مغامرة النزيلة الملثمة
عندما يأخُذ المرءُ بعَين الاعتبار أنَّ السيد شيرلوك هولمز ظلَّ يُزاوِل عملَه طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، وأنه كان مسموحًا لي على مدار سبعةَ عشر عامًا منها أن أتعاوَنَ معه وأن أُدوِّن مُلاحظاتٍ عن أعماله، فسيتَّضِح جليًّا أنني أمتلِك قدرًا كبيرًا من المعلومات تحت تَصرُّفي؛ لذا لم تكن المُشكلة تكمُن قطُّ في أن أجِد ولكن في أن أختار. ها هنا صفٌّ طويل من الكُتب السنويَّة يملأ رفًّا، وتُوجَد كذلك حقائب حِفظ الأوراق مليئة بالمُستنَدات، وهي مَنجَم معلومات مُمتاز ليس فقط لطلَّاب عِلم الإجرام ولكن أيضًا لدارسي فضائح الطَّبَقات الاجتماعية العُليا، وتلك المُتعلِّقة بأصحاب المناصب الحكومية في أواخر العصر الفيكتوري. لكن بخصوص هذه الأخيرة، أستطيع القول إن أصحاب الخِطابات المُفعَمة بالمُعاناة الذين يتضرَّعون ألَّا تُمسَّ كرامةُ عائلاتهم أو سُمعة أسلافِهم، ليس لدَيهم ما يَخشَونه. إن الحِكمة والحِسَّ العالي من الشَّرَف المِهَني اللذَيْن طالَما ميَّزا صديقي، لا يزالان يَتحكَّمان في اختيار هذه المُذكِّرات، ولن تُستغَلَّ أيُّ أسرار. ولكنِّي أحتجُّ أشدَّ الاحتجاج على تلك المُحاوَلات التي بُذلت مُؤخَّرًا من أجل الحصول على هذه المُستنَدات وإتلافِها. مصدر هذه الانتِهاكات مَعروف، وإذا حدَث وتكرَّرتْ فإنَّ معي إذنًا من السيِّد هولمز أن أقول إن القِصَّة الكاملة المُتعلِّقة بالسياسي، والمَنارة، والطائر المائي المُدرَّب سوف تُذاع على الملأ؛ وثَمَّة قارئٌ واحد على أدنى تقدير سيفهَم مَغزى ما أقول.
ليس من المَنطقي الاعتقادُ بأن كلَّ قضيةٍ من هذه القضايا قد أتاحت لهولمز الفرصة في إظهار هاتَين المَوهِبتَين المُذهلتَين المُتمثِّلتَين في فراستِه وقُوَّة مُلاحظته والتي سعيتُ إلى عرضِها في هذه المُذكِّرات. فأحيانًا كان عليه أن يبذُل جُهدًا كبيرًا ليقطُف الثَّمرة، وأحيانًا أخرى كانت تقَع بسهولةٍ في حِجره. ولكنْ غالبًا ما كانت أكثر مآسي الناس فظاعةً مُتضمَّنةً في تلك القضايا التي لم تُتِحْ أمامه سوى أقلِّ عددٍ من الفُرَص الذاتية، وإنَّ ما أرغبُ في تدوينه الآن هو إحدى هذه القضايا. وقد أجريتُ تغييرًا طفيفًا في الاسم والمكان وأنا أرْوِيها، ولكن فيما عدا ذلك فإن أحداث القضيَّة هي كما أوردْتُها.
في ضَحوةِ أحد الأيام — وذلك في أواخر عام ١٨٩٦ — تلقَّيتُ رسالةً عاجِلةً من هولمز يَدعوني فيها أن أحضُر لديه. وعندما وصلتُ رأيتُه جالسًا في جوٍّ مشحونٍ بالدُّخان، وعلى الكرسي المُقابِل له امرأةٌ رءومٌ في منتصف العمر، من نوعِ مالِكات الفنادق الفاتِنات ذوات الجِسم المُمتلئ.
قال صديقي وهو يُشير إليها بِيده: «هذه هي السيِّدة ميريلو، من مُقاطَعة ساوث بريكستن. السيدة ميريلو لا تُعارِض التَّدخين يا واطسون، إن كنتَ تُريد إرخاء العِنان لعادتك الكريهة. إنَّ لدى السيدة ميريلو قِصة مُثيرة لترويها وربما أدَّتْ قصتُها إلى مزيدٍ من التَّطوُّرات التي قد يكون من المُفيد أن تَشهدها.»
«هل من شيءٍ أستطيع تقديمه …؟»
«يجِب أن تعلمي يا سيِّدة ميريلو، في حال أتيتُ لرؤية السيدة روندر، أنَّني أُفضِّل وجود شاهد. سيتوجَّب عليكِ أن تُوضِّحي لها تلك النقطة قبل وصولنا.»
فقالت ضَيفتُنا: «باركك الله يا سيد هولمز، إنها مُتلهِّفةٌ جدًّا لرؤيتك حتى إن جَلبتَ الأبرشية كلَّها وراءك!»
«سنأتي في أول فترة الأصيل إذن. لكن لِنتأكَّد أننا فهِمنا وقائع القضية على الوجه الصحيح قبل أن نبدأ. لو أعَدْنا ذِكرها فسيُساعِد هذا الدكتور واطسون على فَهم المَوقِف. تقولين إن السيِّدة روندر نَزيلة عندكِ منذ سبعِ سنين وأنكِ لمْ ترَيْ وجْهَها سوى مرةٍ واحدة.»
فقالت السيدة ميريلو: «وليتَني ما فعلتُ!»
«أظنُّه كان مُشوَّهًا بصورةٍ سيئةٍ جدًّا.»
«حسنٌ يا سيد هولمز، ربما يتعذَّر عليكَ أن تُسمِّيَه وجهًا من الأساس. لكن سأخبِرُك كيف يبدو. لقد لمَحَها بائع اللَّبن ذات مرةٍ وهي تُطلُّ من النافِذة العُليا، فأسقَطَ وِعاءه وسُكِب اللَّبنُ في كلِّ مكانٍ فوق البوَّابة الأمامية. هذا هو نَوع الوُجوه الذي يَبدو عليه وَجهُها. وعندما رأيتُها — وقد تَصادَف لي أن كان هذا على حين غفلةٍ منها — أسرَعَتْ بتغطِيَة وجهها، ثم قالت: «والآن يا سيدة ميريلو، لقد عرفتِ أخيرًا لماذا لا أرفَعُ لِثامي البتَّة».»
«أتعلمين أيَّ شيءٍ عن ماضيها؟»
«لا شيءَ البتَّة.»
«هل قدَّمَتْ إثبات شخصيَّةٍ عندما أتت؟»
«لا يا سيِّدي، ولكنَّها قدَّمت المال، وقدَّمَت الكثيرَ منه. إيجارَ ثلاثة أشهُر دفَعَتْه مُقدَّمًا ودون نِقاشٍ حول الشُّروط. وما كان ينبغي لامرأةٍ فقيرةٍ مِثلي أن ترفُض فُرصةً كهذه في تلك الأيام.»
«وهل أبدَتْ أيَّ سببٍ لاختِيارها الإقامةَ في فُندقك؟»
«إن فُندُقي يقَع بعيدًا عن قارِعة الطريق بمسافةٍ لا بأس بها، وهو يَتمتَّع بخصوصيَّة أكبر عن أغلَب الفنادق الأخرى. وفضلًا عن ذلك فأنا لا أقبَل إلَّا الشخص المُلائم، وليس لديَّ عائلة. ثم إني أعتقِد أنها جرَّبَتْ فنادِق أخرى ووجدتْ أن فُندقي هو الأنسب لها. إن ما تسعى له هو الخصوصيَّة، وهي مُستعِدَّة أن تدفَع من أجلِها.»
«تقولين إنها لم تكشِف وجهَها البتَّة طوال تلك الفترة سوى هذه المرَّة التي كانت من غير قصدٍ منها. حسنٌ، إنَّ هذه لقصَّةٌ عجيبة جدًّا، من أعجَب ما يُمكن، وأنا لستُ مُندهِشًا من رغبتكِ في التحقيق فيها.»
«أنا لا أرغَب في هذا يا سيِّد هولمز. إنَّني راضِيةٌ للغاية ما دُمتُ أحصل على الإيجار. من الصَّعب أن تجِد نَزيلًا أكثرَ هُدوءًا وأقلَّ إثارةً للمشاكِل منها.»
«ما الذي أدَّى إلى تصعيد الأمور إذن؟»
«صحَّتُها يا سيد هولمز. يبدو أنها آخِذةٌ في الذُّبول. وثَمَّة شيءٌ مُفزِع في عقلها. إنها لا تفتأ تصرُخ: «قتل! جريمة قتل!» وسَمِعتها ذات مرةٍ تصرُخ: «أنت أيُّها الحيوان الشَّرِس! أيُّها الوَحْش!» أطلقَتْ هذه الصَّيحات في الليل لتظلَّ تُدوِّي في أرجاء النُّزُل وتَبُثَّ في جِسمي رجفات الذُّعر. ومن ثمَّ ذهبتُ إليها في الصباح. قلتُ: «مدام روندر، إنْ كان ثَمَّة شيءٌ يُؤرِّقُك، فإن الكاهِن موجودٌ، والشُّرطة كذلك. عليك أن تَلتَمِسي المُساعَدة من أيٍّ مِنهما.» فقالت: «بحقِّ الرَّب، لا أُريد الشُّرطة! كما أنَّ الكاهِن لا يَستطيع تَغيير ما مضى. ورغمَ هذا، فسيُريح ضَميري أن يَعرِف أحدُهم الحقيقة قبلَ أنْ أموت.» فأجبتُها: «حسنٌ، إذا كنتِ لا تَودِّين عرْضَ قَضِيَّتِك على الكاهِن أو رجال الشرطة، فلدَينا هذا المُحقِّق الذي قرأنا عنه.» أرجو المَعذِرة يا سيِّد هُولمز. فتحمَّستْ جدًّا للفِكرة، وقالتْ: «هذا هو الرَّجُل المُناسِب. إنِّي لأعجَبُ كيف لم أُفكِّر في الأمر من قبلُ قط. أحضِرِيه إلى هُنا يا مدام مِيريلو، وإذا رَفَض المَجيء فأخبِرِيه أنَّني زَوجَةُ رُوندر صاحِب عرْض الوحوش الضارِيَة. أخبِريه بهذا، واذكُرِي له هذا الاسم: أباس بارفا. هكذا كتَبَتْه: أباس بارفا. سيأتي به هذا إلى هنا إن كان هو الرجُل الذي أفكِّر فيه».»
عقَّب هُولمز قائلًا: «نعم، سيَجعلُني هذا أذهَبُ إلى هناك. هذا أمرٌ جيِّد يا مدام ميريلو؛ فأنا أودُّ أن أتحدَّث مع الدكتور واطسون قليلًا، وسوف يَمتدُّ بنا الحديث إلى وقتِ الغَداء. تَوقَّعي قُدومَنا إلى فُندقك في بريكستن في غُضون الثالثة.»
ما إن خَرجَتْ ضيفتُنا تتهادى من الغُرفة — ولا يُمكِن لكلمةٍ أخرى غَيرها أن تُعبِّر عن مِشية السيِّدة ميريلو — حتى ألقى شيرلوك هولمز بنفسِه في حَماسةٍ شديدةٍ فَوق كَومة كُتب مُذكِّراته في رُكن الغُرفة. استمرَّ حفيفُ الصَّفحات بِضعَ دقائق، ثم تنهَّد تنهيدةً تُعبِّر عن رِضاه عندما عثَرَ على ما كان يبحثُ عنه. كان مُنتشيًا جدًّا لدرجة أنَّهُ لم يَنهَض من مكانه، ولكنَّه جلس على الأرض في هيئةٍ شبيهةٍ بتِمثالٍ غريبٍ لبوذا يجلِس مُتربِّعًا، وكانت الكُتُب الهائلة تُحيط به من كلِّ مكان، وكان أحدُها مفتوحًا فَوق رُكبَتَيه.
وقال: «لقد أهمَّني أمرُ هذه القضيَّة عندما وقعتْ يا واطسون. وها هي ذِي مُلاحظاتي في هَوامِش الصَّفحات تُثبِت هذا. أعترِف أنَّني لم أستطِع فَهمَها. ولكنِّي كنتُ على يَقينٍ أنَّ ضابِط التَّحقيق كان مُخطِئًا. ألا تَذكُر مأساة أباس بارفا؟»
«مُطلقًا يا هولمز.»
«ولكنَّكَ كنتَ معي آنذاك. لكنْ لا شكَّ أنَّ انطِباعي عن القضية كان سطحيًّا جدًّا؛ لأنه لم يكن لديَّ من المعلومات ما أُشكِّل على أساسه رأيًّا، ولمْ يَستعِن أيٌّ من أطراف القضية بخِدماتي. رُبما سترغَب في قراءة هذه الأوراق. أليس كذلك؟»
«ألا يُمكِنُك أن تُخبِرَني بالنِّقاط الأساسية؟»
«هذا من أيْسَرِ ما يكون. ورُبما ستتذكَّرُها وأنا أتحدَّث. كان روندر اسمًا معروفًا. لقد كان يُنافِس كلًّا من وومويل وسانجر، وكان من أعظَمِ المُنتِجين المَسرحِيِّين في عَصْره. لكن ثَمَّة ما يؤكِّد أنه كان قد بدأ يُدمِن الشَّراب، وأنه هو وعُروضه على السَّواء أخَذا في الانْحِدار وقتَ وقُوع المأساة الكُبرى. كانت فِرقتُه قد أوقفَتْ عرضَها تلك الليلة في أباس بارفا، وهي قريةٌ صغيرة في مُقاطَعة بركشير، عندما وَقَعتْ هذه الفاجِعة. لقد كانوا مُتَّجِهين برًّا إلى مدينة ويمبلدن، ولم يكونوا يَعتزِمون تقديم عرضٍ وإنما كانوا فقط سيُخيِّمون هناك؛ لأن المكان كان صغيرًا جدًّا بحيث لم يكن تقديم العَرْض ليَعود عليهم بالرِّبْح.
كان من بَين ما يَعرِضونه أسدٌ رائع المَنظَر من شمال أفريقيا، أطلَقوا عليه مَلِك الصحراء، وكانت عادة رُوندر وزَوجته أن يُقدِّما العُروض من داخل قَفَصِه. وها هي صورة لأدائهم الاستِعراضي، ستُدرِك من خِلالِها أن روندر كان شخصًا أشبَهَ ما يكون بِخِنزير وأنَّ زَوجتَه كانت امرأةً باهِرة. وقد شهِد أحدُهم في التحقيق أنه كانت ثَمَّة علاماتٌ تدلُّ على خُطورة ذلك الأسد، ولكن كالمُعتاد فإن الأُلفة الزائدة تُولِّد قِلَّة الاحترام، ولم يَنتبِه أحد إلى تلك الحقيقة.
كان من عادة روندر وزوجته أن يُطعِما الأسدَ في الليل. فأحيانًا كان يؤدِّي أحدُهما هذه المُهِمَّة، وأحيانًا كلاهُما، لكنَّهما لم يَسمحا لسِواهُما قَطُّ بأدائها؛ لأنهما كانا يَعتقِدان أنهما ما داما يُقدِّمان له الطَّعام فإنه سيَعُدُّهما مُحسِنَيْن وما كان ليَعتدِيَ عليهما مُطلَقًا. وفي تلك الليلة تحديدًا، قبل سبعِ سنوات، ذَهبا معًا لإطعامه، وتلا هذا حادِثة من أفظع ما يكون، لكنْ لم يُفصَح عن تفاصيلها على الإطلاق.
يبدو أنَّ المُخيَّم كلَّه كان قد استيقَظَ قُرْبَ مُنتصف الليل على زئير الحَيوان وصرخات المرأة؛ فهبَّ جميع العُمَّال وسائسي الحيوانات من خِيامِهم، وانطلقوا حامِلين مَصابيحَهم، فكشفَتْ أضواؤها منظرًا مُروِّعًا. كان روندر راقِدًا — وكان مُؤخَّر رأسِه مُهشَّمًا وعلى فَروَة رأسه آثارُ مَخالِبَ غائرة — على بُعد ما يَقرُب من عشر يارداتٍ من القَفَص الذي كان مفتوحًا. وبِقُرب باب القَفَص كانت مدام روندر مُلقاةً على ظهرِها والوَحْش جاثمٌ يُزمجِر فوقَها. وقد مزَّق وجهها بطريقةٍ ما كان يُظنُّ معها أبدًا أنها ستَعيش. وهنا أبعدَ بضعةُ رِجالٍ من رِجال السِّيرك الوحشَ عنها باستِخدام العصيِّ الطويلة، بقِيادة ليوناردو القَوي والمُهرِّج جريجز؛ فوثَبَ الوحْش عندئذٍ عائدًا إلى القَفَص وحبَسُوه في الحال. أمَّا كيف أُطلِق سَراحُه فكان هذا لُغزًا. ولكن خمَّن بعضُهم أنَّ الزَّوجَين كانا قد عزَما على دُخول القَفَص، ولكنَّ الوَحْش وَثَب عليهما بِمُجرَّد أن فُتِح الباب. ولم يكن في إفادات الشهود ما يَسترعي الانتِباه باستثناء أنَّ المرأة ظلَّتْ تَصرُخ من هَذَيان الألم عندما حُمِلَت إلى العربة التي كانا يُقِيمان فيها قائلةً: «جبان! جبان!» ولم تَستطِع الإدلاء بشهادَتِها قبل مُرور ستَّةِ أَشهُر، ولكنَّ التَّحقيق أُجرِيَ كما يَنبغي، وصدَر الحُكم المُتوقَّع أنَّ الحادِث كان قضاءً وقدرًا.»
فقلتُ: «ولكن ما البديل الذي يُمكِنُنا تخيُّله؟»
«من حقِّك أن تَقول هذا. لكنْ كان ثَمَّة نُقطة أو اثنتان أثارَتا قَلَق المُحقِّق الشابِّ إدموندز، من شُرطة مُقاطَعة بركشير. كان ذكيًّا ذلك الفتى، وقد أُرسِل فيما بَعدُ إلى مُقاطَعة اللاهاباد في الهند. هكذا تكوَّنتْ عَلاقتي بالأمر، لأنه زَارَني هُنا ودَخَّن غليونًا أو اثنَين وهو يتحدَّث عن الموضوع.»
«أكان رَجُلًا نَحيفًا أصفرَ الشَّعر؟»
«بالضبط. كنتُ واثقًا من أنَّك ستلتَقِط الخَيط سريعًا.»
«ولكن ما الذي أقلَقَه؟»
«حسنٌ. لقد كان كِلانا قَلِقًا. كان تشكيل صُورةٍ مُتكامِلة عن القضيَّة من أصعَبِ ما يُمكِن. انظر إليها مثلًا من وِجهة نظَر الأسد. لقد أُطلِق سَراحُه. وماذا يفعَل؟ لقد وَثَب ستَّ وَثباتٍ إلى الأمام، فجعَلَتْه أمام روندر. فاستدار روندر ليهرُب — وقد كانت آثار المَخالِب على مُؤخَّر رأسِه — ولكن الأسدَ هاجَمَه وطرَحَه أرضًا، ثم بدلًا من مُواصَلَة الوَثْب والهُروب، عاد أدراجَه إلى المَرأة التي كانت قَريبةً من القَفَص، وأوقَعَها على الأرض ثم لاكَ وَجْهَها، ثُمَّ مِن ناحيةٍ أخرى، يبدو أن صَيحاتِها تلك تَعني أن زَوجَها قد تَخلَّى عنها بطريقةٍ ما. وما كان عَساهُ أن يفعل هذا البائس لمُساعَدتِها؟! أترى صُعوبة الأمر؟»
«تمامًا.»
«ثُمَّ إن ثَمَّة شيئًا آخَر كذلك، تذكَّرتُه الآن وأنا أُفكِّر في الموضوع؛ لقد كان ثَمَّة دليلٌ على أن رجُلًا ما أخَذَ يَصيح في فزعٍ في الوقت نفسِه عندما كان الأسدُ يزأرُ والمَرأةُ تَصرُخ.»
«هذا الرَّجُل هو روندر، لا شكَّ في هذا.»
«حسنٌ، لو أنَّ جُمجُمَته كانت قد تهشَّمتْ، فلن يكون هناك مجالٌ أمامك لسَماع صَوتِه مُجدَّدًا. وقد كان ثَمَّة شاهِدان على الأقلِّ تَحدَّثا عن تداخُل صَيحات رجلٍ وامرأة.»
«أعتَقِد أنَّ المُخيَّم كلَّه كان يَصرُخ في هذا الوقت. أمَّا بالنِّسبة إلى النِّقاط الأخرى، فأظنُّ أن بإمكاني اقتِراح تفسيرٍ لها.»
«يُسعِدُني أن أُفكِّر فيه.»
«لقد كان الاثنان معًا، على بُعد عَشر يارداتٍ من القفص، عندما تحرَّر الأسد. وقد استدار الرَّجُل وهُوجِم. ولكن المرأة فكَّرتْ في الدُّخول إلى القَفَص وإغلاق الباب عليها؛ لأنه كان مَلاذَها الوحيد. واتَّجَهتْ ناحِيَته، لكن ما إن وَصلَتْ إليه حتى أخَذَ الوَحْش يثِب خَلْفَها وأسقَطَها على الأرض. ثم إنها كانت غاضِبةً من زَوجِها لأنه أثار غَضَب الوَحْش عندما استدار ليهرُب. لأنهما لو كانا واجَهاه لكان مِن المُحتَمل أن يُخِيفاه؛ لهذا كانت تَصرُخ قائلةً: «جبان».»
«مُمتاز يا واطسون! لكنْ ثَمَّة خطأٌ وَحيد في تفسيرِك الرائع.»
«وما هو الخطأ يا هُولمز؟»
«لو أنَّ كِليهِما كانا على بُعد عَشر خطواتٍ من القَفص، فكيف استَطاع الوَحش أن يُحرِّر نفسه؟»
«ألا يُحتَمل أن يكون لهما عدوٌّ ما هو الذي أطلَق سَراحه؟»
«لكن لماذا يُهاجِمُهما بهذه القَسوَة وقد كان مُعتادًا على اللَّعِب معهما، وعلى أداء الحِيَل معهما داخل القَفَص؟»
«من المُحتَمل أن يكون العدوُّ نفسه قد فعل شيئًا ما ليُثير غَضَبَه.»
بدا على هولمز الاستِغراق في التفكير وظلَّ صامِتًا لبِضع دقائق.
ثم قال: «حسنٌ يا واطسون، يُوجَد ما يُقال لتأييد نَظرِيَّتك. لقد كان لرُوندر أعداءٌ كثيرون. وقد قال لي إدموندز إنه كان يَصير فظًّا عندما يَسكَر. كان رَجُلًا مُتنمِّرًا ضخمًا، وكان يسبُّ ويُوبِّخ كلَّ من يقِفُ في طريقه. وأتوقَّع أن تلك الصَّرخات التي يُذكَر فيها الوَحْش، والتي تحدَّثتْ عنها ضَيفتُنا، ما هي إلا ذِكرياتٌ لَيليَّة لحبيبها الراحل. رغم هذا فلا جدوى من تَخميناتِنا قبل أن نُلمَّ بالأحداث كلِّها. يُوجَد على الخُوان حَجَلٌ باردٌ، وزُجاجة من خَمْر مونتراشيه يا واطسون. لنُجَدِّد نَشاطَنا قبل أنْ نَزُورَهم.»
عندما أوْصلَتْنا العربةُ أمام مَنزِل السيِّدة ميريلو، وجدْنا هذه السيدة البدينة تسدُّ بِجِسمِها الباب المَفتوح من بَيتِها المُتواضِع المُنعزِل. كان واضحًا جدًّا أنَّ ما كان يَشغَلُها في المَقام الأول هو الاطمئنان إلى أنَّها لن تَخسَر نزيلةً قَيِّمةً كهذه؛ لذا تَوسَّلَتْ إلينا قبل أن تُوصِلَنا إلى الطابق العُلويِّ ألَّا نقول أو نفعَلَ ما قد يُؤدِّي إلى ما لا تُحمَد عُقباه. ثُمَّ، وبعد أن طمأنَّاها، سِرنا خلفَها فوق الدَّرَج المُنتصِب المَكسوِّ بِسجادٍ من النوع الرديء حتى قادَتْنا إلى غُرفة النَّزيلة الغامِضة.
كانتْ مكانًا مُغلَقًا عَفِنًا سَيئَ التَّهوية كما هو مُتوقَّع؛ لأن ساكِنَتَها لم تكُن تترُكها إلَّا نادرًا. وحيث إن المرأة كانت تَحبِسُ الوحوش في قفص، فقد بدا وكأنَّها تحوَّلتْ هي نفسُها — على إثر عُقوبةٍ من القَدَر — إلى وَحشٍ داخل قَفَص. كانت تَجلِس في هذه اللَّحظة إلى كُرسيٍّ مَكسورٍ ذِي ذِراعَين في الرُّكن المُعتِم من الغُرفة. أفسدَت السَّنواتُ الطويلة من انعِدام النَّشاط قَوامَها، لكنْ لا بُدَّ أنه كان جَميلًا في وقتٍ ما، وكان لا يزال مُمتلِئًا ومُثيرًا. كان يُغطِّي وَجهَها بُرقعٌ سميكٌ داكِن اللَّون، ولكنَّه كان مُنحسِرًا عند شَفَتِها العُليا وكان يكشِف عن فمٍ بديع الصُّورة وذَقنٍ رقيق الاستدارة؛ فَقَرَّ في خاطِري أنها كانت امرأةً باهِرةَ الجَمال حقًّا، حتى إنَّ صَوتَها كذلك كان عَذبًا مُمتِعًا.
قالت: «اسمي ليس غريبًا عليك يا سيِّد هولمز، لقد اعتقدتُ أنه كان سيأتي بك إلى هنا.»
«إنَّه كذلك سيِّدتي، رغم أنَّني لا أعرِفُ كيف أدركتِ أنَّني كنتُ مُهتمًّا بقضيَّتِك.»
«عرفتُ هذا عندما استعدتُ عافِيَتي وخَضعتُ للتَّحقيق على يَدِ السيد إدموندز مُحقِّق المُقاطعة. أنا آسِفةٌ لأنَّني كذبتُ عليه. ربما لو قلتُ الحقيقة لكان هذا أكثر حِكمة.»
«إنَّ من الحِكمة غالبًا أن نقول الحقيقة. ولكنْ لماذا كذبتِ عليه؟»
«لأنَّ مصير شَخصٍ آخَرَ كان مُعلَّقًا على هذا. كنتُ أعلم أنه كان شخصًا تافِهًا للغاية، ولكنِّي لم أكُن لأُحمِّل ضَميري تَبِعةَ هلاكِه. لقد كنَّا مُتقارِبَين جدًّا؛ أجل، كنَّا مُتقارِبَين جدًّا!»
«ولكن هل زال هذا المانِع؟»
«نعم يا سيِّدي. إنَّ الشَّخص الذي أُلمِح إليه تُوفِّي.»
«إذن لِماذا لا تُخبِرين الشُّرطة الآن بأيِّ شيءٍ تَعرفينه؟»
«لأن ثَمَّة شَخصًا آخَرَ يَنبغي التَّفكير في أمره. هذا الشَّخص الآخر هو أنا. فما كنتُ لأقوى على تَحمُّل الفضيحة والتَّشهير اللذين كان سَيُسَبِّبُهما تَحقيق الشرطة. ورغم أنَّه لم يَتبقَّ في عمري الكثير، فأنا أُريد أن أُفارِق الحياة وأنا هانِئة الضَّمير. وعِلاوَةً على ذلك فقد أرَدْتُ العُثور على رَجُلٍ حكيم أستطيع أن أَقُصَّ عليه قِصَّتي المُروِّعة، حتى إذا ما متُّ أنا اتَّضَح كلُّ شيء.»
«إنكِ تُطْرينني بمديحك يا سيِّدتي. ولكِنِّي في الوقتِ نفسِه رَجلٌ مَسئول. ولا أعِدُكِ أنكِ إذا تكلَّمْتِ أنَّني لن أرى — أنا نفسي — أنَّ من واجِبي إحالة القَضيَّة إلى الشُّرطة.»
«لا أظنُّ هذا يا سيِّد هُولمز. إنَّني أعرِف شَخصيَّتَك ومَنهجَك جيِّدًا جدًّا؛ فلقد تابعتُ نشاطَك بِضعَ سنوات. إنَّ القراءة هي المُتعة الوَحيدة التي تَرَكها لي القَدَر، وأنا لا يَفوتُني الكثير من مُتابَعة ما يَجري في العالم. لكن على أيِّ حال، سأُجرِّب حَظِّي فيما قد تُستخدَم مأساتي فيه. وسوف يُخفِّف عنِّي أن أبُوحَ بما جرى.»
«سيَسُرُّني أنا وَصديقي أن نَستَمِع إليها.»
نهضَتِ المرأة من كُرسِيِّها وأخرَجَت صُورةَ رَجُلٍ من أحد الأدراج. كان من الواضِح أنه بَهلوانٌ مُحترِف. كانت بِنْيَةُ جِسمِه رائعة، وقد التُقِطت الصُّورة وذِراعاه الضَّخْمَتان مَعقُودَتان على صدْرِه البارِز، وشَفَتاه تَنفرِجان عن ابتسامةٍ مِن تحتِ شارِبِه الكثيف؛ ابتسامة الرِّضا عن النفس التي تَرتَسِم على وجه رَجُلٍ كثير الانتِصارات.
قالت المرأة: «هذا هو ليوناردو.»
«ليوناردو، الرجُل القوي، الذي أدلى بِشهادته؟»
«ذاك هو. وهذا … هذا هو زَوجي.»
كان وجهًا بغيضًا؛ خِنزيرًا بَشرِيًّا، أو بالأحرى خِنزيرًا بريًّا آدَمِيًّا؛ فقد كانت بَهيمِيَّته مُرعِبة. يُمكِن للمرء أن يتخيَّل ذلك الفَمَ البَشِع وهو يَعلِك أنيابه ويرغو عند اشتِداد غضبه، ويستطيع كذلك أن يتخيَّل هاتَين العَينَين الضِّيِّقتَين الضارِيتَين تقذِفان بالحِقد المَحْض ساعةَ تَنظُران إلى العالم. همجيٌّ، مُتنمِّرٌ، وَضِيع؛ كان هذا كلُّه مكتوبًا على ذلك الوَجْه العريض الخدَّين.
«هاتان الصُّورتان ستُساعِدانكما على فَهم القصَّة أيُّها السيِّدان. لقد كنتُ فتاةَ سيركٍ فقيرةً، تربَّيتُ فوق نشارة الخشب التي تُغطِّي ساحته، وكنتُ أمارس القفْز عبر الطَّوق قبل أن أبلُغ العاشرة. وعندما بلغتُ مبلَغَ النساء أحبَّني هذا الرجل — إذا كان مُمكِنًا تَسمِيةُ شَهوَته هذه حُبًّا — وفي ساعةٍ مشئومة أمسيتُ زَوجتَه. ومنذ تلك اللَّحظة صرتُ أعيش في جحيم، وكان هو الشيطان الذي يُمارِس تعذيبي. كان جميع أفراد السيرك على عِلمٍ بمُعامَلته تلك. ثُمَّ إنه أهمَلَني من أجل أُخرَيات. وعندما شَكَوتُ قيَّدَني وجَلَدَني بِسوْطه. لقد كانوا جميعًا يَرْثُون لِحالي وكانوا جميعًا يَشمئزُّون منه، ولكن ما الذي كانوا يستطيعون فِعله؟ كانوا يخافونه عن بَكْرة أبيهم؛ لأنه كان بغيضًا في كلِّ الأوقات، وكان سفَّاحًا عندما يَسكَر. أُلقِي القَبض عليه مرَّات ومرَّات بتُهمة التعدِّي، وبتُهمة القسوة على الحيوانات، ولكنه كان يمتلك الكثير من المال ولم تكن الغرامات تُهمُّه؛ لذا تركَنا خيرةُ الرجال، وأخذَ نَجمُ مَسرحِنا يَخبو. لم يكن يُحافِظ على استمراره سواي أنا وليوناردو؛ وكان يُعاوِننا المُهرِّج القَزم جيمي جريجز. يا لذلك البائس! لم يكن في جَعبَته الكثير الذي يُضحِك به الجمهور، ولكنه كان يفعل ما بِوسعِه ليُبقي الأمور في نِصابها.
ثم اقترَب ليوناردو من حياتي أكثرَ فأكثر. انظُرا كيف كان مَظهرُه. لقد بِتُّ الآن أعرِف تلك الرُّوح الواهِنة التي كانت تَختبئ في ذلك الجسد الرائع، ولكن عند مُقارَنته بزَوجي فقد كان يبدو لي وكأنه الملاك جبرائيل. لقد أشفَقَ عليَّ وساعَدَني، حتى انقلبَتْ صداقتُنا في النهاية إلى حُب؛ حبٍّ عميقٍ مُتأجِّج، ذاك الحبُّ الذي حَلُمتُ به ولمْ آمُل قَطُّ أن أعيشه. وقد شكَّ زَوجي في أمر هذا الحُب، ولكنِّي أظنُّ أنه كان جبانًا بقدْر ما كان مُتَنمِّرًا، وأنه لم يكن يخشى أحدًا سوى ليوناردو؛ لذا انتقم على طريقته بأن عذَّبَني أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وذات ليلةٍ أتتْ صرخاتي بليوناردو إلى باب عَرَبتِنا. كُنَّا على حافةِ كارثةٍ تلك الليلة، وأدركتُ أنا وحبيبي سريعًا أنه لا مَفرَّ منها. لم يكن من المُناسِب أن يَظلَّ زَوجي على قَيد الحياة؛ لذا خطَّطْنا أنه يَنبغي أن يموت.
كان ليوناردو داهِيةً ماكرًا؛ فخطَّط هو للأمر. لا أقول هذا لأُلقي باللَّوم عليه؛ فقد كنتُ مُستعدَّةً لأن أسير معه كلَّ شبرٍ من الطريق. ولكني لم أكن أملِك من الذكاء ما يُمكِّنني من التفكير في خُطةٍ كهذه على الإطلاق. ولكنَّنا صنَعْنا هراوةً — صنعها ليوناردو — وثبَّتَ في طرَفِها الثقيل خمسة مسامير مَعدِنية طويلة بحيث جعل رءوسها المُدبَّبة إلى الخارج، وجعل لها الانفِراج نفسه الذي في مِخلَب الأسد. فعلنا ذلك لتسديد ضربَةِ المَوت إلى زَوجي، وعلاوةً على ذلك أردْنا أن نترُك دليلًا على أنَّ الأسد الذي كُنَّا سنُحرِّره هو الذي فعلَها.
لقد كانت ليلةً حالِكةَ السَّواد تلك التي خرجتُ فيها أنا وَزَوجي كعادتنا لنُطعِم الأسد. حملْنا معنا اللَّحم النَّيئ في دَلوٍ من الزِّنك. وكان ليوناردو ينتظِر عند زاوية العربة الكبيرة التي كان علينا أن نَمُرَّ بها قبل أن نصِل إلى القفص. كان بطيئًا جدًّا، وقد تخطَّيناه قبل أن يُصبِح قادرًا على الهجوم، ولكنَّه سار خلفَنا على أطراف قدَمَيه ثم سمِعتُ صوت التَّحطُّم عندما هشَّمتِ الهراوةُ جُمجمةَ زَوجي. لقد كان قلبي يقفِز من الفرحة لسماع الصوت. وأخذتُ أمضي وأنا أتواثَب، حتى فتحتُ المِزلاج الذي كان يُغلِق باب قفَص الأسد الكبير.
وهنا وَقَعتِ الفاجِعة. لعلَّك سمِعْتَ عن مدى السُّرعة التي تَلتقِط بها هذه المخلوقاتُ رائحةَ الدَّم البشري، وإلى أيِّ مدًى تُهيِّجها تلك الرائحة. لقد أحسَّ الحيوان في لحظةٍ ما بواسطة غريزةٍ خفِيَّة أن إنسانًا أُريق دَمُه. وبمجرَّد أن حرَّكتُ المزاليج وَثَب خارجًا وأصبَح فَوقي في لحظة. لقد كان بإمكان ليوناردو أن يُنقِذَني؛ لو كان أسرَع باتِّجاهي وضرَب الحيوان بالهراوة التي في يدِه لرُبَّما أخافَه. ولكن الرجل فقدَ رَباطَة جأشه. لقد سمِعتُه يصرُخ من الرُّعب، ثم رأيتُه وهو يلتفِتُ ويهرُب. وفي اللحظة نفسها، نشبتْ أسنانُ الأسد في وَجهي. لكن أنفاسَه الحارَّة القَذِرة كانت قد سمَّمتْني بالفِعل، ولم أكَد أشعُر بالألم. حاولتُ أن أدفَع الفكَّين الكبيرَين المُلطَّخَين بالدماء اللذين ينبعِث منهما البُخار بعيدًا براحتَي يديَّ، وأخذتُ أصرخ طالبةً النجدة. فشعرتُ بالمُخيَّم يضطرِب، ثم بالكاد انتبهتُ لوجود مجموعة من الرجال. كان ليوناردو وجريجز وغيرهما يَسحبونني من بين براثِن الوحش. كان هذا آخرَ شيءٍ تذكَّرتُه طوال أشهرٍ عديدة مُرهِقة يا سيد هولمز. وعندما استعدْتُ وَعيي ورأيتُ نفسي في المرآة، أخذتُ ألعَن هذا الأسد — آه، كم لعنتُه! — ليس لأنه أودى بِجَمالي ولكن لأنه لمْ يُودِ بحياتي. ثم لمْ تَبقَ لي غير رغبةٍ واحدة يا سيد هولمز، وكان لديَّ ما يكفي من المال لتحقيقها. كانت رغبتي أن أُغطِّي نفسي حتى لا يرى وَجهيَ البائسَ أحد، وأن أسكُن حيث لا يَعثُر عليَّ أيٌّ ممَّن عرفتُهم من قبلُ. كان هذا كلَّ ما بَقِي لي لأفعله؛ وهذا ما فعلتُه. وحشٌ مسكينٌ جريح زَحَف إلى مَخبئه ينتظر موته؛ هذه هي نهاية يوجينيا روندر.»
جلسنا صامِتَين بعض الوقت بعدما قصَّت السيدة التعيسة قصَّتها. بعد ذلك، مدَّ هولمز ذِراعه الطويلة وربَّت على يدها بقدرٍ مِن التَّعاطُف لمْ أرَه أظهرَ مثله من قبلُ إلا قليلًا.
وقال: «فتاةٌ مِسكينة! فتاةٌ مِسكينة! إنَّ أفعال القدَر تَستعصي حقًّا على الفَهم. لو لم يكن ثَمَّةَ نوع من الإثابة في الآخرة لكانت الحياة مُزحةً قاسية. ولكن ماذا جرى لهذا الرجل ليوناردو؟»
«لم أرَه ولم يُراسِلْني بعدَها قط. ربما أخطأتُ عندما أمعنتُ في الغضب منه. وربما يكون قد أحبَّ على الفور إحدى المُسوخ اللواتي كُنَّا نَحمِلُهن معنا ونحن نَجوب البلدة والشَّبيهات بهذا الشيء الذي ترَكه الأسد. ولكن المرأة لا تتخلَّى عن حُبِّها بهذه السهولة. لقد تركني بين براثِن الأسد، لقد تخلَّى عنِّي في شِدَّتي، ورغم هذا فلم أجسُر على تسليمه إلى حبل المشنقة. أما عنِّي أنا، فلم أهتمَّ بما سيئول إليه حالي؛ فماذا يُمكِن أن يكون أفظعَ من واقِع حياتي؟! ولكنَّني حُلتُ بين ليوناردو وإدراك مصيره المحتوم.»
«وهل مات؟»
«لقد غَرِق الشهر الماضي وهو يستحمُّ قُرب مدينة مارجيت. قرأتُ خبَرَ وفاته في الجرائد.»
«وماذا فعل في هذه الهراوة ذات البراثِن الخمسة، التي هي أغرَبُ وأبرَعُ جُزءٍ في قِصَّتك كلها؟»
«ليس لديَّ فِكرة يا سيد هولمز. لكن يُوجَد مَنجَم طباشير بجوار المُخيَّم، وثمَّة بِركة مياه عميقة خضراء عند قاعدته. ربما في قاع هذه البركة …»
«حسنٌ حسنٌ، لم تعُد ذات أهميَّةٍ كبيرة الآن. لقد أُغلِقت القضية.»
فقالت المرأة: «نعم، لقد حُفظت القضية.»
ونهضْنا من أماكننا لننصَرِف، لكنَّ شيئًا ما في نبرة صَوت المرأة لفتَ انتباه هولمز. فاستدار إليها على الفور.
وقال: «حياتكِ ليست ملككِ. لا تُحاوِلي أن تَحجبيها عن الناس.»
«وما أهميَّتُها بالنسبة إليهم؟»
«وما أدراكِ؟ إن نموذج الصبر على المُعاناة في حدِّ ذاته هو أثمن الدُّروس التي تُقدَّم لهذا العالم الذي لا يعرِف الصبر.»
كان جواب المرأة مُفزِعًا؛ إذ رفعتْ غطاء وجهها وتقدَّمتْ باتِّجاه الضوء.
وقالت: «لا أدري إن كنتَ ستتحمَّل النظر إليه.»
كان منظر وجهها مُرعبًا. لا تستطيع الكلِمات أن تصِف هيئة وجهٍ إذا كان الوجه نفسه غير موجود. لم تزد العَينان البُنِّيَّتان المُفعمتان بالحياة والجمال وهما تنظُران من بين أنقاض هذا الدمار إلَّا أنْ جعلتا المنظر أكثر بَشاعة. فرفع هولمز يده تعبيرًا عن الشفقة والاستياء، ومضَينا خارج الغرفة.
بعد مرور يومَين، وأثناء ما كنتُ أزور صديقي، أومأ بشيءٍ من الفخر إلى زُجاجةٍ زرقاء صغيرة على رفِّ مَوقِده، فتناولتُها. كان عليها مُلصَقٌ مكتوب عليه «سمٌّ أحمر». وعندما فتحتُها انبعثتْ منها رائحةٌ زكية تُشبِه رائحة زَيت اللوز.
قلتُ: «حمض الهيدروسيانيد.»
«بالضبط. لقد أُرسِل بالبريد. «أرسلتُ إليك بهذا الذي كان يُحرِّضُني. سوف أعمل بنَصيحتِك.» هذه هي الرسالة التي كانت معه. أعتقِد يا واطسون أنَّنا نستطيع تَخمين اسم المرأة الشُّجاعة التي أرسلَتْها.»