المحاكمة
١
في البقعة الأعمق من بحيرة شكسبير، كان يوجد مدخل مفتوح يؤدي إلى قناة طويلة محفورة تحت البحر تمتدُّ تحت بلدة بوفوا وحائط المنطقة السكنية. وسر وجود هذه القناة هو أن ريتشارد، الذي هو ذو خبرة عملية كبيرة في هندسة الطوارئ، أكد أثناء وضع تصميم عدن الجديدة على أهمية بناء مخرج للطوارئ في المُستعمرة.
حينها، سأله الرجل النسر: «لكن فيمَ ستحتاجه؟»
رد ريتشارد: «لا أعرف. ولكن عادة ما تُواجِه المرءَ في الحياة مواقفُ غير متوقَّعة. وأي تصميمٍ هندسي قويم دائمًا ما يحوي وسائل لمواجهة الطوارئ.»
سبح ريتشارد بحذَر في النفق وكان يُبطئ كل عدة دقائق ليتحقق من مخزون الهواء. وعندما وصل إلى نهايته عبر مجموعة من الحواجز أوصلَتْه في النهاية إلى ممرٍّ جافٍّ تحت الأرض. سار نحو مائة متر قبل أن يخلع جهاز الغوص ويُخبئه في جانب الممر. وعندما وصل إلى المخرج الذي يقع في الجانب الشرقي من المنطقة المغلقة التي تضم المنطقتَين السكنيتَين في نصف الأسطوانة الشمالية من راما، أخرج سترته الحرارية من حقيبته المضادة للمياه.
مع أن ريتشارد كان يُدرك أنه من غير الممكن أن يعرف أحد مكانه، فإنه فتح الباب المُستدير الموجود في سقف الممر بحذَر شديد. ثم خرج إلى السهل الرئيسي. وقال لنفسه وهو يتنفَّس الصعداء: «كل شيءٍ على ما يرام حتى الآن. لننتقل الآن إلى الخطة «ب».»
ظل ريتشارد في الجانب الشرقي من السهل طيلة أربعة أيام. كان بوسعه خلالها أن يرى الأضواء التي تدلُّ على وجود أنشطة ما حول مركز التحكم أو منطقة أفالون أو موقع استكشاف المنطقة السكنية الثانية، وذلك باستخدام نظارته المكبِّرة الصغيرة الرائعة. وكما توقَّع ريتشارد، كانت هناك فرقتا بحث في المنطقة الواقعة بين المنطقتَين السكنيتَين وظلَّتا تخرجان إلى هناك مدة يومٍ أو يومَين، ولكن لم تسِر في اتجاهه سوى مجموعة واحدة، وكان سهلًا عليه أن يتفاداها.
تعوَّدت عيناه على الظلام الذي يلفُّ السهل المركزي والذي كان يظنُّه دامسًا. لكنه اكتشف أن هناك ضوءًا خافتًا ينعكس من على أسطح راما. خمن ريتشارد أن مصدر أو مصادر الضوء هو نصف الأسطوانة الجنوبي الواقع على الجانب الآخر من حائط المنطقة السكنية الثانية البعيد.
ودَّ ريتشارد لو استطاع أن يطير حتى يتمكن من أن يُحلق عاليًا فوق الجدران ويتحرك بحُرية في المساحات الواسعة الموجودة في العالم الأسطواني. وأثار وجود هذا المقدار الضئيل من الضوء اهتمامَه بالمنطقة الباقية من راما. هل لا يزال البحر الأسطواني موجودًا جنوب الجدار الحاجز؟ هل ما زالت نيويورك موجودة على هيئة جزيرة في هذا البحر؟ وماذا يُوجَد في نصف الأسطوانة الجنوبي الذي هو أكبر من المنطقة التي تضمُّ المنطقتَين السكنيتَين الشماليتَين، إن كان يُوجَد شيء من الأساس؟
في اليوم الخامس بعد هروب ريتشارد، أيقظه حلم مُفزع للغاية يدور حول والده، فبدأ يمشي باتجاه ما أخذ يُطلق عليه مسكن المخلوقات الطائرة. وكان ريتشارد قد غيَّر نظام نومه بحيث أصبح ينام في المدة التي يكون فيها النهار مشرقًا على عدن الجديدة، وبهذا كان الوقت داخل المستعمرة عند استيقاظه نحو السابعة مساءً. فافترض أن كل البشر الذين كانوا يعملون في موقع الاستكشاف أنهوا عمل يومِهم.
عندما صار على بُعد نحو نصف كيلومتر من الفتحة الموجودة في حائط مسكن المخلوقات الطائرة، توقَّف ليتأكَّد من أنه لم يعُد هناك أي بشَر في المنطقة مُستخدمًا نظارته المكبرة. ثم أرسل فولستاف ليُضلل حارس الموقع الآلي.
لم يكن ريتشارد يعرف إلى أيِّ مدًى يتطابق الممر الذي يؤدي إلى المنطقة السكنية الثانية مع التصميم الذي وضعَه المهندسون. لقد رسم مربعًا مساحته ثمانين سنتيمترًا على أرض حجرة مكتبِه وأقنع نفسه بأنه سيستطيع أن يزحف فيه. ولكن ماذا لو كانت مساحة الممرِّ غير مناسبة؟ قال ريتشارد لنفسه وهو يقترِب من الموقع: «سنكتشف هذا عاجلًا.»
لم يُدخِل المهندسون في الممر سوى مجموعة واحدة من الكابلات والمعدات، ولهذا لم يكن صعبًا على ريتشارد أن يُزيحها. فولستاف أيضًا نجح في مهمته إذ لم يسمع ريتشارد الحارس الآلي ولم يقع بصرُه عليه. قذف ريتشارد حقيبته الصغيرة في الفتحة ثم حاول أن يتسلَّق داخلها بنفسه. غير أن هذا كان مُستحيلًا. فخلع سُترته ثم خلع قميصه وبنطاله وحذاءه. وبعد أن أصبح لا يرتدي سوى ملابسه الداخلية وجوربه، تمكن بالكاد من الدخول في الممر. ربط ملابسه على هيئة صرةٍ وثبَّتها في جانب حقيبته وانحشر في الفتحة.
كان زحفه بطيئًا جدًّا. فقد كان يزحف على بطنه مُستعينًا بيدَيه ومرفقَيه وهو يدفع حقيبته أمامه. وكان جسده يحتكُّ بالجدران والسقف مع كل حركة. توقف ريتشارد بعد أن قطع نحو خمسة عشر مترًا في النفق وقد بدأ الإنهاك يُمزق عضلاته. وكان الجانب الآخر من النفق لا يزال يبعُد عنه نحو أربعين مترًا.
وبينما كان يأخذ قسطًا من الراحة، أدرك أن مِرفقيه وركبتَيه والجزء الأعلى من رأسه الصلعاء خُدشوا وينزفون. غير أنه طرد من ذهنِه فكرة جلب ضمادَّات من حقيبتِه لأن مجرد الانقلاب على ظهره والنظر خلفَه يتطلَّب مجهودًا جبارًا في هذا المكان الضيق.
أدرك أيضًا أنه يشعر ببردٍ قارس. فبينما كان يزحف كانت الطاقة اللازمة لإحراز التقدُّم تُحافظ على شعوره بالدفء. لكن ما إن توقف، حتى سرت على الفور قشعريرةٌ في جسده العاري. ومما زاد الأمر سوءًا أنه كان يسند جسده على الأسطح المعدنية الباردة. فبدأت أسنانه يصطكُّ بعضها ببعض.
أخذ ريتشارد يتقدَّم ببطءٍ مدة خمس عشرة دقيقةً أخرى والألَم يعتصِر جسده. ثم تشنَّج مفصل وركِه الأيمن وعندما صدر عن جسده رد الفعل التلقائي اصطدم رأسه بسقف الممر. فشعر بدوار بسيطٍ من أثر هذه الصدمة، وانتابه الخوف عندما شعر بالدم يسري على جانب رأسه.
لم يكن هناك أيُّ بصيص من الضوء أمامه. إذ انطفأ الضوء الخافت الذي مكَّنَه من أن يُراقب تقدُّم الأمير هال. فحارب لينقلب على ظهره ويرى ما وراءه. ولكنه وجد أن الظلام يغلف المكان بأكمله، وعاد يشعر بالبرد مرةً أخرى. وتحسَّس رأسه محاولًا أن يُحدِّد مدى خطورة الجرح. فانتابه الذُّعر عندما أدرك أنه لا يزال ينزف.
حتى تلك اللحظة لم يكن رهاب الاحتجاز قد بدأ يُهاجمه. أما الآن وقد أصبح فجأةً عالقًا في الممر المُظلم الذي يشعر بأنه يضغط عليه من كل الجوانب، فقد بدأ يشعر بأنه عاجز عن التنفُّس. وبدا له أن الحوائط تعتصِر ضلوعه. ففقد قُدرته على السيطرة على نفسه. وصرخ.
بعد أقلَّ من نصف دقيقة أضاء ضوءٌ صادر من مؤخرة الممر. وسمع اللهجة الإنجليزية الغريبة التي تنطق بها الجارسيا الآلية، ولكنَّه لم يفهم ما كانت تقوله. قال لنفسه: إنها بالتأكيد تكتب تقريرًا عن وجود حالة طوارئ. من الأفضل أن أتحرك بسرعة.
بدأ يزحف مرةً أخرى متجاهلًا تعَبه، ورأسه الذي ينزف، وركبتَيه ومرفقَيه اللذَين كُشِط جلدهما. قدَّر أنه لم يعُد أمامه سوى عشرة أمتار أو خمسة عشر على أقصى تقدير، لكن في تلك اللحظة بدا أن الممر قد انكمش. فلم يعُد يستطيع أن يتقدَّم. شدَّ كل عضلة من عضلاته لكن هذا لم يُجدِ نفعًا. أصبح ريتشارد عالقًا في مكانه. وبينما كان يُحاول أن يجد وضعًا مختلفًا يكون أفضلَ من الوضع الذي يزحف به الآن من الناحية الهندسية، سمع صوتَ طقطقةٍ خفيضًا صادرًا من اتجاه مسكن المخلوقات الطائرة يقترِب منه.
بعد دقائق، كانوا جميعًا فوقه. فتملَّكه الفزع خمس ثوانٍ حتى أخبره عقله بأن ما يشعر به من دغدغة في جلده كله سببها الكائنات ذات الأرجل. وقد توصَّل إلى هذا الإدراك عندما تذكر مرآها على التليفزيون؛ فقد كانت مخلوقاتٍ دائريةً صغيرة يبلُغ قطرها نحو سنتيمترين، يلتصق بها ستة أرجل مُتماثلة تماثُلًا طوليًّا، وهذه الأرجل لها مفاصل متعددة، ويبلغ طولها نحو عشرة سنتيمترات حين تمتدُّ إلى الحد الأقصى.
توقفت إحدى هذه الكائنات على وجهه مباشرةً، وأقدامُها مستقرة على أنفه وفمه. حاول أن يُبعدها لكنه صدم رأسه ثانيةً. بدأ ريتشارد يتلوَّى لكي يُسقِط الكائنات ذات الأرجل من عليه ونجح بطريقةٍ ما في أن يتقدم. فزحف الأمتار القليلة الباقية إلى المخرج والكائنات ذات الأرجل تُغطيه.
وصل إلى الحلقة الخارجية الموجودة في المدخل المؤدِّي إلى مسكن المخلوقات الطائرة، وعندها سمع صوتًا بشريًّا صادرًا من خلفه. كان يقول: «مرحبًا، هل من أحد هناك؟ أيًّا من كنت، عرِّف نفسك من فضلك. نحن هنا لنُساعدك.» ثم أضاء نور كشاف قوي الممر.
في تلك اللحظة، اكتشف ريتشارد أنه يُواجِه مشكلةً أخرى. وكانت أن الثغرة التي سيخرج منها ترتفع عن قاع الحلقة بحوالي متر. قال لنفسه: كان عليَّ أن أزحف للخلف وأنا أسحب حقيبتي وملابسي. كان هذا سيجعل الأمر أيسر.
لم يعُد هذا أوان إدراك ذلك، فواصل ريتشارد زحفه للأمام حتى صار جسده خارج الممر جزئيًّا وحقيبته وملابسه على الأرض أسفل منه، وصوتٌ بشريٌّ آخر يطرح الأسئلة خلفه. وعندما شعر أنه يسقط وضع يدَيه خلف رأسه وألصق ذقنه بصدره وحاول أن يجعل جسده يأخذ هيئة كرة، ثم وثب وتدحرج إلى داخل الحلقة. وبينما كان يسقط، قفزت الكائنات ذات الأرجل من عليه واختفت في الظلام.
انعكست الأضواء التي يُضيئها البشر في الممر على الحائط الداخلي للحلقة. وبعد أن تأكد ريتشارد من أنه لم يُصَب، وأن رأسه لم يعُد ينزف بغزارة، التقط متاعه ومشى بصعوبة مسافة مائتي متر إلى اليسار. توقف تحت الفتحة التي أمسك فيها المخلوق الطائر بالأمير هال مباشرةً.
•••
رغم شعور ريتشارد بإنهاك شديد، لم يُهدر وقتًا طويلًا في تسلُّق الجدار. وقد بدأ التسلُّق فور أن انتهى من ارتداء ملابسه وتضميد جراحه. إذ كان متأكدًا من أن من كانوا وراءه سرعان ما سيُدخلون كاميرا متحركة في الحلقة للبحث عنه.
لحُسن الحظ كان هناك إفريز صغير أمام الفتحة، وكان هذا الإفريز كبيرًا بما يكفي لاحتواء ريتشارد. جلس عليه وهو يُمزق الشبكة المعدنية ثم دفعها جانبًا. توقع ظهور الكائنات ذات الأرجل في أي لحظةٍ، غير أن هذا لم يحدث، وبقي ريتشارد وحيدًا. لم يرَ أو يسمع شيئًا داخل المنطقة السكنية. ومع أنه حاول مرتَين أن يستدعِيَ الأمير هال عن طريق اللاسلكي، فإنه لم يُجب نداءه.
حدَّق ريتشارد في الظلام الدامس الذي يُغلف مسكن المخلوقات الطائرة. وتساءل: تُرى ماذا يُوجَد في الداخل؟ فكَّر في أن الجو في الداخل لا بد أن يكون مُطابقًا لجوِّ الفتحة لأنه لا يُوجَد ما يعوق حركة الهواء من المنطقة السكنية وإليها. كان ريتشارد قد قرر أن يُخرج كشَّافه ليُلقي نظرة داخل المنطقة السكنية عندما سمع أصواتًا صادرةً من أسفل منه ومن خلفه. وبعد ثوانٍ رأى شعاع ضوء مُتجهًا نحو قاع الحلقة مارًّا بموقعه.
انحنى إلى داخل المنطقة السكنية إلى الحدِّ الذي سمحت له به جرأته ليتفادى الضوء، ثم أنصت بعنايةٍ إلى الأصوات. وقال لنفسه: إنها كاميرًا مُتحركة. ولكن نطاقها محدود. فهي لا تعمل بغير الكابل.
تسمَّر ريتشارد في مكانه. وعندما أصبح واضحًا أنَّ الضوء الملحق بالكاميرا ظلَّ يمسح نفس المنطقة التي تقع أسفل الفتحة قال لنفسه: «ماذا أفعل الآن؟ لا بدَّ أنهم رأوا شيئًا ما. وإذا ما أنرتُ كشافي وانعكس أي ضوء منه فسيعرفون مكاني.»
ألقى بشيءٍ صغير من حقيبته في المنطقة السكنية ليتأكَّد من أن ارتفاع الأرض مساوٍ لارتفاع الحلقة. لكنه لم يسمع أي صوت. جرَّب ريتشارد إلقاء شيءٍ آخر أكبر قليلًا من الشيء السابق لكنه لم يسمع صوتَ ارتطامِه بالأرض أيضًا.
ارتفعت ضربات قلبِه عندما أخبرَه عقله بأن أرض المنطقة الداخلية للمنطقة السكنية تبعُد كثيرًا عن أرض الحلقة. وتذكَّر البنية الأساسية لراما بهيكلها الخارجي السميك، وأدرك أن قاع المنطقة السكنية يُمكن أن يكون منخفضًا عن المكان الذي يجلس فيه بعدة مئات من الأمتار. مال ريتشارد إلى الأمام وحدَّق في الفراغ ثانيةً.
فجأة، توقفت الكاميرا المتحركة عن الحركة وظلَّ ضوءُها مركزًا على نفس البقعة أسفل الحلقة. خمن ريتشارد أن شيئًا ما سقط من حقيبته وهو يمضي على عجَلٍ من الممر إلى المنطقة التي تقع أسفل الفتحة. وعلِم أنهم سرعان ما سيجلبون كاميراتٍ وأضواءً أخرى. تخيل ريتشارد أنه أُلقي القبض عليه وأُعيد إلى عدن الجديدة. لم يكن يعرف قوانين المستعمرة التي خرقَها بالتحديد، ولكنه كان على يقينٍ من أنه خرق الكثير من القوانين. جاش في نفسه شعور قوي بالاستياء وهو يفكر في أنه قد يُمضي شهورًا أو حتى سنواتٍ في المعتقل. وقال في نفسه: لن أسمح بأن يحدُث هذا بأيِّ حالٍ من الأحوال.
تحسَّس الجدار الداخلي للمنطقة السكنية ليتحقَّق مما إذا كان به ما يكفي من أماكن غير مستوية تُمكنه من إيجاد موضعٍ يُثبت فيه قدمَيه ويدَيه. وبعد أن اطمأن إلى أن نزول هذا الحائط ليس مهمةً مستحيلة، بحث في حقيبته عن حبل التسلُّق وثبَّت طرفه في مفاصل الشبكة. وقال في نفسه: حتى يُنقذني إنِ انزلقت.
سطع ضوء آخَر في الحلقة خلفه. فاندفع داخلًا المنطقة السكنية والحبل ملفوف بإحكام حول وسطه. لم يعتمِد على الحبل اعتمادًا تامًّا في رحلة الهبوط، لكنه استخدمَه ليستنِد إليه من حينٍ لآخر وهو يتحسَّس الحائط بحثًا عن موطئٍ لقدمِه في الظلام. لم يكن الهبوط صعبًا؛ فقد كانت هناك الكثير من المواضِع الصغيرة البارزة التي استطاع ريتشارد أن يضع قدمَه عليها.
ومضى ريتشارد في رحلته. حتى إذا قُدِّر أنه نزل ستِّين أو سبعِين مترًا قرَّر أن يقف ويُخرج كشَّافه من حقيبته. لم يُسَرَّ عندما سلَّط الضوء على الحائط إلى أسفل. إذ لم يكن بوسعه أن يرى القاع. لكنه كان بوسعه أن يرى شيئًا مُنتشرًا كالسحاب، بل كالضباب، على بُعد خمسين مترًا أو أكثر. قال ريتشارد في نفسه بسخرية: رائع، بل أكثر من رائع.
بعد ثلاثين مترًا أخرى كان سيصِل إلى نهاية حبل التسلُّق. كان ريتشارد يشعر بالفعل بالرطوبة الصادرة من الضباب. وكان مُنهكًا للغاية. ولأنه لم يكن يُريد أن يفقد الحماية التي يوفرها له الحبل، صعد أمتارًا قليلة ولفَّ الحبل حولَه عدة مراتٍ ونام وجسدُه مُلتصِق بالحائط.
٢
كانت الأحلام التي يراها ريتشارد غريبة للغاية. فعادةً ما كان يرى نفسه يسقط رأسًا على عقبٍ إلى ما لا نهاية دون أن يصل أبدًا إلى قاع. وكان آخِر ما رآه قبل أن يستيقظ، هو أن توشيو ناكامورا وشخصَين شرقِيَّين عنيفَين يستجوبانه في غرفةٍ صغيرة بيضاء الجدران.
عندما استيقظ لم يعرِف أين هو مدة ثوانٍ. وفي أول حركةٍ قام بها، سحب خدَّه الأيمن بعيدًا عن سطح الحائط المعدني. وبعد لحظاتٍ تذكَّر فيها أنه نام في وضعٍ رأسي مستندًا إلى الحائط في المنطقة الداخلية من مسكن المخلوقات الطائرة، أضاء كشَّافه ونظر إلى أسفل. توقَّف قلبه عن الخفقان عندما رأى أنَّ الضباب اختفى. ووجد أن الحائط مُمتد مسافةً طويلة جدًّا إلى أسفل وينتهي بشيءٍ يبدو أنه مياه.
أمال رأسه إلى الوراء ونظر فوقه. كان يعرف أن المَوضع الذي هو فيه يبعُد عن الفتحة بنحو تسعين مترًا (فقد كان طول حبل التسلُّق مائة مترٍ)، وعلى هذا، قدَّر أن المسافة من موضعه إلى المياه تبلغ نحو مائتينِ وخمسين مترًا. ارتعدَت فرائصه عندما بدأ عقله يستوعِب المأزق الذي وقع فيه. وعندما بدأ يُخلِّص نفسه من حلقات الحبل التي لفَّها حوله قبل أن ينام، لاحظ أن ذراعَيه ويدَيه يرتعشان.
ساورته رغبة جامحة في أن يهرب، في أن يصعد إلى الحفرة مرةً أخرى ويترك هذا العالم الغريب برمَّته. قال لنفسه وهو يُغالب ردَّ فعله التلقائي: كلَّا. ليس الآن. لن يحدُث هذا إلا إذا لم تُتَح أمامي خيارات عملية أخرى.
قرَّر أن يكون أول ما يفعله هو أن يأكُل شيئًا. حرَّر نفسه بحذَرٍ شديد من جزءٍ من الحبل، وسحب بعض الطعام والمياه من حقيبته. ثم استدار قليلًا وسلَّط ضوءه باتجاه المنطقة الداخلية من المسكن. ظنَّ أنه رأى أشكالًا وهياكل في مرمى البصر، لكنه لم يستطِع أن يتيقَّن من صحة هذا. قال لنفسه: قد يكون هذا خيالًا.
عندما فرغ ريتشارد من تناوُل الطعام فحص ما معه من طعامٍ وماء ثم وضع قائمةً عقلية بما أمامه من خيارات. وقال لنفسه وهو يضحك ضحكةً متوترة: الأمر بسيط للغاية. يُمكنني أن أعود إلى عدن الجديدة، وعندئذٍ يصدُر ضدي حكم. أو يُعدِمونني. أو يمكن أن أتخلَّى عن الحماية التي يُوفرها لي الحبل وأُواصل طريقي أسفل الجدار. توقَّف لحظةً ونظر فوقه وأسفل منه. ثم واصل حديثه إلى نفسه قائلًا: أو يمكن أن أبقى هنا وآمُل أن تحدُث معجزة.
تذكَّر ريتشارد أن مخلوقًا طائرًا خرج بسرعةٍ عندما صرخ الأمير هال فبدأ يصيح. لكنه توقف بعد دقيقتَين أو ثلاث وبدأ يُغني. غنَّى ريتشارد غناءً متقطعًا حوالي ساعة. بدأ فيها بدندنة ألحانٍ من الأيام التي قضاها في جامعة كامبريدج، ثم انتقل إلى الأغاني التي كانت شائعةً أثناء سنوات مُراهقته التي غلَّفتها الوحدة. اندهش ريتشارد من جودة تذكُّره لكلمات الأغاني. وفكر قائلًا: «الذاكرة جهاز مُدهش. ترى ما تفسير طريقة عملها الانتقائية؟ لماذا أتذكَّر كل كلمات أغاني المراهقة الغبية تقريبًا ولا أتذكَّر أيَّ شيءٍ من الرحلة التي قُمت بها في راما؟»
كان ريتشارد يمدُّ يده إلى حقيبته ليأخذ مزيدًا من المياه عندما سطع الضوء فجأة في المنطقة السكنية. ففزع حتى إن قدمَه انزلقت من على الجدار وحُمِل وزنه كله على حبل التسلُّق ثواني قليلة. لم يكن الضوء باهرًا كضوء الفجر الذي سطع على مركبة راما الثانية وهو يركب التلفريك، لكنه كان ضوءًا على أي حال. وما إن عاد الاطمئنان إلى ريتشارد حتى أخذ يتأمَّل العالَم الذي كشف الضوء حجابه.
كان يُصدِر الضوء عن كرةٍ ضخمة مُغطاة معلقة في سقف المنطقة السكنية. قدَّر ريتشارد أن الكرة تبعُد عنه نحو أربعة كيلومترات وأنها تعلو أبرز ما يراه من هياكل — وهو أسطوانة بُنية ضخمة في المركز الهندسي للمسكن — بنحو كيلومتر وهي فوقه مباشرة. وكان يُغطي غطاءٌ مُعتم ثلاثةَ أرباع الكرة المضيئة من أعلى؛ ولهذا وُجِّه معظم نورها إلى أسفل.
السمة المُميزة للتصميم الأساسي الذي بُني الجزء الداخليُّ من المنطقة السكنية وفقًا له هو التماثُل المحوري. إذ كان يُوجَد في وسطه أسطوانة بُنيَّة عمودية تبدو وكأنها مصنوعة من الطين، ويبلُغ طولها من أعلى إلى أسفل نحو ألفٍ وخمسمائة مترٍ. لم يستطع ريتشارد أن يرى سوى جانبٍ واحد من جوانبها، ولكنه قدَّر من الانحناءة أن قُطرها يبلغ ما بين كيلومترَين إلى ثلاثة كيلومترات.
لم يكن بالجانب الخارجيُّ من الأسطوانة أي نوافذ أو أبواب. ولم ينفُذ من الجزء الداخلي منها أي ضوء. الشكل الوحيد الموجود على جانب هذه الأسطوانة كان هو مجموعة من الخطوط المُنحنية تفصل بينها مسافات واسعة، ويبدأ كلُّ خطٍّ منها في أعلى الأسطوانة ويلتفُّ حولها قبل أن يصِل إلى قاعها تحت النقطة التي بدأ منها مباشرة. يقف قاع الأسطوانة على سهلٍ مرتفع له نفس ارتفاع الفتحة التي دخل منها ريتشارد.
يُحيط بالأسطوانة عددٌ كبير من الهياكل البيضاء الصغيرة على شكل حلقةٍ يبلغ قطرها نحو ثلاثمائة متر. رُبعا الحلقة الشماليَّان (كان ريتشارد قد دخل مسكن المخلوقات الطائرة من الفتحة الشمالية) متطابقان؛ في كل ربعٍ خمسون أو ستُّون مبنًى وُضعت على نفس النمط. افترض ريتشارد بناءً على هذا التطابُق أن يكون للربعَين الآخرَين نفس هذا التصميم.
كانت تُحيط بهذه الحلقة قناة دائرية رفيعة يبلُغ اتساعها سبعين أو ثمانين مترًا. تقع القناة والمباني البيضاء على السهل على نفس الارتفاع الذي بُني عليه قاع الأسطوانة البُنية. أما خارج القناة فتشغَل مُعظم ما تبقَّى من مساحة المنطقة السكنية منطقة واسعة بها ما يبدو أنه أشياء تنمو ذات لون أخضر. تنحدِر أرض المنطقة الخضراء هذه انحدارًا بسيطًا من القناة وحتى شاطئ الخندق الذي يبلغ عرضُه أربعمائة مترٍ والذي يُوجَد داخل الجدار الداخلي. كل ربع من أرباع الحلقة المُتماثلة في المنطقة الخضراء مُقسَّم إلى أربعة قطاعات، أطلق ريتشارد على أحدِها دغل، وعلى الثاني غاب، وعلى الثالث مرعى، وعلى الرابع صحراء، وقد بُنِيَ هذا التصنيف على أساسِ نظير هذه المناطق على الأرض.
أنعم ريتشارد النظر نحو عشر دقائق في البانوراما الواسعة بهدوء. ولأن مستوى الإضاءة ينخفض انخفاضًا طرديًّا مع المسافة بالنسبة للأسطوانة، لم تكن رؤيته للمناطق القريبة منه أوضح من رؤيته للمناطق البعيدة. ومع هذا كانت تفاصيل ما يراه لا تزال مُبهرة. وكلَّما أمعن في النظر، لاحظ أشياء جديدة. فرأى أن هناك بحيراتٍ وأنهارًا صغيرة في المنطقة الخضراء، وجزيرة صغيرة في الخندق، وأشياء تُشبه الطرُق بين المباني البيضاء. وجد نفسه يقول: طبعًا. لِمَ توقعت غير هذا؟ لقد صنعنا أرضًا صغيرة في عدن الجديدة. ولا بدَّ أنَّ هذا يُمثل، على نحوٍ ما، الكوكب الأصلي للمخلوقات الطائرة.
هذه الفكرة الأخيرة ذكَّرته بأنه هو ونيكول آمَنا من البداية بأن المخلوقات الطائرة لم تعُد من المخلوقات التي تجوب الفضاء، وهي تتمتَّع بتكنولوجيا ذات مستوًى عالٍ من التطور (هذا إن كانوا كذلك من البداية). سحب ريتشارد نظارته المُكبرة وتفحَّص الأسطوانة البُنية على مرمى البصر. وتساءل قائلًا: تُرى أي أسرار تُخفيها؟ قال هذا وقد شعر بالإثارة لحظات؛ لاحتمال دخوله في مغامرةٍ ورحلة استكشاف.
بعد هذا، بحث ريتشارد في السماء عن أي أثرٍ للمخلوقات الطائرة. غير أن أملَه خاب. فقد ظن أنه رأى مخلوقاتٍ تطير مرةً أو مرتَين عند قمة الأسطوانة البنية، غير أن الأجسام الصغيرة التي رآها كانت تنطلِق بسرعةٍ شديدة في نطاق رؤية نظارته المُكبِّرة حتى إنه عجز عن التأكد من هوية ما يراه. نظر في كل مكان — في كل أجزاء المنطقة الخضراء، في المباني البيضاء المجاورة، بل في الخندق — لكنه لم يرَ أيَّ إشارةٍ إلى وجود حركة. ولم يكن هناك أيُّ دليلٍ على وجود حياةٍ في مسكن المخلوقات الطائرة.
خبا الضوء بعد أربع ساعاتٍ وتُرك ريتشارد مرةً أخرى في الظلام في منتصف الحائط الرأسي. نظر في الترمومتر الخاص به وفي تاريخ قاعدة بياناته. فوجَدَ أن الحرارة لم تتغيَّر عن ستٍّ وعشرين درجة مئوية إلا بنصف درجة، وذلك منذ أن دخل المنطقة السكنية. فقال لنفسه: تحكم مبهر في الحرارة. ولكن لماذا هو مُحكم هكذا؟ لماذا يستخدمون موارد طاقةٍ هائلةً ليحافظوا على ثبات الحرارة؟
ظلَّ الظلام مُخيِّمًا ساعاتٍ فنفد صبر ريتشارد. ومع أنه كان يريح كل مجموعةٍ من العضلات باستمرار عن طريق الاستناد على الحبل بأوضاعٍ مختلفة، بدأ الإنهاك ينتاب جسدَه ببطء. ورأى أن الوقت قد حان لفِعل شيءٍ ما. ورغمًا عنه أقرَّ بأن ترك الحبل والنزول إلى الخندق يُعَد تهورًا. فقال لنفسه: وماذا سأفعل عندما أصِل إلى هناك؟ أسبح إلى الضفة الأخرى؟ وبعدها؟ سيكون عليَّ أن أغير اتجاهي إن لم أجد طعامًا على الفور.
بدأ يتسلَّق ببطءٍ باتجاه الفتحة. وبينما كان يستريح في منتصف الطريق المؤدِّي إلى المخرج ظنَّ أنه سمِع صوتًا خافتًا للغاية صادرًا من بعيدٍ جهةَ اليمين. توقَّف ريتشارد ومدَّ يدَه إلى حقيبتِه برفقٍ للبحث عن جهاز الاستقبال الخاص به. وبأقل حركةٍ مُمكنة، جعل أداة زيادة قوة الإشارات تعمَل بأقصى طاقتها وارتدى سماعة الأذن. في البداية لم يسمع أيَّ صوت. لكن بعد عدة دقائق التقط الجهاز صوتًا صادرًا من أسفل منه، من الخندق. كان من المُستحيل أن يتعرَّف على الصوت بدقة؛ فربما يكون صوت العديد من المراكب التي تُبحر في المياه، ولكن لم يكن هناك شك في أن هناك عملًا ما يُجرى أسفل منه.
هل سمع صوت رفرفة أجنحة أيضًا صدر من مكانٍ ما عن يمينه؟ بدون سابق إنذار، صرخ ريتشارد بأعلى صوته فجأة ثم توقَّف فجأة. تلاشت الذبذبة الصادرة عن رفرفة الأجنحة بسرعة، لكن بعد ثانية أو اثنتَين كانت واضحةً بحيث لا تُخطئها أُذن.
تهلَّل ريتشارد. وصاح بمرح: «أعلم أنكم هناك. أعلم أنكم تُراقبونني.»
•••
كانت لدَيه خطة. كان على يقينٍ بأن فرصته في النجاح ضئيلة ولكن أن يُجرِّب حظه أفضل بالتأكيد من أن يقف مكتوفَ الأيدي. راجع طعامَه وشرابه وتأكَّد من أن ما معه يكفيه بالكاد وأخذ نفسًا عميقًا. وقال لنفسه: إن لم أفعل هذا الآن فلن أفعله أبدًا.
تدرَّب على النزول دون الاعتماد على الاستناد إلى الحبل. وهذا جعل التقدُّم أصعب ولكنه كان مُمكنًا. عندما وصل إلى نهاية الحبل فك الحبل وسلط الضوء على الحائط. فوجد أن هناك ما يكفي من المناطق البارزة حتى المنطقة التي تعلو الضباب على الأقل، وكان الضباب قد عاد في ذلك الوقت. واصل نزوله بعناية شديدة مُقرًّا بينه وبين نفسه بأن الخوف ينتابه. وظن أكثر من مرة أنه يسمع دقَّات قلبه في سمَّاعة الأذن.
قال في نفسه وهو ينزل إلى الضباب: الآن، إن كنتَ على صواب، سأحظى بصحبة في الأسفل. ضاعف الضباب من صعوبة الهبوط. بل إنه انزلق مرةً وكاد أن يسقط لكنه نجح في أن يعود إلى الوضع السليم. توقَّف في منطقةٍ كانت مواضعُ يدِه وقدمَيه فيها ثابتةً جدًّا. وقدَّر أنه يبعُد عن الخندق بنحو خمسين مترًا. وقال لنفسه: من الآن، سأنتظر حتى أسمع صوتًا. سيكون عليهم أن يقتربوا أكثر بسبب الضباب.
بعد مدةٍ قصيرة سمع رفرفة الأجنحة ثانيةً. في هذه المرة بدا كما لو أن هذا صوت اثنين من المخلوقات الطائرة. ظلَّ ريتشارد واقفًا في مكانه أكثر من ساعة، حتى بدأ الضباب ينقشِع. وسمع رفرفة أجنحة مُراقِبيه كثيرًا.
خطط لأن ينتظر حتى يسطع الضوء ثانيةً ثم يبدأ النزول إلى المياه. لكن عندما انقشع الضباب لم يعد الضوء، وبدأ ريتشارد يقلق بشأن الوقت. بدأ ينزل الجدار في الظلام. وسمع صوت مراقِبيه يطيرون بعيدًا، وكان الصوت صادرًا من فوق الخندق بنحو عشرة أمتار. بعد دقيقتَين بدأ الضوء يعود إلى المنطقة الداخلية من مسكن المخلوقات الطائرة.
لم يُضِع ريتشارد وقته. كانت خطته بسيطة. فاستنادًا إلى الضوضاء التي تُشبه صوت المراكب التي سمعها في الظلام، افترض ريتشارد أنَّ ما يحدث في الخندق ذو أهمية للمخلوقات الطائرة أو المخلوقات التي تحيا في الأسطوانة البُنية أيًّا كانت هويتها. وإلا ما الذي يدعوهم إلى المُضي قدمًا في هذا النشاط مع علمِهم بأنه قد يسمع الأصوات الصادرة عنه؟ إذا كانوا قد أجَّلوا القيام به ولو لسويعاتٍ كان سيرحل عن المنطقة السكنية بالتأكيد.
كان ريتشارد ينوي أن ينزل في الخندق. فقد فكَّر في نفسه قائلًا: إذا كانت المخلوقات الطائرة تشعر بأي خطرٍ فسيقومون بفعلٍ ما. وإن لم يفعلوا فسأبدأ رحلة الصعود وأستسلِم لقدري في عدن الجديدة.
قبل أن ينزل ريتشارد المياه خلع حذاءه وحشرَه بصعوبةٍ في حقيبته المصنوعة من مادةٍ مقاوِمةٍ للمياه. وكان ذلك حتى يحفظه من البلل لينفعه إذا ما قرر تسلق الجدار. بعد ثوانٍ، ما إن غمرته المياه، حتى طار اثنان من المخلوقات الطائرة باتجاهه منطلِقَين من المكان الذي كانا يختبِئان فيه في المنطقة الخضراء المقابلة للخندق مباشرة.
كانا شديدَي الاهتياج. فصرَخا وأصدرا أصواتًا غير مفهومة وبدا كأنهما سيُمزقان ريتشارد إرْبًا إرْبًا بمخالبهما. كان مبتهجًا جدًّا لنجاح خطته، حتى إنه تجاهل سلوكهما. حام المخلوقان الطائران فوقَه وحاولَا أن يسوقاه إلى الجدار. فوقف وبدأ يمضي في المياه وهو يتفحَّصهما عن قُرب.
كان هذان الطائران مُختلفَين قليلًا عن المخلوقات الطائرة التي قابلها هو ونيكول في مركبة راما الثانية. كان جسدهما مكسوًّا بالفراء كالآخرين غير أن فراءهما كان أرجوانيًّا. وكان لون الحلقة التي تُحيط بعنق كلٍّ منهما أسود. كما أن الطائرَين كانا أصغر حجمًا (وربما سنًّا أيضًا، هذا ما جال بخاطر ريتشارد) من السابقين، وكانا أكثر منها اهتياجًا بكثير. حتى إن أحد المخلوقَين لمس وجنةَ ريتشارد بمخلبِه عندما لم يُسرع بما يكفي نحو الجدار.
في النهاية تسلَّق ريتشارد الحائط خارجًا من المياه، لكن بدا أن هذا لم يُرضِ الطائرَين. وعلى الفور بدأ الطائران الضخمان يتبادلان الطيران إلى أعلى مُشيرَين إلى ريتشارد بأنهما يُريدانه أن يصعد الجدار. وعندما لم يتحرك زاد اهتياجُهما.
قال ريتشارد وهو يُشير إلى الأسطوانة البنية: «أريد أن أذهب معكما.» كلما كرَّر حركة يدَيه، صرخ المخلوقان الضخمان وأصدرا أصواتًا غير مفهومة وطارا إلى أعلى باتجاه الفتحة.
صار الطائران مُستاءَين وبدأ ريتشارد يخاف من أنهما قد يُهاجمانه. وفجأة جاءته فكرة رائعة. سأل نفسه والحماس يتملَّكه: لكن هل سأتذكَّر شفرة الدخول؟ لقد مرَّت سنوات عديدة.
عندما وضع يدَيه في الحقيبة طار الكائنان الطائران بعيدًا على الفور. فقال ريتشارد بصوتٍ مرتفع وهو يفتح الكمبيوتر المحمول المحبوب الخاص به: «هذا يُثبت أن الكائنات ذات الأرجل عبارة عن مُراقِبين إلكترونيين تابعِين لكم. وإلا كيف كان سيُمكنكما أن تعرفا أن البشَر قد يضعون أسلحة في حقائب كهذه؟»
ضغط خمسة أحرف على لوحة المفاتيح وابتسم ابتسامةً واسعة عندما ظهرت صورة على الشاشة. قال ريتشارد وهو يلوِّح للطائرَين اللذَين تراجعا إلى الجانب الآخر من الخندق: «تعالَيا. تعالَيا، لديَّ ما أريكما إيَّاه.»
رفع الشاشة وعرض عليهما الرسم المُعقد الذي استخدمه قبل سنواتٍ في مركبة راما الثانية ليُقنع المخلوقات الطائرة بأن تَحمِله هو ونيكول عبر البحر الأسطواني. كان رسمًا رائعًا يُصوِّر ثلاثة مخلوقات طائرة تحمل بشرًا في حاملٍ عبر مُسطح مائي. اقترب الطائران الكبيران ببطء. فقال ريتشارد لنفسه والحماس يُسيطر عليه: هكذا. اقترِبا وألقِيا نظرةً مُمعنة.
٣
لم يعرف ريتشارد كم مرَّ عليه في الحجرة المعتمة. إذ فقد القدرة على متابعة الوقت منذ أن أخذت المخلوقات الطائرة حقيبتَه. صار روتينُه اليوميُّ ثابتًا. فهو ينام في زاوية الحجرة. ومتى استيقظ، سواء من نومٍ طويلٍ أو قصير، يدخل مخلوقان طائران حُجرته من الممرِّ ويُعطيانه بطيخة مَنٍّ يأكُلها. كان يعرف أنهما يدخلان من الباب المُغلق الواقع في نهاية الممر، ولكن كلما حاول أن ينام بالقُرب من الباب يَحرمانه من الطعام. فتعلَّم هذا الدرس السهل وكفَّ عن النوم هناك.
من حينٍ لآخر، كان زوجان مختلفان من الكائنات الطائرة يدخلان سجنه ويرفعان فَضلاته. صارت ملابسه نتنة، وكان يعرف أنه أصبح قذرًا قذارةً لا تُحتمَل، ولكنه لم يستطع أن يُفهِم من يأسِرونه أنه يُريد أن يستحِم.
في البداية، شعر بنشوة النصر. فعندما اقترب الكائنان الطائران الشابَّان بدرجةٍ تُمكِّنهما من مشاهدة الرسم، وقاما بأول محاولةٍ لأخذ جهاز الكمبيوتر الخاص به، قرَّر أن يُبرمج الكمبيوتر بحيث تستمر الصورة في الظهور إلى أجلٍ غير معلوم.
بعد أقلَّ من ساعة عاد أضخم مخلوقٍ طائر وقعت عليه عيناه مع المخلوقَين الطائرَين الشابَّين، وكان جسد الطائر الضخم مكسوًّا بفراء رمادي، ورقبته تُحيط بها ثلاث حلقات لامعة لونها كلَون الكرز. حمل الكائنات الثلاثة ريتشارد، وعبروا به الخندق ثم وضعوه قليلًا في منطقةٍ صحراوية، ثم رفعوه عاليًا في الهواء بعد أن همهموا فيما بينهم فيما بدا لريتشارد أنه نقاش حول أفضل طريقةٍ لحملِه.
كانت رحلة رائعة. فرؤية ريتشارد للمنظر الطبيعي في المنطقة السكنية ذكَّرته برحلةٍ قام بها في بالون هواء ساخن في جنوب فرنسا. حملته المخلوقات الطائرة بمخالبها وطارت به طول الطريق إلى قمَّة الأسطوانة البُنية حتى صاروا تحت الكرة المُضيئة المُغطاة مباشرةً. هناك، قابلَهم ستة مخلوقات طائرة، أحدُهم مُمسك بكمبيوتر ريتشارد الذي كان لا يزال يُظهر الصور. بعد هذا اقتيدوا إلى ممرٍّ رأسي واسعٍ يؤدي إلى داخل الأسطوانة.
في الخمس عشرة ساعة الأولى أو نحوها كان ريتشارد يتنقِل بين مجموعاتٍ ضخمة مختلفة من المخلوقات الطائرة. فظنَّ أن مُضيفِيه يُعرِّفونه على جميع مواطني أرض المخلوقات الطائرة. افترض ريتشارد أن عدد الكائنات الطائرة التي حضرت أكثر من جلسةٍ من جلسات الأصوات القصيرة ليس كبيرًا، وبناءً على هذا قدَّر أن إجمالي عدد هؤلاء الكائنات يبلُغ نحو سبعمائة طائر.
بعد الجولة التي قام بها في قاعات مؤتمرات مملكة المخلوقات الطائرة، أُخِذ ريتشارد إلى حجرةٍ صغيرة ظلَّ يُراقِبه فيها على مدار أسبوع المخلوقُ الطائر ذو الحلقات الثلاث واثنان من رفاقه، كلٌّ منهما ضخم وله ثلاث حلقات حمراء حول رقبتِه أيضًا. في ذلك الوقت كان يُسمح لريتشارد بالحصول على جهاز الكمبيوتر الخاصِّ به وجميع محتويات حقيبته. لكن في نهاية مدة المُراقبة أخذوه بعيدًا عن متاعه وسجنوه.
في أحدِ الأيام، قال ريتشارد لنفسه بعد أن بدأ التمشية التي يقوم بها مرتَين يوميًّا والتي تُعَد أهم الأنشطة المنتظمة التي يقوم بها: لا بدَّ أن هذا حدث منذ ثلاثة أشهر تقريبًا. يبلُغ طول الممر المؤدِّي إلى حُجرته نحو مائتي مترٍ. وهو عادةً ما يقوم بثمانين جولة كاملة فيه، تبدأ من الباب الموجود في نهايته وتنتهي عند الحائط الصخري الموجود خارج حجرته مباشرةً.
ثم أضاف بينَه وبين نفسه: وطوال هذه المدة كلها لم يزُرْني القادة زيارةً واحدة. إذن فمدة المراقبة كانت بمثابة محاكمةٍ لي، أو ما يوازي المُحاكمة بمفهوم المخلوقات الطائرة … وهل وجدوا أنَّني مُذنب؟ ألِهذا يَسجنونني في هذه الزنزانة القذرة؟
بدأ حذاء ريتشارد يتمزَّق وأصبحت ملابسه رثةً بالفعل. ومع هذا لم ينتَبْهُ أيُّ خوف من البرد؛ فقد كانت الحرارة دافئة (خمن أن درجة الحرارة تبلغ ستًّا وعشرين درجة مئوية في كل أنحاء مسكن المخلوقات الطائرة). لكن لأسباب كثيرة، لم يكن يحب أن يبقى عاريًا بعد أن تتمزَّق ملابسه. ابتسمَ لنفسه عندما تذكَّر حياءه أثناء مدة المراقبة. وقال في نفسه: أن تقضي حاجتك وثلاثة من الكائنات الطائرة العملاقة يُراقبون كل حركةٍ من حركاتك ليست بالتأكيد مهمة سهلة.
أصابه السأم من أكل بطيخِ المنِّ في كل وجبة، لكنه صبَّر نفسه بأن قال لها إنه على الأقل مُغذٍّ. وكان السائل الموجود في المنتصف مُنعشًا وطعم لبِّه الرطب لذيذًا. ومع هذا ظلَّ يتوق إلى أن يأكل شيئًا مختلفًا. وقال لنفسه أكثر من مرة: سأُرحِّب بأي تغييرٍ وإن كان التغيير هو الطعام الصناعي الذي كنَّا نحصل عليه في مركبة راما الثانية.
أما أكبر تَحدٍّ واجَهَه ريتشارد في عزلتِهِ فهو أن يُحافظ على توقُّد ذهنه. وبدأ مواجهة هذا بحلِّ مسائل رياضية في عقله. وبعد هذا، انتابَهُ القلق من أن حدة ذاكرته بدأت تضعف نسبيًّا بسبب عمره، ولهذا بدأ يُمضي الوقت في تذكُّر الأحداث التي وقعت في حياته والمراحل الرئيسية التي مرَّ بها وفقًا لترتيبها الزمني.
كان أشد ما يُثير اهتمامه في التمرينات التي يقوم بها لتنشيط ذاكرته هو الفجوات الضخمة التي تتخلل الأحداث التي وقعت في الرحلة التي قام بها في مركبة راما الثانية أثناء انتقال تلك المركبة من الأرض إلى النود. ومع أنه كان صعبًا على ريتشارد أن يتذكر الكثير من الأحداث التي وقعت في رحلته، فإن تناوُل بطيخ المنِّ كان دائمًا ما يُثير في ذهنه لقطات من إقامته الطويلة مع المخلوقات الطائرة أثناء تلك الرحلة.
فذات مرة، بعد تناول الوجبة، تذكَّر فجأةً احتفالًا كبيرًا شارك فيه عدد كبير من المخلوقات الطائرة. وتذكَّر وجود نار في هيكل له قبة، وبكاء المخلوقات الطائرة معًا بعد أن انطفأت النيران. فأصابت ريتشارد الحيرة. إذ لم يستطع أن يتذكَّر أي شيءٍ عن سياق هذه الذكرى. وتساءل في نفسه: أين حدث هذا؟ هل حدث قبل أن تأسرني كائنات الأوكتوسبايدر مباشرةً؟ لكن كالعادة، عندما حاول أن يتذكَّر شيئًا ما عمَّا مرَّ به مع كائنات الأوكتوسبايدر انتهى به الأمر إلى صداع أليم.
كان ريتشارد يفكر في رحلته السابقة مرةً أخرى وهو يقوم بالجولة الأخيرة من التمشية اليومية عندما مرَّ أسفل المصباح الوحيد في الممر. ونظر أمامه فرأى باب سجنه مفتوحًا. قال لنفسه: إذن فقد جُن جنوني. إنني أتخيَّل أشياء.
غير أن الباب ظلَّ مفتوحًا وهو يقترِب منه. تقدَّم ريتشارد ثم توقَّف ليلمس الباب المفتوح ليتأكَّد من أنه لم يفقد عقله. ثم سار عبرَه ومرَّ بمصباحَين آخَرين قبل أن يصِل إلى مخزنٍ مفتوح على يمينه. وجد فيه ثمانيَ أو تسعَ بطيخاتٍ مكدساتٍ بنظامٍ على الأرفف. قال ريتشارد لنفسه: آه، فهمت. لقد وسَّعوا سجني. من الآن سيُسمح لي بأن أجلب طعامي بنفسي. آه، لو وجدت حمَّامًا في مكانٍ ما …
في مكانٍ بعيدٍ من الرواق، كانت هناك مياه جارية في غرفةٍ صغيرة إلى اليسار. شرب ريتشارد بنهم، وغسل وجهه، وأغرَتْه المياه بالاستحمام إغراءً شديدًا. غير أن فضوله كان أشد. إذ كان يُريد أن يعرف حدود مساحته الجديدة.
ينتهي الممرُّ الممتدُّ خارج زنزانته مباشرةً بتقاطعٍ عمودي. وكان أمام ريتشارد أن ينطلِق في أي الطريقَين. وورد في عقله احتمال أن تكون المخلوقات الطائرة قد قادته إلى شيءٍ كالمتاهة لاختبار قُدراته العقلية، فأسقط قميصَه الخارجي عند التقاطُع ومضى إلى اليمين. كان هذا الاتجاه أشدَّ إضاءةً.
بعد أن سار نحو عشرين مترًا رأى اثنَين من المخلوقات الطائرة يقتربان منه من بعيد. بل إنه سمع أصواتهما غير الواضحة في البداية، إذ كانا مُنهمِكَين في نقاشٍ مُحتدم. وعندما صارا على بُعد خمسة أمتار فقط، توقَّف ريتشارد. فنظر إليه المخلوقان وحيَّياه بصرخة قصيرة لها نبرة مختلفة، ثم واصلا سيرهما في الممر.
بعد هذا قابل ثلاثة مخلوقات طائرة، وحدَث بينهم نفس السيناريو السابق. فتساءل ريتشارد في نفسه وهو يُواصِل السير: ما الذي يحدُث هنا؟ ألم أعد سجينًا؟
في أول غرفةٍ كبيرة يمرُّ بها كان هناك أربعة مخلوقات طائرة يجلسون في حلقة وهم ينقلون مجموعةً من العصيِّ اللامعة بينهم دون أن تنقطِع الأصوات غير الواضحة التي يُطلقونها. بعد هذا، وقف ريتشارد عند مدخل باب حجرةٍ أخرى تقع في المنطقة التي يتَّسِع بعدها الرواق متخذًا شكل حجرة اجتماعات كبيرة، وراقب بانبهارٍ اثنَين من الكائنات ذات الأرجل وهي تقوم بما يُشبه التمرينات الرياضية على طاولة مربعة. وكان هناك نحو ستة مخلوقات طائرة يتأمَّلونهم بانتباهٍ في صمت.
كان هناك عشرون من المخلوقات التي تُشبه الطيور في غرفة الاجتماعات. وكانوا جميعًا مُلتفِّين حول مائدة يُحدقون في وثيقة تُشبه الورق كانت منبسطةً أمامهم. وكان لأحد الطيور مؤشِّرٌ في مخلبه يستخدِمُه للإشارة إلى أشياء مُحددة في الوثيقة. كانت هناك كتابات غريبة على الورقة لم يفهم ريتشارد أيًّا منها، غير أنه أقنع نفسَه بأن المخلوقات الطائرة كانت تنظر في خريطة.
عندما حاول ريتشارد أن يقترِب من المنضدة ليحظى برؤيةٍ أفضل أفسحت له المخلوقات الطائرة التي كانت أمامه عن طيب خاطر. بل إن لغة جسد هؤلاء الكائنات حول الدائرة جعلت ريتشارد يظن أثناء المحادثة التي تلت أنَّ أحد الأسئلة كان موجهًا له. فقال لنفسه وهو يهزُّ رأسه: أنا في طريقي إلى الجنون.
•••
قال ريتشارد لنفسه وهو يجلس في غرفته ويأكل بطيخ المَن: «ولكنني ما زلتُ لا أعرف لماذا منحوني كل هذه الحُرية.» مرَّت ستة أسابيع منذ أن وجد باب سجنه مفتوحًا. وأُجرِيت الكثير من التغييرات على زنزانته. فقد وضعوا في جدرانها مَصدرَين للضوء يُشبهان المصابيح، وأصبح ريتشارد ينام على كومةٍ من مادةٍ تُشبه القش. بل إنهم وضعوا في زاوية غرفته إناءً به ماء عذب يُجددون مياهه باستمرار.
عندما فُكَّت القيود عن ريتشارد في البداية، كان متأكدًا من أن شيئًا مُهمًّا سيحدث بعد ساعات أو على أقصى تقديرٍ بعد يومٍ أو يومَين. وإلى حدٍّ ما كان مُصيبًا، فبعد التحرُّر بيومَين أيقظه اثنان من المخلوقات الفضائية الصغيرة من نومِه وبدآ تعليمه لغة المخلوقات الطائرة. بدآ بتعليمِه الأشياء البسيطة، كبطيخ المَنِّ والمياه وريتشارد، والطريقة التي اتَّبعاها لتحقيق هذا، تقوم على الإشارة إلى هذه الأشياء أولًا، ثُم الترديد البطيء لصَوتٍ من الواضح أنه الكلمة التي تُشير إليها في لُغتهما. بعد شيءٍ من الكدِّ تعلَّم ريتشارد الكثير من مفردات لُغتهم غير أن قُدرته على التفرقة بين الصيحات والأصوات المُتشابهة ليست كبيرة. وعندما طُلِب منه أن يُصدِر هذه الأصوات بنفسه كان أداؤه غيرَ مُبشِّر على الإطلاق. ويرجع ذلك إلى أن جسدَه لا يتمتع بالأجهزة التي تُمكنه من التحدُّث بلغة المخلوقات الطائرة.
توقع ريتشارد أن تُصبح رؤيته لخبايا هذا الوضع أكثر وضوحًا ولكن هذا لم يحدُث. من المؤكَّد أن المخلوقات الطائرة كانت تُحاول أن تُعلمه، وقد أعطَوه حرية التجوُّل في أي مكانٍ يُريد الذهاب إليه في أسطوانتهم — بل إنه أحيانًا ما كان يأكل معهم، وذلك عندما يكون بينهم وتظهر بطيخة منٍّ — ولكن لماذا كل هذا؟ الطريقة التي ينظرون بها إليه — وخاصة القادة — تُوحي إليه بأنهم ينتظرون منه ردَّ فعلٍ ما. سأل ريتشارد نفسه للمرة الألف بعد أن أنهى بطيخة المَنِّ التي يتناولها: لكن ما هو رد الفعل الذي ينتظرونه؟
على ما يبدو لريتشارد، ليس للمخلوقات الطائرة لغة مكتوبة. فهو لم يَرَ أي كتبٍ ولم يكتب أي منهم أيَّ شيء. والشيء المكتوب الوحيد الذي رآه هو الوثائق الغريبة التي تُشبه الخرائط التي كانوا أحيانًا يتدارَسونها — أو لنقل إن هذا هو تفسير ريتشارد لما يفعلونه — لكنهم لم يرسموا أيًّا منها قط … بل لم يُعَلِّموا على أيٍّ منها. وكان هذا مُحيرًا.
وماذا عن الكائنات ذات الأرجل؟ كان ريتشارد يُقابل هذه المخلوقات مرتَين أو ثلاثَ مراتٍ أسبوعيًّا، وذات مرةٍ أمضى اثنان منهم عدة ساعات في حجرته، ولكنهما لم يجلسا ساكنَين قطُّ بحيث يُمكِّنانه من تحليل أيٍّ منهما. وذات مرة عندما حاول ريتشارد أن يُمسك واحدًا من الكائنات ذات الأرجل بيدَيه، سرى في جسده تيار قوي — هو تيار كهربائي بالتأكيد — أجبرَه على أن يتركه على الفور.
قفز عقل ريتشارد من صورة إلى أخرى، محاولًا أن يكتشف المنطق الكامن خلف ملامح الحياة التي يحياها في أرض المخلوقات الطائرة. لكنه فشل فشلًا ذريعًا. ومع هذا لم يقبل ولو لحظة فكرة عدم وجود خطةٍ وراء أسرِه ثم إعطائه مساحة مُتزايدة من الحرية. فظلَّ يبحث عن إجابة عن طريق مراجعة كل التجارب التي مرَّ بها في هذه المنطقة.
منطقة رئيسية واحدة فقط من مسكن المخلوقات الطائرة كان محظورًا على ريتشارد دخولها، وعلى الأرجح لم يكن ليستطيع أن يصِل إليها على أي حالٍ لأنه لا يستطيع الطيران. من حينٍ إلى آخر، كان يرى مخلوقًا طائرًا أو اثنَين ينزل في الممرِّ الرأسي الكبير ويصِل إلى مستوياتٍ أدنى من المستويات التي يعرفها. بل إن ريتشارد رأى ذات مرةٍ اثنَين من مخلوقاتٍ حديثة الولادة لا يزيد حجمُها عن حجم قبضة يدٍ بشرية، تُحمَل من المناطق المُظلمة في الأسفل إلى أعلى. في مرةٍ أخرى أشار ريتشارد إلى المنطقة السُّفلى المُدثَّرة بالظلام فهزَّ المخلوق الطائر المُصاحِب له رأسه نفيًا. معظم المخلوقات تعلمت حركات الرأس البسيطة التي تعني نعم ولا بلغة ريتشارد.
قال ريتشارد لنفسه: لكن لا بد من وجود مزيدٍ من المعلومات في مكانٍ ما. لا بد أن بعض مفاتيح حلِّ اللغز تفوتني. عزم ريتشارد على أن يقوم بمسحٍ شامل للمنطقة التي تحيا فيها المخلوقات الطائرة كاملةً، وفيها الحجرات ذات الكثافة العالية التي تقع في الجهة المُقابِلة للممرِّ الرأسي، والتي كان عادةً ما يشعر أن وجوده فيها غير مرغوب فيه، وكذلك مخازن بطيخ المنِّ الضخمة الموجودة في مستوى القاع. قال لنفسه: سأرسُم خريطةً دقيقة لأتأكد من أنني لم أُهمل شيئًا مُهمًّا.
•••
ما إن أتمَّ ريتشارد الرسم الثُّلاثيَّ الأبعاد لمسكن المخلوقات الطائرة حتى عرف ما كان يَغفُل عنه. إنه غفل عن ترتيب ممرات الأسطوانة التي لا تسير على نمَط مُنظَّم — بما فيها الممرات الأفقية والرأسية التي تُستخدَم للمشي والطيران — في صورة شاملة مُتناسقة. قال لنفسه وهو يجعل الخريطة المُعقدة تظهر على شاشة الكمبيوتر بحيث يراها من أكثر من زاوية مختلفة: بالطبع. كيف كنتُ بهذا الغباء؟ إنني ما زلتُ لا أعرف شيئًا عن أكثر من سبعين بالمائة من الأسطوانة.
قرَّر ريتشارد أن يأخذ صور الكمبيوتر إلى أحد قادة المخلوقات الطائرة، ويطلُب منه بطريقةٍ ما أن يرى باقي الأسطوانة. ولم تكن هذه المهمة سهلة. فقد كانت أزمةٌ ما تُزعج المخلوقات الطائرة في ذلك اليوم، إذ كانت الممرات تضجُّ بالأصوات والصرخات والمخلوقات الطائرة تندفع جيئةً وذهابًا. كما أن ريتشارد رأى ثلاثين أو أربعين من أضخم المخلوقات الطائرة تطير في الممرِّ الرأسي الكبير إلى أعلى مُتجهةً خارج الأسطوانة في تشكيلٍ منظم.
في النهاية نجح ريتشارد في جذب انتباه أحد العمالقة ذوي الحلقات الثلاث. وأبهره بالرسم المُفصل الذي رآه على شاشة الكمبيوتر، وكذلك بالرسومات الهندسية المختلفة لموطنه. غير أن ريتشارد لم يستطع أن يُوصِّل للطائر رسالته الأساسية التي فحواها أنه يريد أن يرى ما تبقى من الأسطوانة.
استدعى القائد بعض زملائه ليُشاهدوا الرسم. وقُوبل ريتشارد بأصواتٍ تنمُّ عن التقدير. لكنهم طلبوا منه الانصراف بعدما قاطع طائرٌ آخَر اجتماعهم بشيءٍ لا بد أنه كان أخبارًا مهمة عن الأزمة الحالية التي يمرُّون بها.
عاد ريتشارد إلى زنزانته. وكان خائبَ الأمل. فاستلقى على الفراش المصنوع من القش، وأخذ يُفكر في الأسرة التي تركها وراءه في عدن الجديدة. قال لنفسه: «ربما حان وقت الرحيل»، وأخذ يتساءل عن البروتوكول المُتَّبع في أرض المخلوقات الطائرة للحصول على إذن بالرحيل. وبينما هو راقد، دخل عليه زائر الحجرة.
لم يكن ريتشارد قد رأى هذا المخلوق الطائر من قبل. كانت له أربع حلقات ذات لون أزرق مائل إلى الاخضرار حول رقبتِه وكان لون فرائه أسود غامقًا وبه خصلاتٌ بيضاء. كانت عيناه لامعتَين إلى حدٍّ مُدهش وتعكسان حُزنًا عميقًا، أو هكذا ظنَّ ريتشارد. انتظر الطائر حتى وقف ريتشارد ثم بدأ يتحدَّث ببطءٍ شديد. فهِم ريتشارد بعض الكلمات، أهم ما فيها مجموعة الأصوات التي تكررت كثيرًا والتي تعني «اتبعني».
كان هناك ثلاثة مخلوقات طائرة أخرى تقف خارج زنزانته في احترام. وساروا خلف ريتشارد والزائر المُهم. غادرت المجموعة المنطقة التي تقع فيها الزنزانة، وعبرت الجسر الوحيد الذي يمتدُّ فوق الممر الرأسي الضخم، ثم دخلت المنطقة التي تُخزَّن فيها بطيخات المَن.
في نهاية أحد مخازن بطيخات المنِّ كانت تُوجَد فجوات في الجدار لم يُلاحظها ريتشارد عندما قام بالمسح. عندما صار ريتشارد والكائنات الطائرة على مقربةِ نحو بضعة أمتار من الفجوات تحرك الجدار كاشفًا عما بدا أنه مصعد ضخم. وأشار القائد الأعلى إلى ريتشارد بأن يدخل.
ما إن صار بداخله حتى ألقت الكائنات الطائرة الأربعة التحية واصطفُّوا على شكل دائرة ليُودِّعوهما باستدارةٍ وانحناءة. حاول ريتشارد بأقصى ما يستطيع أن يُحاكي ما قالوه ليُودِّعوه ثم انحنى هو الآخر وعاد إلى المصعد. وأُغلق الجدار بعد ثوان.
٤
كانت الرحلة التي قام بها بالمصعد بطيئةً بطئًا مُزعجًا. للمصعد كابينةٌ ضخمة تتخذ أرضيتها شكلَ مربعٍ يبلغ طول ضلعه تقريبًا عشرين مترًا، ويرتفع سقفها عن رأس ريتشارد مسافة ما بين ثمانية إلى عشرة أمتار. وأرض الكابينة كانت مستويةً بالكامل إلا أن بها زوجَين من الفجوات المتوازية يقع كلٌّ منهما على جانبٍ من جانبَي ريتشارد ويمتدَّان من الباب حتى نهاية المصعد. حدَّث ريتشارد نفسَه وهو يُنعم النظر في السقف الذي يبعد عنه كثيرًا قائلًا: بالتأكيد يُمكنهم نقل حمولات ضخمة في هذا المصعد.
حاول ريتشارد أن يحسب سرعة نزول المصعد لكن هذا كان مُستحيلًا. إذ لم يكن لدَيه أي إطار مرجعي. لكن وفقًا للخريطة التي رسمها للأسطوانة، ترتفع مخازن بطيخ المنِّ عن القاعدة بنحو ألفٍ ومائة مترٍ. لذا قال في نفسه: لذا إذا كنَّا سنهبط إلى القاع بسرعة مصعدٍ عاديٍّ على الأرض فستستغرق تلك الرحلة عدة دقائق.
كانت هذه أطول ثلاث دقائق عاشها ريتشارد. إذ لم تكن لدَيه أي فكرة عما سيجده عندما ينفتح باب المصعد. وفجأة خطر ببالِه ما يلي: ربما أجد نفسي في الخارج. وربما أجد نفسي على حدود المنطقة التي بها بنايات بيضاء … هل من الممكن أن يكونوا في سبيلهم لإعادتي إلى مسكني؟
كان قد بدأ لتوِّه يتساءل كيف تغيَّرَت الحياة في عدن الجديدة عندما توقَّف المصعد. انفتح الباب الضخم، ولثوانٍ ظلَّ ريتشارد واثقًا من أن قلبَه قد انخلع. فقد كان يقف أمامه مباشرةً مخلوقان أغرب بكثيرٍ من أي شيءٍ خطر على قلبه، وكانا يُحدقان فيه أشد تحديق.
لم يستطع أن يحرك ساكنًا. فقد كان ما يراه لا يُصَدَّق إلى حدٍّ جعل جسده يُصاب بالشلل عندما كان عقلُه يكافح محاولًا أن يفهم المعلومات التي يستقبلها من حواسِّه. كان لكلٍّ من المخلوقَين اللذَين يقفان أمامه أربعة أعين في «رأسه». هذا بالإضافة إلى عينَين أخرَيَين ملتصقتَين بأطرافٍ ترتفع فوق مقدمة الرأس مسافة ما بين عشرة سنتيمترات إلى اثني عشر سنتيمترًا، إضافةً إلى بيضتَين لبنيتَين كبيرتَين تقعان على جانبَي خطِّ تَماثلٍ غير مرئي يقسم الرأس نصفَين. أما جسد هذَين المخلوقَين، فيقع خلف رأسيهما الضخمَين وينقسم إلى ثلاثة أجزاء، لكلِّ جزءٍ منهما رجلان، مما يجعل مجموع أرجُل كلٍّ منهما ستة. كان المخلوقان الفضائيان يقفان مُنتصبَين على رجلَيهما الخلفيتَين وأرجلهما الأمامية الأربعة مثنية وملتصقة ببطنيهما الناعمَين اللذين يغلب عليهما اللون الأصفر الشاحب.
سارا نحو ريتشارد في المصعد فتراجع فزعًا. فالتفت كلٌّ منهما إلى الآخر وتحدَّثا بأصوات ذات تردُّد عالٍ صدرت من تجويفٍ دائري صغير يقع أسفل عيونهما البيضاوية. لم يعُد ريتشارد يرى أمامه، وأصابه دوار فجثا على إحدى ركبتَيه ليسند نفسه. وكان قلبه لا يزال يدق بعنف.
غيَّر الفضائيان الوضع الذي يقفان فيه، فوضعا أرجلهما الوسطى على الأرض. فأصبحا يُشبهان النمل العملاق إذا وقف وقدماه الأماميتان مرفوعتان من على الأرض ورأسه مرتفع إلى أعلى. وطوال الوقت كانت الدوائر السوداء الموجودة في نهاية سِيقان الأعيُن تدور ناظرةً إلى كل ما يقع في مُحيط ثلاثمائةٍ وستِّين درجة وظلت المادة اللبنية الموجودة في العيون البيضاوية ذات اللون البُني الداكن تتحرك من جانبٍ إلى آخر.
جلسا بلا حراك تقريبًا عدة دقائق، وكأنهما يُشجعان ريتشارد على تأمُّلهما. ومن جانبه، حاول أن يتغلَّب على خوفه ويدرسهما بطريقةٍ علمية موضوعية. كان هذان المخلوقان في ضخامة الكلاب المتوسطة الحجم، ولكن من المؤكد أنهما أقل وزنًا منها. إذ كان جسداهما رفيعَين ومتناسقَين إلى حدٍّ ما. والأجزاء الأمامية والخلفية من جسديهما كانت أكبر من الجزء المتوسط، وجميعها مُغطاة بقشرة لامعة مصنوعة من مادة صلبة.
كان ريتشارد سيُصنِّفهما ضمن الحشرات الضخمة لولا أن لهما أطرافًا غريبة سميكة، بل ربما تكون هذه الأطراف ذات عضلات، وهي مُغطَّاة بشعرٍ قصير كثيف للغاية مقلم باللونين الأبيض والأسود جعلهما يَبدوان وكأنهما يرتديان كولونًا. أما أيديهما، إن كانت هذه التسمية صحيحة، فلا يُغطيها الشعر، ولكل منها أربعة أصابع من بينهم إصبع كالإبهام في مقدمة الزوج الأمامي.
استجمع ريتشارد ما يلزم من الشجاعة لينظر إلى رأسيهما الغريبَين مرةً أخرى، وعندها صدر صوتٌ حادٌّ كصوت صفارة الإنذار من خلف الفضائيين. فاستدارا. ووقف ريتشارد فرأى مخلوقًا ثالثًا يقترب نحوَهُم بسرعة كبيرة. إن مشاهدة حركته تُثير الانبهار. إذ كان يجري كقطٍّ له ستُّ أرجل تمتدُّ بموازاة الأرض، ويدفع جسده بزوجَين مُختلفَين من هذه الأرجُل كلما انتقل من خطوة إلى أخرى.
انهمكت المخلوقات الثلاثة في حوارٍ قصير ثم رفع الوافد الجديد رأسه ورجليه الأماميتين وأشار إلى ريتشارد إشارةً واضحة بأن يُغادر المصعد. فخرج منه سائرًا خلف المخلوقات الثلاثة حتى دخل غرفةً كبيرة جدًّا.
كانت هذه الغرفة مَخزنَ بطيخِ مَنٍّ ولكنها أيضًا لم تكن تُشبه المخزن الذي يقع في المنطقة التي تحيا فيها المخلوقات الطائرة في شيءٍ سوى احتوائها على البطيخ. فقد كانت المعدات ذات التكنولوجيا العالية والأجهزة التي تعمل أوتوماتيكيًّا حول ريتشارد في كل مكان. وكان هناك مرفاع أوتوماتيكي يتحرَّك على قضبان وهو مُعلق في السقف فوقه بعشرة أمتار. وكان الونش يُمسك ببطيخةٍ واحدة ويضعها في شاحنة واقفة في حفرة في نهاية الغرفة. وبينما كان ريتشارد ومُضيفوه يُراقبون ما يحدث سارت شاحنة في الحفرة حتى وصلت إلى داخل المصعد وتوقفت.
وثبت المخلوقات في أحد ممرَّات الغرفة وأسرع ريتشارد حتى يتمكن من اتِّباعهم. انتظروه عند الباب ثم انطلقوا جهة اليسار وهم ينظرون خلفَهم ليروا إن كان لا يزال في مرمى بصرهم. ظل ريتشارد يعدو خلفهم دقيقتَين حتى وصلوا إلى قاعة مفتوحة واسعة ترتفع عدة أمتار وفي وسطها وسيلة انتقال.
تُشبه وسيلةُ الانتقال السُّلَّم الكهربائي قليلًا. في الواقع لم تكن هناك وسيلة انتقال واحدة، وإنما كانت هناك وسيلتان، واحدة تصعد إلى أعلى والأخرى إلى أسفل، وكانتا تلتفَّان حول عمودَين سميكَين يقعان في مركز القاعة. يتحرك السُّلَّمان بسرعةٍ كبيرة بزاوية حادة بعض الشيء. وتبلُغ المسافة التي تقع بين طابقٍ وآخر نحو خمسة أمتار، وعندما يقطعها الركاب، يسيرون مترًا حتى السُّلَّم الدوار المُلتف حول العمود الآخر. كان هناك شيءٌ يُشبه السور على جانب السُّلَّم، وهو حاجز يبلغ ارتفاعه ثلاثين سنتيمترًا فقط. كانت المخلوقات الفضائية تركب السلم وهي منتصبة وأرجلها الستة مرتكزة عليه. أما ريتشارد فقد وقف في البداية ولكنه سرعان ما استند على أطرافه الأربعة ليحمي نفسه من الوقوع.
أثناء رحلة ريتشارد على السُّلم، مرَّ به نحو اثني عشر فضائيًّا يركبون السُّلم المُتجه إلى أسفل، وحدَّقوا فيه بوجوههم التي تكسوها الدهشة. تساءل ريتشارد في نفسه: لكن كيف يأكلون؟ فقد لاحظ أن الفتحة الدائرية التي يستخدمونها للتواصُل ليست بالتأكيد كبيرةً بما يكفي لاستيعاب الكثير من الطعام. ولم تكن هناك أي تجاويف أخرى في رءوسهم لكن كانت هناك بثور وتجاعيد صغيرة لا يعرف وظيفتها.
كانت المخلوقات الفضائية الثلاثة تذهب بريتشارد إلى الطابق الثامن أو التاسع. وهناك انتظرته حتى وصل إلى الرصيف المُحدَّد. اتبعهم ريتشارد إلى مبنًى سداسي الشكل بمُقدمته علامات حمراء لامعة. قال لنفسه وهو يُحدق في الخطوط الغريبة: «هذا مُحير. لقد رأيت هذه الكتابة من قبل … آه، بالطبع رأيتها على الخريطة أو لِنَقُل الوثيقة التي كانت المخلوقات الطائرة تقرأها.
وُضِع ريتشارد في غرفة جيدة الإضاءة مُزينة بأشكالٍ هندسية بيضاء وسوداء على نحوٍ ينم عن ذوق رفيع. كانت تُوجَد حوله أشياء من كل الأشكال والأحجام لكنه لم تكن لدَيه أي فكرة عن ماهية أي منها. استخدم الفضائيون لغة الإشارة ليُعْلِموا ريتشارد بأن هذا هو المكان الذي سيمكث فيه. ثم رحلوا. تفحَّص ريتشارد المُنهك الأثاث محاولًا أن يستنتِج أين السرير لكنه في النهاية تمدَّد على الأرض لينام.
«قطنمل. هذا هو الاسم الذي سأُطلقه عليهم.» نام ريتشارد أربع ساعاتٍ ثم استيقظ دون أن يتوقَّف عقلُه لحظة واحدة عن التفكير في المخلوقات الفضائية. كان يُريد أن يُطلِق عليهم اسمًا مناسبًا. لكنه لم يجد في ذاكرته اسمًا يصفهم وصفًا صادقًا. فنحت كلمة «قطنمل» وأطلقها عليهم لأنهم يحملون شبهًا بالقطط والنمل.
كانت غرفة ريتشارد مضاءة جيدًا. في واقع الأمر، إن كل مكان وقعت عليه عينُه في مسكن القطنمل كان مضاءً إضاءةً جيدةً، وهذا يتناقَض تناقضًا صارخًا مع الممرَّات المُظلمة ظلمة المقابر الموجودة في الأجزاء العُليا من الأسطوانة البُنية. قال ريتشارد لنفسه: لم أرَ أيًّا من المخلوقات الطائرة منذ أن ركِبت المصعد. إذن يبدو أن هذَين الجنسَين لا يعيشان معًا. على الأقل لا يعيشان معًا طوال الوقت. ولكنهما يَستخدمان بطيخ المنِّ … ترى ما العلاقة بينهما؟
وثب اثنان من القطنمل في المدخل ووضعا بطيخةً مُقطعة بمهارة وكوبًا من الماء أمامه ثم اختفيا. كان ريتشارد جوعانَ وعطشانَ. وبعد أن أنهى إفطاره بعدة ثوان، عاد المخلوقان. واستخدما أطرافهما الأمامية ليُشيرا إليه بأن يقف. أنعم ريتشارد النظر فيهما. وتساءل: هل هذان هما نفس المخلوقَين اللذَين أتيا بالأمس؟ وهل هما نفس الاثنين اللذين أحضرا البطيخ والمياه؟ فكَّر في كل القطنمل الذي رآه وفيهم من مرُّوا وهو على السُّلم. لكنه لم يتذكَّر أيَّ علامةٍ مميزة في أيٍّ منهم أو أي علامة تساعد على التعرُّف عليهم. فقال لنفسه: إذن فلا فرق بينهم؟ كيف إذن يُفرقون بين بعضهم البعض؟
قادَه زوج القطنمل إلى الممرِّ ثم اندفعا إلى اليمين. قال ريتشارد لنفسه وقد بدأ يعدو بعد أن أمضى بضعَ ثوانٍ يتأمَّل جمال مشيتهما: هذا رائع. لا بدَّ أنهما يعتقِدان أن كل البشر أبطال رياضيون. توقف أحدُ الكائنَين أمامه بنحو أربعين مترًا. ولم يستدِرْ ولكن ريتشارد علِم أنه يُراقبه لأن عينَيه المحمولتَين فوق طرفَين انحنتا إلى الوراء باتجاهه. فصاح: «أنا قادم. ولكنني لا أستطيع أن أعدو بهذه السرعة.»
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى أدرك ريتشارد أن المخلوقَين الفضائيَّين يأخذانه في جولة في مسكنهم. وقد خطَّطا لهذه الجولة تخطيطًا منطقيًّا للغاية. فكان أول مكانٍ وقفوا فيه هو مخزن بطيخ المن، ولم يُمضوا هناك سوى دقائق. وهناك رأى ريتشارد شاحنتَين مملوءتَين بالبطيخ تنزلِقان في الحفر إلى أن دخلتا مصعدًا مُشابهًا (أو مُطابقًا) للمصعد الذي نزل فيه بالأمس.
جرى ريتشارد جريًا وئيدًا مدة خمس دقائق أُخرى ثم دخل إلى منطقةٍ مختلفة تمامًا من بيت القطنمل. ففي حين كانت جدران المنطقة الأخرى، فيما عدا حجرته، ذات لون رمادي أو أبيض معدني، كانت جدران هذه الحجرات والممرات مُزينة زينةً صارخة إما بالألوان أو الأشكال الهندسية أو كليهما. كانت إحدى الحجرات الكبيرة تقريبًا في حجم مسرح وكان بأرضها ثلاثة أحواض بها سوائل. كان بهذه الغرفة نحو مائة من القطنمل نصفهم يسبحون في الأحواض (دون أن يظهر فوق المياه سوى أعيُنِهم والنصف العلوي من دروعهم)، والنصف الآخر إما يجلس على الحواف التي تفصل بين الأحواض الثلاثة أو يتجول في المبنى الغريب الواقع على الجانب البعيد من الغرفة.
ولكن هل هم يَسبحون فعلًا؟ عندما نظر ريتشارد إلى هذه المخلوقات عن قُرب وجد أنها لا تتحرك في الحوض وإنما تنزل في بقعةٍ مُحددة من المياه وتبقى تحتها عدة دقائق. كان السائل في اثنين من الأحواض كثيفًا، فقوامه في مثل كثافة قوام حساءٍ دسِم على كوكب الأرض، أما سائل الحوض الثالث الشفَّاف فهو بالتأكيد مياه. تبع ريتشارد أحد القطنمل وهو ينتقل من حوضٍ ذي سائلٍ كثيف إلى المياه ثم إلى الحوض الآخر ذي السائل الكثيف. تساءل ريتشارد في نفسه: ماذا يفعلون؟ ولماذا أحضروني إلى هنا؟
وكأنما قرأ أحد القطنمل أفكارَه فنقر على ظهره نقرةً خفيفةً. وأشار إلى ريتشارد ثم إلى الأحواض ثم إلى فمِ ريتشارد. غير أنَّه لم يفهم ما يُريد القطنمل أن يُخبره به. بعد هذا سار القطنمل القائد في المنحدَر متجهًا إلى الأحواض وألقى نفسه في أحد الأحواض ذات السائل السميك. وعندما عاد وقف على أطرافه الخلفية وأشار إلى التجاويف الموجودة بين أجزاء بطنِه الناعمة ذات اللون الأصفر الشاحب.
كان من الواضح أن القطنمل يُهِمُّهم أن يفهم ريتشارد ما يحدث في الأحواض. في المحطة التالية شاهد ريتشارد مزيجًا من القطنمل والآلاتٍ ذات التكنولوجيا العالية يطحنون مادة ليفية ثم يخلطونها بالمياه وبسوائل أخرى ليصنعوا قليلًا من خليطٍ يُشبه الخليط الموجود في أحد الأحواض. وفي النهاية وضع أحد الفضائيين إصبعه في الخليط ثم وضعه على فم ريتشارد. فحدَّث ريتشارد نفسه قائلًا: لا بدَّ أنهم يريدون أن يُخبروني بأن الأحواض تُستخدَم في التغذية. إذن فهم لا يأكلون بطيخ المن. أو أن لهم على الأقل أغذيةً أكثر تنوُّعًا. هذا مُبهر للغاية.
سرعان ما انطلقا يَعدُوان من جديدٍ متجهَين إلى ركنٍ بعيد من الموطن. وهناك، رأى ريتشارد ثلاثين أو أربعين مخلوقًا أصغر — من الواضح أنها قطنمل صغير — كانت مُنهمكة في نشاطٍ ما يُشرف عليه قطنمل بالغ. كان القطنمل الصغير يُشبه الكبير في كلِّ شيءٍ إلا شيئًا واحدًا مهمًّا فقط، وهو أنهم لم تكن لهم دروع. فاستنتج ريتشارد أن هذه الأغطية الصلبة لا تظهر إلا عندما يكتمِل نمو القطنمل. خمن ريتشارد أن ما يحدث أمامه يُشبه المدرسة أو ربما الحضانة، لكنه لم تكن أمامه بالطبع طريقةٌ يتأكد بها. لكن في لحظةٍ ما، كان متأكدًا من أنه سمع الصغار يُردِّدون معًا مجموعةً من الأصوات كان قطنمل كبير قد أصدرها.
بعد هذا، ركب ريتشارد المصعد مع القطنملَين اللذين يقودانه في الجولة. وفي الطابق العشرين تقريبًا، غادر المخلوقان المصعد والردهة المكشوفة منطلقَين بسرعة في الممر الذي ينتهي بمصنعٍ كبير مليء بقطنمل وماكينات، منهمكِين في القيام بمجموعةٍ مبهرة من المهام. كان المشرفان على الجولة دائمًا ما يبدوان على عجلةٍ من أمرهما، لذا كان صعبًا على ريتشارد أن يدرس أي عمليةٍ محددة. لكنه رأى أن المصنع يُشبه ورشةً ميكانيكية على الأرض. وكان يضجُّ بضوضاء من كل نوع، وطنينٍ يصدُر عند تواصل القطنمل فيما بينهم، وكان معبأً بروائح مواد كيميائية ومعادن. وفي أحد المواقع، رأى ريتشارد اثنين من القطنمل يُصلِحان مرفاعًا يُشبه المرفاع الذي رآه يعمل في مخزن المنِّ بالأمس.
في إحدى زوايا المصنع كانت تُوجَد منطقة خاصة معزولة. ومع أن المرشِدَين لم يقودا ريتشارد في اتجاهها فإنها أثارت فضوله. ولم يوقفه أحد عندما تخطى عتبتها. داخل هذه الغرفة الكبيرة كان هناك عامل يُدير عملية تصنيع أوتوماتيكية.
كانت تدخل أجزاء طويلة رفيعة مصنوعة من البلاستيك أو المعدن الخفيف وتربطها مفاصل إلى الغرفة على سَيرٍ نقَّال من أحد الاتجاهات. وتدخل كرات صغيرة قُطرها نحو سنتيمترين من الغرفة المجاورة على سَيرٍ نقَّال آخر. وفي المكان الذي يلتحم فيه السيران كانت تنزل على هذه الأجزاء ماكينة مُستطيلة ضخمة مُثبَّتة في قاعدةٍ معلقة في السقف المُرتفع محدثةً صوتًا غريبًا يُشبه صوت الامتصاص. بعد ثلاثين ثانية كان مُشغل القطنمل يجعل الماكينة تبتعِد فيقفز اثنان من ذوات الأرجل من على السير النقَّال ويثنيان أرجُلَهما الطويلة حول جسديهما ويقفزان في مكانهما في صندوق يبدو ككرتونةٍ عملاقة من الكراتين التي يُوضَع فيها البيض.
شاهد ريتشارد هذه العملية تتكرَّر أكثر من مرة. وغمره انبهار شديد. وانتابه قليل من الحيرة. وقال لنفسه: إذن فالقطنمل يصنعون ذوي الأرجل. والخرائط أيضًا. بل ربما صنعوا أيضًا سفينة الفضاء في المكان الذي جاءوا منه هم والمخلوقات الطائرة. ما هذا إذن؟ شكل مُتطور من أشكال التكافل؟
هزَّ ريتشارد رأسه عاجزًا عن التصديق بينما كانت عملية تجميع ذوي الأرجل مستمرةً أمامه. بعد هذا بدقائق سمع ريتشارد صوتَ قطنمل من خلفه. فالتفت. فإذا بأحد مُرشِديه يمدُّ شريحةَ بطيخ مَنٍّ تجاهه.
•••
بدأ التعب يُصيب ريتشارد. ولم يكن يعرف كم مرَّ عليه في هذه الجولة ولكنه شعر أن ساعاتٍ طويلةً جدًّا قد انقضت.
لم تكن هناك طريقة يستوعِب من خلالها ريتشارد الصورة الكاملة لما رآه. وبعد أن صعد إلى أعلى جزءٍ من المنطقة التي يحيا فيها القطنمل عن طريق المصعد الصغير، حيث فُوجئ بأن القطنمل يأخذونه إلى زيارةِ مستشفى المخلوقات الطائرة، وأن مَن يعمل في هذا المستشفى ويُديره هم القطنمل، وأن المخلوقات الطائرة تفقس من بيضٍ جِلديٍّ بُنِّي تحت رعاية أطباء من القطنمل، وصل إلى قناعة بأن هناك بالفعل علاقة تكافل مُعقدة بين القطنمل والمخلوقات الطائرة. وعندما سمح له مرشدُه بأن يأخذ قسطًا بسيطًا من الراحة قُرب قمة السُّلَّم الكهربائي أخذ يتساءل: لكن لماذا؟ من الواضح أن المخلوقات الطائرة تستفيد من القطنمل. ولكن ما الذي يحصل عليه هذا القطنمل العملاق في المقابل؟
قاده المُرشدان في ممرٍّ واسع واتَّجها نحو بابٍ ضخم يبعد عنهم عدة مئات من الأمتار. وعلى غير العادة، لم يَجرِيا. وعندما اقتربا من الباب، دخل ثلاثة قطنمل آخرون الممر قادِمين من ممراتٍ جانبية صغيرة، وبدأت المخلوقات تتحدَّث معًا بأصواتهم ذات التردُّد العالي. في لحظة، صمتوا جميعًا وظنَّ ريتشارد أنهم سيتشاجرون. كان ريتشارد قد أنعم النظر فيهم جميعًا وهم يتحدثون، وخاصةً في وجوههم. ووجد أن كلَّ أجزاء جسدهم متطابقة بما في ذلك التجاعيد المُحيطة بالفجوات التي تصدُر منها الأصوات وعيونهم البيضاوية. ولم يلحظ أي طريقةٍ يمكن من خلالها التمييز بين قطنمل وآخر.
في النهاية بدأت المجموعة كلها تمشي مرةً أخرى باتجاه الباب. لم ينجح ريتشارد في تقدير حجمِه الحقيقي من على بُعد. لكن وهو يقترب منه أصبح بوسعه أن يرى أن ارتفاعه يبلغ ما بين اثني عشر مترًا إلى خمسة عشر، وأن عرضه يبلُغ أكثر من ثلاثة أمتار. كان سطحه مُزينًا برسوماتٍ معقدة ورائعة، في مركزها رسم مُربع مُقسم إلى أربعة أجزاء، في الربع العلوي الأيسر منه مخلوق طائر يطير، وأسفل منه قطنمل يجري، وفي أعلى اليمين بطيخة منٍّ، وأسفل منها شيءٌ يُشبه حلوى غزل البنات مُتناثر عليها كُتَل سميكة متجمعة.
توقف ريتشارد ليتأمَّل هذه اللوحة. فراوده إحساس غريب بأنه رأى هذا الباب أو على الأقل هذا التصميم من قبل، لكنه قال لنفسه إن هذا مُستحيل. غير أنه عندما مرَّر أصابعه على رسم القطنمل استيقظت ذاكرته فجأة. وقال لنفسه بإثارةٍ بالغة: نعم بالطبع. رأيتُه خلف مسكن المخلوقات الطائرة في مركبة راما الثانية. في المكان الذي كانت فيه النيران.
بعد دقائق انفتح الباب وأدخلوا ريتشارد في شيءٍ يُشبه كاتدرائيةٍ ضخمة مبنية تحت الأرض. يبلُغ ارتفاع الغرفة التي وجد نفسه فيها أكثر من خمسين مترًا. وتتَّخِذ أرضيتُها شكل دائرة قُطرها نحو ثلاثين مترًا وتُحيط بحافتها ستة أماكن للصلاة منفصلة عن بعضها. كانت الجدران رائعة. وتقريبًا كل بوصةٍ مربعة من الغرفة كانت تحتوي على صورةٍ مجسمة أو لوحة جدارية صُنعت بدقةٍ مُتناهية واهتمامٍ بالِغٍ بالتفاصيل. كان جمالها مُبهرًا.
هناك منصة مرتفعة في وسط الكاتدرائية يقف عليها أحد القطنمل ويتحدَّث. وأسفل منه كان يجلس عشرات آخرون على أطرافهم الخلفية الأربعة وينظرون إليه ويستمعون وكأن على رءوسهم الطير.
بينما كان ريتشارد يتجوَّل في الغرفة أدرك أن الزخارف الموجودة على الحائط، في مساحةٍ عرضها متر واحد ترتفع عن الأرض نحو ثمانين سنتيمترًا، تُخبر قصةً مرتبةَ الأحداث. تابع ريتشارد الرسم بتروٍّ حتى وصل إلى ما ظنَّ أنه بداية القصة. أول ما رآه كان صورة مجسمة لبطيخة منٍّ. تلتها ثلاثُ لوحات تُصوِّر شيئًا ينمو داخل البطيخة. هذا الشيء كان صغيرًا في اللوحة الثانية لكن في اللوحة الرابعة صار يشغل المساحة الداخلية من البطيخة بالكامل.
في اللوحة الخامسة رأى ريتشارد رأسًا ضئيلًا يتحسس طريقَه خارج البطيخة، وكان للرأس عينان بيضاويتان لبنِيَّتَي اللون، تحتهما فجوة دائرية صغيرة، وأعلى الرأس تظهر ساقا أعيُن صغيرتان. أما الصورة المُجسَّمة السادسة التي يظهر فيها قطنمل صغير يُشبه كثيرًا من رآهم ريتشارد في بداية ذلك اليوم، فأكدت صحة الفهم الذي توصَّل إليه وهو يتابع اللوحات. وجعلته يصرخ بينه وبين نفسه: اللعنة، إذن فبطيخ المَنِّ هو بيض القطنمل! وتدفقت الأفكار تباعًا: لكن هذا ليس منطقيًّا. إن المخلوقات الطائرة تأكُل البطيخ … بل إن القطنمل أطعمني إيَّاه … ما الذي يحدُث هنا بحق الجحيم؟
أصاب هذا الاكتشاف ريتشارد بالذهول (وأصابه التعب الشديد من الجري طوال الجولة) حتى إنه جلس أمام اللوحة التي يظهر فيها القطنمل الصغير. حاول أن يفهم العلاقة بين القطنمل والمخلوقات الطائرة. ولكنه لم يستطع أن يستحضر أي علاقة تكافُل بيولوجي مُشابهة على الأرض، غير أنه كان على وعيٍ كامل بأن الأنواع المختلفة غالبًا ما تعمل معًا من أجل تحسين فُرَص بعضها في البقاء. ولكن كيف يظلُّ نوع ما صديقًا لنوعٍ آخر لا يتغذَّى على شيءٍ سوى بيضِه؟ استنتج ريتشارد من هذا أن ما كان يظنُّ أنه ثوابت بيولوجية راسخة لا تنطبق على المخلوقات الطائرة والقطنمل.
بينما كان ريتشارد يُفكر في المعلومات الجديدة الغريبة التي توصَّل إليها تجمعت مجموعة من القطنمل حوله. وأشارت إليه بأن يقف. بعد دقيقة كان ينزل وراءها على طريقٍ منحدِرٍ يقع على الجانب الآخر من الغرفة ويؤدي إلى سردابٍ خاص في أسفل الكاتدرائية.
ولأول مرة منذ أن دخل ريتشارد المسكن وجد أن الإضاءة مُعتمة. مشى القطنمل بجواره ببطء ووقار وهم يمضون في ممر مُتسع سقفه على شكل قُبة. وفي الطرف الآخر منه كان يُوجَد بابان يؤدِّيان إلى غرفةٍ كبيرة مملوءة بمادة بيضاء ناعمة. ومع أن تلك المادة، التي تحسبها قطنًا إن رأيتها من بعيد، كثيفةٌ فإن معظم خيوطها رفيعة جدًّا، إلا في الأماكن التي تجتمع فيها تلك الخيوط في كُتَل أو عُقَد، وكانت تلك التجمُّعات مبعثرةً على نمَطٍ عشوائي في جميع أنحاء الجسم الأبيض الكبير.
توقَّف ريتشارد والقطنمل في المدخل على بُعد نحوِ متر من تلك المادة. كانت تلك الشبكة القطنية تمتدُّ على مرمى بصر ريتشارد في كُل الاتجاهات. وبينما كان يفحص تركيبتها الشبكية المُعقَّدة إذ بأجزائها تبدأ التحرك ببطءٍ شديد مُبتعدةً عن بعضها، حتى كوَّنت ممرًّا يصِل الطريق من الممر إلى داخل شبكتها. قال ريتشارد لنفسه، ونبضُ قلبه يرتفع وهو يُشاهد ما يحدُث في انبهارٍ ورعب: إنها حية.
بعد خمس دقائق صار طول الممر الذي ظهر يكفي لأن يقطع ريتشارد عشرة أمتار في قلب تلك المادة. كان كل القطنمل المُحيطين به يُشيرون إلى الشبكة القطنية. فبدأ ريتشارد يهزُّ رأسه نفيًا. كان يريد أن يقول: آسِف يا رفاق لكنَّ ثمة شيئًا لا يُعجبني في هذا الموقف. لذا سأتخطَّى هذا الجزء من الجولة إن كان هذا لا يزعجكم.
ظلَّ القطنمل يُشيرون بأصابعهم. وعلم ريتشارد أنه لم يعُد أمامه خيار. فتساءل وهو يخطو أول خطوةٍ إلى الأمام: ما الذي سيفعلونه بي؟ هل سيأكلونني؟ ألهذا يقومون بكلِّ ما يقومون به؟ هذا ليس منطقيًّا على الإطلاق.
استدار. فوجد أن القطنمل لم يتحرَّكوا. فأخذ نفسًا عميقًا وسار عشرة أمتار في الممر حتى وصل إلى بقعةٍ يستطيع منها أن يمدَّ يدَه ويلمس إحدى العُقَد الغريبة في الشبكة الحية. وبينما كان يفحصها بعناية، بدأت عناصر هذه المادة تتحرك ثانية. فاستدار ريتشارد، وإذا به يرى أن الممرَّ خلفَه ينغلق. فكاد عقله يطير، وحاول أن يجري باتجاه الممر، لكن لم تُجدِ المحاولة نفعًا. إذ أمسكت به الشبكة، فلم يعُد أمامه إلا أن يستسلِم لما سيحدُث بعد هذا.
وقف ريتشارد ساكنًا والشبكة تُحيط به. كان عرض الأجزاء الصغيرة التي تتكوَّن منها لا يزيد على ملليمتر واحد تمامًا كالخيوط. وبدأت تُغطي جسدَه ببطء ولكن بثبات. قال ريتشارد: حسبك، حسبك. سأختنق.»
لكنه اندهش حين لم يجِد أيَّ صعوبةٍ في التنفُّس، مع أن مئات الخيوط كانت تلتفُّ حول رأسه ووجهه بالفعل.
قبل أن تُشَلَّ حركة يدَيه حاول أن ينزع أحد الأجزاء الدقيقة عن ذراعه. غير أن هذا كاد أن يكون مُستحيلًا. فالخيوط كانت تدخُل أيضًا في جلده وهي تلتفُّ حوله. ومع هذا نجح في أن يُحرِّر جزءًا صغيرًا من ذراعِه من الخيوط البيضاء بعد أن أخذ ينزعها واحدةً تلوَ الأخرى، لكن المناطق التي حرَّرها كانت تنزف. ألقى ريتشارد نظرةً على جسده وقدَّر أن هناك نحو مليون جزء من الأجزاء التي تتكون منها الشبكة الحية تحت الطبقة الخارجية من جسده. فارتجف.
كان ريتشارد لا يزال مُندهشًا من أنه لم يختنق. وبينما كان عقله يتساءل كيف يدخل الهواء إليه عبر الشبكة، سمع صوتًا داخل رأسه. كان الصوت يقول: توقف عن محاولة تحليل كل شيء. فأنت لن تفهم مُطلقًا على أيِّ حال. فقط عِش هذه المغامرة المذهلة، وحاول أن تكفَّ عقلك عن التدخُّل مرةً واحدة في حياتك.
٥
فقدَ ريتشارد القدرة على معرفة الوقت مرة أخرى. في وقتٍ ما أثناء الأيام (أو ربما الأسابيع) التي عاشها داخل الشبكة الفضائية تغيَّر وضع جسده. وخلعت الشبكة ملابسه في إحدى فترات نومِه الأولى. وأصبح ريتشارد الآن راقدًا على ظهره مُستندًا إلى جزءٍ شديد الكثافة من الشبكة يُغلِّف جسدَه.
لم يعُد التساؤل عن كيفية نجاحِه في البقاء على قيد الحياة يُحيره. فعلى نحوٍ ما، كلما شعر بالجوع أو العطش كانت تُشبع حاجته على الفور. كما أنَّ فضلاته كانت تختفي دائمًا بعد دقائق من إخراجها. ولم يجد أي صعوبةٍ في التنفُّس مع أن الشبكة الحية كانت تُحيط به إحاطةً كاملةً.
عندما يكون ريتشارد مُستيقظًا يقضي الكثير من الساعات في دراسة المخلوق الذي يُحيط به. وعندما يُنعم النظر فيه يرى أن الأجزاء الصغيرة التي تتكون منها الشبكة في حركة دائمة. وكانت الأشكال التي تتَّخِذها حوله تتغيَّر ببطءٍ شديد ولكنه مُتأكد من أنها تتغير. رسم ريتشارد في عقله مسارات العُقَد التي يراها. وفي لحظةٍ ما انتقلت ثلاث عقدٍ مختلفة إلى جواره واتخذت شكل مثلثٍ أمام رأسه.
كانت الشبكة تتعامَل مع ريتشارد وفقًا لدورةٍ منتظمة. فهي تُبقي الملايين من خيوطها ملتصقةً به من خمسة عشر إلى عشرين ساعة في المرة الواحدة، ثم تُحرِّره بالكامل عدة ساعات. ولاحظ ريتشارد أنه كلما نامَ دون أن يلتصق بالشبكة لا يرى أي حلم. ولكنه إذا استيقظ وهو لا يزال في هذا الوضع، شعر بالضعف والفتور. ثم كان يُعاوده الشعور بتجدُّد نشاطِه وقتما عادت الخيوط للالتفاف حوله.
عندما كان ينام مُلتصقًا بالشبكة تُصبح الأحلام التي يراها مُثيرة وواضحة. لم يكن يرى الكثير من الأحلام من قبل، وكان غالبًا ما يسخر من اهتمام نيكول بأحلامها. لكنه بدأ يتفهَّم سبب اهتمامها بأحلامها بعدما أصبحت الصور التي يراها أثناء نومه مُعقدة أكثر، بل غريبة في بعض الأحيان. ففي إحدى الليالي حلم بأنه عاد إلى مرحلة المُراهقة وأنه كان يُشاهد عرضًا لمسرحية «كما تشاء» في بلدته الأم ستراتفورد-أبون-أفون. وأثناء العرض نزلت الفتاة الشقراء الجميلة التي كانت تقوم بدور روزاليند من على خشبة المسرح وهمست في أُذنه.
سألته في الحلم: «هل أنت ريتشارد ويكفيلد؟»
فأجابها: «نعم.»
بدأت المُمثلة في تقبيله، في البداية ببطء، ثم بحماسٍ شديد مُداعِبةً فمَه بلسانها. شعر بشهوةٍ عارمة واستيقظ فجأة، شاعرًا بإحراجٍ غريب من تجرُّده من الملابس وشعوره بالإثارة. ثم تساءل بينه وبين نفسه مُردِّدًا العبارة التي غالبًا ما كان يسمعها من نيكول: والآن، ما الذي يعنيه كلُّ هذا؟
في مرحلةٍ ما في مدة الأسر أصبحت ذكرياته عن نيكول أشدَّ وضوحًا وأكثر تفصيلًا. واندهش عندما اكتشف أنه يستطيع أن يتذكَّر حواراتٍ كاملة دارت بينَه وبينها بكامل تفاصيلها وبتعبيرات الوجه التي صاحبت العبارات، وأن هذا يحدُث كلما ركَّز عقله على نيكول في غياب أي بواعث أخرى. كان ألَم الوحدة كثيرًا ما يعتصِر قلبه أثناء العزلة الطويلة التي قضاها داخل الشبكة، وكانت هذه الذكريات الحية تزيد من افتقاده لزوجته الحبيبة.
كانت ذكرياته عن أطفاله في نفس وضوح ذكرياته عن زوجته. وكان يفتقِدهم جميعًا مثلما يفتقدها، وخاصةً كيتي. تذكَّر آخِر حوار دار بينَه وبين ابنته المُحببة عندما مرَّت بالبيت لتأخُذ بعض ملابسها قبل أيامٍ من الزفاف. كانت مُحبطة وفي حاجة إلى العون، لكنه لم يستطع أن يُساعدها. قال لنفسه: لقد ضاع الانسجام الذي كان بيننا. وبدأت صورة كيتي الشابة الفاتنة تخبو وتحلُّ محلها صورة طفلة متهوِّرة في العاشرة من عمرها تنطلِق في ميادين نيويورك. فأثار تقابُل الصورتَين شعورًا عميقًا بالضياع في ريتشارد. وقال في نفسه وهو يتنهَّد: لم أفرح قطُّ بكيتي التي رأيتُها بعد أن كبِرت. ظللتُ أريد طفلتي الصغيرة.
وضوح ذكرياته عن نيكول وكيتي أقنعَه بأنَّ هناك شيئًا غريبًا يحدُث لذاكرته. وزاد من قناعته أن اكتشف أنه يستطيع تذكُّر نتائج كلِّ المباريات ربع النهائية ونصف النهائية والنهائية لكلِّ دورةٍ من دورات كأس العالم لكرة القدَم فيما بين الأعوام من ٢١٧٤ و٢١٩٠. هذا مع أن هذه المعلومات العقيمة كان ريتشارد قد عرفَها وهو في مرحلة الشباب حين كان يُشجع كرة القدم بحماسٍ شديد. وما يزيد من غرابة هذا هو أنه في السنوات التي سبقت انطلاق نيوتن كان كثيرًا ما يفشل في تذكُّر أي شيءٍ مُتعلق بتلك المباريات، وفي ذلك أسماء الفرق التي شاركت فيها، وإن كان يتحدَّث حول كرة القدَم مع أصدقائه، وذلك لأن عقلَه كان منشغلًا بالكثير من الأمور الجديدة.
بينما كانت الصور التي تُولِّدها ذاكرة ريتشارد تزداد وضوحًا، وجد أنه يستطيع أيضًا أن يتذكَّر المشاعر التي ترتبط بهذه الصور. بدا الأمر وكأنه يخوض هذه التجارب مرةً أخرى. في إحدى نوبات التذكُّر الطويلة، تذكَّر ما شعر به من حُبٍّ جارف وهيام تجاه سارة تايدينجز عندما رآها تُمثل لأول مرة على خشبة المسرح، وكذلك المشاعر الجامحة التي صاحبت أول ليلةٍ قضياها معًا. هذا أثار شهوته، وهو ملفوف بمخلوق فضائي يُشبه الشبكات العصبية، مثلما أثارها قبل سنواتٍ عديدة.
سرعان ما بدا لريتشارد أنه فقد السيطرة على اختيار الذكريات التي تَنشَط في عقله. في البداية كان يتعمِد التفكير، أو هكذا بدا له، في نيكول أو الأطفال أو في علاقته بالشابَّة سارة تايدينجز حتى يفتح بابًا للسعادة تتسلَّل منه إلى قلبه. وقال في أحد الأيام في حوار خيالي مع الشبكة المُلتصقة به: الآن بعد أن أنعشتِ ذاكرتي — لسببٍ لا يعلمه إلا الله — يبدو أنك تقرئينها.
لساعاتٍ عديدة، ظلَّ ريتشارد مُستمتعًا بهذه القراءة لذاكرته التي لم يكُن له خيار فيها، وخاصة بالأجزاء التي تُغطي حياته في كامبريدج وأكاديمية الفضاء عندما كانت متعة تعلُّم الجديد تُحيي أيامه. وأدرك كيف أن قسمًا كبيرًا من سعادته كان ينبُع من الإثارة التي صاحبت عملية التعلُّم، وذلك حين كانت الشبكة تُذكِّره بالفيزياء الكمية، والانفجار الكامبري، ونظرية الاحتمال، والإحصاء، والكلمات التي تعلَّمَها في دروس الألمانية ونسِيَها من زمنٍ بعيد. في ذكرى أُخرى سبَّبت له سعادة خاصة، تنقل عقله بسرعةٍ من مسرحيةٍ إلى أخرى مُغطِّيًا كل عرضٍ حي لمسرحيات شكسبير كان قد حضره وهو فيما بين العاشرة والسابعة عشرة. دار بخلد ريتشارد بعد أن رأى سلسلة المشاهد هذه ما يلي: كلٌّ منَّا يحتاج إلى بطلٍ يُمثل دافعًا يُفجر أفضل طاقاته. وأنا بطلي هو ويليام شكسبير بالتأكيد.
بعض الذكريات كانت مؤلِمة، خاصة ذكريات طفولته. في إحدى هذه الذكريات رأى ريتشارد نفسه في الثامنة من عمره جالسًا على مقعدٍ عند المنضدة الصغيرة في غرفة الطعام في بيت أُسرته. كان الجوُّ حول المنضدة ملبدًا بغيوم التوتر. إذ كان والدُه يرميهم بنظراته الغاضبة وهم يتناولون الغداء في صمتٍ بعدما أسكرته الخمر وتملَّكه الغضب من العالَم. أراق ريتشارد عن غير قصدٍ بعضًا من حسائه، فصفعه والدُه بقوة بظهر يده، مُتسببًا في سقوطه من على المقعد ووقوعه في زاوية الغرفة؛ فارتعد خوفًا ودهشةً. لم يُفكر في هذه اللحظة منذ سنوات. ولم يستطع أن يمنع دموعه من الانهمار عندما تذكَّر كيف كان يُصبح بائسًا مذعورًا في حضرة والده العصبي القاسي.
في أحد الأيام بدأ ريتشارد فجأةً تذكُّر تفاصيل رحلته الطويلة في مركبة راما الثانية فكاد صداعٌ شديد أن يذهب بعقله. رأى نفسه في غرفةٍ غريبة مُلقًى على الأرض محاطًا بثلاثةٍ من كائنات الأوكتوسبايدر أو أربعة. لقد وضع هؤلاء عشرات المجسَّات والأدوات الأخرى، وكانوا يُجرون عليه اختبارًا ما.
صاح ريتشارد، قبل أن يتسبَّب اضطرابُه الشديد في تلاشي الصورة الذهنية: «كفى، كفى. الصداع يَقتلني.»
بدأ صداعه يخفُّ بمعجزة، وعادت ذاكرته به إلى مشهد وجوده بين الأوكتوسبايدر. وتذكر أيامًا طويلة قضاها والتجارب تُجرى عليه، وكائنات حية ضئيلة تدخل في جسده. كما تذكَّر مجموعة غريبة من التجارب الجنسية التي كان يتعرَّض فيها لشتَّى أنواع الاستثارة الخارجية ويُكافأ عندما يفرغ دفقته الشعورية.
أدهشته هذه الذكريات الجديدة التي لم يصل عقله إليها قطُّ منذ أن استيقظ من الغيبوبة التي وجدَتْه فيها أُسرته في نيويورك. قال لنفسه والإثارة تعتريه: الآن أتذكَّر أمورًا أخرى عن الأوكتوسبايدر. إنهم يتحدَّثون مع بعضهم عن طريق ألوانٍ تلتف حول رءوسهم. وهم ودودون بطبيعتهم ولكنهم كانوا يصرون على معرفة كل ما يمكنهم معرفته عني. إنهم …
تلاشت الصورة الذهنية وعاد الصداع. فقد كانت خيوط الشبكة قد انفصلت عنه منذ قليل. وصار يشعر بإرهاقٍ شديد فغطَّ في النوم بسرعة.
•••
بعد الأيام الطويلة التي أخذت الذكريات فيها تجول في عقله واحدةً تلو الأخرى، توقفت عملية قراءة ذاكرته فجأة. ولم يعُد عقله خاضعًا لأي قوى خارجية. وظلت خيوط الشبكة منفصلة فترات طويلة.
مر أسبوع دون أن يحدث شيء. لكن في الأسبوع الذي تلاه بدأت عقدة مُستديرة غريبة أكبر من العُقَد العادية الأخرى في الشبكة الحية ومربوطة بإحكامٍ أكثر منها تنمو على بُعد نحو عشرين سنتيمترًا من رأس ريتشارد. ظلَّت العقدة تكبُر حتى صارت في حجم الكرة التي يلعب بها لاعبو كرة السلة. وعندها خرجت منها مئات من الخيوط التي أدخلت نفسها في جلد المنطقة المُحيطة بجمجمة ريتشارد. فقال لنفسه وهو يتجاهل الألَم الذي صاحب غزو الخيوط لعقله: أخيرًا سنعرف الغرض من كل هذا.
بدأ على الفور يرى صورًا ما ولكنها كانت مشوَّشة تشويشًا أعجزه عن التعرُّف على أي شيءٍ مُحدَّد مما يظهر فيها. غير أن جودة الصور العقلية التي يراها تحسَّنت بسرعة شديدة؛ ويرجع هذا إلى أنه ابتدع بمهارةٍ طريقة أولية للتواصل مع الشبكة. فما إن ظهرت أول صورة في عقله، حتى علم أن الشبكة التي ظلَّت تقرأ مُخرجات ذاكرته لأيامٍ كانت تحاول الآن أن تكتب في عقله.
لكن بدا له أن الشبكة لا تملك أيَّ وسيلةٍ لقياس جودة الصور التي يتلقَّاها. وظل يبحث عن حيلة للخروج من هذه المشكلة حتى تذكَّر رحلاته إلى طبيب العيون وهو طفلٌ صغير ونمَط التواصل الذي يبني على أساسه الطبيبُ المواصفات النهائية لعدسة النظارة، فلجأ إلى الإشارة بإبهامه إلى أعلى أو إلى أسفل ليُري الشبكة ما إذا كان التغيُّر الذي تُجريه على عملية البث يتسبَّب في تحسين الصورة أم في تدهورها. وبهذه الطريقة أصبح بوسع ريتشارد أن «يرى» ما يحاول الفضائيون أن يجعلوه يراه.
أول صورٍ رآها كانت صورًا التُقِطت لكوكبٍ من سفينة فضائية. ظهر فيها عالَم مُغطى بالسُّحب يظهر فيه قمران صغيران نسبيًّا ونجم واحد أصفر بعيد يُمدُّه بالحرارة والضوء، ورسخ في يقين ريتشارد أن هذه صور الكوكب الأم للشبكة اللاسويقية. سلسلة الصور التي تلت كشفت لريتشارد عن مشاهدَ مُتنوعة في هذا الكوكب.
الضباب كان يُغلف موطن الكائنات اللاسويقية. وكان يظهر أسفل منه في معظم الصور سطح بُني قاحِل لا صخور فيه. ولا تُوجَد أي إشارةٍ إلى وجود حياة إلَّا في المناطق الساحلية التي تلتقي فيها الأرض القاحلة بأمواج البحيرات والمُحيطات الخضراء. في إحدى هذه المناطق رأى ريتشارد العديد من المخلوقات الطائرة ومجموعةً مُبهرة من المخلوقات الحية الأخرى. لو أن ريتشارد يتحكَّم في الصور لقضى أيامًا في تأمُّل صورةٍ واحدة أو صورتَين. كان على يقينٍ من أن الشبكة تهدف إلى شيءٍ ما من هذا التواصل وأن المجموعة الأولى من الصور هي مجرد مقدمة.
كان يظهر في الصور الباقية كلها إما مخلوق طائر أو بطيخةُ مَنٍّ أو قطنمل أو شبكة لاسويقية أو مزيج من الأربعة. رأى ريتشارد أن هذه المشاهد تُمثل «الحياة الطبيعية» على كوكبهم الأم وأنها جميعًا تعكس صور التكافُل بين هذه الأنواع. في كثيرٍ من الصور كان الفضائيون يدافعون عن مستعمرات مَبنية تحت الأرض يسكن فيها القطنمل والشبكات اللاسويقية ضد كائناتٍ بدت أنها حيوانات ونباتات صغيرة. في صور أخرى يظهر القطنمل وهو يعتني بصغار المخلوقات الطائرة أو ينقل كميات كبيرة من بطيخ المنِّ إلى بيت للمخلوقات الطائرة.
تحيَّر ريتشارد عندما رأى صورًا كثيرة تظهر فيها بطيخاتُ مَنٍّ صغيرة بداخل المخلوقات اللاسويقية. وتساءل في نفسه: تُرى لماذا يضع القطنمل بيضَه هناك؟ أللحماية؟ أم لأن هذه الشبكات الغريبة مشيمة عاقلة من نوعٍ ما؟
الانطباع الواضح الذي تركته سلسلة الصور في ريتشارد هو أن نوعًا من التسلسل الهرمي يحكم العلاقة بين الأنواع الثلاثة، وأن الكائن اللاسويقي هو أعلاها منزلةً. فالصور كلها تُوحي بأن كلًّا من القطنمل والمخلوقات الطائرة يُبجلان المخلوق الشبكي. فتساءل ريتشارد في نفسه: إذن هل هذه الشبكات تقوم بعمليات التفكير المُهمة نيابةً عن المخلوقات الطائرة والقطنمل؟ يا لها من علاقات تكافُل رائعة … تُرى كيف نشأت هذه العلاقات بحق الجحيم؟
بلغ عدد الصور في هذه السلسلة نحو عدة آلاف صورة. وبعد أن تكرَّر عرض سلسلة الصور مرتَين انفصلت الخيوط عن ريتشارد وعادت إلى العقدة العملاقة. وفي الأيام التي تلت هذا كان ريتشارد غالبًا ما يُترَك بمُفرده، إذ لم يتصل بعائلِه إلا للحصول على ما يلزم لبقائه على قيد الحياة.
•••
عندما تكوَّن ممر في الشبكة وأصبح بوسع ريتشارد أن يرى الباب الذي دخل منه قبل أسابيع عديدة، ظن أن الشبكة ستُطلِق سراحه. غير أن الإثارة التي انتابته قليلًا سرعان ما تلاشت. إذ إن الشبكة اللاسويقية أحكمت قبضتَها على جميع أجزاء جسده فور أن حاول أن يتحرك.
تساءل ريتشارد في نفسه: ما الغرض من الممر إذن؟ وبينما كان ريتشارد ينظر أمامه دخل ثلاثة من القطنمل من المدخل. وكانت اثنتان من أرجل القطنمل الذي في الوسط مكسورتَين والجزء الخلفي محطم، وكأن عربةً ضخمة أو شاحنة صدمته. حمل القطنملان الآخران القطنمل العاجز إلى داخل الشبكة ثم رحلا. وبعد ثوانٍ بدأت الشبكة تلفُّ نفسها حول الوافد الجديد.
كانت تبلغ المسافة التي تفصل ريتشارد عن القطنمل العاجز نحو مترَين. وكانت جميعها خالية من أي خيوطٍ أو عقد. ولم يسبق لريتشارد أن رأى مثل هذه الفجوة في المخلوق اللاسويقي. ففكر قائلًا في نفسه: إذن فعملية تعليمي مستمرة. ماذا يُفترَض أن أتعلم الآن؟ أن المخلوقات اللاسويقية تقوم بدور طبيب القطنمل مثلما يقوم القطنمل بدور طبيب المخلوقات الطائرة؟
لم تقصر الشبكة عنايتها على المناطق المصابة من القطنمل. بل إن ريتشارد رآها في إحدى النوبات التي ظلَّ مُستيقظًا فيها طويلًا تُطوق هذا المخلوق في شرنقة محكمة. وبينما هي تفعل هذا، انتقلت العقدة الكبيرة من جوار ريتشارد إلى الشرنقة.
بعد هذا نام ريتشارد قليلًا وعندما استيقظ لاحظ أن العقدة عادت إلى جواره. ورأى أن الشرنقة الموجودة على الجانب الآخر أوشكت على حلِّ نفسها. ثم حدث ما جعل دقات قلبه تتضاعف، فهو لم يرَ أي أثرٍ للقطنمل مع أن الشرنقة كادت تختفي تمامًا.
لم يُتَح لريتشارد مُتسع من الوقت يتساءل فيه عما حدث للقطنمل. ففي غضون دقائق عادت الخيوط التي تخرج من العقدة الكبيرة إلى الالتصاق بجمجمته، وأصبح يرى عرضًا آخر للصور داخل عقله. في أول صورةٍ رأى ريتشارد خمسة عساكر بشريين يُعسكرون على شاطئ الخندق داخل مسكن المخلوقات الطائرة. وكانوا يتناولون طعامًا. وكانت بجوارهم مجموعة ضخمة من الأسلحة من بينها مدفعان رشاشان.
الصور التي تلت هذا كان فيها بشر في وضع الهجوم في المنطقة السكنية الثانية. وكان أول مشهدَين بشعَين بصفة خاصة. ففي المشهد الأول يظهر مخلوق طائر صغير وهو يهوي إلى الأرض بعد أن قُطِع رأسه في الهواء. وفي أسفل الصورة من اليسار اثنان من البشر السعداء يتبادلان التهنئة. في الصورة الثانية، تظهر حفرة مُربعة ضخمة محفورة في أحد الأجزاء التي يُغطيها العشب من المنطقة الخضراء. ويبدو بداخلها رفات مخلوقاتٍ طائرة ميتة. وفي الجهة اليسرى يظهر بشري يقترب من المقبرة الجماعية وهو يدفع أمامه عربة يد عليها جثتا مخلوقَين طائرَين.
رؤية هذه الصور جعلت ريتشارد يترنح. وتساءل في نفسه: ما هذه الصور؟ ولماذا يُطلِعونني عليها الآن؟ راجع في ذهنه بسرعةٍ كل الأحداث التي وقعت أخيرًا في عالم المخلوق اللاسويقي واستنتج مصدومًا أن القطنمل المُصاب لا بد أن يكون قد رأى على أرض الواقع كلَّ ما رآه ريتشارد، وأن المخلوق الشبكي نقل الصور بطريقةٍ ما من عقل القطنمل إلى عقل ريتشارد.
وما إن فهم ما تُعبر عنه الصور حتى أعارها مزيدًا من الانتباه. وبدأت موجة الغضب تثور في نفسه من مرأى الغزو والذبح. ففي إحدى الصور الأخيرة يظهر ثلاثة من الجنود البشريين وهم يشنُّون غارةً على أحد التجمُّعات السكنية التي تقطنها المخلوقات الطائرة والتي تقع داخل الأسطوانة البُنية. ولم ينجُ منها أحد.
حدَّث ريتشارد نفسه قائلًا: هذه المخلوقات البائسة سائرة إلى الهلاك، ولا بد أنها تعرف هذا …
فجأة اغرورقت عينا ريتشارد بالدموع، وأدرك أن أناسًا من بني جلدته يُبيدون المخلوقات الطائرة إبادةً منظمةً، فاعتصر الحُزن قلبه، حزن أعمق من أي حزنٍ عرفَه من قبل. وصرخ في صمت: كلَّا، كلَّا! توقَّفوا، أرجوكم توقَّفوا. ألا ترَون ما تفعلون؟ هذه المخلوقات هي تجسيد لعظمة الحياة التي حولت مادةً غير حية إلى كائنٍ لديه وعي. إنهم مثلنا. إنهم إخواننا.
في الثواني العديدة التالية، فاضت في ذاكرة ريتشارد ذكرى كل تعامُل وقع بينه وبين المخلوقات التي تُشبه الطيور، وصرفت عن عقله الصور التي تزرعها الشبكة فيه. قال لنفسه وعقله يركز على رحلة الطيران عبر البحر الأسطواني التي حدثت منذ فترة طويلة: لقد أنقذوا حياتي. دون أن ينتظروا من وراء هذا أي نفع. ثم أضاف بأسًى: هل قدَّم إنسان لأي مخلوقٍ طائر مثل هذا الصنيع الخيِّر؟!
نادرًا ما بكى ريتشارد بحُرقة في حياته. لكن في هذه اللحظة تملَّكه الأسى على المخلوقات الطائرة. وبينما هو في بكائه، إذا بكل ما مرَّ به منذ أن دخل مسكن المخلوقات الطائرة يملأ عقله. وتذكر بصفةٍ خاصة التغير المفاجئ في تعاملهم معه، وما أعقبه من نقل إلى مملكة القطنمل. وقال لنفسه: تأتي بعد هذا الجولة التي قادوني فيها ثم وجودي هنا … من الواضح أنهم كانوا يُحاولون التواصُل معي. ولكن لماذا؟
في هذه اللحظة أدرك الحقيقة إدراكًا جعل الدموع تنهمِر من عينَيه مرةً أخرى. وأجاب عن سؤاله بنفسه قائلًا: لأنهم يائسون. ويرجونني أن أُساعدهم.
٦
مرة أخرى ظهر فراغ كبير في قلب المخلوق اللاسويقي. فأمعن ريتشارد النظر ورأى على الجانب المُقابل له من الفجوة ثلاثين عقدةً صغيرة تنضمُّ إلى بعضها متخذةً شكل كرة يبلغ قطرها نحو خمسين سنتيمترًا. وكان يصل بين كل عقدة ومركز الكرة خيطٌ شديد السُّمك. في البداية، لم يستطع أن يرى أي شيءٍ داخل الكرة. لكن بعد أن انتقلت العقد إلى موقِعٍ آخر رأى في المكان الذي كانت تحتلُّه الكرة شيئًا أخضر صغيرًا به مئات الخيوط المتناهية الصِّغَر التي تربطه بباقي الشبكة.
بدأ هذا الشيء ينمو ببطءٍ شديد. كانت العقد قد انتهت من الانتقال إلى ثلاثة مواقع جديدة، مكررةً نفس الشكل الكروي كل مرةٍ قبل أن يُدرك ريتشارد أن ما كان ينمو في المخلوق اللاسويقي هو بطيخةُ منٍّ. صُعِقَ ريتشارد. إذ لم يستطع أن يفهم كيف ترك القطنمل الذي اختفى خلفه بيضًا استغرق كل هذا الوقت لكي ينمو. وقال لنفسه: «إذن فلا بد أنَّ عدد الخلايا كان قليلًا جدًّا. أجنَّة مُتناهية الصغر تتغذَّى على نحوٍ ما هنا …»
قطع أفكارَه إدراكُه أن هذا البطيخ الجديد كان ينمو في منطقةٍ من المخلوق الشبكي تبعد نحو عشرين مترًا عن المكان الذي أحاطت فيه الشرنقة بالقطنمل. فقال في نفسه: إذن فهذا المخلوق الشبكي نقل البيض من مكانٍ إلى آخر؟ ثم احتفظ به أسابيع؟
بدأ الجانب المنطقي من عقل ريتشارد يرفض افتراض أن القطنمل الذي اختفى قد وضع بيضًا من الأساس. وبالتدريج بدأ يصل إلى تفسيرٍ بديل لما رآه يستند إلى وجود ظواهر بيولوجية أكثر تعقيدًا من أي شيءٍ رآه على الأرض. فسأل نفسه: ماذا لو كان بطيخ المنِّ والقطنمل وهذه الشبكة اللاسويقية جميعًا صورًا مختلفة لما نُطلق عليه نوعًا واحدًا؟
أذهلت الأفكار التي تولَّدت عن هذا الافتراض البسيط ريتشارد، فظلَّ يُعيد النظر في كلِّ ما رآه داخل المسكن الثاني طوال فترتي استيقاظٍ طويلتَين. وبينما هو يُنعم النظر في بطيخات المنِّ الأربع التي تنمو على الجانب المُقابل له من الفجوة، تخيَّل سلسلةً من التحولات يلد فيها بطيخُ المن القطنملَ الذي بدَوره يُضيف عند موته مادةً جديدة إلى الشبكة اللاسويقية، وحينئذٍ تضع هذه الشبكة بيضَ بطيخ المنِّ وتبدأ الدورة من جديد. ولاحظ ريتشارد أنه لم يرَ ما يُعارض هذا التفسير. لكن عقله كاد أن ينفجر من كثرة الأسئلة المُثارة حول «كيفية» حدوث هذه السلسلة المُعقدة من التحولات، و«سبب» تطور هذا النوع حتى أصبح بهذا التعقيد من الأساس.
معظم الدراسة الأكاديمية التي تلقَّاها ريتشارد كانت في المجالات التي يُطلِق عليها بفخر «العلوم البحتة». وكانت الرياضيات والفيزياء هما العنصران الأساسيان في تعليمه. ولكنه اندهش من مدى جهلِه وهو يُجاهد ليفهم دورة الحياة المحتمَلة لهذا المخلوق الذي يحيا فيه منذ عدة أسابيع. فتمنَّى لو تعلَّم المزيد عن علم الأحياء. وسأل نفسه: كيف يُمكنني أن أُساعدهم؟ إنني لا أعرف حتى من أين أبدأ.
بعد هذا بكثير، سيتساءل ريتشارد إن كان المخلوق اللاسويقي عرف كيف يقرأ ذاكرته وكيف يُفسِّر أفكاره بعد هذه المدة التي قضاها بداخله. بعد أيامٍ قليلة، وصل زائروه. ومرةً أخرى عاد الممرُّ يظهر في الكائن اللاسويقي بين المكان الذي يُوجَد فيه ريتشارد والمدخل الرئيسي. مشى أربعة من القطنمل المُتطابقَين في الممر وأشاروا إلى ريتشارد بأن يتبعهم. وكانوا يحملون ملابسه. وعندما حاول ريتشارد أن يتحرك لم يحاول مُضيفه الفضائي أن يمنعه. كانت قدماه ترتعِدان، لكن بعد أن ارتدى ملابسه استطاع أن يتبع القطنمل في الممر الواقع في أعماق الأسطوانة البنية.
•••
من الواضح أن الغرفة الواسعة قد أُجرِي عليها بعض التعديلات مؤخرًا. ولكنهم لم ينهوا بعد اللوحة الضخمة التي يرسمونها على جدرانها. ففي نفس الوقت الذي كان مدرس ريتشارد القطنملي يُشير فيه إلى أشياء مُحددة في الرسم قد أتمُّوها من قبل، كان الفنانون القطنمليون لا يزالون يعملون في إنجاز ما بقي من اللوحة. وبينما كان ريتشارد يتلقى الدروس الأولى في الغرفة، كان هناك نحو اثني عشر مخلوقًا منهمكًا في رسم أو تلوين الأجزاء الأخرى.
لم يحتَجْ ريتشارد إلى أكثر من زيارة إلى غرفة الرسم الجداري ليعرف الغرض منها. فالغرفة كلها صُمِّمت لتُعطيه معلومات عن كيفية مساعدة النوع الفضائي على البقاء. كان من الواضح أن هذه المخلوقات الفضائية علِمَت أن البشر على وشك أن يغزوها ويبيدوها. فاللوحات المرسومة في الغرفة كانت تُمثل محاولةً منهم لتزويد ريتشارد بالمعلومات التي قد يحتاجها ليُنقذها. ولكن هل سيُمكنه أن يتعلَّم ما يكفي من الصور وحسب؟
كانت اللوحة مُبهرة. حتى إن ريتشارد كان يُجبر الفص الأيسر من عقله الذي يحاول فهم الرسائل التي تنقلها الرسوم على التوقُّف عن العمل من حينٍ إلى آخر؛ حتى يتسنَّى للفصِّ الأيمن من عقله الاستمتاع بموهبة هؤلاء الفنانين. كانت هذه المخلوقات تعمَل مُنتصبةً ورجلاها الخلفيتان واقفتان على الأرض، وأرجلها الأمامية الأربعة تعمل معًا لإنجاز عملية الرسم أو التلوين. كانت تتحدَّث فيما بينها، فيما بدا أنه طرح أسئلة، ولكنها لم تُصدر أصواتًا كثيرةً تُزعج ريتشارد وهو في الجانب الآخر من الغرفة.
يُعد النصف الأول من اللوحة الجدارية كتابًا عن بيولوجيا هذه المخلوقات الفضائية. وقد جعل ريتشارد يتأكد أن ما توصَّل إليه من فَهمٍ أولي لهذا المخلوق الغريب صحيح. تضمُّ سلسلة الصور الأساسية أكثر من مائة رسم، أربع وعشرون منها تُصور مراحل التطور المختلفة التي يمرُّ بها جنين القطنمل، وقد عمَّقت هذه الرسومات على نحوٍ كبير من المعرفة التي استشفها ريتشارد من المنحوتات الموجودة داخل كاتدرائية القطنمل. كانت الرسومات الأساسية التي تشرح تطور الأجنة مرسومة في خطٍّ مستقيم يدور على جميع حوائط الغرفة. وفوقها وتحتها تُوجَد صور إضافية توضحها أو تُضيف إلى معانيها، غير أن ريتشارد لم يفهم معظمها.
على سبيل المثال، كانت هناك أربع رسومات تُلقي بالضوء على صورة بطيخة مَنٍّ نقلت لتوِّها من شبكةٍ لاسويقية، ولم تبدأ عملية نمو القطنمل بداخلها بعد. كان ريتشارد متأكدًا من أن هذه الصور الإضافية تُحاول أن تمنحَه معلوماتٍ محددةً عن الظروف البيئية اللازمة لبدء عملية النمو. غير أنَّ الفنانين من القطنمل حاولوا توصيل المعلومات إلى ريتشارد عن طريق توظيف مشاهد من كوكبهم الأم؛ فشرحوا الظروف المطلوبة بتصوير مشاهد من بيئتهم النباتية والحيوانية الأصلية، ومشاهد يظهر فيها الضباب والبحيرات. فلم يعُد بوسعه سوى أن يهزَّ رأسه بالنفي كلما أشار مُعلمه إلى هذه اللوحات.
وظَّف رسمٌ موضوعٌ فوق السلسلة الرئيسية صورَ الشموس والأقمار ليُعرِّف ريتشارد بمقاييس الوقت. وفهم ريتشارد من ترتيبهم أن عمر طَوْر القطنمل من هذا النوع قصير جدًّا إذا ما قُورن بعُمر الشبكة اللاسويقية. لكنه عجز عن استنتاج أي شيءٍ آخر من هذا الرسم.
كما كان فهم ريتشارد للعلاقات العددية التي تربط بين الأطوار المختلفة لهذا النوع مشوشًا بعض الشيء. كان من الواضح أن كلَّ بطيخةِ منٍّ تتمخَّض عن قطنمل واحد (لم يظهر في الرسم توءمان على الإطلاق)، وأن المخلوق اللاسويقي يُمكنه أن ينتج الكثير من بطيخ المن. ولكن ما هي نسبة المخلوقات اللاسويقية إلى القطنمل؟ في إحدى الصور يظهر مخلوق لاسويقي كبير مع عددٍ من القطنمل المُختلف بداخله، كلٌّ منها في مرحلةٍ مختلفة من مراحل الوجود داخل الشرنقة. ما الذي يُفترَض أن يفهمه ريتشارد من هذا؟
نام ريتشارد في غرفةٍ صغيرة قريبة من الغرفة التي تضمُّ اللوحات الجدارية. كان كل درسٍ من الدروس التي يتلقَّاها يستمر ثلاث ساعاتٍ أو أربع، بعدها يُقدمون له الطعام أو يسمحون له بالنوم. أحيانًا كان ريتشارد يختلِس النظر إلى اللوحات التي بعضها لم تكتمل بعدُ، والموجودة في النصف الثاني من الجدار عندما يدخل الغرفة. لكنه كلَّما فعل هذا كانت تنطفئ أنوار الغرفة على الفور. فالقطنمل يريدون أن يتأكَّدوا من أن ريتشارد فهِم نظامهم البيولوجي قبل أن ينتقلوا إلى أي مرحلةٍ أخرى.
بعد نحو عشرة أيام اكتمل النصف الآخر من اللوحة الجدارية. وذُهل ريتشارد عندما سمحوا له أخيرًا بدراسته. فقد كانت رسومات البشر والمخلوقات الطائرة بالِغة الدقة. ويظهر ريتشارد نفسه أكثر من مرةٍ في اللوحات. وكاد ألَّا يتعرَّف على نفسه إذ ظهر بشعرٍ ولحيةٍ طويلَين يشتعل فيهما الشيب. قال مازحًا وهو يتجول في الغرفة: أُشبِه المسيح في هذه الصور.
يظهر في جزءٍ من اللوحات الباقية موجز تاريخي لغزو البشر للمسكن الفضائي. وكانت فيه تفاصيل أكثر من التي رآها ريتشارد في الصور التي عرضت في ذهنِه وهو بداخل الشبكة اللاسويقية، لكنها لم تُطلِعه على حقائق جديدة. مع ذلك، فقد عاد الانزعاج ينتابُه من مرأى التفاصيل المُريعة التي وسمَت المذبحة المستمرة.
كما أن هذه الصور أثارت سؤالًا مُثيرًا في عقله. لماذا لم تنقل له الشبكة محتويات هذه اللوحة مباشرة، وبهذا تُوفِّر كل المجهود الذي بذلَه الفنانون؟ فكَّر ريتشارد قائلًا في نفسه: ربما تكون الشبكة مجرد أداةِ تسجيلٍ عاجزة عن التخيُّل. وبهذا لا تستطيع أن تُريني إلا ما رآه أحد القطنمل من قبل.
اللوحات الباقية تُحدِّد بوضوحٍ ما تُريده المخلوقات الفضائية من ريتشارد. ففي كل لوحةٍ من هذه اللوحات يظهر ريتشارد وهو يحمِل على كتفَيه حقيبةً زرقاء ضخمة. في الجزء الأمامي والخلفي منها جَيبان كبيران بكلٍّ منهما بطيخة منٍّ. هذا بالإضافةِ إلى جَيبَين أصغر منهما على جانبَي الحقيبة. أحدهما به أنبوب أسطواني فضِّي طوله نحو خمسة عشر سنتيمترًا، والآخر به بيضتان جلديتان صغيرتان من بيض المخلوقات الطائرة.
كما يظهر في اللوحة الترتيب الذي سيسير عليه العملُ الذي يطلبون من ريتشارد القيام به. عليه أن يرحل من الأسطوانة البُنية عن طريق مخرجٍ موجود تحت سطح الأرض يؤدي إلى المنطقة الخضراء الواقعة على الجانب المقابل للمباني البيضاء والقناة الضيقة. وهناك، سيقوده اثنان من المخلوقات الطائرة في رحلة النزول إلى شاطئ الخندق حيث سيستقلُّ غواصةً صغيرة. ستغوص الغواصة تحت حائط المبنى وتدخل في مسطحٍ مائي ضخم ثم تخرج من المياه عندما تصل إلى شاطئ جزيرةٍ بها عددٌ كبير من ناطحات السحاب.
ابتسم ريتشارد وهو يتأمَّل اللوحة. وقال في نفسه: إذن فالبحر الأسطواني ومدينة نيويورك لا يزالان في مكانهما. وتذكر ما قاله الرجل النَّسر عن عدم إدخال أي تغييرات غير ضرورية على راما. ثم قال في نفسه: هذا يعني أن ملجأنا قد يكون موجودًا أيضًا.
كانت هناك الكثير من الصور الإضافية حول سلسلة الصور التي تعكس هروب ريتشارد، بعضها يُعطي مزيدًا من التفاصيل حول النباتات والحيوانات الفضائية في المنطقة الخضراء، والبعض الآخر يُعطي تعليماتٍ واضحة عن كيفية تشغيل الغواصة. عندما حاول ريتشارد أن ينسخ ما رأى أنه أهم ما في هذه المعلومات على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به بدا فجأة أن صبر المُعلم قد نفد. فتساءل ريتشارد إن كان وضع الأزمة قد تدهور.
في اليوم التالي بعد أن استيقظ ريتشارد من نومٍ طويل، زوَّده مُضيفوه بحقيبته وقادوه إلى غرفة الشبكة. وأخرج القطنمل من الشبكة بطيخات المنِّ الأربع التي رآها تنمو قبل أسبوعَين ووضعوها في حقيبته. كان البطيخ ثقيلًا جدًّا. وقدَّر ريتشارد أن وزنه يبلغ عشرين كيلوجرامًا. وبعد هذا استخدم قطنمل آخر أداةً كالمقصِّ الضخم لينزع من الشبكة اللاسويقية كتلةً أسطوانيةً بها أربعُ عُقَدٍ والخيوطَ الملتصقة بها. ثم وُضِعت هذه المادة اللاسويقية في أنبوب فضي وأُدخلت في أحد الجيبَين الصغيرين الموجودَين في جانب حقيبة ريتشارد. وكان بيض المخلوقات الطائرة هو آخِر ما وُضِع في الحقيبة.
أخذ ريتشارد نفسًا عميقًا. وقال والقطنمل يشيرون إلى الممر: لا بد أن هذا هو الوداع. لسببٍ ما تذكَّر إصرار ناي واتانابي على أن التحية التايلاندية المُسمَّاة «واي»، التي تتمثل في انحناءةٍ طفيفة يصحبها ضمُّ اليدَين ورفعهما أمام الجزء الأعلى من الصدر، هي مظهر عالمي من مظاهر الاحترام. ابتسم ريتشارد لنفسه وألقى تحية الواي على القطنمل الستة المُحيطين به. ودُهش حين ضمَّ كلٌّ منهم كل يدَين من أيديه الأربعة أمام بطنه وانحنى انحناءة خفيفة تجاهه.
•••
من الواضح أن القبو العميق في الأسطوانة البنية كان غير آهل بالسكان. فقد مر ريتشارد ومرشده بالكثير من القطنمل الآخرين بعد أن غادرا غرفة الشبكة وخاصة في المنطقة المجاورة للقاعة المركزية. ولكن فور أن دخلا الطريق المنحدر الذي يؤدي إلى القبو لم يقابلا أيًّا من القطنمل قط.
أرسل مرشد ريتشارد واحدًا من ذوات الأرجل أمامهما. فانطلق في النفق الضيق الأخير ثم في مخرج الطوارئ الذي يُشبه القنطرة والذي يؤدي إلى المنطقة الخضراء. وعندما عاد وقف على الجزء الخلفي من رأس القطنمل عدة ثوانٍ ثم نزل مسرعًا إلى الأرض. وبعدها أشار المُرشد إلى ريتشارد لينطلِق في النفق.
في المنطقة الخضراء بالخارج قابل ريتشارد اثنين من المخلوقات الطائرة اللذين انطلقا في رحلة طيرانٍ على الفور. كان في جناح أحدهما ندب قبيح كأنَّ وابلًا من الرصاص أصابه. كان ريتشارد في غابة كثيفة بعض الشيء، وكان ارتفاع النباتات من حوله يصل إلى ثلاثة أمتار أو أربعة. ومع أن الضوء كان خافتًا، لم يصعب على ريتشارد أن يجد مكانًا يمشي فيه، وأن يتبع المخلوقَين اللذَين يطيران فوقه. وكان من حين إلى آخر يسمع دويَّ رصاص متقطعًا صادرًا من بعيد.
مرت الخمس عشرة دقيقة الأولى دون أن تقع أي حوادث. وبدأت كثافة الغابة تقل. فقدَّر ريتشارد أنه سيصل إلى الخندق ليُقابل الغواصة بعد عشر دقائق، لكن عندها، وبدون سابق إنذار، بدأ مدفعٌ رشاش يُطلق رصاصه على مسافةٍ لا تبعُد عنه بأكثر من مائة متر. فهوى أحد الكائنَين الطائرَين إلى الأرض. واختفى الآخر. فلجأ ريتشارد إلى الاختباء بين مجموعةٍ كثيفة من الشجيرات، لكنه سمع جندِيَّين قادمَين تجاهه.
قال أحدهما: «حلقتان بالتأكيد. بل ربما ثلاث. هذا يجعل مجموع الحلقات التي جمعتها في هذا الأسبوع وحدَه عشرين.»
«اللعنة يا رجل، لسنا في سباق. بل إننا يجب ألا نحسب ذلك. فالطائر لم يعلم بوجودك.»
«هذه مشكلته وليست مشكلتي. لا يزال عليَّ أن أعُدَّ حلقاته، آه، ها هو ذا … لديه حلقتان فقط يا صاح.»
كان الرجلان على بُعد خمسة عشر مترًا فقط من ريتشارد. فتسمَّر في مكانه ولم يجرؤ على الحركة لما يزيد عن خمس دقائق. ظلَّ الجنديَّان أثناءها بجوار جثة المخلوق الطائر يُدخنان ويتحدثان عن الحرب.
بدأ ريتشارد يشعر بألَمٍ في قدَمه اليُمنى. فحاول أن يرتكز على القدم الأخرى برفق ظانًّا أنه سيريح بهذا العضلة المتعبة، غير أن حركته هذه لم تؤدِّ إلا إلى زيادة الألم. فنظر إلى أسفلَ وراعَهُ أن اكتشف أن أحد المخلوقات التي تُشبه القوارض والتي رآها في غرفة اللوحات الجدارية أكلت ما تبقَّى من حذائه وبدأت تعضُّ قدمَه. فحاول أن يهزَّ قدمَه بقوة دون أن يصدر صوتًا. ولكن نجاحه لم يكن مبهرًا. فمع أن المخلوق القارض ترك قدمَه فقد سمِع الجنديان الصوت وبدآ يسيران باتجاهه.
لم يستطع ريتشارد أن يجري. فحتى إن كان هناك سبيل للهرب فإن الوزن الزائد الذي يحمله كان سيجعله فريسةً سهلة للجندِيَّين. وفي غضون دقيقة واحدة صاح الرجل: «هناك يا بروس، أظن أنه يُوجد شيء بين الشجيرات.»
كان الرجل يُصوِّب بندقيته نحو ريتشارد. فقال: «لا تطلق النار. إنني إنسان.»
لحق الجندي الثاني بزميله. وقال: «ما الذي تفعله هنا بمفردك بحق الجحيم؟»
أجابه ريتشارد: «أتمشَّى.»
فقال الجندي الأول: «أجُنِنت يا رجل؟ اخرج من هناك. ودعنا نُلقي نظرة عليك.»
خرج ريتشارد ببطءٍ من بين الشجيرات. ولم يفلح خفوت الضوء في إخفاء غرابة منظره بالشعر واللحية الطويلَين والسترة الزرقاء المُنتفخة.
«يا إلهي! من أنت؟ وأين وضعت زيَّك؟»
قال الرجل الآخر وهو لا يزال يُحدق في ريتشارد: «إنه ليس جنديًّا. إن وجوده هنا جنون. لا بد أنه هرب من المنشأة في أفالون وجاء إلى هنا عن طريق الخطأ … أيها الأحمق ألا تعرِف أن هذه المنطقة خطرة؟ يُمكن أن تُقتل …»
قاطعَه الجندي الأول قائلًا: «انظر إلى جيوبه. إنه يحمل أربع بطيخاتٍ ضخمة …»
على حين غرة، انقضَّت المخلوقات الطائرة من السماء. ولا بد أنها كانت بأعدادٍ كبيرة، وكان الغضب يتملَّكهم فأخذوا يصرخون وهم يشنُّون هجومهم. وقع الجنديَّان على الأرض. وبدأ ريتشارد يجري. هبط أحد المخلوقات الطائرة على وجه الجندي الأول وبدأ يُمزقه إرْبًا إرْبًا بمخالبه. انطلق وابل من الرصاص عندما هُرع الجنود الآخرون الذين كانوا في الجوار إلى تلك المنطقة ليُساعدوا فرقة الاستطلاع بعدما سمعوا ضجيج المعركة.
لم يكن ريتشارد يعرف كيف سيعثُر على الغواصة. ولكنه جرى أسفل التل بأكبر سرعةٍ تسمح له بها قدماه والحمل الذي على كتفَيه. وزاد إطلاق النار خلفه. ووصلت إلى أُذنَيه صرخات الألم التي يُطلقها العساكر وصرخات الاحتضار التي تُطلقها المخلوقات الطائرة.
وصل إلى الخندق، لكنه لم يعثُر على أي أثر للغواصة. وسمع أصوات البشر قادمة من خلفه على المنحدَر. لكن في اللحظة التي بدأ الذعر ينتابُه فيها، سمع صوت صرخةٍ منخفضة تصدر من شجيرة ضخمة على يمينه. وطار قائد المخلوقات الطائرة ذو الحلقات الأربعة الزرقاء المخضرة بجوار رأسه دون أن يرتفع كثيرًا عن الأرض ومضى متوغلًا في شاطئ الخندق متجهًا نحو اليسار.
عثرا على الغواصة الصغيرة بعد ثلاث دقائق. وقبل أن يندفع البشر إلى المنطقة المكشوفة من الأرض الخضراء كانت الغواصة قد غاصت بهما. في الداخل، خلع ريتشارد حقيبته ووضعها خلفه في غرفة التحكُّم الصغيرة. ثم نظر إلى رفيقه الطائر وحاول أن ينطق بعبارتَين بسيطتَين بلُغته. فأجابه الطائر القائد ببطءٍ ووضوح شديدَين قائلًا ما معناه: «إننا جميعًا نشكرك شكرًا جزيلًا.»
استغرقت الرحلة ما يزيد قليلًا عن ساعة. ولم يتحدَّث ريتشارد والمخلوق الطائر معًا كثيرًا خلالها. في بدايتها، راقب ريتشارد القائد عن كثبٍ وهو يقود الغواصة. وأدخل في جهاز الكمبيوتر الخاص به بعض الملاحظات، ثم تسلَّم القيادة لمددٍ قصيرة في النصف الثاني منها. وكلما خفَّ انشغال عقل ريتشارد، ثارت فيه الأسئلة عن كلِّ ما مرَّ به في المسكن الثاني. وكان أكثر ما يودُّ معرفته هو سبب اختياره هو للنزول في الغواصة مع البطيخ وبيض المخلوقات الطائرة وذلك الجزء من الشبكة اللاسويقية، بدلًا من اختيار واحدٍ من القطنمل ليقوم بهذه المهمة. قال لنفسه متفكرًا: لا بد أن شيئًا ما يفوتني.
بعد مرور القليل من الوقت ظهرت الغواصة على السطح وصار ريتشارد في بقعةٍ يألفها. إذ لاحت له ناطحات سحاب نيويورك في الأفق. وصاح بأعلى صوته وهو يحمل حقيبته المليئة إلى الجزيرة: «حمدًا للرب.»
جعل القائد الغواصة ترسو بمحاذاة الشاطئ وعلى عجل استأذن للرحيل. فقام بحركة مستديرة وانحنى انحناءة خفيفة لريتشارد ثم رحل باتجاه الشمال. بينما كان ريتشارد يُشاهد المخلوق الذي يُشبه الطيور وهو يطير مبتعدًا، أدرك أنه كان يقف في نفس المنطقة التي انتظر فيها هو ونيكول الكائنات الطائرة الثلاثة لتحمِله عبر البحر الأسطواني إلى الحرية منذ سنواتٍ في مركبة راما الثانية.
٧
في اللحظة التي وقف فيها ريتشارد على سطح نيويورك جمعت المجسَّات الرامية المتناهية الصغر المُتناثرة في جميع أنحاء السفينة الفضائية الأسطوانية العملاقة مائة مليار مليار معلومة. وكانت هذه المعلومات تنتقِل في الحال إلى مراكز محلية مُتناهية الصغر تقوم بإدارة المعلومات، وهناك تُخزَّن هذه المعلومات إلى أن يحين الوقت المُحدَّد لإعادة بثِّها إلى الكمبيوتر المركزي المُختصِّ بالاتصالات عن بُعد والمدفون تحت نصف الأسطوانة الجنوبي.
في كل لحظةٍ من كل ساعةٍ من كل يوم تجمع المجسَّات الرامية هذا الكم من المعلومات الذي لا يُحصيه عقل بشري. ثم يتولَّى الكمبيوتر المُختص بالاتصالات تصنيف هذه البيانات وفرزها وتحليلها وضغطها وتخزينها في أجهزة تسجيلٍ يقلُّ حجم كل مُكون من مكوناتها عن حجم الذرة. بعد التخزين، يدخل على هذه البيانات عددٌ كبير من أجهزة الكمبيوتر الموزعة التي تتحكَّم معًا في سفينة راما الفضائية، والتي يتولَّى كلٌّ منها مهمة خاصة. ثم تقوم آلاف الخوارزميات الموزعة بين أجهزة الكمبيوتر بمعالجة هذه البيانات، فتستخرج منها معلومات مُركبة وأخرى عامة؛ تمهيدًا لإرسالها ضمن دفعات المعلومات التي ترسَل بسرعةٍ فائقة في مواعيد منتظمة إلى الذكاء النودي فتنقل إليه وضع البعثة.
تضم البيانات المرسلة خليطًا من البيانات الأولية والبيانات المضغوطة والبيانات المركبة، وهذا يتوقَّف على نوع التنسيق الذي تختاره أجهزة الكمبيوتر المختلفة. لكن أهم ما في البيانات المرسلة هو التقرير السردي الذي يقدم فيه الذكاء الذي يتحكَّم في راما — رغم اختلاف المهام التي تقوم بها أجزاؤه — مُلخصًا لتطور المهمة بعد ترتيبه حسب الأولوية. أما باقي البيانات فتُمثل، بصفةٍ أساسية، معلوماتٍ شارحةً للتقرير، تضم صورًا أو قياساتٍ أو معلومات أتت بها المجسات، التي تقوم إما بتوفير معلومات إضافية عن خلفية ما هو مُقدم أو تدعم مباشرةً النتائج المُتضمنة في الملخص.
واللغة المستخدمة في كتابة هذا التقرير حسابية في تركيبها، دقيقة في معانيها، ومشفرةً شفرةً معقدة. كما أنها غنية بالهوامش، إذ تضمُّ كل عبارةٍ أو جملة ضمن هيكل بثِّها مؤشرات تُشير إلى معلوماتٍ تدعم الرأي الذي تُعبر عنه. ولا يمكن بأيِّ حالٍ ترجمة هذا التقرير إلى أي لغةٍ في مثل بدائية اللغات التي يتحدَّث بها البشر. ومع هذا نُقدِّم فيما يلي صورةً أولية تقرب إلى الذهن شكلَ التقرير الذي تلقَّاه الذكاء النوديُّ من راما بعد وصول ريتشارد إلى نيويورك مباشرةً.
في المدة الأخيرة واصل البشر (المخلوقات التي تجوب الفضاء رقم ٨٠٦ ٣٢) شن حرب ناجحة على الزوج التكافلي الذي يضمُّ المخلوقات الطائرة/الكائنات اللاسويقية (رقم ٢٤٩ ٤٧ – «أ» و«ب»). يُسيطر البشر الآن على كل المنطقة الواقعة بداخل مسكن المخلوقات الطائرة/الكائنات اللاسويقية تقريبًا، بما فيها الجزء العلوي من الأسطوانة البُنية حيث كانت تعيش المخلوقات الطائرة في السابق. واجهت المخلوقات الطائرة الغزو البشري بشجاعة، ولكن دون أن تأتي مواجهتها بأي ثمار، فقد قتلَهم البشر بلا رحمة، ولا يبقى منهم الآن سوى أقلَّ من مائة.
حتى الآن لم يَخترق البشر أرض الكائنات اللاسويقية. لكنهم وجدوا ممرات المصاعد التي تؤدي إلى الأجزاء السفلية من الأسطوانة البُنية. وهم الآن يضعون الخطط لمهاجمة ملجأ الكائنات اللاسويقية.
الكائنات اللاسويقية مخلوقات تعجز عن الدفاع عن نفسها. ولا تُوجَد أي أسلحة من أي نوعٍ في أرضها. بل إن النوع القادر على الحركة منها الذي يتمتَّع بقدرة جسدية على استخدام السلاح مطبوعٌ على السُّلَّم. فلم يسعه أن يفعل شيئًا لحماية نفسه من الغزو البشري الحتمي الذي يخشاه سوى أن كلف القطنمل المتحرك ببناء حصون حول أكبر أربعةٍ من هذا النوع وأكثره تطورًا. وفي الوقت نفسه، كان لا يسمح لمزيدٍ من بطيخ المنِّ بالنمو، كما يُرسل القطنمل الذي لن يشارك في عملية البناء إلى الشرنقة في مرحلةٍ مبكرة. إذا أخَّر البشر هجومهم، وهذا يبدو محتملًا، فمن المُمكن ألا يُقابلوا إلا القليل من القطنمل أثناء الغزو.
يواصل الأشخاص الذين يتَّسمون بصفاتٍ شديدة التبايُن من العينة البشرية التي راقبناها في مركبة راما الثانية وفي النود السيطرةَ على مسكن البشر. والهمُّ الأكبر للقادة البشريين الحالِيِّين هو الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم دون أن يضعوا رفاهية المستعمرة في اعتبارهم. ورغم إرسال الرسالة التليفزيونية ورغم وجود مُستعمِرين أصلِيِّين مُعارضين بينهم؛ فإن القادة لا بد أنهم لا يعتقدون أنهم مُراقَبون بالفعل؛ لأن تصرُّفاتهم لا تعكس على الإطلاق احتمال وجود مجموعةٍ من القِيَم أو القوانين الأخلاقية التي تُسيطر على عالمهم.
يواصل البشر شنَّ حربهم على المخلوقات الطائرة/الكائنات اللاسويقية، وهدفهم الأساسي من هذا هو صرف انتباه الشعب عن المشاكل الأخرى التي تُواجِهها المستعمرة، وفيها التدهور البيئي الذي تسبَّبوا فيه، والتدهور السريع في مستوى المعيشة. ولم يظهر على قادة البشر، بل وعلى مُعظم المُستعمِرين، أي علامة من علامات الندم على قتل المخلوقات الطائرة واحتمال تعرُّضها للإبادة.
لم يعُد للأسرة التي عاشت في النود لأكثرِ من عامٍ أي تأثير مُهم على شئون المستعمرة. فالمرأة التي كانت المُستعمرة الأساسية لا تزال محبوسة، والسبب الرئيسي في هذا هو أنها تُعارِض أفعال القادة الحاليين، وهي تُواجِه الآن خطر الإعدام. أما زوجها فكان يعيش مع المخلوقات الطائرة والكائنات اللاسويقية وهو الآن ركن مُهم في محاولتهم للحفاظ على حياتهم بعد تعرُّضهم للهجوم البشري. والأطفال لم يبلغوا بعدُ حدًّا من النضج يكفي ليُمكنهم من أن يكونوا لاعبين رئيسيين في مُستعمرة البشر.
مؤخرًا، هرب الزوج من أرض الكائنات اللاسويقية إلى الجزيرة الواقعة في منتصف السفينة الفضائية. وحمل معه أجنة المخلوقات الطائرة والكائنات اللاسويقية. وهو الآن موجود في بيئةٍ مألوفة، ولذا يجِب أن يكون قادرًا على البقاء وعلى رعاية صغار النوع الآخر. ويرجع جزءٌ من نجاح هروبه إلى التدخُّل البسيط الذي بدأ وقت انطلاق إنذار الدرجة الأولى. من المؤكَّد أن إشارات التدخُّل أثَّرت في القرار الذي اتَّخذته الكائنات اللاسويقية، والذي يقضي بائتمان بشري على أجنتها.
غير أنه لا يُوجَد دليل على أن رسالة التدخُّل قد أثرت في تصرُّف أيٍّ من البشر؛ فمعالجة المعلومات بالنسبة للكائنات اللاسويقية نشاط أوَّلي، ولهذا ليس من المُستغرَب أن تؤثر فيه الإشارات التدخُّلية. أما البشر، وخاصة القادة منهم، فحياتهم مليئة جدًّا بالنشاط، حتى إنه لا يتَّسِع لهم وقتٌ للتأمُّل إلا قليلًا.
كانت هناك مشكلة أخرى عند محاولة التأثير على البشر بالتدخُّل البسيط. وهي أن البشر نوع شديد التبايُن، فكل فردٍ يختلف عن الآخر اختلافًا ما يجعل من المُستحيل تصميم وحدة بثٍّ ذات نطاقٍ واسع من الاستخدام. إذ إن مجموعة الإشارات التي قد ينتج عنها تحسين سلوك شخصٍ ما قد لا تؤثر إطلاقًا على أي شخصٍ آخر. تُجرى الآن تجارب على الأنواع المختلفة لعمليات التدخل، ولكن من المُحتمَل أن يكون البشر ممَّن ينتمون إلى تلك المجموعة الصغيرة من المخلوقات التي لا تتأثر بالتدخُّل البسيط.
أما في جنوب المركبة الفضائية، فتستمرُّ كائنات الأوكتوسبايدر (رقم ٦٦٦ ٢) في النمو في مستعمرةٍ تكاد تُطابق المستعمرات الأخرى المعزولة في الفضاء.
غير أن النطاق الكامل للأشكال البيولوجية المُحتمَلة يظلُّ غير واضح، ويرجع هذا في الأساس إلى محدودية الموارد الإقليمية وغياب التنافُس الحقيقي. ولكنهم يتمتعون بقدرةٍ هائلة على التطوُّر ظهرت جليةً في نجاحهم أكثر من مرةٍ في التحوُّل من مجموعة نجومية إلى أخرى.
لم يكن الأوكتوسبايدر يُولون النوعَين الآخَرَين الموجودَين في السفينة الكثير من الاهتمام، إلى أن بدأ البشرُ الحفرَ في جدار مسكنهم واخترقوه. فمنذ أن بدأ البشر الاستكشاف، أخذ الأوكتوسبايدر يُراقبون ما يحدُث في الشمال باهتمامٍ متزايد. لكن البشر لا يعرفون شيئًا عن وجود الأوكتوسبايدر حتى الآن. وقد بدأ الأوكتوسبايدر بالفعل وضع خطة طوارئ تَحميهم إذا ما حدث تفاعُل بينهم وبين جيرانهم العدوانيين.
إن الفقد المُحتمَل لمجتمع المخلوقات الطائرة/الكائنات اللاسويقية يُقلل بشدة من قيمة البعثة. ومن المُحتمَل ألا ينجو من الكائنات اللاسويقية والمخلوقات الطائرة سوى هؤلاء الموجودين في حديقة حيوان الأوكتوسبايدر، وهؤلاء الذين يرعاهم البشري على الجزيرة. غير أن هذا لا يستدعي إطلاق إنذارٍ من الدرجة الثانية، وإن أدَّى إلى فقد نوعٍ واحدٍ فقدًا لا يُمكن تعويضه، ومع هذا فإن تصرفات قادة البشر الحاليين غير المُتوقَّعة والمُميتة تُثير مخاوف شديدة من أن تتكبَّد البعثة خسائر أخرى فادحة. سيركز نشاط التدخُّل في المستقبل القريب على هؤلاء البشر الذين يُعارضون القادة الحاليين، والذين عكست تصرفاتهم سمُوَّهم على النزعة الإقليمية والعدوانية.
٨
«تُدعى بلدي تايلاند. وكان بها ملك يُسمَّى أيضًا راما، مثل سفينتنا. على الأرجح أن جدَّتُكما وجدَّكُما — اللذَين هما أمي وأبي — لا يزالان يعيشان هناك، في مدينة تُسمَّى لامبون … ها هي ذي.»
أشارت ناي إلى بقعةٍ على الخريطة الباهتة الألوان. فبدأ انتباه الولدَين يتشتَّت. فقالت في نفسها: ما زلتما صغيرَين جدًّا. هذا يفوق ما يمكن توقُّعه من طفلَين في الرابعة وإن كانا ذكيَّين.
قالت وهي تطوي الخريطة: «حسنًا، يُمكنكما الآن أن تَخرُجا وتلعبا.»
ارتدى جاليليو وكيبلر سُترتيهما الثقيلتين وأخذا الكرة واستبقا الباب إلى الشارع. وفي غضون ثوانٍ كانا يلعبان الكرة وحدهما متناوبَين ركلَها. حدَّثت ناي نفسها وهي في المدخل تشاهد الطفلَين قائلةً: آه يا كينجي. كم يفتقدانك! لا يمكن أبدًا لأحد الأبوين أن يُعوض غياب الآخر.
كانت ناي قد بدأت درس الجغرافيا، مثلما تفعل دائمًا، بتذكير الولدَين بأن جميع مُستعمري عدن الجديدة أتوا من كوكب يُسمَّى الأرض. بعد هذا أطْلَعت الطفلين على خريطة العالم الأرضي بادئةً بشرح المفاهيم الأساسية مثل مفهوم القارات والمُحيطات، ثم تعريفهما باليابان، البلد الأم لأبيهما. وكان هذا يُثير فيها الحنين إلى بلدها والشعور بالوحدة.
بينما ناي تشاهد مباراة الكرة على ضوء شارع أفالون الخافت، قالت لنفسها: ربما لا أعني توجيه هذه الدروس إليكما. أخذ جاليليو يضرب الكرة بالأرض مرارًا حول كيبلر ثم ركلَها نحو مرمى خيالي. فأضافت في نفسها: ربما أعني توجيهها إلى نفسي.
كانت إيبونين تسير في الشارع مُتوجِّهةً إليهم. وعندما وصلت عند الولدين أمسكت بالكرة ثم قذفتها إليهما. ابتسمت ناي لصديقتها. وقالت: «كم تُسعِدني رؤيتك! إنني في أمسِّ الحاجة إلى رؤية مثل هذا الوجه البشوش اليوم.»
سألتها إيبونين: «ما الأمر يا ناي؟ هل تُسبِّب لك الحياة في أفالون الإحباط؟ … على الأقل اليوم هو يوم الأحد. ولست تعمَلِين في مصنع البنادق، والولدان ليسا في المركز.»
دخلت المرأتان المنزل. فأشارت إيبونين بيدِها إلى الغرفة. وقالت: «بالتأكيد لا يمكن أن تكون أحوال معيشتك هي ما يُسبِّب لك الاكتئاب. فلديكم غرفة كبيرة تكفي ثلاثتكم، ومكان مُتواضع لقضاء حاجتكم، وحجرة للاستحمام تشترك معكم فيها خمس عائلات أخرى. هل تطمعين في أكثر من هذا؟!»
ضحكت ناي واحتضنت إيبونين. وقالت: «إنك مصدر عون لا ينضب.»
بعد دقيقة ظهر كيبلر في المدخل وقال: «أمي، أمي. تعالَي بسرعة. لقد عاد … وإنه يتحدث مع جاليليو.»
عادت ناي وإيبونين إلى الباب. فوجدتا رجلًا ذا وجهٍ مُشوَّهٍ تشوُّهًا كبيرًا جاثيًّا على الأرض بجوار جاليليو. وكان الخوف باديًّا على الأخير. كان الرجل ممسكًا بورقة في يديه المُغطاة بقفاز. وكان مرسومًا عليها بدقة وجهٌ بشريٌّ كبيرٌ ذو شعر طويل ولحية كثة.
قال الرجل بإصرار: «تعرف صاحب هذا الوجه، أليس كذلك؟ إنه السيد ريتشارد ويكفيلد، أليس كذلك؟»
اقتربت ناي وإيبونين من الرجل بحذر. وقالت ناي بحزم: «أخبرناك المرة السابقة ألا تزعج الولدَين مرة أخرى. عُد إلى المستشفى الآن وإلا سنتَّصِل بالشرطة.»
كانت عينا الرجل تعكسان انفعالًا جارفًا. وقال: «رأيتُه ليلة أمس. كان يُشبِه المسيح ولكنه ريتشارد ويكفيلد قطعًا. وعندما بدأتُ أطلق عليه النار هاجموني. كانوا خمسة. مزقوا وجهي إربًا إربًا …» بدأ الرجل ينتحِب.
جرى عامل بالمستشفى نحوَهم. وأمسك بالرجل. لكنه ظل يصرخ وهو يأخذه بعيدًا ويقول: «رأيته. أنا متأكد. أرجوكم صدقوني.»
كان جاليليو يبكي. فمالت ناي عليه لتُهدِّئه. فقال: «أمي هل تظنين أن هذا الرجل رأى السيد ويكفيلد حقًّا؟»
أجابته: «لا أعرف.» ثم نظرت إلى إيبونين. وقالت: «ولكن بعضنا يودُّ أن يصدقه.»
•••
نام الولدان أخيرًا على سريريهما الواقعَين في زاوية الغرفة. وجلست ناي وإيبونين متجاورتَين على الكرسِيَّين. قالت إيبونين بصوتٍ خفيض: «تقول شائعة إن المرض اشتد عليها. إنهم لا يكادون يطعمونها. ولا يألون جهدًا في التأكُّد من أنها تُعاني.»
قالت ناي بفخر: «لن تستسلم نيكول أبدًا. أتمنَّى لو كنتُ أتمتع بنفس قوتها وشجاعتها.»
ردَّت إيبونين: «لم يُسمح لإيلي ولا لروبرت بزيارتها طوال ما يزيد على ستة أشهر … بل إنها لا تعلم حتى أنها رُزِقت بحفيدة.»
قالت ناي: «أخبرَتْني إيلي الأسبوع الماضي أنها قدمت التماسًا آخَرَ لناكامورا تُطلب فيه زيارة والدتها. إنني قلقة عليها. فهي تضغط عليه ضغطًا شديدًا.»
ابتسمت إيبونين. وقالت: «إيلي رائعة جدًّا وإن كانت ساذجة للغاية. فهي تؤكد أن ناكامورا سيَدَعُها وشأنها إن أطاعت كل قوانين المستعمرة.»
قالت ناي: «هذا لا يُدهشني … وخاصة إن أخذت في الاعتبار أنها لا تزال تعتقد أن والدها على قيد الحياة. وقد تحدَّثت مع كلِّ من ادَّعى رؤيته منذ أن اختفى.»
قالت إيبونين: «كل هذه القصص عن ريتشارد تبعث فيها الأمل. علينا أن نُصبِّر أنفسنا ببصيص أملٍ من حينٍ إلى آخر …»
توقف الحوار للحظات. ثم سألت ناي إيبونين: «ماذا عنك يا إيبونين؟ هل تسمحين لنفسك …»
فقاطعَتْها إيبونين قائلةً: «كلَّا. أنا دائمًا صادقة مع نفسي … سأموت قريبًا، كل ما في الأمر هو أنني لا أعلم متى بالضبط. ولماذا أُحارب لأبقى على قيد الحياة؟ الأحوال هنا في أفالون أسوأ كثيرًا من أحوال مُعتقل بورج. ولو لم يكن في حياتي أطفالُ المدرسة …»
سمِعَتا ضوضاء قادمة من الخارج في نفس الوقت. فتسمَّرَتا في مكانيهما. إذ لو أن أحد الآليين التابعين لناكامورا الذين يتجولون في أنحاء المكان سجَّل الحوار الذي دار بينهما، فإنهما …
فجأة، دفع شخصٌ ما الباب ففُتِح. وكاد قلبا المرأتين يتوقَّفان ذُعرًا. دلف ماكس باكيت إلى الغرفة وهو يبتسم ابتسامةً عريضة. وقال: «أنتما رهن الاعتقال لأنكما تحدثتما حديثًا فيه تحريض على عصيان الحكومة.»
كان ماكس يحمِل صندوقًا خشبيًّا كبيرًا. فساعدَتْه المرأتان في وضعه في زاوية الغرفة. ثم خلع سترته الثقيلة. وقال: «آسِف على المجيء في هذا الوقت المتأخِّر، ولكن لم يكن أمامي خيار.»
سألته ناي بصوتٍ خفيض: «أهذه إمدادات غذائية أخرى للجيش؟» وأشارت إلى التوءمَين النائمين.
أومأ ماكس برأسه. وقال بصوت أكثر انخفاضًا: «الملك الياباني دائمًا ما يُذكِّرني بأن الطعام وقود الجيش.»
قالت إيبونين: «هذا أحد الأقوال المأثورة عن نابليون.» ثم نظرت إلى ماكس وهي تبتسِم ابتسامةً ساخرة. وأضافت: «لا أظن أنك سمعتِ عنه في آركنسو.»
رد ماكس: «آه. المُعلمة الجميلة تقوم بدور المتحذلق الليلة.» وأخرج علبة سجائر غير مفتوحة من جيب قميصه. وأضاف: «ربما عليَّ أن أحتفظ بهديتي إليها.»
ضحكت إيبونين وقفزت لتأخذ السجائر. فأعطاها لها ماكس بعد أن اصطنع مازحًا أنه يُقاومها. فقالت إيبونين بصدق: «أشكرك يا ماكس. إنهم لا يسمحون لأمثالنا بأن نستمتع …»
قاطعها ماكس وهو محتفظ بابتسامته العريضة: «اسمعي. لم أقطع كل هذا الطريق إلى هنا لأسمعك تندبين حظك. لقد توقفتُ في أفالون حتى أستمدَّ الحياة من وجهك الجميل. فإذا ما ظللتِ مكتئبة فسآخُذ القمح والطماطم …»
صاحت ناي وإيبونين معًا: «قمح وطماطم!» وأسرعتا نحو الصندوق. قالت ناي بانفعال وماكس يفتح الصندوق بقضيبٍ من الصلب: «لم يتناول الطفلان أي منتجات طازجة منذ أسابيع.»
قال ماكس بجدية: «كُونا حذِرَتَين للغاية. فأنتما تعلمان أن ما أفعله مخالف للقانون. إذ إن الطعام الطازج لا يكاد يكفي الجيش وقادة الحكومة. ولكنني رأيتُ أنكم تستحقون شيئًا أفضل من فضلات الأرز.»
احتضنت إيبونين ماكسَ. وقالت: «أشكرك.»
قالت ناي: «أنا والولدان مُمتنون لك بشدة. ولا أعرف كيف أشكرك.»
قال ماكس: «سأجد طريقةً تشكرينني بها.»
عادت المرأتان إلى كرسييهما وجلس ماكس على الأرض بينهما. قال: «قابلتُ باتريك أوتول مصادفةً في المنطقة السكنية الثانية. وطلب منِّي أن أبلغكما سلامه.»
سألته إيبونين: «كيف حاله؟»
أجابها ماكس: «أرى أنه يُعاني. عندما طُلب للتجنيد ترك نفسه لكيتي لتقنعه بأن يقبل الالتحاق بالجيش، وأنا على يقينٍ من أنه لم يكن ليفعل هذا إذا كان أيٌّ من نيكول أو ريتشارد قد تمكن من التحدُّث معه ولو مرة واحدة، وأعتقد أنه يُدرك الآن خطأه. إنه لم ينبس ببنت شفة ولكنني أشعر بمُعاناته. إن ناكامورا يُبقيه في الخطوط الأمامية بسبب صِلة القرابة التي تربطه بنيكول.»
سألت إيبونين: «هل أوشكَتِ الحرب على الانتهاء؟»
ردَّ ماكس: «أظن هذا. ولكن من الواضح أن الملك الياباني لا يُريدها أن تنتهي. فبناءً على ما يُخبرني به الجنود لم يعُد جيشنا يواجِهُ إلا القليل من المقاومة. والمهمة الأساسية التي يقوم بها الآن هي تصفية ما تبقَّى من جيش العدو بداخل الأسطوانة البُنية.»
مالت ناي إلى الأمام. وقالت: «سمِعنا شائعة تقول إن هناك نوعًا عاقلًا آخَر يعيش في الأسطوانة؛ نوعًا مُختلفًا عن المخلوقات الطائرة تمامًا.»
ضحك ماكس. وقال: «ماذا نصدق؟! فالتليفزيون والجرائد تُردِّد ما يُخبرهما به ناكامورا، وكلنا يعرف هذا. ودائمًا ما تُثار مئات الشائعات. ولكنَّني رأيت بنفسي بعض النباتات والحيوانات الفضائية الغريبة داخل المنطقة السكنية، ولهذا لن يُدهِشني شيء.»
قاومت ناي التثاؤب. فقال ماكس وهو يقف: «من الأفضل أن نرحل وندَع مُضيفتنا تخلد إلى النوم.» ثم نظر إلى إيبونين. وقال: «هل تُريدين أن يصطحبك أحد إلى البيت؟»
قالت إيبونين بابتسامة: «هذا يتوقَّف على من هو هذا الشخص.»
بعد دقائق قليلة وصل ماكس وإيبونين إلى منزلها الصغير المُتواضِع الذي يقع في أحد الشوارع الجانبية في أفالون. فرمى ماكس السيجارة التي كانا يُدخنانها ودهسها بقدمه. وبدأ يقول: «هل تودِّين أن يقوم شخص …»
فردَّت عليه وهي تتنهَّد: «بالطبع يا ماكس. وإن كنتُ سأختار أحدًا، لم أكن لأختار غيرك.» ثم نظرت إلى عينَيه مباشرةً. وقالت: «ولكن إن قضينا الليل معًا مرةً فسأطمع في المزيد. وإذا حدث، لا قدَّر الله، وأُصبت، رغم أخذنا الحيطة، بفيروس «آر في ٤١» فلن أسامح نفسي أبدًا.»
دفنت إيبونين نفسها في حُضنه لتُداري دموعها. وقالت: «أشكرك على كلِّ ما تُقدمه لنا. أنت رجل رائع يا ماكس، بل ربما تكون الرجل الرائع الوحيد في هذا العالَم المجنون.»
•••
كانت إيبونين داخل متحفٍ في باريس وحولها مئات من التُّحف. سارت مجموعة كبيرة من السائحين في المتحف. وشاهدوا خمسًا من اللوحات الرائعة التي رسمَها رينوار ومونيه في خمسٍ وأربعين ثانيةً فقط. فصاحت إيبونين في الحلم: «توقفوا. لا يُمكنكم أن تكونوا قد رأيتموها.»
جعلها صوت الدق على بابها تفيق من الحلم. وسمعت إيلي تقول: «نحن الطارقان يا إيبونين. لو كان الوقت مُبكرًا جدًّا يُمكننا أن نحاول العودة في وقتٍ لاحق قبل أن تذهبي إلى المدرسة. ولكنَّ روبرت خشِيَ أن يَعُوقنا ضغط العمل في عنبر الأمراض النفسية عن المجيء.»
مدَّت إيبونين يدها وأخذت الرداء المعلق على الكرسي الوحيد بالغرفة. وقالت: «لحظة واحدة، أنا قادمة.»
فتحت الباب لأصدقائها. كانت إيلي ترتدي زيَّ الممرضة، ونيكول الصغيرة في حمالة رُضع على ظهرها. وكانت الرضيعة النائمة ملفوفة بمهارةٍ في رداءٍ قطني ليحميها من البرد.
قالت إيلي: «أتسمحين لنا بالدخول؟»
ردَّت إيبونين: «بالطبع. آسِفة يبدو أنني لم أسمعكما …»
قالت إيلي: «هذا وقت غير مُناسب للزيارة. ولكن نظرًا للكم الهائل من العمل الذي ينتظرنا في المُستشفى فلن نستطيع أن نأتي أبدًا إلا في الصباح الباكر.»
سألها الدكتور تيرنر بعد ثوانٍ قليلة: «كيف حال صحتك؟» كان يرفع أداة ماسحة أمام إيبونين، وبدأت البيانات تظهر على شاشة الكمبيوتر المحمول الخاص به.
قالت إيبونين: «أشعر ببعض الإرهاق. ولكن هذا قد يرجِع إلى عاملٍ نفسي وحسب. فمنذ أن أخبرتني منذ شهرَين أن بعض علامات التدهور بدأت تظهر على قلبي وأنا أتخيل أنني أصاب بأزمة قلبيةٍ مرة يوميًّا على الأقل.»
أثناء الفحص قامت إيلي بتشغيل لوحة المفاتيح المُلحقة بالشاشة. وتأكدت من أن البيانات المهمة التي جاء بها الفحص سُجِّلت على الكمبيوتر. أدارت إيبونين رقبتها لترى الشاشة. وسألت روبرت عن أداء النظام الجديد.
أجابها: «هناك بعض القصور في المسابير. ولكن إد ستافورد يقول إن هذا مُتوقَّع بسبب عدم قيامنا باختباره كما ينبغي. كما أننا لم نحصُل بعدُ على نظامٍ جيد لإدارة البيانات، ولكن بصفة عامة، أداؤه مُرضٍ.»
قالت إيلي دون أن ترفع عينَيها من على لوحة المفاتيح: «هذا النظام أنجدنا يا إيبونين. فلم نكن لنستطيع أن نُبقي على ملفات «آر في ٤١» عاملةً ونحن نعمل بهذا التمويل المحدود ونواجه أعباء كلِّ جرحى الحرب هؤلاء في غياب مثل هذا النوع من الأتمتة.»
قال روبرت تيرنر: «كل ما كنتُ أتمناه هو الانتفاع بمزيدٍ من خبرة نيكول في وضع التصميمات الأساسية. لم أكن أُدرك أنها تتمتع بكل هذه الخبرة في نظم المراقبة الداخلية.» رأى الطبيب شيئًا غريبًا في الرسم الظاهر على الشاشة. فقال: «اطبعي نسخةً من هذا من فضلك يا حبيبتي. أريد أن أُطلِع إد عليها.»
عندما أوشك الفحص على الانتهاء سألت إيبونين إيلي: «هل سمعت شيئًا جديدًا عن والدتك؟»
أجابت إيلي ببطء شديد: «قابلنا كيتي منذ ليلتَين. كانت ليلة صعبة. لديها «صفقة» أخرى من ناكامورا وماكميلان وكانت تُريد أن نناقش …» تهدَّج صوتها. ثم قالت: «على أي حال، تقول كيتي إنهم حتمًا سيُحاكمونها قبل ذكرى يوم الاستيطان.»
فسألت إيبونين: «هل رأت نيكول؟»
أجابت إيلي: «كلَّا. فعلى حدِّ عِلمنا، لم يرَها أحد. فطعامها يُحَضِّره لها آلية جارسيا، والفحص الشهري تقوم به آلية تياسو.»
تحرَّكت الرضيعة وأصدرت صوتًا خفيضًا وهي على ظهر أُمِّها. فمدَّت يدَيها ولمست الجزء الظاهر من خدها. وقالت: «إنهما ناعمان نعومة مدهشة.» في هذه اللحظة فتحت الفتاة الصغيرة عينَيها وبدأت تبكي.
سألت إيلي: «هل أمامي وقتٌ يكفي لإرضاعها يا روبرت؟»
نظر الدكتور تيرنر في ساعته. وقال: «حسنًا. لقد أنهينا عملَنا هنا تقريبًا. ولَمَّا كان كلٌّ من ويلما مارجولين وبيل تاكَر يقطنان المباني المجاورة فيُمكنني الذهاب إليهما وحدي ثم أعود إليك؟»
«هل ستستطيع أن تتعامل معهما بدون مُساعدتي؟»
قال بتجهُّم: «بصعوبة. وخاصة بيل المسكين.»
قالت إيلي موضحةً لإيبونين سبب قوله هذا: «إن بيل تاكر يحتضر ببطءٍ شديد. كما أنه وحيدٌ ويُعاني من ألَم عظيم. ولكن ليس بوسعنا أن نفعل له شيئًا؛ لأن الحكومة جرمت القتل الرحيم.»
قال الدكتور تيرنر لإيبونين بعد دقائق: «لا توجد في بياناتك إشارة إلى تدهور الضمور. أظن أنه علينا أن نحمد الله.»
لم تسمعه. إذ كانت تتخيَّل موتها البطيء المؤلِم. وقالت لنفسها: لن أدع هذا يحدُث أبدًا. فحالما أجد أنني أصبحتُ غير ذات نفع … فسيحضر لي ماكس بندقية.
قالت: «آسفة يا روبرت. يبدو أنني لم أُفِق من النوم بعد. ماذا قلت؟»
أجابها: «لم تتدهوَر حالتك.» ثم طبع قبلةً على وجنتها وتوجَّه نحو الباب. ثم قال لإيلي: «سأعود في غضون نحو عشرين دقيقة.»
عندما رحل قالت إيبونين: «يبدو روبرت مُرهقًا للغاية.»
ردَّت إيلي: «إنه مُرهق بالفعل. فهو لا يزال يعمل طوال الوقت … وعندما ينتهي من العمل ينتابه القلق.» كانت إيلي جالسة على الأرضية التُّرابية وهي تسند ظهرها إلى الحائط. وكانت تحمِل نيكول بين ذراعَيها، وكانت الصغيرة ترضع وتُصدر صوتًا من حينٍ لآخر.
قالت إيبونين: «يبدو هذا مُمتعًا.»
فردَّت إيلي: «لم أمر بأيِّ تجربةٍ تُداني الأمومة روعةً. فهي متعة يعجز اللسان عن وصفها.»
هتف صوت داخل إيبونين: أما أنا فلا أصلُح للأمومة. لا الآن. ولا فيما بعد. في لحظة عابرة تذكَّرت إيبونين ليلةَ هوًى كادت فيها ألَّا تقول لا لماكس باكيت.
وتصاعد بداخلها إحساس بالمرارة. فجاهدت لتُحاربه.
قالت مُغيِّرةً الموضوع: «أمضيتُ أمس وقتًا لطيفًا في التمشية مع بينجي.»
قالت إيلي: «أنا واثقة من أنه سيُحدِّثني عن هذا غدًا. فهو يُحب الأوقات التي يقضيها في التمشية معك في أيام الأحد. لم يبقَ له في هذه الدنيا إلا هذا والزيارات التي أقوم بها له من حينٍ إلى آخر … تعرفين أنني مُمتنَّة لك للغاية.»
ردَّت إيبونين: «لا داعي لقول هذا. فأنا أُحب بينجي. كما أنني أحتاج أن أشعر بأنَّ هناك من يحتاج إليَّ، تعلَمين ما أقصد … لقد تأقلم بينجي مع ما حدث تأقلُمًا مُدهشًا. فهو لا يشتكي كما يشتكي الآخرون البالِغ عددُهم واحدًا وأربعين، وبالتأكيد لا يتذمَّر مثل من أوكل إليهم العمل في مصنع البنادق.»
ردت إيلي: «إنه يُخفي ألَمَه. فهو أذكى مما يظنُّ الجميع. وهو يكره المستشفى، ولكنه يعرف أنه لا يستطيع أن يعتني بنفسه. ولا يريد أن يكون عبئًا على أحد …»
فجأة، اغرورقت عينا إيلي بالدموع وارتجف جسدُها بعض الشيء. فكفَّت نيكول عن الرضاعة وحدَّقت في أُمِّها. سألتها إيبونين: «هل أنت بخير؟»
هزَّت إيلي رأسها إيجابًا ومسحت عينَيها بمنديل قُطني صغير كانت ترفعه بجوار ثديها لتمسح ما يسقط من لبنها. تابعت نيكول الرضاعة. وقالت إيلي: «إن رؤية المعاناة في حدِّ ذاتها أمر قاسٍ. أما رؤية المعاناة الزائدة عن الحدِّ فتُمزِّق القلب.»
•••
أنعم الحارس النظر في بطاقتَيهما وناولَهما لرجلٍ آخر يرتدي الزِّيَّ الرسمي ويجلس خلفه على منضدةٍ موضوع عليها كمبيوتر. أدخل الرجل الثاني بياناتٍ على الكمبيوتر وأعاد الوثيقتَين إلى الحارس.
عندما أصبحا بعيدَين عن مسمعهما، سألت إيلي: «لماذا يُحدق هذا الرجل في صورتَينا كل يوم؟ فقد سمح لنا بنفسه بالمرور من نقطة التفتيش هذه عشرات المرات في هذا الشهر.»
كانا يمشيان في الممر الذي يصِل بين مخرج المسكن وبوسيتانو. ردَّ عليها روبرت قائلًا: «هذا عمله، وهو يُحب أن يشعر بأنه مُهم. وإذا لم يُضيِّق علينا الخناق في كل مرة ربما ننسى ما يتمتع به من سلطةٍ علينا.»
قالت: «كانت هذه العملية أسهل عندما كان الآليون يتولَّون أمر المدخل.»
«الآليون الذين لا يزالون في الخدمة لا غِنى عنهم في التعبئة للحرب. كما أن ناكامورا يخشى من أن يظهر شبح ريتشارد ويكفيلد ويفسد عليه، بطريقةٍ ما، الآليين.»
مَشَيا في صمتٍ عدة ثوانٍ. ثم سألته: «لا تعتقد أن أبي لا يزال حيًّا، أليس كذلك يا حبيبي؟»
أجابها بعدَ شيءٍ من التردُّد: «بلى يا حبيبتي.» كان قد تفاجأ من هذا السؤال المباشر. ثم أضاف: «ولكن مع أنني لا أعتقد أنه حي، آمُل أن يكون كذلك.»
وصل روبرت وإيلي أخيرًا إلى ضواحي بوسيتانو. هناك كانت تصطفُّ بضعة بيوت جديدة مشيَّدة على الطراز الأوروبي على الممر الذي ينحدِر انحدارًا بسيطًا حتى يصل إلى قلب المدينة. قال روبرت: «بالمناسبة يا إيلي، ذكرني الحديث عن والدك بشيءٍ أودُّ الحديث معك عنه … هل تتذكَّرين المشروع الذي كنتُ أخبرك عنه، ذلك المشروع الذي يقوم به إد ستافورد؟»
هزت إيلي رأسها.
فقال روبرت: «إنه يحاول أن يُصنف المستعمرة بأكملها إلى مجموعات جينية عامة. ومع أنه يرى أن هذا التصنيف تعسفيٌّ جدًّا، فإنه يعتقد أنه قد يوفر لنا معلومات عن الأمراض التي من المحتمل أن يُصاب بها كل شخص. أنا لا أتفق اتفاقًا مُطلقًا مع هذا التوجُّه — فهو لا يبدو طبيًّا بقدْر ما يبدو قهريًّا وقائمًا على التحليل العددي — غير أنَّ هناك دراساتٍ مشابهةً أقيمت على الأرض وكشفت عن أن الناس الذين يحملون جينات مماثلة عُرضة للإصابة بأمراض مماثلة.»
توقفت إيلي عن المشي ونظرت إلى زوجها متسائلةً: «لماذا تُريد أن تُناقش هذا معي؟»
ضحك روبرت. وقال: «حسنًا، حسنًا. سأقول لك … على أي حال، توصَّل إد إلى طريقة لتحديد أوجه الاختلاف، وهي طريقة عددية لقياس مدى الاختلاف بين أي شخصَين استنادًا إلى طريقة تسلسل الأحماض الأمينية الأربعة الأساسية في الجينوم، ثم قسَّم كل مواطني عدن الجديدة إلى مجموعاتٍ كاختبارٍ لما توصَّل له. في الواقع، هذه الطريقة لا تعني أيَّ شيء …»
قاطعته إيلي قائلةً: «روبرت تيرنر.» وضحكت. ثم أضافت: «هل من المُمكن أن تدخل في الموضوع؟ ما الذي تحاول أن تُخبرني به؟»
قال: «حسنًا، ما حدث كان غريبًا. ولسنا نعرف ما الذي نستنتِجه منه. فعندما وضع إد هيكل تصنيفه الأول وجد أن اثنَين ممن أجرى عليهم الاختبار لا ينتمِيان إلى أي مجموعة. فعدل السمات التي تُصنَّف على أساسها المجموعات بحيث تمكَّن أخيرًا من أن يصِل إلى الانتشار الكمي الذي ينطبق على أحدهما. أما الشخص الآخر فكان هيكل تسلسل الأحماض الأمينية عنده مختلفًا عن جميع مَن في عدن الجديدة اختلافًا جعل وضعه في أيٍّ من المجموعات مُستحيلًا …»
كانت إيلي ترمق روبرت وكأنه فقد عقله.
فقال بحرج: «هذان الشخصان هما أخوك بينجي وأنت. أنتما خارج كل المجموعات.»
قالت إيلي بعد أن قطعا نحوَ ثلاثين مترًا في صمت: «هل يجب أن يُقلقني هذا؟»
ردَّ بسلاسة: «لا أظن هذا. من الأرجح أن هذا نتج عن خللٍ في طريقة القياس التي اختارها إد. أو أن خطأً ما صدر منَّا … لكنَّ افتراض أن الأشعة الكونية قامت على نحوٍ ما بتغيير تكوينكِ الجيني وأنتِ لا تزالِين جنينًا ينمو، لَهُوَ افتراض مُبهر.»
في هذا الوقت كانا قد وصلا إلى ميدان بوسيتانو الرئيسي. فمالت إيلي على زوجها وقبَّلته. وقالت في محاولة لاستفزازه قليلًا: «هذا شيِّق للغاية يا حبيبي، ولكن عليَّ أن أعترف أنني ما زلتُ لا أفهم منه شيئًا.»
يحتل موقف دراجات كبير الجزءَ الأكبر من الميدان. إذ يشغل المنطقة التي تقع أمام محطة القطار السابقة أربعٌ وعشرون صفًّا طوليًّا وأربع وعشرون صفًّا عرضيًّا، بها أماكن لوقوف الدراجات. وهذا لأن كل المُستعمرين، فيما عدا قادة الحكومة، الذين كانوا يتنقلون بسياراتٍ كهربائية صاروا يتنقَّلون بالدراجات.
توقَّف عمل مرفق القطارات في عدن الجديدة بعد أن بدأت الحرب بقليل. فمصانع البشر في المُستعمرة لم تستطِع أن تنتج موادَّ مثل المواد التي صنع منها الفضائيون القطارات والتي تتميَّز بأنها خفيفة جدًّا وشديدة القوة. وفي نفس الوقت وجد البشر أن هذه المعادن المخلطة ذات قيمةٍ بالِغة في القيام بالكثير من الأعمال العسكرية المختلفة. وعلى هذا، عندما وصلت الحرب إلى المراحل الوسطى، صادرت وزارة الدفاع كافة عربات القطارات.
ركب روبرت وإيلي دراجتَيهما وسارا مُتجاورَين على ضفاف بحيرة شكسبير. استيقظت الرضيعة نيكول وكانت تُشاهد المنظر الطبيعي من حولها بهدوء.
قطع الزوجان المتنزَّه الذي يُحتفل فيه دائمًا بيوم الاستيطان وتوجَّها نحو الشمال.
قالت إيلي بجدية شديدة: «روبرت، هل عاودتَ التفكير في النقاش الطويل الذي دار بيننا الليلة الماضية؟»
فسألها: «تقصدين النقاش حول ناكامورا والسياسة؟»
أجابته: «نعم. ما زلتُ أظن أنه على كلينا أن نعارض القرار الذي أصدره والذي يقضي بتأجيل الانتخابات حتى انتهاء الحرب … إن لك مكانة عظيمة في المُستعمرة. ومعظم مسئولي الصحة سيَحذون حذوَك. بل إن ناي ترى أن عمال مصنع أفالون قد يُضربون عن العمل.»
قال روبرت بعد صمتٍ طويل: «لا يُمكنني أن أقوم بهذا.»
سألته إيلي: «لماذا يا حبيبي؟»
فقال: «لأنني أعتقِد أن هذا لن يُجدي. وفقًا لنظرتك المثالية للعالم يا إيلي، يتصرف الناس بدافع الالتزام بمبادئ أو قِيَم. أما في الواقع، فلا يتصرفون على هذا النحو إطلاقًا. إن عارضَنا ناكامورا فإن الاحتمال الأكبر هو أنَّ هذا سيزجُّ بنا نحن الاثنين في السجن. وماذا سيحدُث لابنتنا عندئذٍ؟ أضيفي إلى هذا أن كلَّ الدعم الذي نحصل عليه لمتابعة العمل المُتعلق بفيروس «آر في ٤١» سيتوقف، مما سيترك المرضى المساكين في حالةٍ أسوأ من التي هُم عليها. كما أن عدد العامِلين بالمُستشفى سيستمر في الانخفاض … وسيُعاني الكثير من الناس بسبب مثاليتنا. وبصفتي طبيبًا، لا أستطيع أن أقبل احتمال وقوع هذه العواقب.»
انحرفت إيلي بالدرَّاجة عن المسار المُخصَّص لها متجهةً إلى متنزَّه صغير على بُعد نحو خمسمائة مترٍ من المباني التي تقع على أطراف المدينة المركزية. فسألها روبرت: «لماذا توقفت هنا؟ إنهم ينتظروننا بالمستشفى.»
قالت: «أحتاج إلى خمس دقائق أرى فيها الأشجار وأشَمُّ الورود وأحتضن نيكول.»
بعد أن نزلت إيلي من على دراجتها ساعدها روبرت في خلع حمالة الطفلة من على ظهرها. ثم جلست على الحشائش واضعةً نيكول على حجرها. لم ينبس أيٌّ منهما ببنت شفة وهما يشاهدان نيكول تتأمَّل أوراق العشب الثلاث التي انتزعتها بيدَيها المكتنزتَين.
في النهاية، بسطت إيلي بطانيةً على الأرض ووضعت ابنتَها عليها برفق. ثم اقتربت من زوجها ولفَّت ذراعَيها حول رقبته. وقالت: «أُحبك حبًّا جمًّا يا روبرت. ولكن يجب أن أعترف أنني أحيانًا لا أتَّفِق معك على الإطلاق.»
٩
رسم الضوء الصادر من النافذة الوحيدة الموجودة في الزنزانة شكلًا على الحائط المبنيِّ من الطين المُقابل لسرير نيكول. إذ عكست قضبان النافذة على الحائط هيكلًا مُربعًا بداخله مربعات تُشبِه مربعات لعبة «إكس-أو» مقسمة إلى مجموعاتٍ ثلاثية تقريبًا. ضوء الزنزانة أعلَمَ نيكول بأن وقتَ الاستيقاظ حان. فسارت من السرير الخشبيِّ الذي كانت تنام عليه إلى الجانب الآخر من الغرفة، وغسلت وجهها في الحوض. ثم أخذت نفسًا عميقًا وحاولت أن تستجمِع قواها لتقضي يومًا جديدًا.
كانت نيكول متأكدةً من أن سجنها الحالي الذي نُقِلت إليه منذ نحو خمسة أشهُر يقع في المنطقة الزراعية من عدن الجديدة في مكانٍ ما بين هاكون وسان ميجيل. كانوا قد عصبوا عينَيها وهم ينقلونها إلى هنا. لكنها لم تستغرِقْ وقتًا طويلًا لتُدرك أنها في منطقةٍ ريفية. فمن حينٍ إلى آخر كانت تتسرَّب رائحة حيوانات نفَّاذة إلى زنزانتها عبر النافذة التي تبلُغ مساحتها أربعين سنتيمترًا مربعًا والتي تقع تحت السقف مباشرةً. كما أنها لا ترى أيَّ ضوءٍ خارج النافذة بعدما يُرخي الليل سدولَه على عدن الجديدة.
قالت نيكول لنفسها وهي تقِف على أطراف أصابعها لتدفع جراماتٍ قليلةً من الأرز المُتبَّل عبر النافذة: هذه الأشهُر الأخيرة كانت هي الأسوأ. لا كلام ولا قراءة ولا مُمارسة رياضة. وكل ما أحصُل عليه هو وجبَتَي أرزٍ ومياه يوميًّا. ظهر السنجاب الأحمر الصغير الذي يزورها كل صباحٍ في الخارج. وصار بوسعها أن تسمعه. فعادت إلى الجانب الآخر من الزنزانة حتى يتسنَّى لها رؤيته وهو يتناول الأرز.
قالت بصوت مرتفع: «أنت رفيقي الوحيد يا صديقي الجميل.» توقف السنجاب عن الأكل وأصغى السمع، فهو دائمًا ما يبقى حذرًا خشية الخطر. تابعت نيكول حديثها قائلةً: «لكنك لم تفهم قطُّ أي كلمةٍ نطقت بها.»
لم يبقَ السنجاب في مكانه طويلًا. فقد رحل عندما أنهى حصته من الأرز تاركًا نيكول وحدَها. فظلَّت لعدة دقائق تُحدق خارج النافذة في المكان الذي كان فيه السنجاب، وعقلها يتساءل عما يحدُث لأسرتها.
حتى ستة أشهر مضت، وهو الوقت الذي أُجِّلت فيه محاكمتها بتهمة العصيان في اللحظة الأخيرة «إلى أجلٍ غير مُسمَّى»، كان يُسمح لشخصٍ واحدٍ أن يزورها مدة ساعة أسبوعيًّا. ومع أنه كان هناك حارس يُراقب أي حوار يدور، ومع أن أيَّ نقاشٍ حول السياسة أو الأحداث الجارية كان ممنوعًا تمامًا، فإنها كانت تنتظِر اللقاءات الأسبوعية مع إيلي وباتريك بفارغ الصبر. وعادةً كانت إيلي هي من يزورها. وقد استنتجت نيكول من عباراتٍ صاغها ابناها بحذَرٍ شديد أن باتريك مُنشغل في عملٍ حكومي ما، وأنه أصبح غير مُتاح إلا في أوقاتٍ محدودة.
وعندما علمت نيكول أن بينجي أُودِع مستشفى الأمراض النفسية وأنه لن يُسمح له بزيارتها استشاطت غضبًا، ثم تحوَّل غضبها إلى إحباطٍ بعد هذا. وحاولت إيلي أن تُطمئنها على أن بينجي في خير حالٍ يُمكن الوصول إليها في ظل الظروف الراهنة. ولم يتطرَّق الحديث كثيرًا إلى كيتي. إذ لم يعرف باتريك أو إيلي كيف يشرحان لنيكول أن أختهما الكبيرة لم تُبدِ اهتمامًا بزيارة أمها.
كان موضوع حمل إيلي دائمًا موضوعًا آمنًا للحديث في الزيارات الأولى هذه. وكانت نيكول تستمتع بلمس بطن ابنتها أو بالحديث عن المشاعر الخاصة التي تعتمِل في نفس هذه المرأة التي ستُصبح أمًّا. وإذا ما ذكرت إيلي أن الطفل مُفرط النشاط، كانت تحكي لها نيكول تجاربها الخاصة وتُقارنها بتجربتها (فقالت ذات مرة: «عندما كنتُ حاملًا في باتريك لم أشعر بتعب قط. أما أنتِ فكنتِ كابوسًا؛ إذ كنتِ دائمًا ما تضربين بطني في منتصف الليل وأنا أُريد أن أنام»)، وعندما تشكو إيلي من أنها ليست على ما يُرام، كانت تصِف لها نيكول بعض الأطعمة أو الأنشطة الرياضية التي ساعدتها كثيرًا عندما كانت تمرُّ بنفس الحالة.
كانت آخِر مرة زارت فيها إيلي أمَّها قبل شهرَين من الموعد الذي تتوقَّع فيه الولادة. وبعد هذا بأسبوعٍ انتقلت نيكول إلى زنزانتها الجديدة ولم تتكلَّم مع أي إنسانٍ منذ ذلك الحين. بل إن الآليَّيْن الأبكمَين اللذَين يرعيانها لم تَصدُر عنهما أيُّ إشارةٍ تُوحي بأنهما يسمعان ما تطرحه من أسئلة. وذات مرةٍ انتابتها نوبة استياء فصاحت في التياسو التي كانت تُحمِّمها أسبوعيًّا قائلةً: «ألا تفهمين؟ يُفترَض أن تكون ابنتي قد وُلِدت، أنجبت حفيدتي، في وقتٍ ما في الأسبوع الماضي. وأريد الاطمئنان عليهما.»
كانت نيكول دائمًا ما يُسمَح لها بالقراءة في الزنزانات السابقة. وكانوا يُحضرون لها من المكتبة أقراصًا مُسجَّلًا عليها كتُب كلما طلبت ذلك، وبهذا كانت تمرُّ الأيام التي تفصل بين زيارةٍ وأخرى بسرعةٍ نسبيًّا. أعادت نيكول قراءة كل الروايات التاريخية التي كتبَها والدُها تقريبًا وبعض القصائد والكتب التاريخية، إضافةً إلى بعض كتُب الطب الأكثر إثارة. وكان أكثر ما بهر نيكول هو أوجُه الشبَه بين حياتها وحياتَي بطلتَي طفولتها جان دارك وإليانور الأكويتينية. وكانت عندما تُريد أن تشحذ قوَّتها تُفكر كيف أنهما لم تدعا توجهاتهما الأساسية تتغير رغم قضاء مُدَدٍ طويلة وصعبة في السجن.
وبعد أن نُقِلت إلى تلك الزنزانة الجديدة ولم تُعِد الجارسيا التي تخدمها جهازَ القارئ الإلكتروني الخاص بها مع مُتعلقاتها الشخصية، ظنَّت في البداية أن خطأً بسيطًا قد وقع. لكنها أدركت أنها حُرِمت من حق القراءة بعدما طلبته عدة مراتٍ ولم تحصُل عليه.
كان الوقت يمر على نيكول ببطءٍ شديد في زنزانتها الجديدة. فكانت تتمشَّى ببطءٍ عدة ساعات يوميًّا في أنحاء الزنزانة محاولةً أن تحافظ على نشاط عقلها وجسدها. وحاولت أن تخطط لجلسات المشي هذه بحيث توجِّه عقلها فيها إلى التفكير في مفاهيم أو أفكار فلسفية عامة وتُبعده عن التفكير في أسرتها؛ إذ كانت لا تستطيع أن تمنع التفكير في أُسرتها من أن يزيد من حدَّة شعورها بالوحدة والاكتئاب. وفي نهاية هذه الجلسات، كانت غالبًا ما تُركز على حدثٍ وقع في حياتها في الماضي، وتُحاول أن تستخلِص منه فهمًا أو معنًى جديدًا.
وفي إحدى هذه الجلسات، تذكَّرت نيكول بوضوحٍ سلسلة أحداثٍ وقعت عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. في ذلك الوقت كانت هي ووالدها مُستقِرَّيْن في بوفوا، وكان أداؤها في المدرسة رائعًا. ثم قرَّرت أن تشترك في المسابقة القومية لاختيار ثلاث فتيات يلعبن دور جان دارك في مجموعةٍ من المهرجانات التي ستُقام لتُحيي ذكرى مرور سبعمائة وخمسين عامًا على استشهاد هذه العذراء في مدينة روان. انهمكت نيكول في المسابقة بحماسٍ وإصرار أثارا سعادة والدها وقلقَه. وبعد أن فازت نيكول في المسابقة الإقليمية التي أُقيمت في تور أوقف والدها العمل في رواياته ستة أسابيع ليُساعد ابنتَه الحبيبة في الاستعداد للمسابقات النهائية التي تُعقد على مستوى الدولة في روان.
حازت نيكول المكانة الأولى في الأجزاء المُتعلقة بشقَّي الذكاء والقدرات الرياضية من المسابقة. بل إنها أحرزت درجاتٍ عاليةً جدًّا في التقييمات المتعلقة بالتمثيل. وكانت متأكدة هي ووالدها من أنهم سيختارونها هي. لكن عندما أُعلنت أسماء الفائزات، كانت نيكول في المركز الثاني.
قالت نيكول لنفسها وهي تسير في زنزانتها في عدن الجديدة: ظللتُ سنواتٍ أعتقد أنني فشلت. ولم ألتفت إلى ما قالَه والدي عن أن فرنسا ليست مُستعدَّةً بعدُ لترى جان دارك سوداء. إذ كان راسخًا في ذهني أنني فاشلة. وتحطمتُ تمامًا. ولم أستعِدْ ثقتي بنفسي إلى أن جاءت الأولمبياد، لكن بعدها بأيامٍ قليلة تسبَّب هنري في أذيَّتي نفسيًّا ثانية.
وأضافت بينها وبين نفسها: كان الثمن باهظًا. فقد ظللتُ منغلقةً على نفسي سنواتٍ بسبب افتقاري إلى الثقة بالذات. ولم أرضَ عن نفسي إلَّا بعد ذلك بكثير. وعندها فقط أصبحت قادرةً على مدِّ يدِ العون للآخرين. توقفتْ لحظات. ثم عادت تتساءل: لماذا يمرُّ الكثير منَّا بنفس التجارب؟ ولماذا يتَّسِم الشباب بكل هذه الأنانية، ولماذا يجِب علينا أن نُحقق ذاتنا أولًا لنُدرك أن معنى الحياة أكبر من هذا بكثير؟
•••
شكَّت نيكول في أنَّ تغييرًا سيطرأ على روتين حياتها عندما أضافت الجارسيا، التي تُحضر لها الطعام دائمًا، إلى الغداء خبزًا طازجًا والقليل من ثمار الجزر. وبعد هذا بيومَين جاءت التياسو إلى زنزانتها بحوض استحمامٍ محمول وفرشاة شعر وبعض أدوات الزينة ومرآة وزجاجة عطر صغيرة. فأخذت نيكول حمَّامًا طويلًا فاخرًا وشعرت بالانتعاش لأول مرةٍ منذ شهور. وبينما كانت الآلية تأخُذ حوض الاستحمام الخشبي وتستعدُّ للرحيل، ناولتها رسالةً مكتوبًا فيها: «سيزورك شخص في صباح الغد.»
لم يغمض لنيكول جَفن. وفي الصباح تحدَّثت مثل الفتيات الصغيرات إلى صديقها السنجاب حول ما تُعلِّقه من آمالٍ على المقابلة القادمة وما يعتمل فيها من مخاوف منها. ظلَّت تُولِي وجهها وشعرها كثيرًا من العناية قبل أن تُقرِّر أخيرًا أنه لا أمَل فيهما. ومرَّ الوقت ببطء شديد.
أخيرًا، قبل الغداء مباشرةً سمعت صوتَ خُطى إنسان يسير في الممرِّ المؤدي إلى زنزانتها. فاندفعت إلى الأمام في ترقُّب. وصاحت: «كيتي»، عندما رأتها سائرة في الممر الأخير.
قالت كيتي وهي تفتح الباب وتدخل الزنزانة: «كيف حالُكِ يا أمي؟» تعانقتا لعدة ثوانٍ. ولم تُحاول نيكول منع دموعها من أن تنهمر.
جلستا على سرير نيكول، فهو قطعة الأثاث الوحيدة في الزنزانة، ودار بينهما حديث ودِّي حول أحوال الأسرة عدة دقائق. أخبرت كيتي نيكول أنها رُزِقت بحفيدة (قالت كيتي: «اسمها نيكول دي جاردان تيرنر. يجب أن يمنحك هذا سعادة غامرة.») وأخرجت من حقيبتِها نحو عشرين صورة. كان من بين تلك الصورِ صورٌ التُقِطت مؤخرًا للطفلة مع والدَيها، وصور لإيلي وبينجي معًا في حديقةٍ ما، وصورة لباتريك مرتديًا زيًّا رسميًّا، وصورتين لكيتي مُرتدية ملابس رسمية. تأمَّلتها نيكول واحدةً تلوَ الأخرى وعيناها تمتلئان بالدموع مرةً تلوَ الأخرى. وكثيرًا ما قالت: «آه يا كيتي.»
عندما انتهت، شكرت ابنتها كثيرًا على إحضار الصور. فردَّت عليها وهي تقف وتتَّجِه نحو النافذة: «يمكنكِ الاحتفاظُ بها يا أمي.» ثم فتحت حقيبتها وأخرجت منها سجائر وقداحة.
قالت نيكول بتردُّد: «حبيبتي، هل من المُمكن ألا تُدخِّني هنا؟ فالتهوية شديدة السوء. وسأظل أسابيع أشمُّ رائحة السجائر.»
ظلَّت كيتي تنظر إلى أُمِّها عدة ثوانٍ ثم أعادت سجائرها وقداحتها إلى حقيبتها. وفي هذه اللحظة، وصل اثنتان من الجارسيا إلى الزنزانة حامِلَين منضدةً وكرسيَّين.
سألت نيكول: «ما هذا؟»
ابتسمت كيتي. وقالت: «سنتناول الغداء معًا. طلبت إعداد وجبةٍ خاصة بهذه المناسبة؛ دجاج بحساء عيش الغراب والخمر.»
كانت رائحةُ الطعام رائعة، وسرعان ما حملته إلى الزنزانة جارسيا أخرى ووضعته بجوار أطباق صيني وأدوات طعام فضية على منضدةٍ مُغطاة بمفرش. بل إنه كانت هناك زجاجة من الخمر وكأسان من البلور.
كان صعبًا على نيكول أن تلتزم بآداب الطعام. فقد كان الدجاج لذيذًا للغاية، وعيش الغراب طريًّا جدًّا، فتناولت غداءها دون أن تنبس ببنت شفة. وأحيانًا عندما كانت تتناول رشفة من الخمر كانت تُطلِق صوتَ استحسان أو تقول «رائع»، لكن فيما عدا هذا ظلَّت صامتة حتى أتت على طبقها بالكامل.
أما كيتي التي أصبحت لا تتناول إلا ما يسدُّ رمقَها، فأكلت قليلًا من الطعام وأخذت تنظر إلى أمِّها. وعندما فرغت نيكول من طعامها نادت كيتي الجارسيا لتأخذ الأطباق وتُحضر قهوة. لم تتناول نيكول قدحًا جيدًا من القهوة منذ حوالي عامَين.
بعد أن شكرت نيكول كيتي على الطعام قالت بابتسامة ودودة: «وأنت يا كيتي، كيف حالك؟ كيف تعيشين حياتك؟»
أطلقت كيتي ضحكة بذيئة. ثم قالت: «أقوم بنفس العمل اللعين الذي كنتُ أقوم به. أصبحت الآن المديرة المسئولة عن الترفيه في منتجع فيجاس بأكمله … إنني أضع الجداول لكل ما يحدث في النوادي الليلية … والعمل على خير ما يرام رغم …» استدركت كيتي بعد أن تذكَّرت أن أمَّها لا تعرف شيئًا عن الحرب الدائرة في المنطقة السكنية الثانية.
سألت نيكول بلباقة: «وهل وجدتِ رجلًا يُقدِّر جميع قدراتك؟»
ردَّت كيتي: «لم أجد من يُقدرها ويبقى معي.» شعرت كيتي بالحرج من إجابتها، وفجأةً ظهر عليها الانزعاج. وقالت وهي تَميل إلى الجانب الآخر من المنضدة: «اسمعي يا أمي، لم آتِ إلى هنا لأتحدَّث عن حياتي العاطفية … لديَّ عرض لك، بل لنَقُل لدى الأسرة عرض لك نؤيده جميعًا.»
نظرت نيكول إلى ابنتها في عبوسٍ ينمُّ عن الحيرة.
وعندها، لاحظت لأول مرةٍ أن العمر تقدَّم بكيتي كثيرًا في هاتَين السنتَين اللتَين مرَّتا منذ آخِر مرة رأتها فيها. قالت نيكول: «لستُ أفهم. أي عرض؟»
«حسنًا، كما تعلَمِين، الحكومة كانت تُعِدُّ قضية ضدك منذ مدة. وهي الآن على استعدادٍ لرفعها للمحكمة. وبالطبع سيتهمونك بالعصيان، وهذه جريمة عقوبتها الإعدام دون أيِّ فرصةٍ لتخفيف العقوبة. وقد أخبرَنا النائب العام أن هناك أدلةً قوية ضدك، وأنك ستُدانين حتمًا. ومع هذا، ونظرًا إلى الخدمات التي سبق أن قدَّمتِها للمُستعمرة فإنك إنِ اعترفتِ بأنك مُذنبة بتهمةٍ أقلَّ هي العصيان غير المُتعمَّد فإنه سيُسقِط …»
قالت نيكول بحزم: «لكنني لم أرتكِب أيَّ جريمة.»
ردَّت كيتي وقد بدأ نفاد الصبر يظهر في نبرتها: «أعلم يا أمي. ولكننا، إيلي وباتريك وأنا، نتفق جميعًا على أنَّ هناك احتمالًا كبيرًا جدًّا بأن يصدُر بحقك حكم يُدينك. وقد وعدَنا النائب العام بأن ينقلك فورًا إلى مكانٍ أفضل، وبأن يسمح لك بقضاء بعض الأوقات مع أفراد أُسرتك، وفيهم حفيدتك، وللحصول على هذا ما عليك إلا الاعتراف بالتهمة المُخفَّفة … بل إنه ألمح إلى أنه قد يتوسَّط لدى السلطات ليسمح لبينجي بأن يعيش مع روبرت وإيلي …»
صارت نيكول في حيرةٍ من أمرها. وقالت: «وجميعكم تعتقدون أنه يجِب عليَّ أن أقبل هذه الصفقة وأعترف بالذنب، مع أنَّني ظللتُ أؤكد أنني بريئة منذُ أن اعتقلت؟»
أومأت كيتي برأسها مؤيدةً ما قالته نيكول. وقالت: «لا نريدك أن تموتي. وخاصةً أنه لا معنى لموتك.»
ردَّدت نيكول ما قالته كيتي: «لا معنى لموتي.» وفجأة برقت عيناها. وقالت: «تظنون أنه لا معنى لموتي!» دفعت الكرسي بعيدًا عن المنضدة ووقفت ثم أخذت تقطع زنزانتها جيئةً وذهابًا. وقالت مُوجِّهةً حديثها إلى نفسها أكثر مما تُوجِّهه إلى كيتي: «سأموت من أجل العدل، على الأقل أمام نفسي وإن لم تستطِع نفسٌ واحدة في الكون أن تفهم هذا.»
قاطعتها كيتي قائلةً: «ولكن يا أمي ما الذي سنَجنيه من هذا؟ سيُحرَم أولادك وحفيدتك من صُحبتك إلى الأبد، وسيظلُّ بينجي حبيسَ هذه المؤسسة البغيضة …»
قاطعتها نيكول وقد بدأ صوتها يرتفع: «آه هذا هو لبُّ الصفقة، إنها صورة من العقد الذي أبرمَه فاوست مع الشيطان، غير أنها أكثر إغواءً … تخلَّيْ عن مبادئك يا نيكول واعترفي بجُرمك مع أنك لم ترتكبي أي خطأ. ونحن لا نطلُب منك أن تبيعي روحك مقابل مكافأةٍ دنيوية شخصية. كلَّا فهذا يسهل رفضه … وإنما نطلُب منك الموافقة على هذه الصفقة لأن أُسرتك ستستفيد منها. وأي إغراءٍ يمكن أن يُذهِل عقل أيِّ أمٍّ أكثر من هذا؟»
كانت عينا نيكول تنبض بالانفعال. أما كيتي فمدَّت يدَيها في حقيبتها وأخرجت سيجارة وأشعلتها بيد مرتعشة.
واصلت نيكول حديثها قائلة: «ومن هذا الذي أتى إليَّ بهذا الاقتراح؟» ارتفع صوتها إلى حدِّ الصياح وهي تقول: «من أحضر لي الطعام اللذيذ والخمر وصور أفراد أُسرتي حتى يُمهد لذبحي بسكينٍ أشحذها بنفسي، سكين ستقتلني بألَم أكثر من ألَم الكرسي الكهربائي؟ عجبًا، إنها ابنتي، فلذة كبدي.»
فجأة، اتجهت نيكول إلى الأمام وأمسكت بكيتي. وقالت وهي تهزُّ ابنتها المذعورة: «لا تلعبي دور يهوذا الخائن لمصلحتهم يا كيتي. فأنت أفضلُ من هذا. في المُستقبل، عندما يُدينونني استنادًا إلى هذه التُّهم المُلفقة ويُعدمونني ستُقدِّرين ما أفعله.»
حرَّرت كيتي نفسها من قبضة أمِّها ورجعت ببطءٍ إلى الوراء. وأخذت نفسًا من سيجارتها. ثم قالت بعد دقيقة: «هذا هراء يا أمي. مجرد هراء. وكعادتك تلعبين دور الملاك … اسمعي، أتيتُ إلى هنا لأُساعدك، لأمنحك فرصة في الحياة. لماذا لا تستمعين إلى صوتٍ غير صوت نفسك مرةً واحدة في حياتك؟»
حدقت نيكول في كيتي عدة ثوان. وصار صوتها أهدأ عندما تحدثت ثانيةً. وقالت: «استمعت إليك يا كيتي، ولم يُعجبني ما سمعت. وكنتُ أراقبك بعيني … لا أعتقد إطلاقًا أنك أتيتِ اليوم لتُساعديني. فهذا لا يتوافق مع ما لمستُه في شخصيتك في هذه السنوات الأخيرة. لا بدَّ أن في إتمام الصفقة نفعًا لك.
ولا أعتقد أنك تُمثِّلين إيلي وباتريك في أيِّ شيء. فلو كان هذا صحيحًا لأتيا معك. لا بد أن أعترِف أنَّني في بادئ الأمر كنتُ في حيرةٍ من أمري، وشعرتُ بأنني أجعل جميع أبنائي يتألَّمون ألمًا شديدًا. ولكن في هذه الدقائق الأخيرة كُشِفَ لي الغطاء عما يحدُث هنا … كيتي، كيتي يا حبيبتي …»
صاحت كيتي التي كانت عيناها تفيضان بالدموع عندما اقتربت منها نيكول: «لا تلمسيني ثانيةً.» وأضافت: «ووفري عليَّ شفقتك النابعة من إيمانك بأنك على حقٍّ والآخرين على باطل.»
ساد الهدوءُ الزنزانةَ قليلًا. فأنهت كيتي سيجارتها وحاولت أن تحتفظ بهدوئها. ثم قالت في النهاية: «اسمعي، لا آبَه برأيك فيَّ، فهذا ليس مُهمًّا، ولكن لماذا يا أمي، لماذا لا تفكرين في باتريك وإيلي وحتى نيكول الرضيعة؟ هل القيام بدور القديسة مُهم جدًّا لك حتى إنك لا تأبَهين إنْ كان مقابل قيامك به هو معاناتهم؟»
ردَّت عليها نيكول: «سيفهمون في المستقبل.»
فقالت كيتي بغضب: «ستموتين في المُستقبل، في المستقبل القريب … هل تُدركين أنه في اللحظة التي أخرج فيها من هنا وأخبر ناكامورا بأنك لن تُبرمي معه الصفقة سيُحدَّد موعد محاكمتك؟ وهل تُدركين أنه لن يكون أمامك أي فرصة على الإطلاق، لن يكون أمامك أي فرصة نهائيًّا؟»
ردَّت نيكول: «لن يُمكنك أن تُخيفيني يا كيتي.»
فقالت كيتي: «لن يُمكنني أن أخيفك، ولن يُمكنني أن أُثير مشاعرك، ولن يُمكنني أن أخاطب عقلك. فأنت ككل القديسين الصالحين، لا تستمِعين إلا إلى نفسك!»
أخذت كيتي نفسًا عميقًا. وقالت: «قُضِيَ الأمر إذن … الوداع يا أمي.» ورغمًا عنها تسللت الدموع إلى عينَيها، رغمًا عنها.
أما نيكول فأجهشت بالبكاء. وقالت: «الوداع يا كيتي. أُحبك.»
١٠
«يمكن للدفاع أن يتفضل بإلقاء المرافعة الختامية.»
قامت نيكول من كرسيها ودارت حول المنضدة. فأدهشها أنها تشعر بتعبٍ شديد. من الواضح أن السنتَين اللتَين قضتهُما في السجن أتيتا على عنفوانها.
سارت نيكول بخطواتٍ وئيدة متوجهةً نحو هيئة المُحلَّفين المكوَّنة من أربعة رجال وامرأتين. كانت المرأة التي تجلس في الصف الأمامي والتي تُدعى كارين ستولز من سويسرا. وكانت نيكول تعرفها جيدًا؛ إذ كانت تملك هي وزوجها مخبزًا على ناصية الشارع الذي يقع فيه منزل آل ويكفيلد في بوفوا ويديرانه.
وقفت نيكول أمام المُحلَّفين مباشرةً وقالت بهدوء: «مرحبًا مرة أخرى يا كارين. كيف حال جون وماري؟ لا بدَّ أنهما صارا في مرحلة المراهقة الآن.» كان المُحلَّفون يجلسون في صفَّين بكل منهما ثلاثة مقاعد.
تحركت كارين في مقعدها بارتباك. وأجابت نيكول بصوتٍ خفيض: «هما بخير يا نيكول.»
ابتسمت نيكول. وقالت: «أما زلتِ تخبزين فطائر القرفة الرائعة صباح أيام الأحد؟»
تردَّد صدى صوت المطرقة في أنحاء قاعة المحكمة. وقال القاضي ناكامورا: «يا سيدة نيكول، ليس هذا وقت الأحاديث التافهة. فالوقت المُخصَّص للمُرافعة الختامية لا يزيد على خمس دقائق، وقد بدأت تمرُّ من الآن.»
تجاهلت نيكول القاضي. ومالت فوق الحاجز الذي يفصل بينها وبين المُحلَّفين مُركِّزةً عينَيها على العقد الرائع الذي يُزين عنق كارين ستولز. وهمست قائلةً: «المجوهرات رائعة. ولكن كان يُمكنهم أن يدفعوا أكثر من هذا، أكثر بكثير.»
مرةً أخرى علا صوت المطرقة. وأسرع حارسان بالاقتراب من نيكول، لكنها كانت قد ابتعدت عن كارين قبل ذلك. ثم قالت: «السيدات والسادة أعضاء هيئة المُحلَّفين، طوال هذا الأسبوع وأنتم تستمِعون إلى المُدعي العام وهو يؤكد مرارًا وتكرارًا أنني حرضتُ على معارضة الحكومة الشرعية لعدن الجديدة. واتَّهموني بالتحريض على الفتنة استنادًا إلى أفعالٍ زعموا أنني قمت بها. وعليكم الآن أن تُقرروا ما إذا كنتُ مذنبة أم لا على ضوء الأدلة التي قُدِّمت في هذه المحاكمة. فأرجوكم تذكَّروا، وأنتم تتشاورون، أن التحريض على الفتنة من التُّهم التي يحكَم فيها بالإعدام، والحكم بالإدانة يحمِل معه عقوبة إعدام لا تحتمِل التخفيف.
وفي المرافعة الختامية أودُّ أن أتناول بالتحليل الدقيق العناصر التي بَنى عليها المُدعي العام القضيةَ. إن الشهادات التي أدلى بها الشهود في اليوم الأول والتي لا يمتُّ أيٌّ منها بصِلةٍ إلى التُّهم الموجهة إليَّ، والتي أعتقد أن القاضي ناكامورا هو من سمح بها في انتهاكٍ صارخٍ لمَلاحق قانون المستعمرة التي تتناول قواعد الإدلاء بالشهادة أثناء عقد محاكمات الجرائم التي تُوجب الإعدام …»
قاطعها القاضي ناكامورا بغضبٍ قائلًا: «أخبرتُك يا سيدة نيكول من قبل هذا الأسبوع أنني لن أسمح بهذه التعليقات المُهينة في قاعة المحكمة. وإذا ما تفوَّهتِ بتعليقٍ آخر كهذا فسأوجِّه إليك تهمة ازدراء المحكمة وسأُنهي المرافعة الختامية.»
واصلت نيكول حديثها دون أن ترمق القاضي ولو بنظرة. فقالت: «طوال ذلك اليوم حاول المُدعي العام أن يُثبت أن هناك شكوكًا مثارةً حول أخلاقياتي من الناحية الجنسية، وأن هذا قد يجعلني أشارك في مؤامرةٍ سياسية. أيها السيدات والسادة، سيُسعدني أن أناقش معكم في جلسةٍ سرية الظروفَ الخاصة التي حملتُ فيها بكلِّ ابنٍ من أبنائي الستة. ولكن حياتي الجنسية — في الماضي والحاضر بل وفي المستقبل — لا تمتُّ بأيِّ صلةٍ إلى سياق هذه المحاكمة. وبهذا فإن الشهادات التي أدلَوا بها في اليوم الأول لا أهمية لها على الإطلاق، إلا أنها قد تكون ذات قيمة ترفيهية.»
تعالت بعض الضحكات المكتومة في القاعة المزدحِمة، لكن الحراس سرعان ما أسكتوا الحشد. وواصلت نيكول حديثها قائلةً: «مجموعة شهود الادِّعاء التالية ظلَّت ساعاتٍ طويلة تتهم زوجي بالقيام بأنشطةٍ تحريضية. وأنا أُقر، بلا أدنى حرج، بأنني متزوِّجة من ريتشارد ويكفيلد. لكن كونه مُذنبًا أم لا، غير ذي أهمية في سياق هذه المحاكمة. إذ لن ينبني الحكم الذي ستُصدرونه إلَّا على الأدلة التي تُثبت عليَّ أنا تهمة التحريض على الفتنة.
لقد قال المدعي العام إن تحريضي على الفتنة بدأ باشتراكي في الفيديو الذي نتج عنه تأسيس هذه المستعمرة. وأنا أعترف بأنني ساعدتُ بالفعل في إعداد ذلك الفيديو الذي بثَّته راما إلى الأرض، ولكنني أُنكر بشدة أنني تآمرتُ من البداية مع الفضائيين ضدَّ إخواني من البشر، أو أنني دبرتُ لهم المكائد بأي نحوٍ مع مَن بنوا هذه السفينة.
لقد شاركتُ في إعداد هذا الفيديو، كما قلتُ أمس عندما سمحتُ للمدعي العام باستجوابي، لأنني شعرتُ أنه لم يكن أمامي خيار. فقد كنتُ أنا وأُسرتي تحت رحمة ذكاءٍ وقوةٍ بلغا حدًّا فاق ما خطر على قلب أيٍّ منَّا. وقد خفنا خوفًا عظيمًا من أن يُوقعوا بنا العقاب إن لم نوافق على ما طلبوه من مساعدتهم في إعداد هذا الفيديو.»
عادت نيكول إلى منضدة الدفاع لحظاتٍ وشربت قليلًا من المياه. ثم عادت تُواجه هيئة المحلَّفين مرةً أخرى. وقالت: «بهذا لا يبقى من الأدلة القوية التي قد تستندون إليها لإدانتي بالتحريض على الفتنة سوى دليلَين مُحتملَين هما: شهادة ابنتي كيتي، وذلك التسجيل الغريب الذي يحتوي على مجموعةٍ غير مترابطة من تعليقات أدليتُ بها إلى أفرادٍ آخرين من أُسرتي وأنا في السجن، والذي استمعتم إليه صباح أمس.
إنكم جميعًا على علمٍ كبير بمدى سهولة التلاعُب في مثل هذه التسجيلات وتغييرها. وقد اعترف فنِّيَا الصوت الرئيسيَّان أمس على منصة الشهود أنهما استمعا إلى حوارات دارت بيني وبين أبنائي استغرقت مئات الساعات قبل أن يَخرجا بهذا «الدليل الدامغ» الذي لا يستغرق إلا ثلاثين دقيقة، وأنهما لم يأخُذا من كل حوارٍ سوى ما لا يزيد على «ثماني عشرة ثانية»، وعلى هذا فإنني إن قلتُ إن التعليقات الواردة على لساني في هذه التسجيلات قُدِّمت خارج سياقها فإن ما أقوله أقلُّ مما تقتضيه الحقيقة بكثير.
أما فيما يخصُّ شهادة ابنتي كيتي ويكفيلد فلا يسعني إلَّا أن أقول بأسفٍ شديد إنها كذبت أكثر من مرةٍ في ملاحظاتها الأصلية. إذ إنني ليس لي أيُّ علمٍ بالأنشطة التي يقوم بها زوجي ريتشارد والتي تزعمون أنها غير قانونية، وقطعًا، لم أدعمه في القيام بتلك الأنشطة.
ولعلَّكم تتذكَّرون أن ابنتي كيتي، لدى استجوابي لها، خلطت بين الوقائع، وفي النهاية نفت شهادتها السابقة قبل أن تنهار على منصة الشهود. وقد أخبركم القاضي أن صحة ابنتي العقلية تدهورت في المدة الأخيرة وأنه عليكم أن تتجاهلوا ما قالتْه تحت وطأة الضغط العاطفي الذي صحب استجوابي لها. وأنا أرجوكم أن تتذكَّروا كل كلمةٍ تفوَّهَت بها كيتي، ليس فقط عندما كان المُدعي العام يسألها ولكن أيضًا عندما كنتُ أحاول أن أعرف منها بالتحديد التواريخ والأماكن التي وقع فيها ما نسبَتْه إليَّ من تحريضٍ على الفتنة.»
اقتربت نيكول من المُحلَّفين مرةً أخيرة وحرصت على التواصُل البصري مع كلٍّ منهم. ثم تابعت حديثها قائلةً: «في النهاية عليكم أن تحكموا أين هي الحقيقة في هذه القضية. وأنا أتوجَّه إليكم الآن بقلبٍ مكلوم لا يستطيع أن يُصدق، حتى وأنا في موقفي هذا، الأحداثَ التي أدت إلى اتهامي بهذه الجرائم الخطيرة. فقد خدمتُ المستعمرة والجنس البشري. ولم أرتكب أيًّا من الجرائم التي اتهموني بها. وإن القوة أو الذكاء الموجود في هذا الكون المُبهر ليُقِرَّنَّ بهذه الحقيقة بغضِّ النظر عما تُسفر عنه هذه المحاكمة.»
•••
يخبو الضوء الموجود في الخارج بسرعة. استندت نيكول متفكرةً إلى حائط زنزانتها وهي تتساءل ما إذا كانت هذه آخر ليلةٍ في حياتها. فارتعد جسدُها رغمًا عنها. فمنذ أن أُعلِن الحُكم ونيكول تخلد إلى النوم كل ليلة منتظرةً أن تموت في اليوم الذي يليها.
أحضرت الجارسيا لها العشاء بعد أن حلَّ الظلام مباشرةً. صار الطعام أفضل كثيرًا في الأيام القليلة الأخيرة. وبينما كانت نيكول تأكل سمكةً مشوية ببطءٍ أخذت تتأمَّل السنوات الخمس التي مرت منذ أن قابلت هي وأسرتها أول مجموعة استكشاف من بينتا. وسألت نفسها: ما الخطأ الذي وقع؟ ما الأخطاء الأساسية التي ارتكبناها؟
وصار بوسعها أن تسمع صوت ريتشارد يملأ أذنَيها. فقد قال في نهاية السنة الأولى إن عدن الجديدة أفضل ممَّا يَستحقُّه البشر، مدفوعًا في قوله هذا بتشاؤمه وعدم ثقتِه في السلوك البشري. وأضاف: «في النهاية سنُخرِّبها كما خرَّبنا الأرض. فما نحمله من موروثات — جميع الموروثات، من نزعة إقليمية وعدوان وسلوك حيواني — أقوى من أن يهذبها أي تعليم أو حكمة. انظري إلى بطَلَي أوتول كليهما: المسيح وذلك الشاب الإيطالي المدعو القديس مايكل السييني. لقد قُتِلا لأنهما قالا إنه على البشر أن يُحاولوا أن يكونوا أكثر من مجرد قِردة ماهرة.»
حدثت نيكول نفسها قائلةً: ولكن هنا في عدن الجديدة كانت فرصة العيش في عالمٍ أفضل أكبرَ بكثير. فمُتطلبات الحياة الأساسية متوفرة. وتُوجَد حولنا في كل مكان أدلةٌ قاطعة على أن في الكون ذكاءً يفوق ذكاءنا بمراحل. لذا، كان يجب أن تتمخَّض عن هذا بيئة …
أنهت سمَكَتها ومدَّت يدَها إلى حلوى بودينج الشوكولاتة الصغيرة واضعةً إياها أمامها. وذكرتها الحلوى بمدى حُب ريتشارد للشوكولاتة فابتسمت لنفسها، وقالت في نفسها: «أفتقده كثيرًا. وأكثر ما أفتقده فيه هو حواراته ونفاذ بصيرته.»
فزعت نيكول عندما سمعت وقع أقدامٍ متوجهة نحو زنزانتها. وسرت رعشة خوف في جسدها. كان القادمان شابَّين يحمل كل منهما مصباحًا. وكانا يرتديان زيَّ الشرطة التابعة لناكامورا.
دخل الرجلان الزنزانة بطريقةٍ رسمية للغاية. ولم يُقدِّما لها نفسيهما. وإنما أسرع أكبرهما — وهو في منتصف الثلاثينيات على الأرجح — بإخراج وثيقةٍ وبدأ يقرأها. فقال: «نيكول دي جاردان ويكفيلد، صدر حُكم يدينك بجريمة التحريض على الفتنة وستوقَّع عقوبة الإعدام عليك غدًا في تمام الساعة الثامنة صباحًا. سنُقدِّم لك الإفطار في الساعة السادسة والنصف، أي بعد بزوغ الخيط الأول من الفجر بعشر دقائق، ثم سنأخُذك إلى حجرة الإعدام في السابعة والنصف. وفي تمام السابعة وثمانٍ وخمسين دقيقة سنربطك في الكرسي الكهربائي، وبعدها بدقيقتَين سيسري التيار الكهربائي … هل من أسئلة؟»
كان قلب نيكول يدقُّ بسرعةٍ كادت تجعلها عاجزةً عن التنفُّس. فجاهدت لتُهدئ من روعها. كرر الشرطي سؤاله: «هل من أسئلة؟»
سألته نيكول وصوتها يتهدَّج: «ما اسمُك أيها الشاب؟»
أجابها بعد تردُّد نابع من الحيرة: «فرانتس.»
قالت نيكول: «واسم والدك؟»
رد عليها: «فرانتس باور.»
قالت نيكول محاولةً أن ترسم ابتسامةً على وجهها: «حسنًا يا فرانتس باور. هل يمكنك أن تُخبرني كم سأستغرق من الوقت قبل أن أموت؟ أعني بعد أن يسري التيار الكهربائي بالطبع.»
قال بشيءٍ من الارتباك: «لا أعرف بالضبط. ستفقدِين الوعي تقريبًا على الفور، في ثانيتَين فقط. لكنني لا أعرف كم …»
قالت نيكول وقد بدأت تشعر بالوهن: «أشكرك. هل يُمكنكما أن تنصرفا الآن، رجاءً؟ أودُّ أن أختلي بنفسي.» فتح الرجلان باب الزنزانة. فتابعت نيكول حديثها قائلةً: «آه، بالمناسبة، هل يُمكنكما أن تتركًا المصباح؟ وورقةً وقلمًا أو حتى كمبيوتر محمولًا؟»
هز فرانتس باور رأسه نفيًا. وقال: «آسِف. لا يمكننا هذا.»
أشارت إليه نيكول بأن ينصرف، ثم سارت إلى الجانب البعيد من زنزانتها. وقالت لنفسها وهي تتنفَّس ببطء لتستجمع قواها: خطابان. لا أريد سوى كتابة خطابَين. خطاب لكيتي وآخر لريتشارد. فقد سويتُ ما بيني وبين الجميع إلا هما.
بعد أن رحل الشرطيَّان تذكرت نيكول الساعات الطويلة التي قضتها في الحفرة في مركبة راما الثانية منذ سنوات عديدة، ذلك الوقت الذي كانت تتوقَّع فيه أن تموت جوعًا في كل لحظة. حينها، كانت تقضي ما كانت تظنُّ أنه أيامها الأخيرة في الإبحار في اللحظات السعيدة التي سبق أن عاشتها. فقالت لنفسها: هذا ليس ضروريًّا الآن. فلا يُوجَد شيء حدث لي في الماضي لم أستنزفه تأمُّلًا بالفعل. وهذا هو النفع الذي عاد به عليَّ قضاءُ عامَين في السجن.
اندهشت نيكول عندما اكتشفت أن عجزها عن كتابة هذين الخطابَين الأخيرين يثير غضبها، فقالت في نفسها: سأحدثهم في هذا مرة أخرى في الصباح. فهم سيسمحون لي بكتابة الخطابَين إن أحدثتُ جلبة كافية. ابتسمت نيكول رغمًا عنها. وظلَّت تُردد بصوت مرتفع (في إشارة إلى أشهر أبيات ديلان توماس عند وفاة والده): «إياك أن ترحل في هدوء …»
فجأة، شعرت بنبضات قلبها ترتفع مرة أخرى. وسبحت في خيالها فرأت كرسيًّا كهربائيًّا في حجرة مظلمة. ورأت نفسها تجلس فيه ورأسها محاط بخوذة غريبة. ثم بدأت الخوذة تتوهج ورأت نيكول نفسها تميل إلى الأمام فجأة.
قالت في نفسها: يا إلهي الحبيب، أيًّا ما كنتُ وأينما كنت! أرجوك أن تمنحني بعض الشجاعة الآن. فأنا خائفة للغاية.
جلست نيكول على سريرها في ظلامِ غرفتها. ولم يمضِ عليها سوى دقائق حتى شعرت بتحسُّن، بل شعرت بشيءٍ من الهدوء. ووجدت نفسها تتساءل عن طبيعة لحظة الموت. فقالت في نفسها: «أهي تُشبه النوم الذي لا يتبعه شيء؟ أم أن هناك شيئًا خاصًّا يحدث في تلك اللحظة الأخيرة، شيئًا لا يمكن لأي إنسان حي أن يعرفه أبدًا؟»
•••
كان هناك صوت يُنادي عليها من بعيد. تقلبت نيكول لكنها لم تستيقظ بالكامل. فناداها الصوت ثانيةً: «يا سيدة نيكول.»
جلست نيكول بسرعة في فراشها ظنًّا منها أن الفجر قد بزغ. وشعرت بالخوف يغزوها عندما أخبرها عقلها أنه لم يعُد أمامها في هذه الحياة سوى ساعتَين. قال الصوت: «يا سيدة نيكول، أنا هنا، خارج زنزانتك … أنا أمادو ديابا.»
فركت نيكول عينَيها واشرأبَّت لترى الهيئة الظاهرة في الظلام بجوار الباب. ثم سألت وهي تمشي ببطءٍ إلى الجانب الآخر من الحجرة: «من؟»
«أنا أمادو ديابا. لقد عاونتِ د. تيرنر منذ عامَين في إجراء عملية زراعة قلب لي.»
«ما الذي تفعله هنا يا أمادو؟ وكيف دخلت إلى هنا؟»
«جئت لأُحضر لك شيئًا. ورشوتُ كل من تلزم رشوته لفعل هذا. كان عليَّ أن أراك.»
مع أن الرجل كان لا يبعد عن نيكول سوى خمسة أمتار فإنها لم تستطع أن ترى سوى هيئته غير الواضحة في الظلام. كما أن عينَيها المتعبتَين كانتا تُضللانها. وعندما حاولت بأقصى ما لدَيها من قوة أن تركز، ظنَّت لحظة أن الزائر هو جدها الأكبر أومه. وسرت قشعريرة في جسدها.
في النهاية قالت نيكول: «حسنًا يا أمادو. ماذا أحضرت لي؟»
قال: «يجب أن أوضِّح لك الأمر أولًا. بل إن الأمر قد يظلُّ غير معقول حتى بعد التوضيح … أنا نفسي لا أستوعِبه تمامًا. كل ما أعرفه أنه كان عليَّ أن أُحضر ما لدي لك الليلة.»
صمتَ لحظة. وعندما لم تجد نيكول ما تُجيبه به، أخبرها بقصته بسرعة كبيرة. فقال: «في اليوم الذي تلا اختياري للانضمام إلى مستعمرة لوويل، عندما كنتُ لا أزال في لاجوس، تلقيتُ رسالة غريبة من جدَّتي السينوفوية قالت فيها إنها تُريدني أن أذهب إليها لأمر عاجل جدًّا. ذهبتُ إليها في أول فرصةٍ سنحت لي، وكان هذا بعد أسبوعين من تلقي الرسالة الأولى، وبعد أن تلقيتُ رسالة أخرى منها تؤكد أن زيارتي لها تُعَد مسألة حياة أو موت.
عندما وصلت إلى قريتها في ساحل العاج كنَّا في منتصف الليل. ورغم هذا فقد استيقظت وارتدت ملابسها على الفور. ثم قُمنا برحلة طويلة في غابات السافانا، وصحبنا في تلك الرحلة كاهن القرية. وعندما وصلنا إلى وجهتنا، وهي قرية تُسمى نيدوجو، كنت قد أرهقت.»
قاطعته نيكول مستوضحةً: «نيدوجو؟»
رد أمادو: «هذا صحيح. على أي حال، قابلنا هناك رجلًا عجوزًا غريبًا لا بد أنه كبير الكهنة أو شيء من هذا القبيل. ظلت جدتي وكاهن قريتها في نيدوجو، بينما قمت أنا وكبير الكهنة برحلة صعود شاقة إلى أعلى جبل قاحل قريب، ثم توجَّهنا إلى شاطئ بحيرة صغيرة. ووصلنا إلى هناك قُبَيل شروق الشمس. وعندما لامست أشعة الشمس الأولى سطح البحيرة، قال الرجل العجوز: «انظر. انظر في بحيرة الحكمة. ماذا ترى؟»»
«أخبرته أنني رأيتُ ثلاثين أو أربعين شيئًا يُشبه البطيخ في قاع البحيرة عند أحد جوانبها.» فقال مبتسمًا: «جيد. أنت من نبحث عنه.»
سألته: «ماذا تعني؟»
«لكنه لم يُجبني قط. سِرنا حول البحيرة بحيث اقتربنا من المكان الذي تغمر فيه المياهُ البطيخَ — الذي لم يعد بوسعنا أن نراه بعدما ارتفعت الشمس في السماء — ثم أخرج كبير الكهنة قارورة صغيرة. ووضعها في المياه ثم قام بتغطيتها وناولني إياها. ثم أعطاني حجرًا صغيرًا تُشبه هيئته وشكله الأشياء التي تُشبه البطيخ الموجود في قاع البحيرة.
قال لي: «هاتان هما أهم هديتَين ستحصل عليهما في حياتك.»
فقلت: «لماذا؟»
بعد هذا بثوانٍ قليلة نبضت عيناه بالانفعال واستغرقته نشوة، وأخذ يشدو بكلام سينوفوي موزون. وظل يرقص عدة دقائق، ثم فجأة قفز في مياه البحيرة الباردة ليسبح.
فصحت: «انتظر لحظة. ماذا أفعل بهديتيك؟»
قال: «خذهما معك أينما تذهب. ستعرف متى تستخدمهما.»»
شعرت نيكول أن صوت دقات قلبها مرتفع جدًّا حتى إن أمادو قادر على سماعها. مدت ذراعيها عبر قضبان الزنزانة ولمست كتفَه. وقالت: «وفي الليلة السابقة أخبرك صوت في حلم، أو لعلَّه لم يكن في النهاية حلمًا، أن تحضر لي القارورة والحجر الليلة.»
قال أمادو: «بالضبط.» وحل عليه الصمت. ثم قال: «كيف عرفت؟»
لم تُجبه نيكول. إذ لم تستطع أن تتحدث. فقد كان جسدها كله يرتعِد. وبعد دقيقة، عندما أحسَّت بالشيئين في يدَيها لم تستطع قدماها أن تحمِلاها، وظنَّت أنها ستسقط. شكرت أمادو مرتَين، وحثَّته على أن يرحل قبل أن يكتشفوا أمره.
مشت ببطءٍ إلى سريرها في الجانب المقابل من الزنزانة. وقالت في نفسها: هل هذا ممكن؟ وكيف يكون هذا ممكنًا؟ هل كان كل هذا معلومًا من البداية بطريقةٍ ما؟ أيُوجَد بطيخ منٍّ على الأرض؟ شعرت نيكول بأن جبلًا حطَّ على جسدها. وقالت لنفسها: لقد فقدتُ القدرة على السيطرة على نفسي، ولم أشرب من القارورة حتى الآن.
مجرد الإمساك بالقارورة والحجر جعل نيكول تتذكَّر بوضوح الرؤيا المبهرة التي رأتها وهي في قاع الحفرة في مركبة راما الثانية. ففتحت القارورة. وأخذت نفسَين عميقَين ثم ابتلعت محتوياتها بسرعة.
في البداية ظنَّت أن شيئًا لا يحدث. وبدا لها أن الظلام لا يزال يُغلفها. ولكن فجأة، تكونت كرة برتقالية هائلة في وسط الزنزانة. ثم انفجرت ناشرةً ألوانًا كثيرةً في الظلام. وتبع هذا تشكُّل كرة حمراء ثم كرة أرجوانية. وبينما كانت نيكول ترجع إلى الوراء تأثرًا بالانفجار الأرجواني سمعت ضحكةً عالية صدرت من خارج الشباك. فنظرت باتجاهها. وإذا بالزنزانة تختفي. وتجد نيكول نفسها في حقلٍ في الخارج.
كان الظلام قد حلَّ ولكنها كانت لا يزال بوسعها رؤية الملامح الأساسية للأشياء. سمعت الضحكة مرةً أخرى قادمة من بعيد. فنادى صوت بداخلها: أمادو. جرت نيكول عبر الحقل بسرعة خارقة. وحاولت اللحاق بالرجل. وبينما كانت تقترب منه تغيَّر وجهه. لم يعد الرجل هو أمادو على الإطلاق. وإنما صار أومه.
ضحك ثانية، فتوقفت نيكول. وناداها: «روناتا.» ظل وجهه يكبُر ويكبُر حتى بلغ حجم سيارة ثم حجم منزل. وكانت ضحكته عالية إلى حدٍّ كاد يصيبها بالصمم. ثم صار وجهه بالونًا ضخمًا يرتفع ويرتفع في سماء الليل المظلم. وضحك مرةً أخرى، ثم انفجر وجهه البالوني ممطرًا نيكول بالمياه. غطتها المياه. وغمرتها حتى صارت تسبح تحت سطحها. وعندما صعدت إلى السطح وجدت نفسها في بحيرةٍ بواحةٍ في ساحل العاج، تلك الواحة التي واجهت فيها اللبؤة أثناء انعقاد جمعية بورو السرية وهي في السابعة من عمرها. كانت نفس اللبؤة تتجول في المكان المحيط بالبركة. ووجدت نيكول نفسها تعود طفلةً صغيرةً مذعورةً.
قالت نيكول لنفسها: أريد أمي. وأخذت تشدو بأغنيةٍ من أغاني الأطفال قالت فيها: «هيا نامي واستريحي، أرجو أن يُبارك الربُّ نومك.» بدأت نيكول تمشي خارجةً من المياه. ولم تُضايقها اللبؤة. نظرت نيكول إلى اللبؤة مرةً أخرى فوجدت أن وجهها يتحول ليُصبح وجه أمها. جرت نيكول نحو أمها لتُعانقها. ولكنها تحولت فأصبحت هي نفسها لبؤة تتجوَّل على شاطئ بحيرة الواحة في وسط غابات السافانا الأفريقية.
أصبح في البحيرة ستة أفراد يسبحون، كلهم أطفال. وبينما كانت اللبؤة نيكول تُواصِل الشدو بالأغاني التي كتبها الشاعر برامس للأطفال، بدأ الأطفال يخرجون من البحيرة واحدًا تلو الآخر. كانت جنيفياف أول من خرج وتبعتها سيمون ثم كيتي ثم بينجي ثم باتريك ثم إيلي. ومرُّوا جميعًا بها مُتَّجهين نحو غابة السافانا. فجرت خلفهم.
كانت نيكول تجري على أرضٍ يُحيط بها مضمار عدوٍ في استاد مزدحم. عادت نيكول إلى هيئتها البشرية وصارت شابةً رياضية. أُعلِن عن قفزتها الأخيرة. وبينما هي تتوجَّه نحو حافة مضمار القفزة الثلاثية، اقترب منها قاضٍ ياباني. كان القاضي هو توشيو ناكامورا. قال لها وهو عابس: «ستُخالفين قواعد اللعبة.»
ظنت نيكول أنها تطير وهي تنطلِق بسرعة في الممر. ولمست الرقعة التي تقفز عندها بمهارةٍ مرتفعة في الهواء، ثم قامت بقفزةٍ متوازنة، مكَّنتها من أن تنطلق بعيدًا إلى قلب حفرة الرمال. علمت أن قفزتها كانت رائعة. فأسرعت إلى حيث تركت ملابسها الرياضية. وجاء إليها أبوها وهنري يحتضنانها. وقالَا معًا: «أحسنت. أحسنت.»
أحضرت جان دارك الميدالية الذهبية إلى منصة الفائزين وعلقتها حول رقبة نيكول. كما أعطتها إليانور الأكويتينية عشرات الورود. ووقف كينجي واتانابي بجوارها هو والقاضي متشكِّين وهنآها. وقال المعلق إن قفزتها حققت رقمًا قياسيًّا جديدًا. فصفق لها الجمهور. نظرت نيكول إلى الوجوه الكثيرة فلاحظت أن الجمهور لا يقتصر على البشر. إذ كان الرجل النسر جالسًا في مقصورة خاصة بجوار مجموعة كاملة من كائنات الأوكتوسبايدر. وكان الجميع يحيونها ومن بينهم المخلوقات الطائرة والمخلوقات المستديرة ذات المجسات الرفيعة، وكذلك عشرات من المخلوقات التي تُشبه ثعبان البحر الذي يرتدي عباءة والتي لصقت أجسادها بنافذة حوض مغلق عملاق. فلوحت نيكول لهم جميعًا.
تحول ذراعاها إلى جناحَين وبدأت تطير. صارت نيكول صقرًا يحلق عاليًا فوق القطاع الزراعي في عدن الجديدة. نظرت إلى أسفل حيث المبنى الذي كانت محبوسة فيه. ثم استدارت غربًا ووجدت مزرعة ماكس باكيت. ومع أن الوقت كان منتصف الليل فقد كان ماكس بالخارج يعمل في مكانٍ بدا أنه ألحق بإحدى الحظائر الخاصة به.
واصلت نيكول الطيران نحو الغرب متجهةً إلى أضواء فيجاس الساطعة. وعندما وصلت إلى مجمع المباني بدأت رحلة الهبوط طائرةً خلف النوادي الليلية الكبيرة واحدًا تلوَ الآخر. كانت كيتي تجلس في الخارج على سلالم خلفية بمفردها. كانت تدفن وجهها في يدَيها وجسدها يرتعش. حاولت نيكول أن تُهدئها لكن لم يصدُر منها سوى صرخة صقر شقَّت سكون الليل. فرفعت كيتي بصرها إلى السماء متحيرةً.
طارت نيكول نحو بوسيتانو بالقُرب من مخرج المنطقة السكنية وانتظرت حتى يفتح الباب. لكن الصقر نيكول رحلت عن عدن الجديدة بعد أن أخافت الحارس. ووصلت إلى أفالون بعد أقل من دقيقة. فوجدت روبرت وإيلي ونيكول الصغيرة يجلسون في حجرة الانتظار مع بينجي في المستشفى، ومعهم عامل من عمَّالها. لم تعرف نيكول لِمَ كانوا مُستيقظين في منتصف الليل. فنادت عليهم. فمشى بينجي إلى النافذة وحدَّق في الظلام في الخارج.
سمعت نيكول صوتًا يُناديها. وكان الصوت ضعيفًا قادمًا من الجنوب. فطارت بسرعة نحو المنطقة السكنية الثانية ودخلت من الحفرة الواسعة التي حفرها البشر في الجدار الخارجي. وبعد أن أسرعت بالمرور عبر الحلقة ووجدت مدخلًا يؤدي إلى المنطقة الداخلية من المسكن، حلقت فوق المنطقة الخضراء. وعندها لم يعد بوسعها أن تسمع الصوت. ولكنها رأت ابنها باتريك يُخيم مع جنود آخرين بالقُرب من قاعدة الأسطوانة البُنية.
قابلها مخلوق طائر ذو أربع حلقات زرقاء مخضرة وسط السماء. وقال لها: «لم يعُد هنا. ابحثي عنه في نيويورك.» خرجت نيكول بسرعة من المنطقة السكنية الثانية وعادت إلى السهل المركزي. وهناك سمعت الصوت ثانيةً. فأخذت ترتفع في الهواء. وكادت أن تعجز عن التنفُّس.
طارت نحو الجنوب فوق الحائط المُحيط بنصف الأسطوانة الشمالي. حتى صار البحر الأسطواني تحتها. وصار الصوت أكثر وضوحًا. فأدركت أن الصوت هو صوت ريتشارد. ودقَّ قلب الصقر فيها بسرعة شديدة.
كان ريتشارد يقف على الشاطئ أمام ناطحة سحاب ويلوِّح لها. وقال: «تعالي إليَّ يا نيكول.» رأت عينَيه رغم الظلام. وبدأت تهبط حتى حطَّت على كتفه.
عاد الظلام يُغلفها. وعادت إلى زنزانتها. هل كان هذا صوت طائر سمعته يطير خارج نافذتها؟ كان قلبها لا يزال يخفق.
مشت إلى الجانب الآخر من الغرفة الصغيرة. وقالت: «شكرًا لك يا أمادو. أو يا أومه.» وابتسمت. ثم قالت: «أو يا الله.»
تمدَّدت نيكول على سريرها. وبعد ثوانٍ قليلة غلبها النوم.