اجتمعت الأسرة حول المائدة في المطبخ. وحكى أصغر الأطفال لنيكول ما قاموا به أثناء غيابها. كان باتريك فخورًا للغاية بإنجازه الشخصي الجديد المتمثل في جري خمسين مترًا في قاعة التمرينات الرياضية. وعدَّ بينجي بصعوبة حتى وصل إلى عشرة فصفق الجميع له. كانوا قد انتهوا لتوِّهم من الإفطار وبدءوا نقل الأطباق من على المنضدة عندما دق جرس الباب.
نظر الكبار بعضهم إلى بعض، وذهب ريتشارد إلى لوحة التحكم حيث قام بتشغيل شاشة الفيديو. فرأى الرجل النسر واقفًا خارج الباب.
قال باتريك بتلقائية: «آمل ألا يكون هناك اختبار جديد.»
أجابت نيكول وهي تتجه نحو المدخل: «كلا … كلا، أشك في هذا. لقد جاء على الأغلب ليعطينا نتائج الاختبارات الأخيرة.»
أخذت نيكول نفسًا عميقًا قبل أن تفتح الباب. دائمًا ما يرتفع مستوى الأدرينالين في جسدها عندما تلتقي بالرجل النسر، وإن كثر عدد مرات لقائها به. لماذا؟ هل ما يخيفها هو معرفته الواسعة؟ أم سلطته عليهم؟ أم كانت تخافه هو نفسه؟
حياها الرجل النسر بما اعتبرته ابتسامة. وقال بلطف: «هل تسمحين لي بالدخول؟ أود أن أتحدث معك ومع زوجك والسيد أوتول.»
حدقت نيكول كعادتها في الشخص («أو الشيء» كما خطر لها فجأة) الواقف أمامها. كان طويلًا، فطوله قد يصل إلى نحو مترين وربع تقريبًا، وهيئته من عنقه فما دون ذلك تشبه هيئة البشر. ولكن يغطي ذراعيه وجذعه ريش صغير كثيف لونه رمادي داكن، باستثناء الأصابع الأربعة في كل يد، فهي ذات لون قشدي ولا ريش لها. أما أسفل وسطه، فلونه كلون جلدنا، ولكن يتضح من اللمعة التي تكسو الطبقة الخارجية منه أن صانعه لم يحاول تقليد جلد البشر الحقيقي. وكان جسده من أسفل وسطه يخلو من الشعر أو أي مفاصل أو أعضاء تناسلية مرئية. كما أن قدميه كانتا بلا أصابع. وعندما يمشي الرجل النسر يتجعد الجلد المحيط بركبتيه، ولكن هذه التجاعيد تختفي عندما يقف ساكنًا.
وجْهُ الرجلِ النسر له تأثير التنويم المغناطيسي. إذ إن له عينين واسعتين لونهما أزرق فاتح، وتقعان على جانبَي منقاره البارز ذي اللون المائل إلى الرمادي. وعندما يتحدث ينفتح المنقار ويصدر كلامه بلغة إنجليزية متقنة من حنجرة إلكترونية تقع في الركن الخلفي من عنقه. ولون الريش الذي يغطي أعلى رأسه أبيض، مما يتناقض تناقضًا صارخًا مع اللون الرمادي الداكن لوجهه ورقبته وظهره. والريش الذي يكسو وجهه خفيف ومتناثر.
عندما ظلت نيكول عدة ثوانٍ واقفة دون حراك، كرر الرجل النسر طلبه في أدب. فقال: «هل تسمحين لي بالدخول؟»
أجابت وهي تبتعد عن الباب: «طبعًا … طبعًا … آسفة … ارتبكت لأنني لم أرَك منذ وقت طويل.»
قال الرجل النسر وهو يدخل غرفة المعيشة: «صباح الخير يا سيد ويكفيلد، ويا سيد أوتول. كيف حالكم يا أولاد؟»
ابتعد باتريك وبينجي عنه. وبدا الخوف على جميع الأطفال إلا كيتي والصغيرة إيلي.
رد ريتشارد: «صباح النور.» وسأل: «ترى ماذا تريد؟» لم يكن الرجل النسر معتادًا على القيام بزيارات اجتماعية لنا أبدًا. فدائمًا ما يكون هناك غرض ما من زيارته.
أجاب الرجل النسر: «كما أخبرت زوجتك على الباب، أريد أن أتحدث معكم أنتم الثلاثة البالغين. هل يمكن أن تعتني سيمون بباقي الأطفال بينما نتحدث ساعة أو نحوها؟»
كانت نيكول قد بدأت بالفعل تقود الأطفال إلى غرفة اللعب عندما أوقفها الرجل النسر. وقال: «هذا ليس ضروريًّا، يمكنهم أن يستخدموا الشقة بأكملها. سنذهب نحن الأربعة إلى غرفة المؤتمرات الموجودة في الجهة المقابلة للردهة.»
قالت نيكول لنفسها: «آه. هذا أمر مهم إذن … لم نترك الأطفال بمفردهم في الشقة قط من قبل.»
فجأة، انتابها قلق شديد على سلامتهم. وقالت: «عذرًا أيها الرجل النسر. ولكن هل سيكون الأطفال بخير هنا؟ أعني، ألن يأتي إليهم أي زوار، أو شيء من هذا القبيل …؟»
أجاب الرجل النسر ببرود قائلًا: «كلا يا سيدتي. أعدك بألا يمس أولادك سوء.»
عندما بدأ البشر الثلاثة يرتدون بذلاتهم في الردهة أوقفهم الرجل النسر. وقال: «هذا ليس ضروريًّا. فقد أعدنا الليلة السابقة تهيئة هذا القسم من القطاع. فقد سددنا الردهة التي تقع قبل ملتقى الطرق مباشرة وحولنا هذه المنطقة بأكملها بحيث تصبح مماثلة لبيئة الأرض. وبهذا سيكون في وسعكم استخدام قاعة المؤتمرات دون أن ترتدوا أي ملابس خاصة.»
بدأ الرجل النسر التحدث فور جلوسهم في قاعة المؤتمرات الكبيرة عبر الردهة. وقال: «منذ أول لقاء لنا استفسرتم مني مرارًا وتكرارًا عن سبب وجودكم هنا ولم أعطكم أي إجابات مباشرة. وبعد انتهاء آخر مجموعة من اختبارات النوم — وأستطيع أن أقول إنها انتهت بنجاح — أُوكلتْ إليَّ مهمة إمدادكم بمعلومات عن المرحلة التالية لمهمتكم.
كما حصلت على إذن بأن أطلعكم على بعض المعلومات عن نفسي. فكما كنتم ترتابون جميعًا أنا لست كائنًا حيًّا — على الأقل وفقًا لتعريفكم.» ضحك. وتابع قائلًا: «لقد صنعني الذكاء الذي يحكم النود لأتواصل معكم حول ما يخص القضايا المهمة. فقد كَشفَت أولُ ملاحظاتنا لسلوككم عن أنكم لا تميلون إلى التعامل مع الأصوات التي لا ترون مصدرها. كان قد تقرر تصنيعي أو تصنيع شيء شبيه بي ليعمل مبعوثًا إلى أسرتكم حين كدت يا سيد ويكفيلد أن تتسبب في فوضى عارمة في هذا القطاع بمحاولة القيام بزيارة غير مقررة مسبقًا وغير معتمدة إلى وحدة الإدارة. وكان الهدف من ظهوري في هذا الوقت هو منع القيام بأي تصرفات غير ملائمة أخرى.»
وبعد دقيقة من التردد واصل الرجل النسر حديثه قائلًا: «لقد دخلنا الآن في أهم مرحلة من مراحل إقامتكم هنا. فالسفينة التي تسمونها راما موجودة في حظيرة المركبات تخضع لتجديدات شاملة وتغيير في تصميمها الهندسي. ومطلوب منكم أيها البشر المساهمة في عملية إعادة التصميم لأن بعضكم سيعود مع راما إلى النظام الشمسي الذي جئتم منه.»
بدأ ريتشارد ونيكول مقاطعته. فقال: «اصبرا حتى أنهي كلامي أولًا. فقد أُعد حديثي بعناية شديدة بحيث يتناول إجابة أسئلتكم المتوقعة.»
نظر الرجل الطائر إلى كلٍّ من البشر الثلاثة الجالسين حول الطاولة ثم تابع حديثه بوتيرة أبطأ. فقال: «لاحظوا أنني لم أقل إنكم ستعودون إلى الأرض. إذا نجحت الخطة التي وضعناها، فسيصبح بوسع من يذهب مع راما منكم أن يتواصل مع البشر الموجودين في نظامكم الشمسي، ولكن ليس في الأرض. ولن تعودوا إلى الأرض إلا إذا اضطررنا إلى الخروج عن الخطة الأساسية.»
وأضاف: «لاحظوا أيضًا أن «بعضكم» سيعود.» ثم وجه حديثه إلى نيكول مباشرة قائلًا: «سيدتي، ستسافرين قطعًا على متن راما ثانيةً. هذا أحد الشروط التي فرضناها على البعثة. لكننا سنترك لك ولأسرتك حرية اختيار من يرافقك في هذه الرحلة. يمكن أن ترحلي بمفردك إن أردت وتتركي الجميع هنا في النود أو أن ترافقي البعض. لكن لا يمكنكم أن تذهبوا جميعًا في هذه الرحلة. إذ يجب أن يبقى ثنائي تزاوجي واحد على الأقل هنا في النود لضمان إمدادنا ببعض البيانات التي تحتاجها موسوعتنا في حال فشل البعثة، مع أن احتمال الفشل غير وارد.
إن الهدف الرئيسي من صنع النود هو أن يمكننا من إنجاز مهمة وضع بيان بأشكال الحياة الموجودة في هذا الجزء من المجرة. ونعطي الدرجة الأولى من أولوياتنا للمخلوقات التي تتمتع بالقدرة على ارتياد الفضاء، والمواصفات التي وضعناها تتطلب جمع كمية هائلة من البيانات عن كل ما نقابله من هذه المخلوقات. وحتى يتسنى لنا القيام بهذه المهمة توصلنا — على مدار مئات الآلاف من السنوات وفقًا لتقويمكم — إلى نظام لتجميع هذه المعلومات يقلل من احتمال حدوث تدخل مدمر في نمط تطور هذه المخلوقات، لكنه في الوقت نفسه يزيد من إمكانية حصولنا على المعلومات الحيوية.
ويتضمن المنهجُ الأساسي الذي نتبعه لتحقيق هذا إرسالَ سفن فضائية مراقبة في مهام استطلاعية على أمل اجتذاب المخلوقات التي تجوب الفضاء، مما يمكننا من التعرف عليها وتحديد النمط الظاهري لها. وبعدها نرسل سفن فضاء مطابقة لتحقيق نفس الغاية التي أرسلت لها السفينة الأولى، وذلك لزيادة التواصل ولأسر عينات نموذجية حتى نتمكن من الحصول على ملاحظات مفصلة على مدى طويل في بيئة من اختيارنا.»
سكت الرجل النسر. كان عقل نيكول وقلبها يعملان بسرعة جنونية. إذ ثارت بداخلها عاصفة من الأسئلة. لماذا اختاروها هي على الأخص لتعود؟ هل ستتمكن من رؤية جنيفياف؟ وما الذي يعنيه الرجل النسر بكلمة «أسر»؛ ترى هل يعي أن هذه الكلمة عادة ما تحمل دلالة عدوانية؟ لماذا …؟
كان ريتشارد أول من تكلم. وقال: «أعتقد أنني فهمت معظم ما قلت، ولكنك لم تخبرنا ببعض المعلومات المهمة. لماذا تجمعون كل تلك المعلومات عن المخلوقات التي تستطيع السفر في الفضاء؟»
ابتسم الرجل النسر. وقال: «يتألف التسلسل الهرمي الذي ننظم فيه معلوماتنا من ثلاثة مستويات أساسية. ويعتمد السماح لشخص ما أو نوع ما بالوصول إلى كل مستوًى أو منعه على مجموعة من المعايير الثابتة. وكما أوضحت من قبل، صنفناكم منذ البدء في المستوى الثاني بصفتكم ممثلين لنوعكم. لكن من دلائل ذكائك أن السؤال الذي طرحته ابتداءً إجابته مصنفة ضمن المستوى الثالث.»
سأل ريتشارد وهو يضحك ضحكةً يغلفها التوتر: «هل يعني هذا الهراء أنك لن تجيب؟»
أومأ الرجل النسر برأسه إيجابًا.
سألت نيكول: «أيمكنك أن تخبرنا عن سبب اختياري أنا على وجه الخصوص للقيام برحلة العودة؟»
أجاب الرجل النسر: «لأسباب عدة. أولًا، نؤمن بأنك الأنسب من حيث التأهيل الجسدي للقيام برحلة العودة. كما تشير معلوماتنا إلى أن مهارات الاتصال المتميزة التي تتمتعين بها ستكون مفيدة للغاية بعد أن تتم مرحلة الأسر في المهمة. وهناك اعتبارات أخرى، ولكن هذان هما الأكثر أهمية.»
سأل ريتشارد: «متى سنرحل؟»
«لم يتحدد الموعد النهائي. فجزء من البرنامج يعتمد عليكم. لكن سنخبركم عند تحديد موعد نهائي للمغادرة. وسيكون غالبًا في غضون أقل من أربعة أشهر من شهوركم.»
قالت نيكول بينها وبين نفسها: «سنرحل قريبًا جدًّا. ويجب أن يبقى اثنان منا على الأقل هنا. ولكن من …»
وعندها، طرح مايكل سؤالًا يدور حول نفس الفكرة التي خطرت لنيكول. فقال: «يمكننا أن نترك أي ثنائي تزاوجي هنا في النود، أليس كذلك؟»
أجاب الرجل النسر: «تقريبًا يا سيد مايكل. ولكن لن يكون من المقبول أن تكون أصغر البنات إيلي شريكة لك؛ فقد لا نستطيع أن نبقيك على قيد الحياة وأن نحافظ على خصوبتك حتى تصل هي إلى سن البلوغ، ولكن أي ثنائي آخر مقبول. ولا بد أن نضمن ارتفاع احتمال فرصة الحصول على ذرية سليمة صحيًّا.»
سألت نيكول: «لماذا؟»
فأجاب: «هناك احتمال ضئيل للغاية أن تفشل مهمتكم وأن يصبح الثنائي الباقي في النود البشر الوحيدين الذين نستطيع مراقبتهم. ونحن نهتم بكم اهتمامًا خاصًّا لأنكم وصلتم إلى هذه المرحلة دون الحصول على المساعدة المعتادة مع أنكم مبتدئون في مجال ارتياد الفضاء.»
كان يمكن أن يستمر الحوار إلى ما لا نهاية. ولكن بعد عدة أسئلة أخرى قام الرجل النسر فجأة وأعلن أن مشاركته في المؤتمر انتهت. وحثهم على الإسراع في البت في موضوع «التقسيم» كما أسماه، لأنه ينوي أن يبدأ العمل مع أفراد الأسرة الذين سيقومون برحلة العودة باتجاه الأرض على الفور. إذ يقع على عاتق هؤلاء الأفراد مهمة مساعدته في تصميم «وحدة الأرض بداخل راما». وغادر الغرفة دون أن يقدم أي توضيح إضافي.
•••
اتفق الثلاثة الراشدون على عدم إطلاع الأطفال على أهم تفاصيل اجتماعهم مع الرجل النسر مدة يوم واحد على الأقل، حتى يتسنى لهم التفكير في الموضوع وتبادل الآراء حوله على انفراد. وفي مساء ذلك اليوم، تحدث الثلاثة بهدوء في غرفة المعيشة في شقتهم بعد أن نام الأطفال.
بدأت نيكول الحديث بالإقرار بأنها تشعر بالغضب وبقلة الحيلة. قالت إنه مع أن الرجل النسر كان لطيفًا جدًّا وهو يطلعهم على موضوع المشاركة في رحلة العودة، فإن حديثه كان يشي بإصدار أمر لهم بالتنفيذ. فكيف يمكنهم أن يرفضوا؟ إن الأسرة كلها تعتمد اعتمادًا تامًّا على الرجل النسر — أو على الأقل على الذكاء الذي يمثله — للحفاظ على حياتها. صحيح أنه لم يوجه لهم أي تهديدات، لكنه لا يحتاج إلى هذا. فليس أمامهم أي خيار سوى الإذعان لتعليماته.
تساءلت نيكول بصوت مرتفع عمن ينبغي أن يبقوا في النود. فقال مايكل إنه من الضروري جدًّا أن يبقى واحد على الأقل من الراشدين في النود. وكانت حجته مقنعة. إذ قال إن أي ثنائي من الأطفال، وإن كان سيمون وباتريك، سيحتاج إلى خبرة أحد الراشدين وحكمته ليحظى بحياة سعيدة في ظل هذه الظروف. وتطوع بالبقاء في النود مشيرًا إلى أنه من غير المحتمل أن يظل على قيد الحياة أثناء رحلة العودة بأي حال من الأحوال.
كانوا جميعًا يرون أنه من الواضح أن الذكاء الذي يدير النود ينوي تنويم البشر خلال معظم طريق العودة إلى النظام الشمسي. وإلا فما الهدف من كل اختبارات النوم هذه؟ لم ترُق نيكول فكرة أن الأطفال ستفوتهم فرصة عيش مراحل النمو المهمة في حياتهم. لذا، اقترحت أن تقوم بالرحلة بمفردها وتترك جميع أفراد الأسرة في النود. وأيدت رأيها بأن قالت إن الأطفال إن قاموا بالرحلة فلن يحظوا بحياة «طبيعية» على كوكب الأرض.
قالت: «إذا كنا فهمنا الرجل النسر فهمًا صحيحًا، فإن أي شخص سيعود سينتهي به الحال مسافرًا على متن رامًا متوجهًا إلى مكان آخر في المجرة.»
جادلها ريتشارد قائلًا: «لسنا متيقنين من هذا. وعلى الجانب الآخر، من سيبقى هنا سيُحكم عليه قطعًا بألا يرى أي بشر غير أسرته إلى الأبد.»
وأضاف ريتشارد إنه ينوي القيام برحلة العودة مهما تكن الظروف، ليس فقط ليكون بصحبة نيكول، ولكن ليخوض المغامرة أيضًا.
أثناء النقاش الذي دار في أول ليلة، لم يتوصل الثلاثة إلى اتفاق نهائي بشأن توزيع الأطفال. ولكنهم اتخذوا قرارًا نهائيًّا بشأن ما سيفعله الراشدون. سيبقى مايكل أوتول في النود. وسيقوم ريتشارد ونيكول برحلة العودة إلى النظام الشمسي.
لم تستطع نيكول أن تنام بعد الاجتماع. فقد ظلت تقلب كل الخيارات في عقلها. كانت متأكدة من أن سيمون ستقوم بدور الأم على نحو أفضل من كيتي. كما أن سيمون ومايكل متوافقان تمامًا، وكيتي لن ترضى أبدًا بالانفصال عن والدها. ولكن من سيبقى ليتزوج سيمون؟ هل سيكون بينجي الذي يحب أخته حبًّا جمًّا ولكنه لن يستطيع أبدًا أن يدخل في حوار عقلي معها؟
لم يغمض لنيكول جفن لساعات. ففي الواقع لم يعجبها أيٌّ من تلك الخيارات. وكانت تعرف مصدر انزعاجها جيدًا. غير أن الأمر قد حُسم، وستضطر مرة أخرى إلى مفارقة بعض أفراد أسرتها الذين تحبهم، ربما إلى الأبد. وبينما هي مستلقية في فراشها في وسط الليل عادت أشباح وآلام لحظات الفراق التي مرت بها في الماضي تطاردها. واعتصر الألم قلبها وهي تتخيل لحظة الفراق التي ستحين بعد أشهر قليلة. وحركت شغاف قلبها صور والدتها ووالدها وجنيفياف. فقالت لنفسها وهي تغالب نوبة الاكتئاب المؤقتة التي اجتاحتها: «ربما تكون هذه هي طبيعة الحياة. سلسلة لا تنتهي من لحظات الفراق المؤلمة.»
٤
«أمي، أبي، استيقظا. أريد أن أتحدث معكما.»
كانت نيكول تحلم. كانت ترى أنها تمشي في الغابة الواقعة خلف فيلا أسرتها في بوفوا. كان وقت الربيع وكانت الأزهار رائعة. لذا استغرق الأمر منها ثواني قليلة حتى أدركت أن سيمون تجلس على سريرهما.
مال ريتشارد على ابنته وطبع قبلة على جبينها. وسألها: «ما الأمر يا حبيبتي؟»
ردت قائلةً: «كنت أتلو صلاة الصبح مع العم مايكل ولاحظت أنه حزين.» وأخذت سيمون تنقل نظراتها الهادئة بين وجهَي والديها. ثم تابعت قائلةً: «وأخبرني بكل شيء عن الحوار الذي دار بينكم وبين الرجل النسر أمس.»
جلست نيكول بسرعة في سريرها وسيمون تواصل حديثها قائلة: «أخذت أفكر بعناية في كل شيء لما يزيد عن ساعة. أعرف أنني مجرد فتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها ولكنني أعتقد أني وصلت إلى حل لموضوع «التقسيم» هذا سيرضي كل أفراد أسرتنا.»
أجابت نيكول وهي تمد يديها نحو ابنتها: «حبيبتي سيمون، لستِ مسئولة عن حل …»
قاطعتها سيمون برفق قائلةً: «كلا يا أمي. من فضلك اسمعيني. إن الحل الذي سأقترحه يقوم على شيء لن يخطر ببال أيٍّ منكم. فهو لا يمكن أن يصدر إلا مني. وهو بالتأكيد الأفضل للجميع.»
عقَّد ريتشارد جبينه. وقال: «ماذا تقصدين؟»
أخذت سيمون نفسًا عميقًا ثم قالت: «أريد أن أبقى في النود مع العم مايكل. سأصبح زوجته وسنكون نحن «الثنائي التزاوجي» الذي يريده الرجل النسر. لن يكون أي شخص آخر مضطرًّا إلى البقاء، ولكنني سأكون سعيدة أنا ومايكل إن ظل بينجي معنا.»
أفزعت الفكرة ريتشارد. فصاح قائلًا: «ماذا؟» وأضاف: «العم مايكل في الثانية والسبعين من عمره! وأنت لم تبلغي الرابعة عشرة بعد. هذا هراء وسخف لا يقبله عقل …» وفجأة صمت.
ابتسمت الشابة الناضجة التي هي ابنته. وأجابت: «هل ما أقوله لا يقبله العقل وما يقوله الرجل النسر أمرًا يقبله العقل؟ هل هذا أسخف أم سفرنا ثماني سنوات ضوئية من الأرض لتلتحم مركبتنا بمثلث ذكي عملاق سيرسل بعضًا من أفراد أسرتنا في الاتجاه المعاكس؟»
تأملت نيكول سيمون في إكبار وإعجاب. ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة، ولكنها مدت يديها إلى ابنتها وعانقتها بقوة، واغرورقت عيناها بالدموع.
قالت سيمون بعد العناق: «كل شيء سيكون على ما يرام يا أمي. بعد أن تتمالكي نفسك بعد سماع الفكرة للمرة الأولى ستدركين أن ما أقترحه هو أفضل الحلول. إذا قمت أنت وأبي برحلة العودة معًا — وهذا ما أعتقد أن عليكما القيام به — سيصبح عليَّ أنا أو كيتي أو إيلي البقاء هنا في النود والزواج من باتريك أو بينجي أو العم مايكل. والزواج الوحيد السليم من الناحية الجينية هو زواجي أنا أو كيتي بالعم مايكل. لقد فكرت في كل الاحتمالات. ووجدت أنني أنا ومايكل متقاربان جدًّا. فنحن نعتنق نفس الدين. فإذا بقينا هنا وتزوجنا فسيصبح لكلٍّ من الأطفال الآخرين حق الاختيار. فيمكنهم البقاء هنا معنا أو العودة إلى النظام الشمسي معك أنت وأبي.»
وضعت سيمون يدها على ساعِد أبيها. وقالت: «أبي، أعرف أن هذا سيكون صعبًا عليك أكثر مما هو صعب على أمي من نواحٍ كثيرة. وأنا لم أُطلِع العم مايكل على فكرتي بعد. وأؤكد لك أنه لم يقترحها. وهي لن يمكن أن تنجح إن لم أحصل على تأييدك أنت وأمي. وسيكون صعبًا على مايكل قبول هذا الزواج وإن لم تعترضا.»
هز ريتشارد رأسه. وقال: «أنت مذهلة يا سيمون.» ثم احتضنها. وتابع حديثه قائلًا: «أرجوك دعينا نفكر في هذا بعض الوقت. وعديني ألا تنطقي بكلمة أخرى حول هذا الموضوع حتى أحصل أنا وأمك على فرصة كافية للنقاش.»
قالت سيمون: «أعدك.» وأضافت وهي عند باب غرفتهما: «أشكركما كثيرًا. أحبكما.»
استدارت وسارت في الردهة المضاءة. وكان شعرها الأسود الطويل ينسدل حتى خصرها تقريبًا. وقالت نيكول بينها وبين نفسها وهي تراقب مشية سيمون الرشيقة إن ابنتها أصبحت امرأة. وأن هذا ليس من الناحية الجسدية وحسب. وإنما على مستوى النضج، فنضجها يسبق سنها كثيرًا. تخيلت نيكول مايكل وسيمون زوجًا وزوجةً واندهشت عندما لم تستبشع الفكرة على الإطلاق. كانت تعلم أن مايكل أوتول سيقبل الأمر بسرور رغم اعتراضه في البداية، وقالت لنفسها: عند أخذ الجوانب كافة في الاعتبار، فإن فكرتك يا سيمون ربما تمثل الاختيار الأقل سوءًا في هذا الوضع الصعب.
•••
لم تتراجع سيمون عما عقدت العزم عليه رغم ما أبداه مايكل من اعتراض شديد على ما أسماه «قيامها بعملية استشهادية». وإنما أوضحت له بصبر أن زواجها منه هو الحل الوحيد لأنه هو وكيتي شخصيتان غير متوافقتين بشهادة الجميع، ولأن كيتي، على أي حال، ما زالت طفلة أمامها عام أو ثمانية عشر شهرًا قبل البلوغ. وسألته إن كان يفضل أن تتزوج هي أحد أشقائها وترتكب سفاح القربى بهذا؟ فأجاب بالنفي.
وافق مايكل عندما رأى أن ليس أمامه خيار صالح آخر وأن ريتشارد ونيكول لم يبديا أي اعتراضات قوية على الزواج. وخفف ريتشارد بالطبع من موافقته بعبارة «في هذه الظروف غير العادية»، ومع هذا فقد كان واضحًا لمايكل أن والد سيمون وافق على مضض على فكرة زواج ابنته ذات الثلاثة عشر عامًا برجل في سن جدها.
في غضون أسبوع واحد قرروا، بمشاركة من الأطفال، أن يرافق كيتي وباتريك والصغيرة إيلي ريتشارد ونيكول في رحلة العودة على متن راما. كان باتريك راغبًا عن ترك والده، ولكن مايكل رأى بكل كياسة أن ابنه ذا السنوات الست سيحظى بحياة «أفضل وأسعد» إذا ما ظل مع باقي أفراد الأسرة. وهكذا لم يتبقَّ سوى بينجي. أخبرْنا هذا الطفل المحبوب الذي يبلغ عمره الزمني ثمانية أعوام ولم يتجاوز عمره العقلي ثلاثة أعوام، أننا نرحب به سواء في راما أم في النود. لم يكن يفهم ما سيحدث للأسرة إلا بصعوبة، ولم يكن على أي استعداد لاتخاذ هذا الاختيار الخطير. أخافه القرار وأربكه، وأصبح حائرًا للغاية واعتراه اكتئاب شديد. لذا أجَّلَت الأسرة مناقشة مصير بينجي إلى أجل غير مسمى.
•••
قال الرجل النسر لمايكل والأطفال: «ستستغرق المهمة منا يومًا ونصفًا أو ربما يومين. فراما تجرى عليها بعض الإصلاحات في ورشة تقع على بعد عشرة آلاف كيلومترٍ من هنا.»
قالت كيتي في غضب طفولي: «أريد أن آتي معكم. فأنا أيضًا لدي أفكار جيدة بشأن وحدة الأرض.»
أكد ريتشارد لكيتي أنها ستنضم إليهم في مرحلة لاحقة من العملية. وقال: «سيكون هناك مركز تصميم بجوارنا هنا، في حجرة المؤتمرات.»
في النهاية، انتهى ريتشارد ونيكول من توديع الأسرة ولحقا بالرجل النسر عند المدخل. وارتديا بذلتيهما الخاصتين ودخلا المنطقة العامة في القطاع. ولاحظت نيكول على ريتشارد أمارات الحماس. وقالت له: «إنك تحب المغامرة، أليس كذلك، يا حبيبي؟»
أومأ برأسه. وقال: «أظن أن جوته هو من قال إن كل ما يصبو إليه الإنسان يمكن تقسيمه إلى أربعة عناصر: الحب والمغامرة والسلطة والشهرة. وتتشكل شخصياتنا وفقًا للمقدار الذي نصبو إليه من كلٍّ من هذه العناصر. ولطالما ظلت المغامرة هي العنصر المفضل لي.»
كانت نيكول مستغرقة في أفكارها وهما يدخلان مع الرجل النسر سيارةً كانت تنتظرهم. انغلق الغطاء، ومرة أخرى لم يعد بوسعهما رؤية أي شيء أثناء الرحلة إلى مركز المواصلات. قالت نيكول لنفسها: «المغامرة مهمة جدًّا لي أيضًا، ففي صباي المبكر كانت الشهرة هي هدفي الأول.» ثم ابتسمت لنفسها وقالت: «لكن الآن الغلبة للحب بالتأكيد … إن لم نجنح إلى التغيير لأُصبنا بالسأم.»
•••
انتقلوا في مكوك مماثل للمكوك الذي أقلهم إلى النود في البداية. وكان الرجل النسر جالسًا في المقدمة ونيكول وريتشارد في المؤخرة. وكان المنظر من خلفهم خلابًا؛ إذ كان يضم الوحدات الكروية وممرات المواصلات والمثلث المضاء بأكمله.
كانوا يسيرون في اتجاه الشعرى اليمانية وهو الملمح الأبرز في الفضاء المحيط بالنود. كان النجم الأبيض الضخم الحديث الوجود يتألق في الأفق ويبدو تقريبًا في نفس حجم شمسهم الأصلية عند النظر إليها عند حزام الكويكبات.
سأل ريتشارد الرجل النسر بعد أن مر نحو ساعة وهم ينطلقون بسرعة ثابتة: «كيف اخترتم هذا الموقع للنود؟»
أجاب: «ماذا تعني؟»
رد ريتشارد: «لماذا هنا، لماذا في نظام الشعرى اليمانية بدلًا من أي مكان آخر؟»
ضحك الرجل النسر. وقال: «هذا الموقع مؤقت. سنتحرك مرة أخرى فور مغادرة راما.»
شعر ريتشارد بالحيرة. وقال: «أتعني أن النود بأكمله يتحرك؟» استدار ونظر خلفه إلى المثلث الذي يتألق بوهن عن بعد. وتابع متسائلًا: «أين نظام الدفع؟»
أجاب الرجل النسر: «كل وحدة من الوحدات تتمتع بقدرات دفع محدودة لكنها لا تُستخدم إلا في حالة الطوارئ. أما التنقل بين المواقع المؤقتة فيتم عن طريق ما نسميه بمركبات السحب؛ إذ تثبت نفسها في منافذ على جوانب الأجسام الكروية وتمدها تقريبًا بكل السرعة اللازمة لتغيير المسار.»
فكرت نيكول في مايكل وسيمون فاعتراها القلق. وسألت: «إلى أين ستذهب النود؟»
أجاب الرجل النسر في غموض: «لم نحدد بعدُ على وجه التحديد. فهذه المهمة دائمًا ما تتم عشوائيًّا اعتمادًا على سير العمل في الأنشطة المختلفة.» وصمت برهة. ثم تابع حديثه قائلًا: «عندما ينتهي عملنا في مكان محدد ينتقل التشكيل بأكمله — النود وحظيرة المركبات ومحطة الترانزيت — إلى منطقة أخرى من المناطق محل اهتمامنا.»
أخذ ريتشارد ونيكول يحدق كلٌّ منهما في الآخر في صمت في المقعد الخلفي. إذ كان يصعب عليهما استيعاب الفكرة الرهيبة التي يطلعهما عليها الرجل النسر. النود بأكمله يتحرك! كان الأمر أكبر من أن يصدقه عقل. قرر ريتشارد أن يغير الموضوع.
سأل الرجل النسر: «ما تعريفك للأنواع التي تستطيع ارتياد الفضاء؟»
رد عليه: «أي الأنواع التي خرجت من الغلاف الجوي لكوكبها الأم سواء بنفسها أو عن طريق بديلها الآلي. أما لو لم يكن لكوكبها غلاف أو لم يكن لها كوكب أم من الأساس، فإن التعريف يزداد تعقيدًا.»
فسأله ريتشارد: «أتعني أن هناك مخلوقات عاقلة نشأت في الفراغ؟ كيف يكون هذا ممكنًا؟»
رد الرجل النسر: «أنت تغالي في إيمانك بأهمية الغلاف الجوي. وتميل إلى حصر ظهور أشكال الحياة في البيئات المماثلة لبيئتك، شأنك في هذا شأن كل المخلوقات الأخرى.»
بعد قليل سأله ريتشارد: «كم عدد الأنواع التي تتمتع بالقدرة على ارتياد الفضاء في مجرتنا؟»
رد عليه الرجل النسر: «إن الوصول إلى إجابة دقيقة لهذا السؤال هو أحد أهداف مشروعنا. تذكر أن هناك أكثر من مائة مليار نجم في مجرة درب التبانة. إن ما يربو بقليل على ربع هذه النجوم تحيط بها مجموعات من الكواكب. هذا يعني أنه إذا كان واحد من كل مليون نجم من النجوم التي لها كواكب يمثل موطنًا لنوع من المخلوقات يستطيع ارتياد الفضاء، لأصبح لدينا خمسة وعشرون ألف نوع من المخلوقات التي تستطيع ارتياد الفضاء في مجرتنا وحدها.»
ثم التفت الرجل النسر ونظر إلى ريتشارد ونيكول. وقال: «العدد الذي قدرناه للمخلوقات التي تجوب فضاء المجرة، وكثافتها في منطقة محددة من المعلومات المصنفة ضمن المستوى الثالث. ولكن بوسعي أن أقول لكم شيئًا واحدًا. وهو أن هناك مناطق تشهد كثافة في أشكال الحياة في المجرة يزيد فيها متوسط عدد المخلوقات التي تستطيع ارتياد الفضاء عن واحد لكل ألف نجم.»
صفَّر ريتشارد. وقال لنيكول بحماس: «هذه معلومات مذهلة. فهي تعني أن معجزة التطور المحلية التي جاءت بنا إلى الحياة ما هي إلا نموذج شائع يتكرر في أنحاء الكون. إننا متفردون قطعًا لأنه لا يمكن أن تكون العملية التي كان لها الفضل في وجودنا قد تكررت بالضبط في أي مكان آخر. ولكن الخاصية التي تميز نوعنا حقًّا؛ وهي قدرتنا على صياغة عالمنا وفهمه واستيعاب مكاننا في هذا النظام ككل؛ أقول إن هذه الخاصية لا بد أن آلاف المخلوقات الأخرى تتمتع بها! لأنه لولا هذه القدرة لما كان باستطاعتهم أن يرتادوا الفضاء.»
انتابت نيكول دهشة عارمة. وتذكرت لحظة مماثلة مرت منذ سنوات وذلك عندما كانت هي وريتشارد في غرفة الصور في ملجأ الأوكتوسبايدر في راما، حين كانت تحاول أن تستوعب مدى اتساع الكون من حيث مجموع محتوى المعلومات. الآن أيضًا، أدركت أن مجموع المعرفة البشرية بأسرها، وأن كل ما تعلمه أو عايشه أي فرد من أفراد الجنس البشري، لا يزيد مقداره عن حبة رمل في صحراء شاسعة تمثل مجموع المعرفة التي أتيحت لكل المخلوقات العاقلة في الكون.
٥
توقف المكوك بعيدًا عن حظيرة المركبات بعدة مئات من الكيلومترات. تتسم المنشأة بتصميم غريب؛ فهي مسطحة تمامًا من القعر ومستديرة من الجوانب ومن أعلى. ويقع على كل طرف من طرفيها مصنع وفي وسطها مصنع آخر، وتبدو المصانع الثلاثة من الخارج مثل القبة الجيوديسية. ويبلغ ارتفاعها ستين أو سبعين كيلومترًا. وينخفض السقف بين هذه المصانع الثلاثة عنه في المناطق الأخرى؛ إذ يبلغ ارتفاعه عن السطح المستوي ثمانية أو عشرة كيلومترات فقط، ولذا يبدو المنظر من أعلى الحظيرة أشبه بظهر جمل له ثلاثة أسنمة، إن كان لمثل هذا المخلوق وجود أصلًا.
كان الرجل النسر ونيكول وريتشارد قد توقفوا ليشاهدوا مركبة على شكل نجم البحر قال الرجل النسر إنها قد أُدخلت عليها تجديدات بحيث أصبحت مستعدة للانطلاق في رحلة جديدة. خرجت المركبة النجمة من القبة التي تقع على اليسار. ومع أنها تعد صغيرة مقارنة بالحظيرة وبراما فإن المسافة بين مركزها ونهاية أحد أذرعها تبلغ نحو عشرة كيلومترات كاملة. وقد بدأت تدور فور انفصالها عن الحظيرة. وبينما ظل المكوك «واقفًا» على بعد حوالي خمسة عشر كيلومترًا، زادت المركبة النجمة من معدل دورانها ليصل إلى عشر دورات في الدقيقة. وما إن استقر معدل دورانها حتى انطلقت بسرعة باتجاه اليسار.
قال الرجل النسر: «بهذا لا يبقى سوى راما في هذه المجموعة. فقد رحلت العجلة العملاقة التي كانت تتقدم صفَّكم في محطة الترانزيت منذ أربعة أشهر. فلم تكن تحتاج إلا لإصلاحات طفيفة.»
كان ريتشارد يود أن يطرح سؤالًا، ولكنه سيطر على نفسه. فقد عرف من خلال رحلته من النود أن الرجل النسر أعطاهما طوعًا تقريبًا كل المعلومات التي يسمح له بإطلاعهما عليها. وأردف الرجل النسر قائلًا: «أما راما فتمثل تحديًا لنا. وما زلنا لا نعرف بالتحديد متى سننتهي منها.»
اقترب المكوك من القبة اليمنى لحظيرة المركبات وبدأت الأضواء تلمع على سطح القبة متخذة شكل عقارب الساعة وهي تشير إلى الخامسة. وبعد النظر في المكان عن قرب استطاع ريتشارد ونيكول أن يريا بعض الأبواب الصغيرة وهي تنفتح. قال الرجل النسر: «ستحتاجان لارتداء بذلتيكما. فتحويل هذا المكان الضخم إلى بيئة قابلة للتغيير يعد معجزة هندسية لا طاقة لنا بها.»
ارتدى ريتشارد ونيكول ملابسهما بينما كان المكوك يرسو عند رصيف شبيه بالرصيف الواقع في مركز المواصلات. قال الرجل النسر وهو يجرب نظام الاتصال: «أتسمعانني جيدًا؟»
أجاب ريتشارد من خوذته: «تسلمتُ الرسالة.» ونظر هو ونيكول كلٌّ منهما إلى الآخر وضحكا، فقد ذكَّرهما هذا بالأيام التي قضياها في العمل روادًا للفضاء.
تقدمهما الرجل النسر في ممر طويل واسع. وفي النهاية انعطفوا إلى اليمين وخرجوا من باب يؤدي إلى شرفة واسعة ترتفع عشرة كيلومترات عن مصنع من الداخل أكبر مما قد يخطر على قلب بشر. شعرت نيكول وهي ترنو إلى الفراغ الهائل الواقع بين الشرفة والمصنع أن ركبتيها لا تقويان على حملها. ورغم انعدام الجاذبية، انتابت ريتشارد ونيكول موجات من الدوار. وأشاحا بوجهيهما في اللحظة نفسها. وأخذ كلٌّ منهما يتطلع إلى الآخر وهما يحاولان استيعاب ما رأياه لتوِّهما.
علق الرجل النسر قائلًا: «إنه لمشهد مؤثر.»
قالت نيكول لنفسها: كم تبخس الأمر حقه بقولك هذا! خفضت عينيها ببطء شديد لتلقي نظرة على المشهد المذهل. وفي هذه المرة أمسكت بالحاجز بكلتا يديها لتحفظ توازنها.
يضم المصنع الذي يقع أسفلهم نصف الأسطوانة الشمالي من راما بأكمله، من طرف الميناء الذي أرسوا فيه نيوتن ودخلوا منه، حتى طرف السهل الرئيسي وضفاف البحر الأسطواني. ولكن لم يريا البحر أو مدينة نيويورك الموجودة في راما، لكن مجموع المباني والأراضي الموجودة داخل هذا المصنع المُسَيَّج يكاد يساوي مجموع المباني والأراضي في ولاية رود آيلاند الأمريكية بأسرها.
التجويف والفوهة الواقعان في الطرف الشمالي لراما ظلا على حالهما دون تغيير، بما في ذلك الطبقة الخارجية لهما. تقع هذه المناطق من راما على يمين ريتشارد ونيكول والرجل النسر، وتكاد تصبح خلفهم إذا وقفوا على الرصيف الموجود بالشرفة. ويوجد أمامهم على الحاجز اثنا عشر تلسكوبًا لكلٍّ منها دقة مختلفة، تمكنوا من خلالها من رؤية السلالم المألوفة لهما التي بدت أشبه بثلاثة من دعامات مظلة، ويتكون كلٌّ منها من ثلاثين ألف درجة تؤدي إلى السهل الرئيسي في راما.
أما باقي نصف الأسطوانة الشمالي فهو منبسط ومنقسم إلى أجزاء منفصلة عن التجويف وعن بعضها، ولكنه مع هذا مصطف بعضه بجوار بعض. وتبلغ مساحة كل جزء من ستة إلى ثمانية كيلومترات مربعة، وترتفع حوافُّه عن الأرض بكثير نظرًا إلى انحنائها.
أوضح الرجل النسر قائلًا: «من الأسهل اتخاذ الخطوات الأولية في هذا التشكيل. لأنه ما إن نغلق الأسطوانة حتى تزداد صعوبة الدخول والخروج بالمعدات كلها.»
وشاهد ريتشارد ونيكول عبر التلسكوب منطقتين مختلفتين من السهل الرئيسي تعجان بالنشاط. لكنهما لم يستطيعا عد الآليين الذين يتحركون جيئة وذهابًا في المصنع أسفل منهما. كما لم يستطيعا أن يحددا بالضبط في حالات عديدة ما الذي يحدث. فالأعمال الهندسية التي تجري تتم على نطاق لم يخطر قط على عقول البشر.
قال الرجل النسر: «أحضرتكما إلى الأعلى أولًا لكي تتمكنا من إلقاء نظرة شاملة. وبعدها سننزل إلى أرضية المصنع وسيصبح بوسعكما رؤية المزيد من التفاصيل.»
حدق ريتشارد ونيكول فيه في ذهول. وضحك الرجل النسر وواصل حديثه. إذ قال: «إذا ألقيتما نظرةً متأنيةً وفكرتما بطريقة منطقية ستريان أن هناك منطقتين كبيرتين من المناطق التي يتكون منها السهل الرئيسي قد أخليتا تمامًا: واحدة بالقرب من البحر الأسطواني، والأخرى هي المنطقة الممتدة حتى نهاية السلالم. ونحن نقيم الإنشاءات الجديدة في هاتين المنطقتين. أما المنطقة التي تقع بين هاتين المنطقتين فلم تتغير عما كانت عليه عندما تركتم راما. إذ إننا نتبع قاعدة هندسية عامة هنا وهي ألا نغير سوى المناطق التي سنستخدمها في المهمة التالية.»
تهلل وجه ريتشارد. وسأل: «أتقول إن هذه المركبة الفضائية يعاد استخدامها مرارًا وتكرارًا؟ وأنكم لا تُدخلون عليها سوى التغييرات «اللازمة» في كل مهمة؟»
أومأ الرجل النسر برأسه.
فأردف ريتشارد قائلًا: «إذن فتلك البقعة التي تكتظ بناطحات السحاب هذه التي نسميها نيويورك ربما تكون قد بُنيت لمهمة ما سابقة، وتركتموها على حالها لعدم وجود حاجة إلى إدخال تعديلات عليها؟»
لم يُجب الرجل النسر عن السؤال الذي طرحه ريتشارد. وإنما أشار إلى المنطقة الشمالية من السهل الرئيسي. وقال: «سيكون مسكنكم هناك. لقد انتهينا لتوِّنا من البنية التحتية التي تسمونها «المرافق» بما فيها المياه والكهرباء والصرف الصحي والتحكم البيئي الكامل. وهناك مساحة من المرونة في تصميم باقي العملية. ولهذا أحضرناكم إلى هنا.»
سأل ريتشارد: «ما هذا المبنى الصغير ذو القبة الذي يقع جنوب المنطقة الخالية؟» كان لا يزال يشعر بالارتباك من فكرة أن نيويورك قد تكون مجرد أطلال باقية من رحلة راميَّة سابقة.
أجاب الرجل النسر قائلًا: «هذا هو مركز التحكم. سنخزن فيه التجهيزات التي تدير مسكنكم. عادة ما نخبئ مركز التحكم تحت المنطقة السكنية، في الغلاف الخارجي من راما، ولكن في حالتكم، قرر واضعو التصميم وضعه على السهل.»
سألت نيكول، وهي تشير إلى المنطقة الخالية التي تقع مباشرة شمال المكان الذي كان البحر الأسطواني سيحتله في حالة إعادة تجميع راما بالكامل: «ما هذه المنطقة الضخمة الموجودة هناك؟»
أجاب الرجل النسر قائلًا: «ليس مسموحًا لي أن أطلعكما على الغرض منها. في الواقع، أنا مندهش من أنهم سمحوا لي أن أطلعكما على حقيقة وجودها. فعادة ما يجهل المسافرون الذين يقومون برحلة العودة كل ما يتعلق بمحتويات مركبتهم ولا سيما خارج مسكنهم. والهدف من هذا هو — بالطبع — أن يظل كل نوع في الوحدة الخاصة به.»
قالت نيكول لريتشارد وهي تلفت انتباهه إلى المنطقة الأخرى: «انظر إلى هذا المرتفع أو البرج في المنتصف. لا بد أن ارتفاعه يبلغ تقريبًا كيلومترين.»
«وهو على شكل كعكة حلقية. أعني أن وسطه مجوف.»
لاحظا أن الجدران الخارجية لما قد يكون مسكنًا آخر متطورة للغاية. ولن يمكن رؤية ما بداخلها من داخل المصنع.
سألت نيكول: «أيمكنك أن تعطينا لمحة عن ساكني هذا المكان؟»
هز الرجل النسر رأسه بالنفي وقال بحزم: «هيا. حان وقت النزول.»
ترك ريتشارد ونيكول التلسكوب، وألقيا نظرة سريعة على المظهر العام لمسكنهم (الذي لم يكن بناؤه مكتملًا مثل المكان الآخر)، ثم تبعا الرجل النسر عائدين إلى الممر. بعد خمس دقائق من المشي وصلا إلى ما وصفه الرجل النسر بأنه مصعد.
قال المرشد: «يجب أن تثبتا أنفسكما في المقعدين بعناية. فنحن سننطلق بسرعة شديدة.»
كانت الزيادة في سرعة الكبسولة البيضاوية الغريبة هذه زيادة مفاجئة. ثم انخفضت سرعتها فجأة، بعد أقل من دقيقتين. حينها كانوا قد وصلوا إلى داخل المصنع. وسأل ريتشارد بعد إجراء حسابات عقلية سريعة: «هذا الشيء يتحرك بسرعة ثلاثمائة كيلومتر في الساعة، أليس كذلك؟»
أجاب الرجل النسر قائلًا: «هذا إن لم يكن في عجلة من أمره.»
خرج ريتشارد ونيكول من المصعد وراءه، وسارا نحو المصنع. كان المصنع ضخمًا. بل أكثر ضخامةً من راما نفسها من جوانب عدة، وقد استنتجا هذا لأن نحو نصف المركبة العملاقة كان على الأرض حولهما. تذكَّرا الأحاسيس الجارفة التي اعتملت في نفسيهما وهما يركبان عربات التلفريك في راما وينظران إلى الأبراج الغامضة الواقعة في التجويف الجنوبي على الجانب الآخر من البحر الأسطواني. عادت تنتابهما مشاعر المهابة والإعجاب التي صاحبت تلك اللحظات، بل عادت بقوة أكبر، وريتشارد ونيكول يحدقان في النشاط الجاري حولهما وفوقهما في المصنع.
كان المصعد قد أنزلهما في الطابق الأرضي على مشارف إحدى المناطق التي يضمها محل إقامتهم مباشرة. كان الغلاف الخارجي لراما أمامهما. فقاسا سمكه وهما يسيران إلى الجانب المقابل لمخرج المصعد. وقال ريتشارد لنيكول: «يبلغ سمكه حوالي مائتي متر»، مجيبًا على سؤال ظلت إجابته معلقة منذ أيامهم الأولى على متن راما.
سألت نيكول: «ماذا يوجد في الغلاف الخارجي تحت مسكننا؟»
رفع الرجل النسر ثلاثة من أصابعه الأربعة مشيرًا بذلك إلى أنهما يسألان عن معلومات تندرج تحت المستوى الثالث. فضحك الاثنان.
بعد دقائق قليلة، سألت نيكول الرجل النسر قائلة: «هل ستذهب معنا؟»
أجاب قائلًا: «إلى نظامكم الشمسي؟ كلا، لا أستطيع. ولكنني أقر بأن التجربة ستكون مشوقة.»
قادهما الرجل النسر إلى منطقة يبلغ فيها النشاط أوجه. حيث يجري عدد كبير من الرجال الآليين أعمالًا في بناء أسطواني ضخم يبلغ ارتفاعه نحو ستين مترًا. وقال الرجل النسر: «هذا مصنع إعادة تدوير السوائل الرئيسي. فكل السوائل التي تُصرف إلى المصارف أو البالوعات في مسكنكم تُرسل إلى هنا في النهاية. ثم يعاد ضخ المياه بعد تنقيتها إلى مستعمرتكم، ونحتفظ بباقي المواد الكيماوية لاستخدامها لأغراض أخرى. سنتخذ ما يلزم ليكون هذا المصنع حصينًا ومانعًا للتسرب. فهو يستخدم تكنولوجيا تفوق مستوى تطوركم بكثير.»
صعد بهما الرجل النسر سُلَّمًا يؤدي إلى داخل المسكن نفسه. ثم صحبهما في جولة مرهقة. كان يطلعهما خلالها على الملامح المميزة لكل قسم من أقسام المسكن، ثم كان يأمر أحد الآليين بنقلهما إلى القسم المجاور له حتى يعرفهما عليه.
بعد عدة ساعات عندما كان الرجل النسر يستعد ليصحبهما إلى قسم آخر من أقسام المكان الذي سيقيمان فيه، سألته نيكول: «ماذا تريدوننا أن نفعل هنا بالضبط؟»
أجاب الرجل النسر: «لا شيء محددًا. هذه هي الزيارة الوحيدة التي ستقومان بها إلى راما. والهدف منها هو أننا نريدكما أن تطلعا على حجم مسكنكما على الطبيعة، لعل هذا يسهل عملية وضع التصميم. ونحن نحتفظ في وحدة الإسكان بنموذج لراما يبلغ حجمه واحدًا على عشرين من الحجم الأصلي وسنقوم بما تبقى من العمل هناك.» ثم نظر إلى ريتشارد ونيكول. وقال: «نستطيع أن نرحل متى شئتما.»
جلست نيكول على صندوق معدني رمادي وأخذت تتطلع فيما حولها. كان عدد الآليين وتنوعهم كفيلين وحدهما بإصابتها بدوار. ولم يفارقها الذهول منذ أن خرجت من الشرفة التي تطل على المصنع، وصارت الآن تشعر بخدر شديد. فمدت يديها إلى ريتشارد.
وقالت: «أعرف أن عليَّ أن أدرس ما أراه يا حبيبي، ولكنني لم أعد أستوعب ما أراه. وأشعر بأنني قد اكتفيت بما رأيته.»
فرد ريتشارد قائلًا: «أوافقك الرأي. لم أكن لأتخيل أبدًا أنه من الممكن أن يكون هناك شيء مدهش ومبهر أكثر من راما، ولكن هذا المصنع بالتأكيد فاق ما تخيلته.»
قالت نيكول: «ألم يخطر ببالك، بعد أن دخلنا هنا، أن تتساءل كيف يبدو المصنِّع الذي صنع هذا المكان؟ بل الأدهى من ذلك أن تتخيل عملية تصنيع النود!
ضحك ريتشارد. وقال: «يمكننا أن نواصل التعليق إلى ما لا نهاية. إذا كان النود عبارة عن آلة بالفعل، كما تبدو، فإنها بالتأكيد من طراز يفوق طراز راما. وراما صُممت هنا على الأغلب. ويتحكم فيها النود، حسبما أظن. ولكن ما الذي صنع النود ويتحكم فيه؟ هل هو مخلوق مثلنا ظهر إلى الوجود بفعل التطور البيولوجي؟ هل لا يزال له وجود بأي معنًى يمكن أن نفهمه، أم أنه تحول إلى كيان آخر، بعد أن اكتفى بأن تبقى الآلات المدهشة التي صنعها شاهدًا على قدراته؟»
جلس ريتشارد بجوار زوجته. وقال: «هذا أكثر مما أحتمل. أعتقد أنني اكتفيت أنا أيضًا … لنعد إلى الأطفال.»
مالت نيكول وقبلته. وقالت: «أنت رجل ذكي جدًّا يا ريتشارد. وأظن أنك تعرف أن هذا أحد الأسباب التي جعلتني أحبك.»
تدحرج آلي ضخم يشبه الرافعة الشوكية بالقرب منهما وهو يحمل ألواحًا معدنية ملفوفة. فهز ريتشارد رأسه متعجبًا مرة أخرى. وقال بعد لحظة من الصمت: «أشكرك يا حبيبتي. أحبك أيضًا، وأنت تعرفين هذا.»
وقفا وأشارا إلى الرجل النسر بأنهما مستعدان للرحيل.
•••
في الليلة التالية، عندما عادا إلى شقتهما في وحدة الإسكان، ظل ريتشارد ونيكول مستيقظين طوال ثلاثين دقيقة بعد أن تطارحا الغرام. سألته نيكول: «ما بك يا حبيبي؟ هل ثمة ما يضايقك؟»
أجاب ريتشارد: «انتابتني اليوم نوبة ضبابية أخرى. وقد استمرت نحو ثلاث ساعات.»
قالت نيكول: «يا إلهي!» وجلستْ على الفراش. وتابعت قائلةً: «هل أنت بخير الآن؟ هل أحضر أداة الفحص الأوتوماتيكية وأرى إن كان هناك تغير في الظواهر البيولوجية؟»
أجاب ريتشارد وهو يهز رأسه نافيًا: «كلا. إن النوبات الضبابية التي تنتابني لم تظهر قط على آلتك. ولكن هذه النوبة أزعجتني حقًّا. فقد جعلتني أدرك كم أصبح عاجزًا عندما تنتابني هذه الحالة. فأنا أكاد أشعر بالعجز، فما بالك بتمكني من مساعدتك أنت أو الأطفال إن مررتم بأزمة حينها. هذه النوبات ترعبني.»
«هل تتذكر ما الذي جاء بهذه النوبة؟»
«طبعًا. كالعادة. كنت أفكر في رحلتنا إلى حظيرة المركبات، وخاصة في المسكن الآخر. ثم بدأت أتذكر، دون قصد مني، بضعة مشاهد غير مرتبطة من الرحلة التي قمت بها، وفجأة خيم الضباب على عقلي. كان كثيفًا جدًّا. بل إنني لا أظن أنني كنت سأتعرف عليك لو رأيتك أمامي في الدقائق الخمس الأولى منه.»
قالت نيكول: «كم يؤسفني هذا، يا حبيبي!»
«وكأن ثمة شيئًا ما يراقب أفكاري. وعندما أصل إلى جزء معين من ذاكرتي، يعطيني تحذيرًا ما.»
ساد الصمت دقيقة تقريبًا.
ثم قالت نيكول: «عندما أغمض عينيَّ أرى كل هؤلاء الآليين وهم ينطلقون في راما.»
«أنا أيضًا.»
«ومع هذا، ما زلت أعجز عن تصديق أن هذا كان مشهدًا حقيقيًّا، وليس مشهدًا من حلم، أو من فيلم.» ثم ابتسمت. وقالت: «لقد عشنا حياة لا يصدقها عقل على مدى الأعوام الأربعة عشر الماضية، أليس كذلك؟»
أجاب ريتشارد وهو يتقلب على جنبه متخذًا الوضع الذي عادة ما ينام فيه: «بالتأكيد. ومن يدري؟ ربما لم يأتِ الفصل الأكثر تشويقًا بعد.»
٦
ظهرت صورة هولوجرافية مجسمة لعدن الجديدة في منتصف حجرة المؤتمرات الكبيرة بمقياس يبلغ ١ إلى ٢٠٠٠. من المفترض أن يشغل المسكن الأرضي في راما مساحةَ مائة وستين كيلومترًا مربعًا من السهل الرئيسي، تبدأ من المنطقة المقابلة لقاعدة السلم الشمالي الطويل. ومساحته من الداخل كالتالي: يبلغ الطول عشرين كيلومترًا بالاتجاه المحيط بالأسطوانة، ويبلغ عرضه ثمانية كيلومترات بالاتجاه الموازي لمحور الدوران الأسطواني، ويبلغ الارتفاع ثمانية كيلومترات تمتد من أرض المستعمرة وحتى السقف الشاهق.
ولكن نموذج عدن الجديدة الذي كان في وحدة الإسكان والذي استخدمه الرجل النسر وريتشارد ونيكول لوضع التصميم كان يتسم بحجم أصغر. وكان يناسب حجم الغرفة الكبيرة، وقد أتاحت الصور الهولوجرافية المجسمة الفرصة للمصممين للسير داخل البنايات المختلفة وبينها. وكانت التعديلات تتم عن طريق استخدام الروتينات الفرعية الخاصة بالتصميم بمعاونة الكمبيوتر التي تنشط فور تلقي الأوامر الصوتية من الرجل النسر.
قالت نيكول للرجل النسر وهي ترسم دائرة بضوء مصباحها اليدوي الأسود حول مجموعة من المباني الواقعة في منتصف المستعمرة، بادئةً ثالث نقاش طويل يدور حول التصميم: «لقد غيرنا رأينا مرة أخرى. الآن، نعتقد أنها فكرة سيئة أن نجعل كل المنشآت في مكان واحد، إذ سيؤدي ذلك إلى الازدحام. لذا أرى أنا وريتشارد أنه من الأفضل أن ننشئ المناطق السكنية والمحال التجارية الصغيرة في أربع قرى منفصلة في زوايا المستطيل. بحيث لا تصبح هناك أي منشآت في المنطقة الوسطى سوى تلك التي يستخدمها الجميع.»
أضاف ريتشارد: «بالطبع، ستغير فكرتنا الجديدة بالكامل سير المواصلات الذي ناقشناه أنا وأنت أمس، وكذلك الأماكن متساوية المساحة التي خصصناها للحدائق وغابة شيروود، وبحيرة شكسبير وجبل الأوليمب. ولكن كل العناصر الأساسية يمكن دمجها في التصميم الحالي لعدن الجديدة؛ تفضل، ألقِ نظرة على هذا الرسم وسترى التوزيع الجديد للأماكن.»
عبس الرجل النسر، فيما يبدو، وهو ينظر إلى مساعديه البشريين. وبعد وهلة نظر إلى الخريطة الظاهرة على كمبيوتر ريتشارد المحمول. وعلق قائلًا: «آمل أن يكون هذا آخر تغيير كبير نجريه. فنحن لن نحرز تقدمًا كبيرًا إن بدأنا من الصفر في كل مرة نلتقي فيها.»
قالت نيكول: «نحن آسفان. ولكن الأمر استغرق منا بعض الوقت لنستوعب حجم مهمتنا. فحسبما فهمنا، فإننا نضع تصميم مكان سيقيم فيه مدةً طويلة ألفان من البشر، وإذا كان الأمر يتطلب القيام بعدة تغييرات لضمان إنجاز المهمة على الوجه الأمثل، فيتعين علينا ألا نبخل بالوقت اللازم لذلك.»
قال الرجل النسر: «أرى أنكما زدتما عدد البنايات الضخمة في المجمع المركزي. فما الغرض من هذا المبنى الواقع خلف المكتبة ومبنى الاجتماعات العامة؟»
أجابت نيكول: «إنه مبنى للأنشطة الرياضية والترويحية. سنضع فيه مضمارًا للجري، وملعب بيسبول، وملعب كرة قدم، وملاعب تنس، وقاعة للتمارين الرياضية، وحمام سباحة، إضافةً إلى عدد من المقاعد في كل مكان يكفي لاستيعاب كل السكان. أرى أنا وريتشارد أن ممارسة الألعاب الرياضية ستكون مهمة جدًّا لشغل الوقت في عدن الجديدة، خاصة أن الكثير من الأعمال الروتينية سيقوم بها الآليون.»
«لقد وَسَّعتُم أيضًا أحجام المستشفى والمدارس …»
قاطعه ريتشارد قائلًا: «كنا في منتهى الحذر ونحن نقسم المساحة المتاحة في البداية. فلم نترك ما يكفي من المساحة للأنشطة التي لم نحددها بعد.»
كان أول اجتماعين عُقدا لوضع التصميم قد استمرَّا مدة عشر ساعات. وفي البداية تعجب ريتشارد ونيكول من سرعة الرجل النسر في تضمين مقترحاتهم في توصيات محددة لإنجاز التصميم. ولكن بحلول الاجتماع الثالث كانا قد اعتادا على سرعته ودقته؛ فلم يعد ذلك أمرًا يثير دهشتهما. أما ما ظل يدهشهما فهو الاهتمام الشديد الذي أبداه ذلك الآلي الفضائي ببعض التفاصيل الثقافية. فعلى سبيل المثال، طرح عليهما أسئلة كثيرةً حول الاسم الذي اختير للمستعمرة الجديدة. وبعد أن شرحت له نيكول أنه من الضروري أن يكون لموطنهم اسم محدد، سأل الرجل النسر عن معنى اسم «عدن الجديدة» ومغزاه.
فشرح له ريتشارد قائلًا: «لقد أمضينا القسم الأكبر من إحدى الأمسيات في نقاش حول اسم المسكن، اشترك فيه جميع أفراد الأسرة وطُرح العديد من الاقتراحات الجيدة، معظمها مُستقًى من تاريخ الجنس البشري وآدابه. تصدَّر اسم يوتوبيا قائمة الاقتراحات. وفكرنا جديًّا في أركاديا والجنة والفردوس وكونكورديا وبوفوا. ولكن في النهاية رأينا أن عدن الجديدة هو أفضل خيار.»
أضافت نيكول قائلةً: «تمثل عدن الأسطورية بداية ما يمكن أن نسميه الثقافة الغربية الحديثة. إذ إنها كانت جنة خضراء مورفة الظلال يُقال إن إلهًا قديرًا كان قد خلق كل شيء قد صممها خصوصًا للبشر. كانت عدن الأولى هذه غنية بكل أشكال الحياة، ولكنها تخلو من التكنولوجيا.
كذلك، مركبة عدن الجديدة تمثل بداية. ولكنها تمثل نقيضًا لعدن القديمة من أغلب النواحي. فعدن الجديدة معجزة تكنولوجية تفتقر إلى أشكال الحياة المختلفة، على الأقل في البداية؛ فلن يكون بها سوى حفنة قليلة من البشر.»
ما إن أُتم وضع التصميم العام للمستعمرة حتى صارت هناك حاجة للبت في مئات التفاصيل. وأوكل إلى كيتي وباتريك مهمة وضع تصميم الحدائق العامة لكلٍّ من القرى الأربع. ومع أنهما لم يريا قط ورقة عشب فعلية أو زهرة حقيقية أو شجرة عالية، فقد شاهدا الكثير من الأفلام والكثير جدًّا من الصور التي تظهر فيها النباتات. وابتكرا في النهاية أربعة تصميمات مختلفة ورائعة، لمساحة تضم مناطق مفتوحة، وحدائق عامة، وممرات هادئة، تبلغ خمسة أفدنة في كل قرية.
سألت كيتي الرجل النسر: «لكن من أين سنأتي بالعشب؟ والزهور؟»
أجاب قائلًا: «سيأتي بها البشر القادمون من الأرض.»
«كيف سيعرفون ما ينبغي أن يحضروه؟»
«سنخبرهم نحن.»
كانت كيتي أيضًا هي من أشار بأن تصميم عدن الجديدة أغفل عنصرًا أساسيًّا، عنصرًا يعد ركنًا محوريًّا من أركان قصص ما قبل النوم التي كانت والدتها تحكيها لها وهي طفلة صغيرة. قالت: «لم أرَ حديقة حيوان قط. هل يمكن أن نحظى بحديقة حيوانات في عدن الجديدة؟»
غيَّر الرجل النسر الخطة الرئيسية أثناء انعقاد جلسة مناقشة التصميم التالية، بحيث صارت عدن الجديدة تضم حديقة حيوانات صغيرة عند حافة غابة شيروود.
•••
تعاون ريتشارد مع الرجل النسر في وضع معظم التفاصيل التكنولوجية لعدن الجديدة. أما البيئة المعيشية فتولت أمرها نيكول. كان الرجل النسر قد اقترح في البداية بناء نمط واحد من المنازل تضم مجموعة متماثلة من الأثاث لجميع البيوت. فانفجرت نيكول ضاحكةً. وقالت: «لا ريب أنك لم تتعلم الكثير عن نوعنا. يجب أن يتمتع البشر بالتنوع. وإلا شعروا بالملل. إذا صممنا كل المنازل بنفس الشكل، فسيبدأ البشر في تغييرها على الفور.»
ونظرًا إلى أن نيكول لم يكن أمامها متسع من الوقت (فالمعلومات التي طلبها الرجل النسر كانت تتطلب من ريتشارد ونيكول العمل مدةً تتراوح بين عشر ساعات واثنتي عشرة ساعة يوميًّا، لحسن الحظ رحب مايكل وسيمون بالاعتناء بالأطفال) فقد استقر رأيها على ثمانية تصميمات أساسية للبيوت وأربعة أشكال من ترتيب الأثاث. وهكذا أصبح الإجمالي اثنين وثلاثين تصميمًا سكنيًّا مختلفًا. وفي آخر الأمر، حققت نيكول ما تصبو إليه من وضع تصميم يناسب نمط المعيشة اليومية، ويتسم بالتنوع والابتكار في الوقت ذاته، عن طريق تغيير التصميمات الخارجية لمباني كل قرية من القرى الأربع (إذ وضعت نيكول التفاصيل بمساعدة ريتشارد بعد الحصول على معلومات مفيدة من المؤرخ الفني مايكل أوتول).
اتفق ريتشارد والرجل النسر على أنظمة المواصلات والاتصالات الخارجية والداخلية التي ستعمل في عدن الجديدة في غضون بضع ساعات. ولكنهما واجها صعوبات عندما بدآ مناقشة التحكم البيئي الشامل وتصميمات الآليين. كانت فكرة الرجل النسر فيما يتعلق بالبنية التحتية لعدن الجديدة تقوم في بادئ الأمر على تقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعةً من الضوء واثنتي عشرة ساعةً من الظلام. وكان يرى بضرورة انتظام فترات ظهور ضوء الشمس والسحب وهطول المطر. وكان يرى أيضًا ألا تختلف درجات الحرارة باختلاف المكان والزمان.
وعندما طلب ريتشارد إجراء تغييرات فصلية على طول مدة النهار وإضفاء مزيد من التنوع على كل متغيرات الطقس، أكد الرجل النسر أن السماح بإدخال هذه «التغييرات الجوهرية» على حجم الهواء الهائل في المسكن سيؤدي إلى استخدام المزيد من المصادر الحوسبية على نحو يفوق ما خُطط له أثناء وضع تصميم البنية التحتية في البداية. كما أشار الرجل النسر إلى أن هذا سيتطلب إعادة تصميم خوارزميات التحكم الرئيسية وإعادة اختبارها، مما سيؤدي إلى تأخير تاريخ المغادرة. أيدت نيكول ريتشارد فيما يتعلق بمسألة الطقس والفصول، وأخذت تشرح للرجل النسر أن السلوك البشري («الذي تطمح أنت والذكاء النودي إلى مراقبته كما هو واضح») يتوقف بكل تأكيد على هذين العاملين.
في النهاية توصلوا إلى حل وسط. سيكون طول الليل والنهار طوال السنة مثله مثل أي مكان يقع على خط عرض ثلاثين على كوكب الأرض. وسيصبح من المتاح تغيير المناخ بطريقة طبيعية في إطار محدود، بحيث لا يتدخل المتحكم الرئيسي إلا عندما تصل الأحوال المناخية إلى حد «إطار التصميم». وبهذا يمكن أن تتفاوت درجة الحرارة والرياح والأمطار بحرية في حدود النسب المسموح بها. غير أن الرجل النسر تمسك برأيه بشأن أمرين. إذ رفض السماح بوجود البرق والثلج. ففي حالة قرب حدوث أيٍّ من هاتين الظاهرتين المناخيتين (اللتين تضيفان «تعقيدات جديدة» على النموذج الحوسبي الذي يستخدمه) سيتدخل نظام التحكم تلقائيًّا ويضبط المناخ، وإن كانت باقي مظاهر الطقس داخل حدود إطار التصميم.
كان الرجل النسر يعتزم من البداية الإبقاء على نفس نوع الآليين الذي كان في أول مركبتين راميتين، ولكن ريتشارد ونيكول أكدا له أن الآليين الراميِّين غير مناسبين على الإطلاق، لا سيما الذين يشبهون أم أربع وأربعين وفرس النبي والسلطعون والعناكب.
وأوضحت نيكول ذلك قائلةً: «رواد الفضاء الذين كانوا على متن المركبتين الفضائيتين لا يُعدون بشرًا عاديين. بل إنهم، في الواقع، أبعد ما يكونون عن هذا. فلقد تلقينا تدريبًا خاصًّا للتعامل مع الآلات المعقدة، ومع هذا أصيب بعضنا بالخوف من الآليين الخاصين بكم. فما بالك بالبشر العاديين الذين سيشكلون على الأرجح الجانب الأكبر من سكان عدن الجديدة؛ إنهم لن يرحبوا على الإطلاق برؤية هذه الآلات الغريبة وهي تجوب أنحاء مملكتهم.»
بعد عدة ساعات من النقاش وافق الرجل النسر على تغيير تصميم الآليين المخصصين لمهام الصيانة. على سبيل المثال، القمامة سيجمعها آليون يشبهون عربات نقل القمامة العادية على الأرض؛ الاختلاف الوحيد هو أنها بلا سائق. وأعمال البناء سيقوم بها — في حالة الحاجة إليها — آليون يشبهون المركبات التي تقوم بمهام شبيهة على الأرض. وبهذا يصبح شكل الآلات الغريبة مألوفًا للمستعمرين، وتخف مخاوفهم التي يثيرها كل ما هو مجهول.
سألهم الرجل النسر في نهاية أحد الاجتماعات الطويلة: «وماذا عن القيام بالأعمال الروتينية، أعني الأنشطة اليومية؟ فكرنا في أن نستخدم آليين على شكل بشر يستجيبون للأوامر الصوتية وينتشرون بأعداد كبيرة ليخلصوا المستعمرين من عبء القيام بالأعمال الشاقة المملة. وقد أمضينا وقتًا كبيرًا في إدخال التحسينات على التصميمات منذ أن وصلتم.»
أعجبت فكرة وجود مساعدين آليين ريتشارد أما نيكول فعبرت عن تشككها في الأمر. وقالت: «من الضروري أن يسهل تمييز هؤلاء الآليين. فيجب ألا يلتبس الأمر على أحد — وإن كان طفلًا صغيرًا — فيظنهم من البشر.»
ضحك ريتشارد ضحكة عالية. وقال: «إنك أسرفتِ في قراءة قصص الخيال العلمي.»
اعترضت نيكول قائلةً: «لكن هذه مشكلة حقيقية. يمكنني تصور مدى الجودة التي سيتسم بها الآليون ذوو المظهر البشري الذين سيُصنعون هنا في النود. نحن لا نتحدث عن تلك الأشياء الخالية من التعبير التي رأيناها في راما. سيصاب الناس بالرعب إن لم يستطيعوا التفرقة بين البشر والآلات.»
أجاب ريتشارد: «إذن سنقلل عدد الاختلافات فيما بينهم. وسيكون من السهل تصنيفهم حسب المهمة الأساسية التي يقومون بها. هل يهدئ هذا من مخاوفك …؟ من العيب علينا ألا نستغل هذه التكنولوجيا الرائعة.»
قالت نيكول: «ربما يفي هذا بالغرض، لكن يجب تنظيم دورة إرشادية قصيرة للبشر، تهدف إلى تعريفهم بأنواع الآليين المختلفة. يجب أن نضمن تمامًا عدم وجود مشاكل في التعرف على الآليين.»
•••
بعد أسابيع من الجهد الجهيد كان معظم القرارات المهمة المتعلقة بالتصميم قد اتُّخذ، وخف عبء العمل الملقى على كاهلي ريتشارد ونيكول. فتمكنا من العودة إلى حياتهما الطبيعية بشكل أو بآخر مع الأطفال ومايكل. وذات مساء، زارهم الرجل النسر وأخبرهم أن عدن الجديدة تمر بآخر اختبار وأن الغرض الأساسي من هذا الاختبار هو التأكد من قدرة الخوارزميات الجديدة على مراقبة البيئة والتحكم فيها في ظل مجموعة كبيرة من الظروف المحتملة.
واصل الرجل النسر حديثه قائلًا: «تحسبًا للطوارئ، وضعنا آلات لتبادل الغازات في كل الأماكن التي ستنمو فيها النباتات القادمة من الأرض: غابة شيروود وفي الحدائق وعلى طول شاطئ البحيرة وعلى جوانب الجبل. وتلك الآلات تعمل مثل النباتات فهي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتنتج الأكسجين، وهي مساوية لها كميًّا أيضًا. وهي تمنع تراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لأن هذا من شأنه أن يضعف فعالية خوارزميات الطقس مع مرور الوقت. وتشغيل هذه الآلات يتطلب قدرًا من الطاقة لذا فقد قللنا القوة الكهربائية المتاحة للاستهلاك البشري خلال الأيام الأولى في المستعمرة تقليلًا طفيفًا. ولكن فور أن تزدهر النباتات سيكون من المتاح رفع هذه الآلات، وبهذا يتوافر قدر كبير من الطاقة اللازمة لأي غرض محتمل.»
قالت كيتي بعد أن انتهى: «حسنًا يا سيدي. كل ما نريد أن نعرفه هو موعد رحيلنا.»
أجاب الرجل النسر والتغضن الصغير الذي يقوم مقام الابتسامة يظهر على جانب فمه: «سأخبركم في يوم عيد الميلاد؛ أي بعد يومين.»
قال باتريك: «أخبرنا الآن، أرجوك يا سيدي.»
أجاب رفيقهم الفضائي: «حسنًا … لا بأس. الحادي عشر من يناير هو التاريخ الذي نعتزم الانتهاء فيه من العمل الذي نجريه على راما في حظيرة المركبات. وننوي أن نحملكم في المكوك ونجعلكم ترحلون من النود بعد ذلك بيومين؛ أي، في صباح الثالث عشر من يناير.»
عندما بدأت فكرة رحيلهم تتضح تدريجيًّا، أخذت نيكول تحدث نفسها وقلبها يخفق بشدة: لم يبقَ أمامنا سوى ثلاثة أسابيع. وما زال أمامنا الكثير لنقوم به. نظرت إلى الجانب الآخر من الغرفة حيث يجلس مايكل وسيمون جنبًا إلى جنب على الأريكة. وقالت لنفسها: يجب أيضًا أن أعدك للزفاف يا ابنتي الجميلة.
قالت سيمون: «إذن سنتزوج يوم عيد ميلادك يا أمي. لقد اتفقنا أن يقام الحفل قبل رحيل باقي أفراد الأسرة بأسبوع.»
تسللت الدموع لا إراديًّا إلى عينَي نيكول. فأطرقت رأسها حتى لا يراها باقي الأطفال. وقالت لنفسها: لم أعد نفسي بعد للحظة الوداع. بل إنني لا أحتمل مجرد التفكير في أنني لن أرى سيمون مرة أخرى.»
•••
اختارت نيكول أن تكف عن المشاركة في اللعبة الجماعية التي كانت تشارك فيها مع أفراد الأسرة في غرفة المعيشة. واعتذرت لهم متعللة بأن عليها أن تعد بعض البيانات الخاصة بالتصميم النهائي للرجل النسر، ولكنها في الحقيقة كانت في أمس الحاجة لأن تختلي بنفسها بضع لحظات؛ حتى تخطط لآخر ثلاثة أسابيع من حياتها على النود. فأثناء تناول العشاء لم يكف عقلها عن التفكير في المهام التي عليها القيام بها. وكاد الذعر يستولي عليها. إذ كانت نيكول تخشى من ألا يكفي الوقت أو أن تنسى أحد الأشياء المهمة من الأساس. ومع هذا، ما إن وضعت قائمة كاملة بما تبقى أمامها من مهام إضافةً إلى الجدول الزمني اللازم لإنجازها، حتى هدأت بعض الشيء. إذ لم يكن إنجاز القائمة مستحيلًا.
من بين المهام التي أدخلتها نيكول على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها بحروف كبيرة ما يلي: «بينجي». وبينما هي جالسة على طرف سريرها تفكر في ابنها الأكبر المتأخر عقليًّا، وتوبخ نفسها لأنها لم تتصدَّ لهذا الأمر من قبل، سمعت نقرة عالية على بابها المفتوح. وكانت مصادفة مدهشة.
قال بينجي ببطء شديد وعلى وجهه ابتسامة بريئة كبيرة: «أﻣ…مي، أيمكن أن أتحدث معك؟» وصمت دقيقة يفكر. ثم أضاف: «هل يمكن الآن؟»
أجابت نيكول: «بالطبع يا حبيبي. تعال، واجلس إلى جانبي على السرير.»
ذهب بينجي إلى جوار والدته وعانقها عناقًا شديدًا. ثم أطرق، وتكلم متلعثمًا. وقد بدا عليه أن هناك صراعًا يعتمل بداخله. وقال: «ﺳ…ـترحلين أنت وريـ…ـتـ…ـشارد وباقي الأطـ…ـفال قريبًا لوقت طويل جد…دًا.»
أجابت نيكول وهي تحاول أن تبدو مرحة: «هذا صحيح.»
«أ…بي وسـ…ـيـ…ـمون سيبقيان هنا ويتزو…جان؟»
جاءت عبارته في صيغة الاستفهام. ورفع رأسه وانتظر أن تؤكد نيكول قوله. وعندما أومأت برأسها بالإيجاب، فاضت عيناه بالدموع على الفور، وبدا الألم على قسمات وجهه. وقال: «وماذا عن بيـ…ـنـ…ـجي؟ ماذا سـ…ـيحـ… سيحدث لبيـ…ـنـ…ـجي؟»
فضمت نيكول رأس ابنها إلى كتفها وأخذت تبكي معه. كان جسده كله يرتجف وهو ينتحب. غضبت نيكول من نفسها لأنها ظلت تؤجل البت في هذا الموضوع كل هذه المدة. وقالت لنفسها: «كان يدرك ما سيحدث من البداية. منذ أول حوار دار بين أفراد الأسرة. وظل ينتظر طوال هذا الوقت. ويعتقد أن لا أحد يريده.»
عندما استعادت نيكول السيطرة على مشاعرها، نجحت في أن تقول: «الخيار لك يا حبيبي. سيسعدنا أن تأتي معنا. وسيكون والدك وسيمون سعيدين إن بقيت هنا معهما.»
حدق بينجي في والدته وكأنه لا يصدقها. فكررت نيكول كلامها ببطء شديد. فسألها: «أحقًّا؟»
أومأت نيكول برأسها بقوة.
ابتسم بينجي لحظةً، ثم حوَّل بصره عنها. وظل صامتًا لوقت طويل. وقال بعدها وهو يحدق نحو الحائط: «هنا، لن أﺟ…ـد من ألعب معه. وستحتاج سيمون لأن تظل مع أ…بي وحدهما.»
اندهشت نيكول من مدى الإيجاز الذي لخص به بينجي أفكاره. بدا وكأنه ينتظر. فقالت نيكول بهدوء: «إذن فلتأتِ معنا. العم ريتشارد وكيتي وباتريك وإيلي وأنا جميعنا نحبك كثيرًا ونريدك معنا.»
التفت بينجي إلى والدته. وكانت دموع جديدة تسيل على وجنتيه. وقال: «سآتي معكم يا أمي»، ووضع رأسه على كتفها.
قالت نيكول لنفسها وهي تحتضنه: لقد اتخذ قراره من قبل. إنه أذكى مما ظننا. وما جاء إلى هنا إلا ليتأكد أننا نريده معنا.
٧
«… وامنحني، يا رب، القدرة على إسعاد هذه الفتاة الصغيرة الرائعة التي سأتزوجها. وامنحنا هبة حبك، واجعلنا نزداد معرفةً بك … أسألك هذا بحق ابنك الذي أرسلته إلى الأرض ليكون برهانًا لنا على حبك، وليخلصنا من الآثام. آمين.»
أبعد مايكل ريان أوتول البالغ من العمر الثانية والسبعين يديه إحداهما عن الأخرى وفتح عينيه. كان جالسًا إلى المكتب الموجود في حجرة نومه. نظر في ساعته. وقال في نفسه: لم يبقَ سوى ساعتين على زواجي بسيمون. ألقى مايكل نظرة عاجلة على صورة المسيح وعلى التمثال الصغير للقديس مايكل السيينيِّ الموضوع أمامه على المكتب. ثم قال بينه وبين نفسه: الليلة، بعد تناول الوجبة التي هي وليمة زواجنا وحفل عشاء عيد ميلاد نيكول في آنٍ واحد، سأضم هذا الملاك بين ذراعيَّ. ولم يستطع أن يمنع الفكرة التالية من أن ترد إلى ذهنه: يا إلهي، أدعوك ألا أُخيب أملها.
مد مايكل يده في درج مكتبه وأخرج منه نسخة صغيرة من الكتاب المقدس. هذا هو الكتاب الورقي الوحيد الذي يملكه. فباقي ما يقرأ يأخذ شكل مكعبات معلومات صغيرة يدخلها في جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به. وكانت لهذا الكتاب مكانة خاصة جدًّا عنده فهو تذكار بقي له من حياة عاشها في يوم ما على كوكب بعيد.
أثناء طفولته ومراهقته كان يأخذ الكتاب المقدس معه أينما ذهب. لذا، اجتاحته الذكريات وهو يقلب الكتاب الأسود الصغير في يديه. وفي أول ذكرى أتته رأى نفسه طفلًا صغيرًا في السادسة أو السابعة من عمره. وقد جاء والده إلى غرفة نومه في المنزل. وقد كان يلعب لعبة فيديو تدور حول البيسبول على الكمبيوتر الشخصي الخاص به، فشعر بشيء من الإحراج؛ كان دائمًا ما يشعر بالانزعاج عندما يجده والده الجادُّ منهمكًا في اللعب.
قال له والده: «مايكل، أريد أن أعطيك هدية. الكتاب المقدس الخاص بك. إنه كتاب ورقي، كتاب تقرؤه عن طريق تقليب الصفحات. لقد وضعنا اسمك على الغلاف.»
أعطى الوالد الكتاب للصغير مايكل فأخذه قائلًا «شكرًا» بصوت خفيض. كان الغلاف من الجلد ووجد مايكل ملمسه جميلًا. واصل الوالدُ الحديثَ قائلًا: «في هذا الكتاب مجموعة من أفضل التعاليم التي عرفتها البشرية. اقرأه قراءةً متأنيةً. اقرأه كثيرًا. وسيِّر حياتك وفقًا لحكمته.»
وأخذ مايكل يتذكر: في تلك الليلة وضعت الكتاب المقدس تحت وسادتي. وظللت أحتفظ به في هذا المكان. طوال طفولتي. وحتى طوال مدة الدراسة الثانوية. وتذكر الحيل التي قام بها حين فاز فريق البيسبول التابع للمدرسة الثانوية الذي كان يلعب له وكان مسافرًا إلى سبرينجفيلد ليلعب في دوري الولاية بعد فوزه في بطولة المدينة. أراد مايكل أن يتمكن من الاحتفاظ بالكتاب المقدس معه دون أن يراه أحد من زملائه. ولم يكن احتفاظ الرياضيين في المرحلة الثانوية بالكتاب المقدس أمرًا «رائجًا»، ولم يكن الصغير مايكل لديه ما يكفي من الثقة بالنفس ليتغلب على خوفه من ضحك أقرانه عليه. فما كان منه إلا أن صمم جيبًا خاصًّا لكتابه المقدس في جانب حقيبة أدواته الخاصة، واحتفظ به هناك مغلفًا بغطاء واقٍ. وفي غرفته في فندق مدينة سبرينجفيلد، كان ينتظر حتى يدخل شريكه للاستحمام. ثم كان يُخرِج الكتاب المقدس من مخبئه ويضعه أسفل وسادته.
وتابع تأمل ذكرياته: أخذته معي في شهر العسل أيضًا. كانت كاثلين متفهمة للغاية. كعهدها دومًا في كل الأمور. وتذكر الشمس الساطعة والرمال البيضاء خارج جناحهما في جزر كايمان وسرعان ما داهمه إحساس شديد بالخسارة. فتساءل بصوت مسموع: «كيف حالك يا كاثلين؟ تُرى إلى أين أخذتك الحياة؟» ورآها بعين الخيال تتمشى حول البناية المبنية من الحجر البني التي كانا يقيمان فيها في شارع كومنولث أفنيو في مدينة بوسطن. وأخذ يقول لنفسه: لا بد أن حفيدنا ماتْ قد صار يافعًا الآن. ترى هل لنا أحفاد آخرون؟ كم عددهم؟
تفاقم الألم الذي يعتصر قلبه وهو يتخيل أسرته، المكونة من زوجته كاثلين وابنته كولين وابنه ستيفن وأحفاده جميعًا، مجتمعةً حول المائدة الطويلة لتناول مأدبة عيد الميلاد من دونه. وفي خياله، كان يرى الثلج الخفيف يتساقط في الشارع. وقال لنفسه: «أظن أن ستيفن سيقود صلاة الأسرة الآن. فقد كان دائمًا أشد أبنائي تدينًا.»
هز مايكل رأسه عائدًا إلى الحاضر وفتح الكتاب المقدس على أولى صفحاته. وكانت في أعلى الصفحة كلمتا «معالم مهمة» مكتوبتين بخط جميل. كانت المدخلات في هذه الصفحة قليلة، فمجمل عددها ثمانية، وهي تمثل تأريخًا لأهم الأحداث التي وقعت في حياته.
- ١٣-٧-٦٧: الزواج من كاثلين ميرفي في بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس.
- ٣٠-١-٦٩: مولد الابن توماس ميرفي أوتول في بوسطن.
- ١٣-٤-٧٠: مولد الابنة كولين جافين أوتول في بوسطن.
- ٢٧-١٢-٧١: مولد الابن ستيفين مولوي أوتول في بوسطن.
- ١٤-٢-٩٢: وفاة توماس ميرفي أوتول في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا.
توقفت عينا مايكل عند هذه النقطة، عند موت ابنه الأول وسرعان ما فاضت بالدموع. ظلت ذكرى عيد الحب البغيض هذا حيَّةً فيه رغم مرور سنوات عليها. يومها كان قد صحب كاثلين لتناول العشاء في مطعم جميل في ميناء بوسطن يقدم المأكولات البحرية. وكانا قد كادا ينتهيان من تناول وجبتهما عندما سمعا الخبر لأول مرة. إذ جاء الشاب الذي كان يقدم لهما الطعام معتذرًا يقول: «آسف على تأخري في عرض قائمة أصناف الحلوى عليكما. فقد كنت أشاهد الأخبار عند البار. لقد وقع زلزال مدمر في جنوب كاليفورنيا.»
ثارت مخاوفهما على الفور. إذ إن تومي — قرة عينهما — كان قد حاز منحةً لدراسة الفيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بعد أن أنهى دراسته في مدرسة هولي كروس بعد حصوله على أعلى الدرجات، مما أهله لإلقاء خطبة الوداع في حفل التخرج بصفته أكثر الطلاب تميزًا. ترك الزوجان ما تبقى من وجبتهما وأسرعا إلى البار. وهناك، علما أن الزلزال وقع في الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة مساءً بتوقيت الساحل الغربي للولايات المتحدة. وذلك إثر اتساع صدع سان أندرياس الضخم بالقرب من ممر كاهون، فتناثر البشر المساكين والعربات والبنايات الواقعة في مساحة مائة ميل من المركز السطحي للزلزال مثلما تتقاذف الأمواج المراكب المشئومة في قلب الإعصار.
ظل مايكل وكاثلين يستمعان إلى الأخبار طوال الليل وهما يتأرجحان بين الخوف والرجاء بينما أخذ الحجم الحقيقي لأسوأ كارثة واجهتها البلاد في القرن الثاني والعشرين يتضح. بلغت قوة الزلزال المخيف ٨٫٢ على مقياس ريختر. وفقدَ عشرون مليون شخصٍ مصادر المياه والكهرباء ووسائل المواصلات والاتصالات. وابتلعت شقوق عمقها خمسون قدمًا مراكز تسوق بأكملها. وصار السير في أيٍّ من الطرق مستحيلًا. وقد خلف الزلزال خسائرَ أشد فداحةً وأوسع نطاقًا من الخسائر التي كانت ستتكبدها المنطقة الرئيسية من لوس أنجلوس لو أنها تعرضت للقصف بعدة قنابل نووية.
في مستهل الصباح، بل حتى قبل الفجر، أعلنت هيئة الطوارئ الفيدرالية عن رقم هاتف تتلقى عليه الاستفسارات. فأعطت كاثلين أوتول آلة تلقي الرسائل كل المعلومات التي يعرفانها، والتي تشمل عنوان شقة تومي ورقم هاتفها، واسم وعنوان المطعم المكسيكي الذي يعمل فيه لكسب مصروفه الشخصي، وعنوان رفيقته ورقم هاتفها.
قال مايكل في نفسه متذكرًا: انتظرنا طوال النهار والليل. ثم اتصلت شيريل. كانت قد نجحت بطريقة ما في قيادة سيارتها إلى منزل والديها في باواي.
قالت شيريل ودموعها تنهمر من عينيها: «انهار المطعم يا سيد أوتول. ثم اشتعلت فيه النيران. لقد تحدثت إلى نادل في المطعم ظل على قيد الحياة لأنه كان في الفناء الخارجي الملحق بالمطعم وقت وقوع الزلزال. كان تومي يعمل في أقرب موقع من المطبخ …»
أخذ مايكل نفسًا عميقًا. وقال لنفسه وهو يجاهد لإبعاد ذكريات موت ابنه المؤلمة عن ذهنه: هذا خطأ. وكرر قوله: هذا خطأ. هذا وقت بهجة، لا وقت حزن. من أجل سيمون يجب ألا أفكر في تومي الآن.
أغلق مايكل الكتاب المقدس وكفكف دموعه. ثم وقف عند مكتبه، واتجه إلى الحمام. وحلق ذقنه بعناية وتأنٍّ ثم أخذ حمامًا دافئًا.
بعد خمس عشرة دقيقة، عندما فتح مايكل أوتول الكتاب المقدس مرةً أخرى، ممسكًا هذه المرة بقلم، كان قد تخلص من أشباح موت ابنه. وكتب بتأنق كلمات جديدة في صفحة المعالم المهمة، وعندما انتهى توقف ليقرأ آخر أربعة أسطر.
- ٣١-١٠-٩٧: مولد حفيدي ماثيو أرنولد رينالدي في مدينة توليدو بولاية أوهايو.
- ٢٧-٨-٠٦: مولد الابن بينجامين ريان أوتول في راما.
- ٧-٣-٠٨: مولد الابن باتريك إيرين أوتول في راما.
- ٦-١-١٥: الزواج بسيمون تياسو ويكفيلد.
قال لنفسه وهو ينظر إلى شعره الرمادي الخفيف في المرآة: أنت كهل يا أوتول. كان قد أغلق كتابه المقدس قبل عدة دقائق ثم عاد إلى الحمام ليصفف شعره مرة أخيرة. ثم أضاف: أكبر من أن تتزوج ثانية. وتذكَّر أول زواج له، قبل سبعة وأربعين عامًا، قائلًا: كان شعري كثيفًا أشقر حينها. وكانت كاثلين جميلةً. والمراسم رائعة. وشهقت لحظة أن رأيتها وهي في نهاية الممشى.
بدأت صورة كاثلين وهي مرتدية فستان الزفاف ومتأبطة ذراع والدها في نهاية الممشى في الكاتدرائية تتلاشى، وحلت محلها ذكرى أخرى لها، ذكرى غارقة في الدموع. لكن كانت الدموع هذه المرة دموع زوجته. كانت جالسة بجواره في الغرفة المخصصة لأفراد العائلة في كيب كينيدي عندما حان موعد المغادرة في الرحلة المتجهة إلى محطة الفضاء رقم ٣ التي تقع في مدار قريب من الأرض للانضمام إلى بقية طاقم نيوتن. قالت وهي تودعه وداعًا حارًّا للغاية: «اعتنِ بنفسك.» ثم تعانقا. ثم همست في أذنه قائلةً: «أنا فخورة بك للغاية يا حبيبي. وأحبك كثيرًا.»
«لأني أحبك كثيرًا»، كان هذا ما قالته أيضًا سيمون عندما سألها مايكل إن كانت تريد حقًّا أن تتزوجه وعن سبب رغبتها، إن كان الأمر كذلك. بدأت صورة رقيقة لسيمون تستحوذ على عقله وذكرى وداعه الأخير لكاثلين تتلاشى تدريجيًّا. قال مايكل متأملًا وهو يفكر في عروسه الصغيرة: إنك بريئة جدًّا يا سيمون وميَّالة إلى الثقة بالآخرين. فعلى الأرض، لن تكوني قد بدأت الدخول في علاقات عاطفية بعد. وسيعتبرك الآخرون مجرد فتاة.
مرت الثلاثون عامًا التي قضاها في راما بذهنه في لحظة. وتذكر أول ما تذكر مدى الصعوبة التي اكتنفت ميلاد سيمون، وتلك اللحظة الرائعة التي بكت فيها فوضعها برفق على بطن والدتها. تلت ذلك صورة سيمون وهي صغيرة جدًّا؛ كانت فتاة جادة في حوالي السادسة من عمرها، تستذكر دروس العقيدة باجتهاد تحت إشرافه. في صورة أخرى، كانت تنط الحبل مع كيتي وهي تغني أغنية مرحة. وآخر صورة مرت بذهنه هي صورة الأسرة وهي في نزهة خلوية على شاطئ البحر الأسطواني في راما. كانت سيمون واقفةً بجوار بينجي باعتزاز وكأنها ملاكه الحارس.
قال الجنرال مايكل أوتول لنفسه وعقله ينتقل إلى سلسلة أحدث من الصور: كانت قد وصلت إلى مرحلة الشباب عندما وصلنا إلى النود. إنها تقية للغاية. وصبورة مع الأطفال الصغار وتتحلى بالإيثار معهم. ولم ينجح أحد في رسم ابتسامة على وجه بينجي كما تفعل هي.
هناك خيط واحد يجمع بين كل صور سيمون هذه. وهو أن تلك الصور في عقله كان يغلفها الحب الجارف الذي يكنه لعروسه الطفلة. ولم يكن هذا الحب يشبه الحب الذي عادةً ما يشعر به الرجل تجاه المرأة التي سيتزوجها، وإنما هو أقرب ما يكون إلى الافتتان. ولكنه كان حبًّا على أي حال، وقد ربط هذا الحب بين الزوجين غير المتكافئين برباط قوي.
عندما أنهى مايكل ارتداء ملابسه قال لنفسه: أنا رجل محظوظ جدًّا. فقد اختار الله أن يريني آياته بصور مختلفة.
•••
كانت نيكول تساعد سيمون في ارتداء ملابسها في الجناح الرئيسي الواقع في الطرف الآخر من الشقة. لم يكن فستان سيمون فستان زفاف بالمعنى التقليدي، لكنه كان أبيض ومكسوًّا بالشرائط الصغيرة عند الكتفين. ولا شك أنه كان مختلفًا تمامًا عن الملابس غير الرسمية التي اعتادت الأسرة ارتداءها يوميًّا.
وضعت نيكول المشابك في شعر ابنتها الأسود الطويل بعناية ثم تأملت صورتها في المرآة. وقالت: «تبدين جميلة.»
نظرت في ساعتها. كان أمامهما عشر دقائق. وسيمون كانت جاهزة تمامًا إلا أنها لم ترتدِ حذاءها بعد. فكرت نيكول لحظة قائلة لنفسها: حسن. يمكن أن نتكلم الآن. فبدأت الكلام قائلةً: «حبيبتي»، وتهدج صوتها فجأة.
قالت سيمون بلطف: «ما الأمر يا أمي؟» كانت سيمون جالسة على السرير بجوار والدتها، وترتدي حذاءها الأسود بعناية.
بدأت نيكول حديثها مرة أخرى: «عندما تحدثنا الأسبوع الماضي عن العلاقة الزوجية كان هناك العديد من النقاط التي لم نناقشها.» رفعت سيمون عينيها إلى والدتها. كانت شديدة الانتباه لدرجة جعلت نيكول تنسى للحظة ما كانت ستقوله. بعد لحظة سألتها متلعثمةً: «هل قرأت تلك الكتب التي أعطيتك إياها …؟»
عقدت سيمون حاجبيها في حيرة. ثم أجابت: «بالطبع يا أمي. لقد تحدثنا في هذا أمس.»
أمسكت نيكول بيدَي ابنتها. وقالت: «مايكل رجل رائع. فهو حنون ومحب ويراعي مشاعر الآخرين، ولكنه كهل. والرجال في هذه السن …»
قاطعتها سيمون برفق قائلةً: «لست متأكدة من أنني أفهمك يا أمي. ظننت أنك تريدين إخباري بشيء عن العلاقة الحميمة.»
قالت لها نيكول بعد أن أخذت نفسًا عميقًا: «ما أحاول قوله هو أنك قد تحتاجين للتحلي بالصبر والحنان الشديدين مع مايكل في الفراش. فقد لا تسير الأمور على ما يرام.»
حدقت سيمون في والدتها طويلًا. ثم قالت بهدوء: «شككت في هذا بسبب التوتر الذي بدا عليكِ عندما أثير الموضوع، وبسبب قلق خفي قرأته على وجه مايكل. لا تقلقي يا أمي فليست لي آمال جارفة. لأننا في المقام الأول لم نتزوج رغبةً في الإشباع الجنسي. ولما كنت أفتقر إلى أي تجارب من أي نوع، فيما عدا تشابك أيدينا الأسبوع الماضي، فإن أي متعة سأشعر بها ستكون جديدة، ومن ثم رائعة.»
ابتسمت نيكول لابنتها التي بلغت درجة مذهلة من النضج مع أنها لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها. وقالت وعيناها مغرورقتان بالدموع: «أنت جوهرة.»
قالت سيمون وهي تحتضن والدتها: «أشكرك يا أمي.» ثم أضافت: «تذكري أن الرب يبارك زواجي بمايكل. وسنسأل الرب أن يساعدنا عندما تواجهنا أي مشاكل. سنكون بخير.»
اعتصر شعور مفاجئ بالغم قلب نيكول. وقال صوت بداخلها: أسبوع، وبعده لن أرى ابنتي المحبوبة هذه ثانيةً. وظلت تحتضن ابنتها حتى دق ريتشارد الباب وأخبرهما أن الجميع مستعدون للمراسم.
٨
قالت سيمون بابتسامة رقيقة على وجهها: «صباح الخير.» كان باقي أفراد الأسرة جالسين حول المائدة يتناولون الإفطار عندما دخلت هي ومايكل الغرفة ويداهما متشابكتان.
أجاب بينجي: «صباح النور.» كان فمه مملوءًا بالخبز المحمر المدهون بالزبد والمربى. قام من على مقعده ودار ببطء حول الطاولة واحتضن أحب أخواته إليه.
كان باتريك خلفه مباشرةً. وسأل سيمون: «هل ستساعدينني في استذكار الرياضيات اليوم؟ تقول أمي إن عليَّ أن أجتهد في دراستي لأننا عائدون إلى النظام الشمسي الخاص بنا.»
جلس مايكل وسيمون في مكانهما بعد أن عاد الولدان إلى مقعديهما. ومدت سيمون يدها إلى ركوة القهوة. إنها تشبه والدتها في صفة واحدة. وهي أنها لا تستطيع أداء المهام المطلوبة كما ينبغي في الصباح إلا بعد أن تتناول قهوتها.
سألت كيتي بأسلوبها المعتاد الذي يفتقر إلى التهذيب: «ها، هل انتهى شهر العسل أخيرًا؟ لقد مرت ثلاث ليال ويومان. لا بد أنكما استمعتما إلى كل مقطوعة موسيقية كلاسيكية في قاعدة البيانات.»
ضحك مايكل بعفوية. وقال وهو يبتسم لسيمون ابتسامةً دافئةً: «صحيح يا كيتي. لقد رفعنا اللافتة المكتوب عليها «نرجو عدم الإزعاج» من على الباب. فنحن نريد أن نبذل ما بوسعنا لمساعدة الجميع في حزم الأمتعة للرحلة.»
علقت نيكول، وقد أسعدها أن ترى مايكل وابنتها متآلفَين للغاية بعد عزلتهما الطويلة، قائلةً: «لا عليك، فنحن سنتولى أمر ذلك.» ثم قالت لنفسها بسرعة: لم يكن هناك داعٍ للقلق. فسيمون أكثر نضجًا مني في بعض الجوانب.
قال ريتشارد بلهجة شاكية: «ليت الرجل النسر يعطينا مزيدًا من التفاصيل حول رحلة العودة. فهو يرفض إطلاعنا على المدة التي ستستغرقها الرحلة وما إذا كنا سننام طوال الطريق أم لا، أو أي معلومة دقيقة.»
ذكَّرت نيكول زوجها بأن الرجل النسر قال إنه لا يعرف أي شيء على وجه اليقين. وقالت: «هناك متغيرات «لا يمكن التحكم فيها» يمكن أن تنتج عنها الكثير من السيناريوهات المختلفة.»
عارضها ريتشارد قائلًا: «إنك دائمًا ما تصدقينه. أنت أكثر مَن رأيت ثقةً بالآخرين …»
قطع جرس الباب حوارهما. فذهبت كيتي لتفتح الباب وعادت بعد دقائق قليلة مع الرجل النسر. اعتذر الرجل الطائر قائلًا: «آمل ألا أكون قد قطعت إفطاركم، ولكن علينا إنجاز الكثير اليوم. أريد أن ترافقني السيدة ويكفيلد.»
احتست نيكول آخر ما في قهوتها وتطلعت إلى الرجل النسر باستغراب. قالت: «بمفردي؟» كانت تحس بخوف غامض يسري بداخلها. إنها لم تخرج من شقتها مع الرجل النسر بمفردهما قط طوال مدة إقامتها في النود التي دامت ستة عشر شهرًا.
أجاب الرجل النسر: «نعم. ستأتين معي بمفردك. ثمة مهمة خاصة لن يستطيع إنجازها سواك.»
«أيمكنك أن تمنحني عشر دقائق أستعِد فيها؟»
أجاب الرجل النسر: «بالتأكيد.»
بينما كانت نيكول خارج الغرفة، أمطر ريتشارد الرجل النسر بالأسئلة. وعند مرحلة ما من حديثهما، قال ريتشارد: «حسنًا، أرى أنكم واثقون الآن من إمكانية أن نظل نائمين بأمان أثناء أوقات زيادة السرعة وإبطائها، استنادًا إلى كل تلك الاختبارات. ولكن كيف سيكون الوضع أثناء الرحلة العادية؟ هل سنكون مستيقظين أم نائمين؟»
أجاب الرجل النسر: «غالبًا ستكونون نائمين، فبهذا سنتمكن من أن نؤخر التقدم في السن وسنضمن الحفاظ على صحتكم. ولكن من الوارد أن تحدث أمور عديدة غير متوقعة. وربما نضطر أن نوقظكم عدة مرات أثناء الرحلة.»
فسأله ريتشارد: «لماذا لم تخبرنا بهذا من قبل؟»
رد عليه: «لأن الأمر لم يكن قد حُسم بعد. فسيناريو مهمتكم به بعض التعقيد، ولم نحدد الخطة الرئيسية إلا مؤخرًا.»
قالت كيتي: «لا أريد أن «يتأخر» تقدمي في السن. أريد أن أكون امرأة ناضجة عندما نقابل البشر الآخرين القادمين من كوكب الأرض.»
قال الرجل النسر لكيتي: «كما أخبرت أمك وأباك أمس، من المهم أن ننجح في إبطاء عملية التقدم في السن أثناء نومك أنت وأسرتك. فنحن لا نعرف بالضبط متى سنعود إلى نظامكم الشمسي. فإن افترضنا أنكم ستنامون خمسين عامًا على سبيل المثال …»
قاطعه ريتشارد في رعب قائلًا: «ماذا؟ من قال خمسين عامًا؟ لقد وصلنا إلى هنا في اثني عشر عامًا، أو ثلاثة عشر، لماذا لا …»
قالت كيتي وعلى وجهها أمارات الخوف: «سأكون في سن أكبر من سن أمي.»
دخلت نيكول من الغرفة المجاورة. وقالت: «ما هذا الذي سمعته؛ أتقول خمسين عامًا؟ لماذا سنستغرق كل هذا الوقت؟ هل سنذهب إلى مكان آخر أولًا؟»
قال ريتشارد: «بالتأكيد.» كان غاضبًا. ووجَّهَ حديثه إلى الرجل النسر قائلًا: «لماذا لم تخبرونا بهذا قبل أن نتخذ قرار «التوزيع»؟ كان من الممكن أن نرتب الأمور ترتيبًا مختلفًا … يا إلهي! إذا استغرقت الرحلة خمسين عامًا، سنكون أنا ونيكول في المائة من عمرنا!»
أجاب الرجل النسر بلا انفعال: «كلا لن يحدث ذلك. نُقَدِّرُ أنك والسيدة ويكفيلد ستكبران بمعدل سنة واحدة كل خمس أو ست سنوات بعد أن «نبطئ نُموَّكما». أما الأطفال، فسيقترب معدل نُموِّهم من سنة كل سنتين وذلك إلى أن يستقر نموهم على الأقل. فنحن متخوفون من الإفراط في العبث في هرمونات النمو. كما أن الخمسين عامًا هذه تعتبر الحد الأقصى، وهو ما يسميه أي مهندس بشري «قيمة ٣ سيجما».»
قالت كيتي وهي تتجه نحو الرجل النسر وتواجهه مباشرةً: «الآن أنا لا أفهم شيئًا. كم سيكون عمري عندما أقابل البشر الآخرين؟»
أجاب رفيقهم الفضائي: «لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال إجابة قاطعة؛ لأن الأمر ينطوي على نقاط غامضة من الناحية الإحصائية. ولكن من المفترض أن جسدك سيكون في مستوى نموٍّ مساوٍ لأوائل العشرينيات وحتى منتصف العشرينيات. هذه هي الإجابة المرجحة، على الأقل.» سار الرجل النسر نحو نيكول قائلًا: «أخبرتك بكل ما لدي. أما الآن فأمامي عمل أنجزه مع أمك. وسنعود الليلة قبل العشاء.»
تذمر ريتشارد قائلًا: «كعادتك، لا تخبرنا بشيء. أحيانًا أتمنى لو لم نكن متعاونين معك هكذا.»
قال الرجل النسر وهو يغادر الغرفة مع نيكول: «كان يمكن أن يكون التعامل معكم أصعب، وفي الواقع، تنبأنا — استنادًا إلى البيانات التي جمعناها أثناء مراقبة سلوككم — بأن تكونوا أقل تعاونًا مما أنتم عليه. ولكن في النهاية لم يكن هذا ليُحدِث فارقًا جوهريًّا في النتائج. وبهذا أصبح الأمر يناسبكم أكثر.»
قالت نيكول: «إلى اللقاء.»
رد بينجي: «إلى اللقاء»، ملوحًا لأمه بعد أن كان الباب قد أغلق.
•••
كانت الوثيقة طويلة جدًّا. وقدرت نيكول أن قراءة النص بأكمله جهرًا قد تستغرق منها على الأقل عشر دقائق أو ربما خمس عشرة دقيقة.
سألها الرجل النسر مرةً أخرى: «هل أوشكت على الانتهاء من دراستها؟ نريد أن نبدأ التصوير — كما تسمونه — في أقرب وقت ممكن.»
طلبت منه نيكول أن يشرح لها ما الذي سيحدث لهذا الفيديو بعد تصويره.
فقال: «سنبثه باتجاه الأرض قبل وصولكم إلى نظامكم الشمسي بسنوات عديدة. وهذا سيمنح إخوانكم من البشر الوقت الكافي للرد.»
سألت نيكول: «كيف ستعرف إن كانوا قد سمعوه بالفعل أم لا؟»
رد الرجل النسر: «لقد طلبنا الرد علينا بإشارة بسيطة تخطرنا أنهم تلقوا الفيديو.»
سألت نيكول: «افترض أنكم لم تتلقوا إشارة رد أبدًا، ماذا سيحدث عندئذٍ؟»
رد الرجل النسر: «هنا يأتي دور خطط الطوارئ.»
انتابت نيكول مخاوف شديدة بشأن قراءة الرسالة. وطلبت منه أن يمنحها بعض الوقت لمناقشة الوثيقة مع ريتشارد ومايكل.
سأل الرجل النسر: «ما الذي يقلقك؟»
أجابت نيكول: «كل شيء. لا يبدو هذا صوابًا. أشعر أنكم تستغلونني لتحقيق هدفكم، وبما أنني لا أعرف هدفكم بالضبط، فأنا أخشى أن يكون ما تطلبه مني ينطوي على خيانة للجنس البشري.»
أحضر الرجل النسر لنيكول كوبًا من الماء، وجلس بجوارها في الأستوديو الفضائي. وقال: «دعينا نفكر في هذا منطقيًّا. لقد أخبرناك بوضوح أن هدفنا الرئيسي هو جمع معلومات مفصلة عن الكائنات التي تستطيع ارتياد الفضاء في المجرة. أليس كذلك؟»
أومأت نيكول برأسها إيجابًا.
«وأنشأنا أيضًا منطقة سكنية داخل راما لألفين من سكان الأرض، وسنعيدك أنت وأسرتك لتجمعوا هؤلاء البشر للقيام برحلة نتمكن أثناءها من مراقبتهم. كل ما ستفعلينه في هذا الفيديو هو إخبار أهل الأرض بأننا في الطريق إليهم، وبأنه على ألفين من قومكم أن يحضروا المنتجات الرئيسية لحضارتكم ويقابلونا في مدار المريخ. ما الذي يمكن أن يكون الخطأ في هذا؟»
اعترضت نيكول قائلةً وهي تشير إلى الكمبيوتر المحمول الذي أعطاها إياه الرجل النسر: «نص الوثيقة غامض للغاية. فأنا لن أشير قط — على سبيل المثال — إلى المصير الذي ينتظر كل هؤلاء البشر، ولن أقول سوى أنهم سيلاقون «عنايةً» و«اهتمامًا» أثناء رحلة من نوع ما. كما أن أحدًا لم يذكر سبب دراسة هؤلاء البشر أو أي شيء على الإطلاق عن النود والذكاء المتحكم فيه. أضف إلى هذا أن لهجة الخطاب تنم عن التهديد. فأنا سأخبر الناس الذين يصلهم هذا الفيديو على الأرض أنه إذا لم يصعد حشد من البشر على متن راما في مدار المريخ، فستقترب المركبة أكثر من الأرض و«ستحصل على العينة المطلوبة بطريقة أقل تنظيمًا». ومن الواضح أن هذه عبارة عدائية.»
أجاب الرجل النسر قائلًا: «يمكنك أن تعدلي النص، إن أردت، شريطة عدم تغيير فحوى الرسالة. ولكنني يجب أن أخبرك أن لدينا خبرة طويلة بهذا النوع من التواصل. فنحن أدركنا أننا دائمًا ما نحقق نجاحًا أكبر مع الأنواع الشبيهة بنوعكم عندما تبتعد الرسالة عن التحديد.»
ردت نيكول: «ولكن لماذا ترفض أن أعود بالوثيقة إلى الشقة؟ يمكنني أن أناقشها مع ريتشارد ومايكل ويمكننا أن نعدلها معًا لنخفف من حدة لهجتها.»
قال الرجل النسر بإصرار: «لأنه يجب عليك أن تعدي الفيديو اليوم. إننا على استعداد لمناقشة التعديلات التي ستُدخلينها على المحتوى، وسنتعاون معك بقدر ما تقتضي الضرورة. ولكن يجب أن ننهي التصوير قبل أن تعودي إلى أسرتك.»
كانت نبرته ودودة، ولكن المعنى الذي تحمله كان واضحًا تمامًا. فقالت نيكول لنفسها: لا خيار لي. فهو يأمرني بأن أصور الفيديو. ثم حدقت عدةَ دقائق في المخلوق الغريب الجالس بجوارها. وعادت تقول لنفسها وهي تشعر أن غضبها يشتد: الرجل النسر مجرد آلة. إنه ينفذ التعليمات التي بُرمج عليها … خلافي ليس معه.
وفجأة، قالت: «لا»، بطريقة أدهشتها هي نفسها. وهزت رأسها. وقالت: «لن أصور الفيديو.»
لم يكن الرجل النسر مستعدًّا لمواجهة رد فعل نيكول هذا. فخيم الصمت عليهما طويلًا. ورغم أن مشاعرها كانت ثائرة فإن انتباهها كان منصبًّا على الجالس أمامها. وتساءلت: «ترى ما الذي يحدث بداخله الآن؟ هل الشيء الذي يوازي العقل لديه منشغل بدوائر منطقية جديدة معقدة؟ أم يستقبل إشارات ما من مكان آخر؟»
بعد فترة، وقف الرجل النسر. وقال: «حسنًا، هذه مفاجأة حقًّا … لم نتوقع قط أن ترفضي تصوير الفيديو.»
قالت: «هذا لأنك لم تكن تصغي لما كنت أقوله … أشعر وكأنك أنت أو مَن يأمرك أيًّا كان، تستغلونني … وتتعمدون إطلاعي على أقل القليل. إذا كنتم تريدون مني أن أقوم بشيء لأجلكم، إذن عليكم أن تجيبوا عن بعض أسئلتي على الأقل.»
سألها: «ما الذي تريدين أن تعرفيه «بالتحديد»؟»
أجابت نيكول وقد بدا عليها الإحباط: «لقد أخبرتك من قبل. أريد أن أعرف بحق الجحيم حقيقة ما يحدث في هذا المكان. من أو ما أنتم؟ لماذا تريدون مراقبتنا؟ وما دمنا قد تطرَّقنا إلى هذا، ما رأيك أن تعطيني تفسيرًا مقنعًا لسبب رغبتكم في أن نترك «ثنائيًّا تزاوجيًّا» هنا؟ فقد انزعجت حقًّا لتشتت شمل أسرتي؛ كان ينبغي أن أعترض اعتراضًا أشد قوة من البداية. إذا كانت التكنولوجيا التي توصلتم إليها بلغت من الروعة حدًّا جعلها تستطيع أن تصنع شيئًا مبهرًا كالنود، فما الذي يمنعكم من أخذ بويضة بشريَّة وبعضًا من السائل المنوي …»
قال الرجل النسر: «اهدئي يا سيدة ويكفيلد. لم أرك في مثل هذه الحالة من قبل. بل إنني عددتك أكثر أفراد مجموعتك هدوءًا.»
عندها قالت نيكول بينها وبين نفسها: وأراهن أنك عددتني أشدهم خنوعًا أيضًا. انتظرت حتى خفت حدة غضبها. ثم أضافت: لا بد أن عقلك الغريب ينطوي في إحدى تلافيفه على تقدير كمي لاحتمال طاعتي لأوامرك في خنوع … حسنًا، لقد خدعتك هذه المرة …
قالت بعد ثوانٍ قليلة: «اسمع أيها الرجل النسر، أنا لست غبية. فأنا أعرف لمن السيطرة هنا. ولكن كل ما في الأمر هو أنني أعتقد أننا نحن البشر نستحق أن تقدرونا على نحو أكبر قليلًا. وخاصةً أن الأسئلة التي نطرحها لا ضرر منها.»
رد عليها قائلًا: «وماذا لو أجبنا عنها على نحو يرضيكِ؟»
قالت نيكول: «لقد ظللتم تراقبونني عن كثب طوال ما يربو على عام.» ثم ضحكت. وأضافت: «هل صدر مني أي تصرف غير عقلاني قط؟»
•••
سألت نيكول: «إلى أين نحن ذاهبان؟»
أجاب الرجل النسر: «في رحلة قصيرة. قد تكون هذه أفضل طريقة للقضاء على شكوكك.»
كانت المركبة الغريبة صغيرة وكروية، ولا تتسع إلا للرجل النسر ونيكول. وكان نصفها الأمامي شفافًا. وتوجد لوحة تحكم صغيرة خلف النافذة على الجانب الذي يجلس فيه الرجل الطائر الفضائي. أحيانًا أثناء الرحلة كان الرجل النسر يلمس اللوحة، ولكن في معظم الوقت بدت المركبة وكأنها تعمل من تلقاء نفسها.
بعد أن جلسا في المركبة بثوانٍ انطلقت في ممر طويل وعبرت مجموعة كبيرة من الأبواب ذات المصراعين ثم دخلت في ظلام حالك. شهقت نيكول. إذ شعرت وكأنها تسبح في الفضاء.
قال الرجل النسر ونيكول تحاول رؤية أي شيء دون جدوى: «لكلٍّ من الوحدات الكروية الثلاث في النود مركز مجوف. وقد دخلنا لتونا ممرًّا يؤدي إلى مركز وحدة الإسكان.»
بعد دقيقة تقريبًا ظهرت أنوار من بعيد أمام المركبة الصغيرة. وبعد هذا مباشرة صعدت المركبة من الممر المظلم ودخلت في المركز الضخم المجوف. وأخذت الكرة تدور وتنقلب مما جعل نيكول تفقد الإحساس بالاتجاهات، والمركبة تتجه نحو الظلام بعيدًا عن الأضواء الكثيرة التي تعلو ما يبدو أنه الجزء الداخلي من الهيكل الأساسي لوحدة الإسكان.
قال الرجل النسر: «نحن نراقب كل ما يحدث للأنواع التي نستضيفها، سواء أكانت الاستضافة مؤقتة أم دائمة. وكما توقعتم، لدينا المئات من أدوات المراقبة داخل شقتكم. كما أن جميع الجدران من الزجاج العاكس، ونحن نستطيع أن نراقب كل الأنشطة التي تقومون بها من منظور أكبر من منطقة المركز هذه.»
أصبحت نيكول معتادة على عجائب النود، ومع هذا أدهشتها المشاهد الجديدة التي تحيط بها. رأت عشرات، بل مئات، الأضواء الصغيرة المتقطعة تتجول في الظلام الشاسع الذي يغلف المركز. فبدت أشبه بمجموعة من اليراعات المتناثرة في ليلة صيف مظلمة. كانت بعض الأضواء تتأرجح قرب الجدران، وكانت أضواء أخرى تتحرك ببطء عبر الفراغ. بينما كانت هناك أضواء أخرى بعيدة جدًّا حتى إنها كانت تبدو وكأنها ساكنة لا تتحرك.
قال الرجل النسر وهو يشير أمامهما إلى مجموعة كثيفة من الأضواء في الأفق: «كما أننا لدينا مركز صيانة رئيسي هنا. يمكن الوصول إلى كل جزء من أجزاء الوحدة بسرعة كبيرة من هذا المركز في حالة وقوع مشكلة هندسية أو أي مشكلة من نوع آخر.»
سألت نيكول وهي تشير عبر النافذة: «ما الذي يحدث هناك؟» فقد كانت هناك مجموعة من المركبات واقفة بالقرب من جزء كبير مضاء من وحدة الإسكان على بعد حوالي عشرين كيلومترًا إلى اليمين من مركبتهم.
أجاب الرجل النسر: «هذه جلسة مراقبة خاصة نستخدم فيها أكثر أجهزة المراقبة عن بعد تقدمًا. فهذه الشقق على وجه الخصوص يقطنها نوع غريب له خصائص لم يرها أحد من قبل في هذا القطاع من المجرة. والكثير من أفراده يموتون لأسباب نجهلها. لذا فنحن نحاول أن نكتشف وسيلة لإنقاذهم.»
«إذن فالرياح تأتي أحيانًا بما لا تشتهي سفنكم؟»
أجاب الرجل النسر: «صحيح.» وفي الضوء المنعكس، بدا وكأن المخلوق يبتسم. وأضاف: «ولهذا نعد الكثير جدًّا من خطط الطوارئ.»
فجأة سألته نيكول: «ماذا كنتم ستفعلون لو لم يأتِ أيٌّ من البشر ليستكشف راما من الأساس؟»
أجابها الرجل النسر بغموض: «لدينا وسائل بديلة لتحقيق نفس الغايات.»
زادت المركبة من سرعتها في طريقها الوتَري في الظلام. وسرعان ما اقتربت منهم كرة مماثلة تكبر مركبتهم قليلًا، قادمة من جهة اليسار. قال الرجل النسر: «أتودين أن تقابلي أحد أفراد نوع وصل تطوره إلى درجة مساوية تقريبًا للدرجة التي وصلتم لها؟» لمس لوحة التحكم فأُضيء الجزء الداخلي من مركبتهما بأضواء خافتة.
قبل أن تتاح لنيكول فرصة الإجابة، كانت المركبة الثانية قد وصلت إلى جوارهما. كان نصفها الأمامي شفافًا أيضًا. وكانت مليئة بسائل لا لون له يسبح فيه مخلوقان. كانا يشبهان ثعباني بحر ضخمين يرتدي كلٌّ منهما عباءة، وكانا يتحركان حركات متماوجة في السائل. قدرت نيكول أن طولهما يبلغ نحو ثلاثة أمتار وأن سمكهما يبلغ نحو عشرين سنتيمترًا. ويبلغ عرض العباءة السوداء، التي تنبسط مثل الجناح أثناء حركتهما، مترًا تقريبًا عندما يبسطانها إلى أقصى حد.
قال الرجل النسر: «الكائن الذي لا يحمل جسده علامات ملونة ويقف جهة اليمين هو عبارة عن نظام ذكاء صناعي. إنه يقوم بدور شبيه بالدور الذي أقوم به، فهو يقوم بدور مضيف للنوع الذي يعيش في بيئة مائية. أما الكائن الآخر فهو من المخلوقات التي تستطيع ارتياد الفضاء، وينتمي إلى عالم آخر.»
أنعمت نيكول النظر في الكائن الفضائي. كان قد ضم العباءة بإحكام حول جسده ذي اللون المائل للأخضر قليلًا، وكان يجلس بلا حراك تقريبًا في السائل. كان الكائن قد اتخذ شكل حدوة الفرس بحيث أصبح طرفا جسده يواجهانها. واندفعت مجموعة من الفقاقيع من أحد طرفَي جسده.
قال الرجل النسر: «يقول لكِ: «مرحبًا، أوه، إنك تثيرين اهتمامي».»
أجابت نيكول، وقد عجزت عن رفع عينيها عن الكائن الغريب: «كيف عرفت هذا؟» كان طرفا جسده — أحدهما أحمر زاهٍ والآخر رمادي — ملتفَّين أحدهما حول الآخر. وكانا ملتصقين بزجاج المركبة.
«زميلي في المركبة الأخرى يترجم وينقل الكلام لي … أتودين أن تجيبي؟»
وجدت نيكول عقلها قد خلا من أي أفكار. قالت لنفسها، وعيناها تركزان على التجاعيد والنتوءات الغريبة الظاهرة على طرفَي الكائن الفضائي: ماذا أقول؟ كانت هناك ست قسمات مختلفة على كل جانب، منها اثنان من الشقوق البيضاء على «الوجه» الأحمر. ولم تكن تشبه أيٌّ من العلامات التي تغطي جسده أيَّ شيء رأته نيكول على الأرض. حدقت نيكول في صمت، متذكرةً الحوارات العديدة التي دارت بينها وبين وريتشارد ومايكل حول الأسئلة التي سيطرحونها إذا أُتيحت لهم الفرصة في وقت من الأوقات للتواصل مباشرة مع كائن فضائي عاقل. وقالت في نفسها: ولكننا لم نتخيل قط موقفًا كهذا.
غمر المزيد من الفقاعاتِ النافذةَ المواجهة لها. فقال الرجل النسر مترجمًا ما قاله الكائن الآخر: «تكوَّن كوكبنا الأم منذ خمسة مليارات عام. ووصلت أنجمنا الثنائية إلى الاستقرار بعد هذا بمليار عام. نظامنا به أربعة عشر كوكبًا رئيسيًّا، نشأت أشكال من الحياة على اثنين منهما. تعيش ثلاثة أنواع عاقلة على كوكبنا المائي، ولكننا النوع الوحيد الذي لديه القدرة على ارتياد الفضاء. لقد بدأنا استكشاف الفضاء منذ ما يزيد قليلًا على ألفي عام.»
شعرت نيكول بالإحراج من صمتها. وقالت متلعثمةً: «مرحبًا … مرحبًا. يسعدني لقاؤك … لم يبدأ نوعنا ارتياد الفضاء إلا من ثلاثمائة عام. ونحن الكائنات الوحيدة التي تتمتع بدرجة عالية من الذكاء على كوكبنا الذي تغطي المياه ثلثيه. مصدر الحرارة والضوء لدينا هو نجم أصفر وحيد مستقر. بدأت نشأتنا في المياه منذ ثلاثة أو أربعة مليارات عام، ولكننا الآن نحيا على اليابسة …»
صمتت نيكول. اقترب المخلوق الآخر بباقي جسده من النافذة بحيث يمكنها رؤية تفاصيل تكوين جسده رؤيةً أكثر وضوحًا، وظل طرفا جسده ملتفَّين. فهمت نيكول ما يريد. فوقفت بجوار النافذة واستدارت ببطء. ثم مدت يديها وحركت أصابعها. صدر المزيد من الفقاعات.
ترجم الرجل النسر بعد دقائق قليلة قائلًا: «هل لديكم أشكال بديلة؟»
أجابت نيكول: «لا أفهم ما تعنيه.» وصَّل المضيف النودي في الكرة الأخرى رسالتها مستخدمًا حركات الجسد والفقاعات.
قال لها الفضائي شارحًا: «لدينا شكلان من نوعنا. سيكون لذُرِّيتي أطراف، لا تختلف كثيرًا عن أطرافك، وسيسكنون في الغالب قيعان المحيطات، ويبنون منازلنا ومصانعنا وسفننا الفضائية. وهم بدورهم سينجبون جيلًا آخر يشبهني أنا.»
أجابت نيكول في النهاية: «لا، لا. لدينا شكل واحد فقط. وأبناؤنا دائمًا ما يشبهون آباءهم.»
استمر الحوار خمس دقائق أخرى. ودار أغلب حديث نيكول والمخلوق الفضائي حول علم الأحياء في كوكبيهما. انبهر المخلوق الفضائي انبهارًا كبيرًا بالنطاق الحراري الواسع الذي يستطيع البشر العيش فيه. وأخبر نيكول أن أفراد نوعه لا يستطيعون الحياة إذا خرجت الحرارة الخاصة بالسائل المحيط بهم عن نطاق معين محدود.
انبهرت نيكول بوصف المخلوق لكوكبه المائي الذي يغطي معظم سطحه مساحات ضخمة من الكائنات التي تحيا اعتمادًا على البناء الضوئي. وعلمت أن الكائنات الشبيهة بثعابين البحر، أو أيًّا ما كان اسمها، تعيش في المناطق الضحلة أسفل المئات من هذه الكائنات المختلفة، وكانت تستخدم الكائنات التي تعتمد على البناء الضوئي في كل الأغراض تقريبًا؛ إذ كانت تستخدمها للغذاء وكمواد للبناء، بل وفي المساعدة على الإنجاب.
في النهاية أخبر الرجل النسر نيكول أنه قد حان وقت الانصراف. فلوحت للفضائي الذي كان لا يزال ملتصقًا بالنافذة. ورد عليها بإطلاق مجموعة أخيرة من الفقاقيع وفك طرفيه. بعد هذا بثوانٍ كانت المسافة بين المكوكين قد بلغت بالفعل مئات الأمتار.
خيم الظلام مرة أخرى داخل الكرة المتحركة. ولم يتكلم الرجل النسر. وكانت نيكول تشعر بالابتهاج. واصل عقلها انطلاقه، فظل يصوغ بحماس الأسئلة التي يود طرحها على المخلوق الفضائي الذي التقت به لقاءً عابرًا. قالت في نفسها: أتعيشون في أُسر؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف تعيش معًا المخلوقات التي لا تتشابه؟ أيمكنك التواصل مع قاطني القاع الذين هم أبناؤك؟
خطر نوع آخر من الأسئلة على تيار الوعي في عقل نيكول، وفجأة شعرت بخيبة أمل من نفسها قليلًا. إذ قالت لنفسها: كانت أسئلتي إكلينيكية وعلمية جدًّا. كان ينبغي أن أطرح أسئلة عن الله والحياة بعد الموت والأخلاق.
قال الرجل النسر بعد أن عبَّرت نيكول عن عدم رضاها عن الموضوعات التي نوقشت بدقائق قليلة: «من المستحيل تمامًا أن يدور بينكما ما يمكن أن تسميه حوارًا فلسفيًّا. فليست هناك على الإطلاق أرضية مشتركة يقوم عليها حوار من هذا النوع. ولن تكون هناك مرجعية لأي نقاش عن القيم أو أي قضايا جوهرية أخرى إلا بعد أن يعرف كلٌّ منكما بعض الحقائق الأساسية عن الآخر.»
قالت نيكول لنفسها: كان عليَّ أن أحاول رغم هذا. فمن يدري؟ ربما تكون لدى الفضائي الذي له شكل حدوة بعض الإجابات …
أفاقت نيكول من تأملاتها على بعض الأصوات البشرية. وبينما هي تنظر إلى الرجل النسر متسائلةً، دارت الكرة دورةً كاملةً، ورأت نيكول أنهما يحلِّقان على بعد أمتار قليلة من مسكنها.
أضيئت غرفة نوم مايكل وسيمون. وسمعت نيكول ما كانت تهمس به ابنتها إلى زوجها إذ قالت: «أهذا بينجي؟»
أجاب مايكل: «أظن هذا.»
شاهدت نيكول الموقف بهدوء وسيمون تنهض من فراشها وترتدي روبها المنزلي وتسير إلى الرواق. أضاءت نور غرفة المعيشة ورأت أخاها الصغير المتأخر ذهنيًّا منكمشًا على الأريكة.
سألته سيمون بحنان: «ماذا تفعل هنا يا بينجي؟ يجب أن تكون في الفراش؛ فالوقت متأخر، متأخر جدًّا.» وأخذت تملس على جبهة أخيها البادي عليها القلق.
أجاب بينجي بصعوبة: «لم أستطع النوم. كنت قلقًا عـ…ـلى أﻣـ…مي.»
قالت سيمون محاولةً تهدئته: «ستعود قريبًا. ستعود قريبًا.»
شعرت نيكول بغصة في حلقها واغرورقت عيناها بقليل من الدموع. نظرت إلى الرجل النسر ثم إلى الشقة المُضاءة أمامها، ثم إلى المركبات المتناثرة في الفضاء من فوقها. ثم أخذت نفسًا عميقًا. وقالت ببطء: «حسنًا، أنا على استعداد لتصوير الفيديو.»
•••
قال ريتشارد: «إنني أحسدك. أنا حقًّا أحسدك. كنت على استعداد لدفع نصف عمري مقابل الدخول في حوار مع ذلك المخلوق.»
قالت نيكول: «كان الأمر مدهشًا. وحتى الآن يصعب عليَّ تصديق أن هذا حدث حقًّا … من المدهش أيضًا أن الرجل النسر كان يعرف بطريقة ما كيفية استجابتي لكل شيء.»
«كان يخمن فقط. لم يكن ليتوقع بالفعل أنه سيحل هذه المشكلة معك بهذه السهولة. بل إنك حتى لم تقنعيه بالإجابة على سؤالك حول رغبتهم في الحصول على ثنائي تزاوجي …»
أجابت نيكول بلهجة دفاعية بعض الشيء: «بل أقنعته. لقد أوضح لي أن علم الأجنة البشرية معقد للغاية إلى درجة أنهم هم أنفسهم يعجزون عن معرفة الدور الذي تقوم به الأم البشرية دون أن يشاهدوا جنينًا وهو ينمو ويتطور.»
قال ريتشارد بسرعة: «آسف يا حبيبتي. أدرك أنه لم يكن أمامك خيار …»
تنهدت نيكول: «شعرت أنهم يحاولون على الأقل إقناعي بقبول النقاط التي كنت أعترض عليها. ربما أخدع نفسي. فرغم كل ذلك، صورت الفيديو في النهاية، بالضبط كما خططوا.»
لف ريتشارد ذراعيه حول نيكول. وقال: «كما أخبرتك، لم يكن أمامك خيار يا حبيبتي. لا تقسي على نفسك.»
قبلت نيكول ريتشارد واعتدلت في جلستها على الفراش: «ولكن ماذا لو كانوا يجمعون هذه المعلومات ليقوموا بغزو ناجح أو شيء من هذا القبيل؟»
أجاب ريتشارد: «لقد ناقشنا كل هذا من قبل. إن إمكانياتهم التكنولوجية متقدمة جدًّا، إلى درجة تمكنهم من السيطرة على الأرض في دقائق إن كان هذا هو هدفهم. لقد أشار الرجل النسر نفسه إلى أنه إذا كان الغزو والقمع هو هدفهم، فإنه يمكنهم إنجازه باتخاذ إجراءات أقل تعقيدًا من هذا بكثير.»
قالت نيكول وهي تبتسم: «الآن، من منا الذي يفرط في الثقة بالآخرين؟»
«لا أفرط في الثقة بالآخرين. بل إنني واقعي فقط. أنا متأكد أن رفاهية الجنس البشري لا تحتل مركزًا متقدمًا في سلم أولويات الذكاء النوديِّ. ولكنني أعتقد أنك يجب أن تكفِّي عن الظن أنك قد أصبحت شريكة في الجريمة بتصوير هذا الفيديو. فالرجل النسر كان محقًّا. أغلب الظن، أنك ساعدتِ على تيسير «عملية الأسر» على سكان الأرض أيضًا.»
ساد الصمت دقائق قليلة. ثم قالت نيكول بعد مدة: «حبيبي. لماذا تعتقد أننا لن نذهب إلى الأرض مباشرةً؟»
«تخميني هو أننا حتمًا سنتوقف في مكان ما أولًا. على الأرجح لالتقاط أنواع أخرى في نفس المرحلة التي نحن فيها من المشروع.»
«وهل هؤلاء سيعيشون في الوحدة الأخرى بداخل راما؟»
أجاب ريتشارد: «هذا ما أفترضه.»
٩
تحدد الثالث عشر من يناير عام ٢٢١٥ موعدًا للرحيل، وذلك وفقًا للتقويم الذي حرص عليه ريتشارد أو نيكول أو كلاهما كل الحرص منذ هروب راما من قاذفات فالنكس النووية. بالطبع لا يعني هذا التاريخ شيئًا لأحد سواهم. فقد أدت الرحلة الطويلة التي قطعوها إلى الشعرى اليمانية بسرعة تزيد قليلًا عن نصف سرعة الضوء إلى إبطاء الزمن بداخل راما، على الأقل قياسًا بزمن الأرض، وبهذا فإن التاريخ الذي يستخدمونه ما هو إلا حيلة تربطهم بالماضي. ويقدر ريتشارد أن التاريخ الحقيقي في الأرض، وقت رحيلهم من النود، يسبق التاريخ السالف الذكر بثلاث أو أربع سنوات؛ أي إن الأرض في عام ٢٢١٧ أو ٢٢١٨. ولكن كان مستحيلًا عليه أن يحسب تاريخ الأرض بدقة لأنه لا يتوافر لديه تاريخ زمني دقيق للسرعة أثناء السنوات التي قضوها وهم مسافرون داخل راما. لذا لم يسَع ريتشارد سوى تقدير التعديلات النسبية اللازمة لتحويل الأساس الزمني الخاص بهم بحيث يصبح نفس الأساس الزمني على الأرض.
وما إن استيقظ ريتشارد ونيكول في آخر أيامهما على النود حتى أخذ يشرح لها قائلًا: «التاريخ على الأرض الآن لا يهمنا في شيء على أي حال. كما أنه يكاد يكون في حكم المؤكد أننا سنعود إلى نظامنا الشمسي بسرعات عالية جدًّا، بمعنى أنه سيحدث تأخير زمني آخر بيننا وبين الأرض قبل أن نتقابل في مدار المريخ.»
لم تتمكن نيكول قط من فهم نظرية النسبية؛ إذ لا تتسق تمامًا مع فكرها، ولم تكن تنوي بالتأكيد بذل أي ذرة من طاقتها في إزعاج نفسها بهذه النظرية في آخر أيامها مع سيمون ومايكل. وكانت تدرك أن لحظات الوداع الأخيرة ستكون صعبة جدًّا على الجميع، فأرادت أن تدخر كل طاقاتها لتلك اللحظات الأخيرة المفعمة بالعاطفة.
قالت نيكول لريتشارد وهما يرتديان ملابسهما: «قال الرجل النسر إنه سيأتي ليصطحبنا في الساعة الحادية عشرة. كنت آمل أن نتمكن من الجلوس معًا في غرفة المعيشة بعد الإفطار. فأنا أريد تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم.»
كان المرح يرفرف على أجواء الإفطار، بل البهجة أيضًا، ولكن عندما اجتمع أفراد الأسرة الثمانية في غرفة المعيشة وكلهم يدركون أنه لم يبقَ أمامهم سوى أقل من ساعتين على وصول الرجل النسر لاصطحاب جميع أفراد الأسرة عدا مايكل وسيمون، أصبح الحوار مُتكَلَّفًا ومُغَلَّفًا بالتوتر.
جلس الزوجان المتزوجان حديثًا معًا على أريكة تتسع لشخصين أمام ريتشارد ونيكول والأطفال الأربعة. كانت كيتي — كعادتها — لا تكف عن الصخب والحركة. إذ أخذت تثرثر بلا انقطاع. وتنتقل من موضوع إلى آخر دون أن تتحدث من قريب أو بعيد عن الرحيل الوشيك. وكانت تقص عليهم تفاصيل حلم غريب كانت قد رأته الليلة الماضية عندما قطع حديثها صوتان بشريان قادمان من المدخل المؤدي إلى الجناح الرئيسي.
قال الأول بصوت ريتشارد: «اللعنة، يا سير جون، هذه هي فرصتنا الأخيرة. أنا ذاهب لوداعهم سواء أكنت ستأتي معي أم لا.»
قال الصوت الثاني: «إن لحظات الوداع، يا أميري، تلقي بروحي في مهاوي الأسى. ولم أثمل بعد حتى أقوى على تخفيف الألم. لقد قلت بنفسك إن تلك الفتاة أشبه بملاك طاهر. فكيف يمكنني …»
قال الأمير هال: «حسنًا، إذن، سأذهب وحدي.» تركزت أبصار جميع أفراد الأسرة على الأمير الآلي الصغير الذي صنعه ريتشارد وهو يسير من الرواق إلى غرفة المعيشة. كان فولستاف يترنح خلفه ويقف بعد كل أربع أو خمس خطوات ليحتسي رشفة من زجاجته.
مشى هال حتى صار أمام سيمون. ثم جثا على إحدى ركبتيه وقال: «سيدتي الغالية، لا أستطيع أن أجد كلمات تصف كم سأشتاق لرؤية وجهك الباسم. فلا توجد في مملكتي بأكملها من تضاهيك جمالًا وبهاءً …»
جثا فولستاف على ركبتيه بجوار أميره وقاطعه قائلًا: «ويحك. ربما يكون سير جون مخطئًا. لماذا أذهب مع هذه الزمرة المتنافرة (وأشار بذراعه إلى ريتشارد ونيكول وباقي الأطفال الذين كانوا يبتسمون ابتسامةً عريضةً) في حين أنه يمكنني أن أبقى هنا في حضرة هذا الحسن البديع دون أن ينافسني إلا هذا الرجل العجوز؟ إنني أتذكر خليلتي المفضلة دول تيرشيت …»
بينما كان الآليان اللذان يبلغ طولهما عشرين سنتيمترًا يسليان الأسرة، قام بينجي من كرسيه واقترب من مايكل وسيمون. وقال وهو يغالب دموعه: «سـ…ـيـ…ـمون، سأﻓ…ـتقدك. أحبك.» صمت بينجي لحظة ناظرًا أولًا إلى سيمون ثم إلى والده. ثم تابع قائلًا: «آمل أن تنعما أنتِ وأبي بسـ…ـعا…دة غا…مرة.»
قامت سيمون من مقعدها ولفَّت ذراعيها حول أخيها الصغير الذي كان جسده يرتعد من فرط الانفعال. وقالت: «أوه، يا بينجي، أشكرك. أنا أيضًا سأفتقدك كثيرًا. ولكن روحك ستظل معي دائمًا.»
لم يتحمل الصبي ذلك العناق. فانفجر في نحيب شديد، وتأثر الجميع بأنينه الهادئ الحزين حتى دمعت عيونهم. وفي غضون دقائق، كان باتريك قد حبا إلى حجر والده. ودفن عينيه المتورمتين في صدره. وظل يقول: «أبي … أبي.»
لم يكن أبرع مصمم رقصات ليستطيع أن يصمم رقصة وداع أجمل من رقصة سيمون. فسيمون المتألقةُ أخذت تتحرك بخفة، وكأنها ترقص رقصة الفالس، وهي تبدو هادئة بعض الشيء رغم دموعها، لتودع جميع أفراد الأسرة وداعًا معبرًا. وظل مايكل أوتول جالسًا على الأريكة وباتريك جالسًا على حجره وبينجي بجواره. واغرورقت عيناه بالدموع مرارًا وأفراد الأسرة الراحلون يتجهون إليه واحدًا تلو الآخر ليودعوه.
قالت نيكول لنفسها وهي تجول ببصرها في أنحاء الغرفة: أريد ألا أنسى هذه اللحظة أبدًا. فهذا مكان يرفرف عليه الحب. كان مايكل يحمل إيلي الصغيرة، وكانت سيمون تخبر كيتي كم ستفتقد حديثهما معًا. بل إن كيتي نفسها، وللمرة الأولى، بدا عليها التأثر؛ إذ غلفها الصمت، على غير عادتها، عندما كانت سيمون تتجه إلى الناحية الأخرى من الغرفة حيث يجلس زوجها.
أنزل مايكل باتريك برفق من على حجره وأمسك بيد سيمون الممدودة. ثم التفتا إلى الآخرين وركعا وتشابكت أيديهما للصلاة. قال مايكل بصوت قوي: «أبانا الذي في السماوات.» ثم صمت عدة ثوانٍ حتى ركع باقي أفراد الأسرة، وفيهم ريتشارد، بجوار الزوجين على الأرض.
تابع صلاته قائلًا: «نحمدك على منحنا حب هذه الأسرة الرائعة الدافئ. ونحمدك على أن أريتنا عجيب آياتك في الكون. وفي هذه اللحظة، نبتهل إليك أن تشمل كلًّا منا برعايتك ونحن نفترق كلٌّ في طريق، إن كانت هذه هي مشيئتك. لا نعرف إن كنت تدبر لنا أن نعود لنتبادل مشاعر الحب والمودة التي أسعدتنا جميعًا أم لا. فلتظل معنا، في أي طريق نسلكه في أنحاء كونك المذهل، واجمعنا يا إلهي، ذات يوم، في هذا العالم أو في الآخرة. آمين.»
بعد ثوانٍ، دق جرس الباب. ووصل الرجل النسر.
•••
تركت نيكول المنزل الذي صُمِّمَ خصوصًا ليكون صورة مصغرة من فيلا أسرتها في بوفوا في فرنسا، ومشت في الممر الضيق باتجاه المحطة. مرت على بيوت أخرى، جميعها مظلمة خاوية، وحاولت أن تتخيل كيف سيكون الأمر عندما يسكنها البشر. قالت نيكول لنفسها: كانت حياتي كالحلم. قطعًا لم يعش أي بشري تجربة بمثل هذا التنوع.
كانت بعض البيوت ترمي بظلالها على الممر، والشمس الزائفة تتم دورتها في السقف الشاهق من فوقها. قالت نيكول لنفسها وهي تتجول بعينيها في القرية الواقعة في الجانب الجنوبي الشرقي من عدن الجديدة: هذا العالم مميز هو الآخر. كان الرجل النسر محقًّا عندما قال إن المنطقة السكنية لن تختلف عما عليه الحال على كوكب الأرض.
للحظة عابرة، فكرت نيكول في ذلك الكوكب الأزرق المائي الذي يبعد عنهم بمقدار تسع سنوات ضوئية. وعادت بخيالها إلى ما قبل ثلاثة عشر عامًا عندما كانت واقفةً بجوار جانو تابوري ومركبة نيوتن تبتعد عن محطة الفضاء رقم ٣ التي تقع في مدار قريب من الأرض. حينها قال جانو وهو يرسم بأصابعه دائرة حول بقعة محددة تظهر على الكرة الأرضية المضيئة التي تتألق من وراء نافذة المراقبة: «هذه بودابست.»
بعد هذا حددت نيكول مكان بوفوا، أو على الأقل النطاق العام الذي تقع فيه، عن طريق تتبع نهر لوار من مصبه في المحيط الأطلسي. وقالت لجانو: «يقع موطني في هذا النطاق تقريبًا. ربما يكون أبي وابنتي ينظران في هذا الاتجاه الآن.»
قالت نيكول لنفسها وهذه الذكرى العابرة تتوارى: جنيفياف، أوه يا ابنتي. لا بد أنك أصبحت شابة الآن. في الثلاثين تقريبًا. واصلت السير ببطء في الممر بجوار منزلها الجديد في المنطقة السكنية الشبيهة بالبيئة الأرضية داخل راما. ذكَّرها التفكير في ابنتها الأولى بالحوار القصير الذي دار بينها وبين الرجل النسر أثناء استراحة قضياها وقت تسجيل الفيديو في النود.
كانت نيكول قد سألته: «هل سأتمكن من رؤية ابنتي جنيفياف عندما نقترب من الأرض؟»
أجاب الرجل النسر بعد هنيهة من التردد: «لا ندري. هذا يعتمد كليةً على طبيعة رد فعل إخوانك البشر لرسالتك. أنت نفسك ستبقين في راما حتى وإن طبقنا خطط الطوارئ، ولكن من المحتمل أن تكون ابنتك واحدة من بين الألفي شخص الذين سيأتون من الأرض ليعيشوا في عدن الجديدة. لقد حدث هذا من قبل مع أنواع أخرى من مرتادي الفضاء مثلكم.»
عندما سكت الرجل النسر سألته نيكول: «وسيمون؟ هل سأراها ثانية؟»
أجاب الرجل النسر: «إجابة هذا السؤال أصعب. فالعوامل التي تحدد ذلك كثيرة جدًّا.» ورمق المخلوق الفضائي صديقته البشرية التي بدا عليها الجزع. وقال: «آسف يا سيدة ويكفيلد.»
قالت لنفسها: تركت إحدى بناتي على الأرض. وسأترك ابنة أخرى في عالم فضائي غريب يبعد مائة تريليون كيلومتر. وسأكون أنا في مكان آخر. من يدري أين؟ كانت نيكول تشعر بوحدة قاتلة. فوقفت، وركزت عينيها على المشهد الذي يحيط بها. كانت واقفة بجوار منطقة مستديرة في الحديقة العامة للقرية. كان يوجد داخل المحيط الصخري زحلوقة وفناء رملي للعب وقضبان تسلُّق ودوامة خيول، وكل ذلك يصلح ليكون ملعبًا رائعًا لأطفال الأرض. وأسفل قدميها، كانت شبكة آلات تبادل الغازات متداخلة في أنحاء الحديقة التي سيضعون فيها العشب بعد إحضاره من كوكب الأرض.
انحنت نيكول لتلقي نظرة على آلات تبادل الغازات الفردية. كانت عبارة عن أجسام مستديرة صغيرة لا يتجاوز قطرها سنتيمترين. ويبلغ عددها عدة آلاف، وهي منتظمة في صفوف وعواميد تتقاطع عبر أنحاء الحديقة. وقالت نيكول بينها وبين نفسها: نباتات إلكترونية. تحول ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين. وتساعدنا نحن البشر على البقاء على قيد الحياة.
أخذت نيكول تتخيل شكل الحديقة بعد أن يضعوا فيها العشب والأشجار وبعد أن يضعوا الزنابق في بركة المياه الصغيرة، ورأتها بعين الخيال بكامل التفاصيل التي بدت في تتخيل هذه الحديقة وهي تعج بالأطفال، مع أنها كانت تعرف أن راما ستعود إلى النظام الشمسي ﻟ «أسر» البشر الذين سيعمرون هذه الجنة التكنولوجية. وقالت لنفسها: لم تقع عيناي على أيِّ بشري سوى أفراد أسرتي طوال نحو خمسة عشر عامًا.
غادرت نيكول الحديقة وسارت باتجاه المحطة. حلت صفوف المباني التي ستضم في المستقبل المتاجر الصغيرة محل المنازل المنفصلة التي كانت تصطف على جانبَي الممرات الضيقة. بالطبع كانت جميعها فارغة، وكذلك كان المبنى الهائل المستطيل الشكل الذي صُمم ليكون سوبر ماركت، والذي يقع أمام المحطة مباشرةً.
دخلت من البوابة وركبت القطار الذي كان ينتظرها، وجلست في المقدمة خلف غرفة التحكم التي كان يشغلها آلي على هيئة بنيتا جارسيا. قالت نيكول بصوت مرتفع: «أوشك الظلام أن يحل.»
أجاب الآلي: «سيحل بعد ثماني عشرة دقيقة.»
سألت نيكول: «كم من الوقت سنستغرق للوصول إلى قاعة التنويم؟»
أجابها الآلي والقطار يغادر المحطة الجنوبية الشرقية: «يستغرق الطريق إلى المحطة المركزية الكبرى عشر دقائق. ثم ستسيرين مدة دقيقتين.»
كانت نيكول تعلم إجابة سؤالها. ولكنها كانت في حاجة إلى سماع صوت آخر. فهذا ثاني يوم تقضيه بمفردها. والتحدث إلى الآلي أفضل من التحدث مع نفسها بالتأكيد.
نقلتها رحلة القطار من الركن الجنوبي الشرقي للمستعمرة إلى وسطها. على طول الطريق، شاهدت نيكول بحيرة شكسبير على يسار القطار، ومنحدرات جبل الأوليمب (المغطاة بمزيد من آلات تبادل الغازات) على اليمين. وكانت الشاشات الإلكترونية الموجودة في القطار تعرض معلومات عن المشاهد التي تمر بها، والوقت، والمسافة التي قُطعت.
قالت نيكول لنفسها وهي تفكر في زوجها ريتشارد النائم الآن هو وباقي أفراد الأسرة: لقد أتقنت أنت والرجل النسر تصميم نظام القطارات هذا. سألحق بك وبباقي أفراد الأسرة في القاعة الكبيرة المستديرة قريبًا.
تعد قاعة التنويم، في واقع الأمر، امتدادًا للمستشفى الرئيسي الواقع على بعد نحو مائتي متر من محطة القطار المركزية. غادرت نيكول القطار وتجاوزت المكتبة، ثم دخلت المستشفى وعبرته حتى وصلت إلى قاعة التنويم عبر نفق طويل. كان باقي أفراد أسرتها نائمين في غرفة مستديرة ضخمة في الطابق الثاني. وكلٌّ منهم في «مضجع» موازٍ للحائط، وكان كل مضجع عبارة عن هيكل غريب طويل يشبه التابوت، مغلقًا إغلاقًا محكمًا بحيث ينعزل عن البيئة الخارجة. ولم يكن يظهر منهم سوى وجوههم عبر نوافذ صغيرة في الغطاء بالقرب من رءوسهم. فحصت نيكول أجهزة المراقبة التي تحتوي على معلومات بشأن الحالة الصحية لزوجها وابنتيها وابنيها كما علمها الرجل النسر. كان الجميع على ما يرام. فلا توجد حتى أي إشارات تدل على وجود اضطرابات.
وقفت نيكول وأخذت تنظر إلى كلٍّ من أحبتها في حنين. إذ كان هذا آخر فحص تقوم به. فالتعليمات تقضي بأن تنام نيكول فور أن تطمئن أن المؤشرات الحيوية للجميع في الحدود المسموح بها. قد تمر سنوات قبل أن ترى أيًّا من أفراد أسرتها مرة أخرى.
تنهدت نيكول وهي تتأمل ابنها المتأخر عقليًّا وهو نائم. وقالت في نفسها: عزيزي بينجي. ستكون أشد المتضررين من انقطاعنا هذا عن الحياة. فكيتي وباتريك وإيلي سيتغلبون على تبعاته بسرعة. فهم يتمتعون بالذكاء وسرعة البديهة. أما أنت فستضيع عليك السنوات التي كان من الممكن أن تكتسب فيها خبرات تساعدك على الاعتماد على نفسك.
كان ما يشبه قطعًا معدنية من الحديد المطاوع يفصل المضاجع عن الحائط المستدير. تبلغ المسافة بين مقدمة كل مضجع ونهاية المضجع الذي يليه حوالي متر ونصف فقط. ويقع مضجع نيكول الخاوي في المنتصف، وخلف موضع رأسها ريتشارد وكيتي، وعند موضع قدميها باتريك وبينجي وإيلي.
لبثت بجوار مضجع ريتشارد عدة دقائق. كان آخر من نام، وكان هذا منذ يومين. كان الأمير هال وفولستاف راقدَين على صدره بداخل الصندوق المغلق، حسبما طلب. قالت نيكول لنفسها وهي تحدق في وجه زوجها الخالي من التعبير عبر النافذة: هذه الأيام الثلاثة الأخيرة كانت رائعة يا حبيبي. لم أكن لأطمع في المزيد.
في تلك الأيام الثلاثة سبحا في بحيرة شكسبير وتزلجا فوق أمواجها، وتسلَّقا جبل الأوليمب، وتطارحا الغرام كلما شعر أيٌّ منهما بأدنى رغبة في هذا. وظل كلٌّ منهما ليلةً كاملةً بجوار الآخر في سريرهما الكبير في بيتهما الجديد. وكان ريتشارد ونيكول يفحصان الأطفال النائمين، مرة يوميًّا، ولكنهما كانا يستغلان باقي الوقت في استكشاف مملكتهما الجديدة.
كانت أيامًا لطيفة ترفرف عليها المشاعر الجميلة. وكانت آخر كلمات نطق بها ريتشارد قبل أن تنشِّط نيكول النظام المُنوِّم هي: «إنك امرأة رائعة، وأنا أحبك كثيرًا.»
الآن حان دور نيكول. لم يعد الأمر يحتمل التأجيل. صعدت إلى مضجعها، فقد تدربت على هذا كثيرًا أثناء الأسبوع الأول لهم في عدن الجديدة، وحركت كل المفاتيح عدا مفتاحًا واحدًا. كان الفوم المحيط بها مريحًا للغاية. انغلق غطاء المضجع فوقها. ولم يبقَ أمامها سوى أن تحرك المفتاح الأخير لكي تدخل الغاز المُنوِّم إلى مقصورتها.
تنهدت بعمق. واستلقت على ظهرها، وتذكرت الحلم الذي رأته عن الجمال النائم في آخر التجارب التي أجريت عليها في النود. ثم عادت إلى ذكريات طفولتها، إلى تلك العطلات الرائعة التي قضتها مع أبيها في مشاهدة عروض الجمال النائم في قلعة أوسيه.
قالت لنفسها وهي تشعر بالنعاس والغاز ينتشر في مضجعها: «هذه طريقة لطيفة للرحيل. سأرحل عن عالم الوعي وأنا أفكر بأن ثمة فارس أحلام سيأتي لإيقاظي.»