الخطر!
مِن المدهش أن الإنجليز، الذين يُشاع عنهم أنهم شعبٌ عملي، لم يَلحظوا قطُّ الخطرَ المُحدِق بهم؛ فلِسنواتٍ عديدة كانوا يُنفقون مِئات الملايين سنويًّا على جيشهم وأُسطولهم. كانوا يُطلِقون أسرابًا من المدرَّعات التي كلَّف كلٌّ منها مليونَين، وأنفقوا مبالغَ طائلةً على السفن الحربية. وكانت أساطيل زوارق الطوربيد والغواصات الخاصة بهم غايةً في القوة، كما أن قواتهم الجوية لم تكن بحالٍ من الأحوال أقلَّ بأسًا، لا سيما فيما يتعلَّق بالطائرات المائية. علاوةً على كل ذلك، كان جيشُهم شديدَ الكفاءة، رغم أعداده المحدودة، وكان الأعلى إنفاقًا في أوروبا. ومع ذلك حينما آنَ أوانُ التجرِبة، لم تكن لكل تلك القوة الغاشمة أيُّ جدوى، وكأنها غير موجودة. لم يكن دمارهم الكُلِّي ليتحقَّق على نحوٍ أكملَ وأسرعَ إن لم يَملكوا أيَّ مُصفَّحة أو كتيبة من الجنود. وكل هذا تحقَّق بفضلي أنا، الكابتن جون سيرياس، قبطان بالقوات البحرية لواحدةٍ من أصغر القوات في أوروبا، وبالاستعانة بأسطولٍ صغير من ثماني غواصات، لا تتعدَّى تكلفته الإجمالية مليونًا وثمانمِائة ألف جُنيه. ما من أحدٍ أحقُّ برواية القصة مني أنا.
لن أُزعجَكم بحكاية النِّزاع حولَ حُدود المستعمرة التي غَصَّت بمرارة قتل اثنين من المبشِّرين لاحقًا؛ فالضابط البحري لا شأنَ له بالسياسة. لم أدخل المشهد إلا بعد استلام الإنذار النِّهائي بالفعل. استُدعي الأميرال هورلي للمُثول أمامَ الذات الملَكية، والْتَمس لي الإذن بمرافقته؛ إذ تصادف أنه يَعرف أن لديَّ بعض الأفكار المبتكَرة حولَ نقاط ضعف إنجلترا، وكذلك بعض الخُطط بشأن كيفية الاستفادة منها. لم يحضر هذا الاجتماعَ سوى أربعتِنا؛ الملك ووزير الخارجية والأميرال هورلي وأنا. وقد بقيَ على المهلة التي يُتيحها الإنذارُ ثمانٍ وأربعون ساعة.
لستُ أَشي بسِرٍّ حين أقول إن الملك والوزير كانا يَميلان إلى الاستسلام؛ فهما لم يَريا أيَّ إمكانية لمجابهة القوة الغاشمة لبريطانيا العُظمى. وقد أعدَّ الوزير مسوَّدةً لخطاب قَبول الشروط البريطانية، وجلس الملك وهي أمَامه على المائدة. ورأيتُ دموع الغضب والإهانة تنساب على خدَّيْه وهو ينظر إليها.
قال الوزير: «أخشى أننا لا نملك بديلًا ممكنًا يا مولاي؛ فقد أرسل لنا مبعوثنا في لندن للتوِّ هذا التقرير الذي يوضح أن الرأيَ العامَّ والصحافة مُتَّفقَان على هذا كما لم يَعهدْهما من قبل. فالشعور قوي، لا سيما منذ التصرُّف المتهوِّر الذي قام به مالورت حين دنَّس العَلَم. نحن مُضطرُّون إلى الاستسلام.»
نظر الملك بحزنٍ إلى الأميرال هورلي.
وسأل: «ما حجمُ أسطولك الفعلي يا أميرال؟»
رد الأميرال: «بارجتان وأربع سفن حربية وعشرون زورقَ طوربيد وثماني غواصات.»
هزَّ الملك رأسه.
ثم قال: «ستكون المقاومة ضَربًا من الجنون.»
فقال الأميرال: «ولكن يا مولاي قبلَ أن تُصدِر قرارك أرجو أن تستمعَ إلى الكابتن سيرياس؛ فلديه خُطةٌ مُحدَّدة للغاية لشنِّ حملة على الإنجليز.»
رد الملك بنفادِ صبر: «هُراء! ما الجدوى؟ هل تتخيَّل أنك تستطيع هزيمة أسطولهم الضخم؟»
قلت: «مولاي، أُراهن بحياتي أنك إذا اتَّبعت مشورتي فسوف تأتيك إنجلترا الأبيَّةُ راكعةً في غضون شهرٍ أو ستة أسابيع على الأكثر.»
كان صوتي مُفعمًا بالثقة؛ مما استرعى انتباهَ الملك.
«تبدو واثقًا من نفسك يا كابتن سيرياس.»
«ليس لديَّ أدنى شك يا مولاي.»
«بمَ تنصح إذن؟»
«أرى يا مولاي أن يُجمَع الأسطول بالكامل تحت حصون بلانكنبيرج، ويُحمى من الهجوم بالسلاسل الحديدية والرءوس الحربية. ويبقى هناك حتى نهايةِ الحرب. أما الغواصات الثماني، فتتركها تحت مسئوليتي لأستخدمَها كيفما أشاء.»
«آه، ستُهاجم البوارج الحربية الإنجليزية بالغواصات؟»
«مولاي، أنا لن أقترب من أيِّ بارجةٍ حربية إنجليزية على الإطلاق.»
«ولمَ لا؟»
«لأنها قد تصيبني يا مولاي.»
«يا إلهي! بحَّارٌ وتخاف؟»
«حياتي فداءٌ لبلدي يا مولاي؛ إنها بلا قيمة. ولكن هذه الغواصات الثماني، يَعتمد عليها كل شيء، ولا أستطيع أن أُجازف بها. لن يدفعَني شيء إلى القتال.»
«ماذا ستفعل إذن؟»
«سأخبرك يا مولاي.» وأخبرتُه بكل شيء. تحدَّثتُ لمدة نصف ساعة. كنتُ واضحًا وقويًّا وحاسمًا؛ فقد بذلت ساعاتٍ طويلةً في نوبات المراقبة التي كنتُ أقضيها وحيدًا في التفكير في كل التفاصيل؛ فسلبتُ ألبابهم، ولم يَرفع الملك عينَيه عن وجهي قطُّ طوالَ المحادثة. وتجمَّد الوزير في مقعده وكأنه تمثال حجري.
«أأنت على يقينٍ من كل هذا؟»
«على يقينٍ تامٍّ يا مولاي.»
نهض الملك عن المائدة.
وقال: «لا تُرسل ردًّا على الإنذار. وأعلنوا في المجلسَين التشريعيَّين أننا سنقف راسخِين في مواجهة التهديد. أميرال هورلي، سوف تكون مسئولًا عن تلبية كل ما يَطلبه الكابتن سيرياس لتنفيذ خُطته. أما أنت يا كابتن سيرياس، فالميدان خالٍ أمامَك. تقدَّم ونفِّذ ما قلتَه. وثَمَّةَ ملكٌ مُقدِّر للجميل سيَعرف كيف يكافئك.»
لستُ في حاجة لأن أُثقِلَ عليكم بتفاصيل الإجراءات التي اتُّخِذت في بلانكنبيرج؛ نظرًا لأن الحصن — كما تعرفون — والأسطول بأكمله قد دُمِّرا بالكامل على يد البريطانيين في غضون أُسبوعٍ واحد من إعلان الحرب، وسوف أكتفي بسرد خُططي التي أَثمرت عن نتيجةٍ غاية في العظمة والحسم.
ذاع صِيتُ غواصاتي الثماني، ألفا وبيتا وجاما وثيتا ودلتا وإبسلون وأيوتا وكابا، في جميع أنحاء العالم، حتى إن الناس بدءوا يظنُّون أن هناك ما يُميِّز تصميمها وإمكانياتها. لكن هذا غير صحيح؛ فصحيح أن أربعًا منها — دلتا وإبسلون وأيوتا وكابا — كانت من أحدث طراز، ولكن كان هناك ما يُضاهيها (وليس ما يَفوقها) في القوات البحرية الخاصة بكل القوى العُظمى. أما ألفا وبيتا وجاما وثيتا، فإنها لم تكن بأيِّ حالٍ من الأحوال حديثة، وترجع نماذجها الأوَّلية إلى الغواصات البريطانية القديمة من الفئة السادسة؛ إذ تبلغ إزاحتُها غاطسةً ثمانمِائة طن، مع وجود محرِّكات ديزل ثقيلة قُدرتها ألف وستمِائة حصان؛ مما يجعل سرعتها على السطح ثمانيَ عشرة عُقدة، وفي الماء اثنتي عشرة عقدة. كان طولها مِائةً وستًّا وثمانين قدمًا، وعرضها أربعًا وعشرين قدمًا. يَبلغ نصف قطر مداها أربعة آلاف ميل، وتتميز بقُدرة تحمُّل غوص تبلغ تسع ساعات. كانت هذه الغواصات تُعتبر الأحدث في ١٩١٥، ولكن الغواصات الأربع الجديدة فاقتْها في كل شيء. دون إزعاجك بالأرقام الدقيقة، أستطيع أن أقول إنها تَفوق الغواصات القديمة بنسبةٍ قدرها خمسٌ وعشرون في المائة تقريبًا، وقد جُهزت بعدة محركاتٍ مساعِدة لم تكن موجودة في الأخيرة. وبِناءً على اقتراحي، بدلًا من حمل ثمانيةٍ من طرابيد باكدورف الشديدة الضخامة، التي يبلغ طولها تسع عشرة قدمًا، ووزنها نصفَ طن، وتُلقَّم بمِائتَي رطل من قطن البارود المفرقع المبلَّل، استخدمنا أنابيبَ لثمانية عشر طوربيدًا يبلغ حجمها أقل من نصف هذا الحجم. كانت خُطتي أن أجعلَ نفسي مستقلًّا عن القاعدة تمامًا.
ومع ذلك، كان من الواضح أن عليَّ اتخاذَ قاعدةٍ ما؛ لذا بدأت على الفور في إجراء الترتيبات اللازمة لبُلوغ هذا الهدف. كانت بلانكنبيرج آخرَ مكان يُمكن أن أختارَه. لماذا يجب أن أختار مرفأً من أيِّ نوع؟ المرافئ تُراقَب أو تُحتَل. أي مكان سيصلح لي. وأخيرًا اخترت فيلا صغيرة معزولة على بُعد حوالَيْ خمسة أميال من أقربِ قرية، وثلاثين ميلًا من أقربِ مرفأ، وأَمَرتُ بأن يُوصلوا إليها سرًّا في الليل زيتَ ديزل وقطعَ غيار، والمزيدَ من الطوربيدات وبطاريات التخزين ومناظير الأفق الاحتياطية، وكل ما يُمكن أن أحتاجَه لإعادة تجهيز الغواصات. فيلا صغيرة بيضاء كانت ملكًا لحلواني مُتقاعد، كانت تلك هي القاعدة التي أدرتُ منها الحرب ضد إنجلترا.
كانت الغواصات قابعةً في بلانكنبيرج؛ ومن ثَمَّ توجهتُ إلى هناك. كان العمل على قَدمٍ وساقٍ في الحصون، ولم يكن عليهم إلا أن ينظروا في اتجاه البحر ليَستنهضوا همتهم لبذل المزيد من الجهد المفعَم بالنشاط؛ إذ كان الأسطول البريطاني على وشك التجمُّع. لم تنتهِ مهلة الإنذار بعد، ولكن كان من الواضح أن الطلقات ستُدوِّي فورَ انتهائها. كانت تحوم فوق حصوننا أربعٌ من طائرات العدو على ارتفاعٍ هائل لرصد تحرُّكاتنا. من أعلى المنارة عدَدْتُ ثلاثين بارجة وسفينة حربية في عُرض البحر، مع عددٍ من سفن الصيد التي يُمهِّد بها الجيش البريطاني الطريقَ عبْر حقول الألغام. كانت المسارات مزروعةً بالفعل بمائتَي لغم، نصفها ألغام اتصال مباشر (تنفجر فور لمس أي سفينة لها)، ونصفُها ألغام مراقبة، ولكن النتيجة بيَّنَت أنها لم تكن كافية لصدِّ العدو؛ نظرًا لأن كلًّا من المدينة والأسطول سُرعان ما دُمِّرا بعد ثلاثة أيام.
إلا أنني لستُ هنا لرواية أحداث الحرب، وإنما لتوضيح الدور الذي أديتُه فيها، والذي كان له تأثير حاسم على النتيجة. كان قراري الأول هو إرسال غواصاتي الأربع من الدرجة الثانية فورًا إلى النقطة التي اخترتها لقاعدتي. وهناك تنتظر مغمورةً تحت الماء، راقدةً بفعل الطَّفوية السلبية فوق الرِّمال على بُعد عشرين قدمًا، ولا ترتفع إلا ليلًا. وأصدرتُ أوامري الصارمة بألا تُحاوِلَ مواجهة العدو بأيِّ شكل، مهما كانت الفرصة مُغرية. كان كل ما عليهم أن يفعلوه هو أن يَبقَوْا سالِمين وغير مرئيين، إلى أن تصدر لهم أوامرُ أخرى. وبعد أن أوضحت هذا الأمر للقائد بانسا، الذي كان مسئولًا عن هذا الأسطول الاحتياطي الصغير، صافحتُه وودَّعته، معطيًا إياه ورقة صغيرة شرحت فيها التكتيكات التي ينبغي استخدامها، ووضحت له بعض المبادئ العامة التي يستطيع تطبيقها حَسْبما تقتضي الظروف.
والآن أوليتُ اهتمامي كله لأسطولي الصغير الذي قسمتُه إلى قسمين، مُبقيًا أيوتا وكابا تحت قيادتي، وموَلِّيًا الكابتن ميريام قيادة الغواصتين دلتا وإبسلون. كان عليه أن يَعملَ على نحوٍ منفصل في القناة البريطانية، بينما كنت أنا مستقرًّا في مضيق دوفر. شرحتُ له الخُطة بأكملها بوضوحٍ تام. وحرَصتُ على إمداد كل غواصة بكل ما تستطيع حَمله؛ فكانت كلٌّ منها تحمل أربعين طنًّا من الديزل الثقيل للاندفاع فوق سطح الماء، وشحن المولِّد الكهربائي الذي يُمدُّ المحركات بالكهرباء تحت الماء. كما تحتوي كل واحدةٍ على ثمانية عشر طوربيدًا كما هو موضح، وخمسمِائة حزام طلقات للمَدافع السريعة الطلقات القابلة للطي، زِنة الاثني عشر رطلًا، التي نحملها على السطح، والتي بطبيعة الحال تختفي في حاوية مُحكَمة الإغلاق حين نغوص. كنا نحمل مناظير أفق احتياطية، وعمود إشارات لا سلكية يمكن رفعه فوق برج القيادة عند الضرورة. كان ثَمَّةَ إمدادات تكفي لمدة ستة عشر يومًا للرجال العشرة الموجودين على متن كل غواصة. كانت تلك هي تجهيزات الغواصات الأربع التي كان يُفترض أن تُطيح بكل قوات بريطانيا البحرية والعسكرية. وعند غروب شمس ذلك اليوم — العاشر من أبريل — انطلقنا في رحلتنا التاريخية.
كان ميريام قد انطلق منذ الظهيرة؛ حيث كانت أمامَه مسافة أكبر لقطعها حتى يبلغ موقعَه. أما ستيفان، قائد الغواصة كابا، فشرع في رحلته معي؛ ولكننا، بطبيعة الحال، اكتشفنا أن علينا العمل على نحوٍ مُستقل، وأننا منذ لحظة إغلاق فتحتَي برجَي القيادة المنزلقَيْن في مياه مرفأ بلانكنبيرج الساكنة، كان من غير المحتمل أن يرى أحدُنا الآخر مرةً أخرى، رغم وجودنا في المياه نفسها. لوَّحتُ لستيفان من جانب برج مراقبتي، فلوَّح لي. ثم اتصلت بالمهندس عبْر جهاز الإرسال (إذ كانت خزانات المياه قد امتلأت بالماء بالفعل، وكل الفتحات قد أُغلقت) لكي ينطلق بالغواصة بسرعتها الكاملة.
فور اقترابنا من نهاية الرصيف ومُشاهدة الأمواج المتلاطمة المُزبِدة أمامَنا، أنزلت الدفة الأفقية بعُنفٍ إلى أسفل فانزلقت الغواصة تحت الماء. ورأيتُ من خلال نوافذي المستديرة الزجاجية اللونَ الأخضر الفاتح يتحوَّل إلى الأزرق الداكن، بينما يشير مقياس الضغط المثبَّت أمامي إلى عشرين قدمًا. تركتها تغوص إلى أربعين قدمًا؛ لأنني بهذه الطريقة أكون تحت بوارج الإنجليز، رغم أنني جازفت بإفساد حبال إرساء ألغام الاتصال المباشر الطافية الخاصة بنا. ثم ثَبَّتُّ الغواصة، وكانت أصوات محرِّكاتها الكهربية اللطيفة، وحتى أصوات طقطقتها، تبدو كلحنٍ جميل في أذني. وكنت سعيدًا أيَّما سعادة عندما عرَفت أنني أسير بسرعة اثني عشر ميلًا في الساعة في مهمتي العظيمة.
في هذه اللحظة، وأنا أقف متحكمًا في رافعاتي في برج القيادة الخاص بي، كنت سأرى الظلال الضخمة للسفن الإنجليزية المحاصِرة تحوم فوقي لو أن قُبَّتي كانت من الزجاج. سرت في اتجاه الغرب لمدة تسعين دقيقة، ثم بإغلاق المحرك الكهربائي دون تفريغ خزانات المياه، صَعِدتُ بالغواصة إلى السطح. كان البحر مائجًا والرياح مُنعشة؛ لذلك لم أظن أنه من الأمان إبقاء فتحة الغواصة مفتوحة لفترةٍ طويلة؛ لأن هامش الطَّفوية شديد الضآلة، ويجب عدم المجازفة. ولكن مِن فوق قمة الأمواج العالية ألقيتُ نظرةً للخلف على بلانكنبيرج، ورأيت المداخن السُّود والأجزاء الظاهرة من سفن العدو، ومن خلفها المنارة والحصن، ينعكس عليها الضوء الوردي للشمس الغاربة. وتناهى إلى مسامعي، وأنا أنظر، صوتُ دَوِيِّ مدفع هائل، وتلاه آخر. نظرت إلى ساعتي فوجدتها السادسة. لقد انتهت مهلة الإنذار، وبدأت الحرب.
لم تكن ثَمَّةَ مراكب بالقُرب منا، وسرعتنا فوق سطح الماء تبلغ تقريبًا ضِعف سرعتنا تحته؛ لذلك رفعت ضغط الهواء في الخزانات لطرد المياه؛ فارتفع ظهر الغواصة المقوَّس فوق سطح الماء. ظَلِلنا طوال الليل نتَّجه للجنوب الغربي، ورأيتُ بينما أقف وحيدًا فوق مِنصتي الصغيرة، حين نظرت جهة الغرب، الأضواءَ المتناثرة لساحل نورفك. فقلت وأنا أنظر إليها: «آهٍ يا إنجلترا! ستُلقَّنين درسًا وسأكون أنا مُعلِّمَكِ. لقد اختِرتُ أنا لتعليمك أن المرء لا يستطيع الحياة تحت ظروفٍ اصطناعية ومع ذلك يتصرَّف كما لو كانت طبيعية. المزيد من البصيرة يا إنجلترا، والقليل من السياسات الحزبية، هذا هو درسي لكِ.» ثم انتابتني موجة من الشفقة أيضًا عندما فكرت في تلك الحشود العريضة من البؤساء، عُمال المناجم بيوركشير، وعُمال النسيج بلانكشير، وصُناع الأدوات المعدنية، وعُمال الموانئ، وعُمال لندن، الذين سأجعل شبح الجوع يُخيِّم على بُيوتهم الصغيرة. وبدا لي أني أرى كل هذه الأيدي الهزيلة المتلهِّفة ممدودةً تستجدي الطعام، وأنا، جون سيرياس، أُخيِّب أملها. آه، حسنًا! الحرب هي الحرب، والأحمق لا بد أن يدفع ثمن حماقته.
قبل بُزوغ الفجر بقليل رأيتُ أضواء مدينة كبيرة، لا بد أنها مدينة يارموث، تقع على بُعد حوالَيْ عشَرة أميال غرب الجنوب الغربي على يَميننا. اجتزتُها من بعيد؛ لأن ساحلها كان رمليًّا خطيرًا، به الكثير من المناطق الضحلة. في الخامسة والنصف كنا قُبالة منارة لوستوفت العائمة. وكان ثَمَّةَ واحد من خفر السواحل يُرسل إشاراتٍ ضوئيةً تلاشت تدريجيًّا مع زحف نور الفجر على الماء. كان يوجد عددٌ كبير من القوارب أمامَنا، معظمها قوارب صيد وقوارب نُزهة صغيرة، بالإضافة إلى سفينة بُخارية كبيرة إلى الغرب، ومُدمِّرة طوربيدية بيننا وبين الأرض. إنها لا تستطيع إيذاءنا، ولكنَّني فكرت أيضًا في أننا لا ينبغي أن نعلن عن وجودنا؛ لذا ملأتُ خزاناتي مرةً أخرى، وغُصنا مسافة عشر أقدام. وسعدت عندما وجدتُ أننا نزلنا في مِائةٍ وخمسين ثانية؛ فقد تعتمد حياة غواصتك على هذا عندما تُداهمك سفينةٌ سريعة بشكلٍ مفاجئ.
أصبحنا الآن على بُعد ساعاتٍ قليلة من مُستقَرِّنا؛ لذلك قرَّرتُ أن أنتهز الفرصة وأستريح قليلًا، مخوِّلًا القيادة لفورنال. وعندما أيقظني في العاشرة كنا نُبحر على السطح، ووصلنا إلى ساحل إسيكس قُبالة مابلين ساندز. أخبرَنا أصدقاؤنا في إنجلترا في صحفهم، بتلك الصراحة الرائعة التي تُعَدُّ واحدةً من سِماتهم، أنهم وضعوا نطاقًا من زوارق الطوربيد عبْر مضيق دوفر لمنع مرور الغواصات، وهو ما يُشبه وضع لَوْح خشبي عبر مجرًى مائي لمنع ثعابين الماء من المرور. كنت أعرف أن ستيفان، الذي توجد محطته في الطرَف الغربي من سولنت، لن يجد صُعوبة في الوصول إليها. أما محطتي أنا فكانت في مصبِّ نهر التيمز، وها أنا ذا في البقعة عينها بغواصتي الصغيرة أيوتا، وطرابيدي الثمانية عشر، ومِدفعي السريع الطلقات، وفوقَ كل هذا، عقلي الذي يعرف ما يجب القيام به وكيف يقوم به.
عندما استعدتُ مكاني في برج القيادة رأيتُ في مِنظار الأفق (لأننا كنا قد غُصنا) أن ثَمَّةَ منارةً عائمة على بُعد بضع مِئاتٍ من الياردات على يَسارنا. كان يوجد رجلان يجلسان على جدارها، ولكنَّهما لم يلمحا القضيب الصغير الذي يقطع الماء بالقُرب منهما. كان يومًا مثاليًّا لعمل الغواصة؛ إذ كان يوجد ما يكفي من الأمواج على السطح لتجعل اكتشافنا صعبًا، ومع ذلك كان البحر هادئًا بما يكفي لجعل رؤيتي واضحة. كان كل مِنظار أفق من مناظيري الثلاثة مائلًا بزاوية ستين درجةً بحيث أستطيع مراقبة نصف دائرة الأفق بالكامل. كان ثَمَّةَ سفينتان حربيتان بريطانيتان تُبحران شمالًا من التيمز على مسافة نصف ميل مني. كنت أستطيع بسهولةٍ أن أعزلَهما وأهاجمَهما لو كنتُ سمحتُ لنفسي بالانحراف عن خُطتي الكبرى. وفي أقصى الجنوب كانت ثَمَّةَ مُدمِّرة تمرُّ في اتجاه الغرب إلى شيرنس، ونحو عشرة قوارب بخارية تتحرَّك هنا وهناك. لم يكن أيٌّ من هذا يستحق أن ألتفت إليه؛ فالبلدان العظيمة لا تُمَوِّنها القوارب البخارية الصغيرة. شغَّلتُ المحركات على أقل سرعة تحافظ على موقعنا تحت الماء متحركًا ببطء عبْر مصبِّ النهر، وانتظرت ما كان قادمًا لا محالة.
لم أنتظر طويلًا؛ فبعد الواحدة بقليلٍ رأيتُ في منظار الأُفق سحابةً من الدخَان جهةَ الجنوب. وبعدها بنصف ساعة رَفعت سفينة بخارية كبيرة بدنها، متجهة إلى مصبِّ نهر التيمز. أمرت فورنال بتجهيز أنبوب الطوربيد الأيمن، مع حشو الأنبوب الآخر تحسُّبًا لحدوث خطأ في التصويب. ثم تقدمت ببطء؛ فعلى الرغم من أن السفينة البخارية كانت تسير بسرعة بالغة، كنا نستطيع أن نقطع عليها الطريق بسهولة. وسُرعان ما ثبتُّ أيوتا في موضعٍ لا بد أن تمر السفينة بالقرب منه، وكنت أحب البقاء فيه، لكنني لا أستطيع، خوفًا من الارتفاع إلى السطح؛ لذا وجهت الغواصة في الاتجاه الذي كانت قادمة منه. كانت سفينة كبيرة جدًّا، خمسة عشر ألف طن على الأقل، مطلية باللون الأسود من أعلى وباللون الأحمر من الأسفل، وبها مِدخنتان باللون الأصفر الفاتح. كانت مُنخفضة جدًّا في المياه بحيث كان واضحًا أنها مكتملة الشحنة. وكان يقف على مقدمتها مجموعة من الرجال، بعضهم ينظر، فيما أظن، للمرة الأولى إلى بلده الأم. ما كان لهم أن يتخيَّلوا يومًا الترحاب الذي ينتظرهم!
ها هي قادمة تمخُر عُباب الماء، وتَقسِم الأمواج البيضاء المُزْبِدة بمقدمتها، والأدخنةُ الكثيفة تتصاعد من مِدخنتَيْها. كانت على بُعد ربع ميل. ها قد حانت اللحظة الحاسمة. أعطيت إشارة ببلوغ السرعة القصوى، ووجهت الغواصة لمسار السفينة مباشرة. كان توقيتي دقيقًا. أعطيتُ الإشارة عند المِائة ياردة، وسمعتُ قعقعة وهسهسة إطلاق الطوربيد. وفي اللحظة نفسها، أنزلتُ الدفة بعنف لأسفل، وانطلقتُ مبتعدًا بزاوية. حدثت هزة عنيفة جرَّاءَ الانفجار البعيد. وللحظةٍ كادت الغواصة تميل على جانبها، ثم بعد الاهتزاز والارتجاف، استعادت أيوتا توازنها في الماء؛ فأوقفتُ المحرِّكات وصعدتُ بها لسطح الماء، وفتحتُ برج القيادة، بينما جاء كل أفراد طاقمي متحمِّسين لحجرة القيادة ليعرفوا ما حدث.
خمَدت السفينة على بعد مِائتي ياردة منا، وكان من السهل أن نرى أنها قد تلقَّت الضربة القاضية. كانت مؤخرتها مستقرة بالفعل على سطح الماء. وأصوات الصراخ تتعالى منها، والناس يَجرُون بجنون على ظهرها. كان اسمها ظاهرًا، أديلا، من لندن، وكانت قادمة — كما علمنا فيما بعد — من نيوزيلندا، محملةً بلحم الضأن المجمد. كانت فكرة الغواصة لم تخطر حتى هذه اللحظة ببال ركاب السفينة قط، رغم أن هذا قد يبدو لك غريبًا، وكان الجميع مُقتنعِين أنهم قد اصطدموا بلغمٍ بحري. كان الطوربيد قد فجَّر الجانب الأيمن، والسفينة تغرق بسرعة. وكان انضباطهم وتدريبهم مثيرًا للإعجاب. رأينا قاربًا تلو الآخر، يَنْسلُّ من السفينة، ويمتلئ بالركاب بسرعة وهدوء شديدَين، كما لو كان ما حدث جزء من تدريبهم اليومي. وفجأة، بينما كان أحد القوارب يقف منتظرًا بقية القوارب، لمحوا لأول مرة برج قيادة غواصتي شديد القرب منهم. ورأيتهم يَصيحون ويُشيرون إلينا، بينما نهض الرجال في القوارب الأخرى ليَرَوْنا على نحو أفضل. من جهتي، لم أبالِ؛ لأنني كنت مُسَلِّمًا بأنهم سيَعرفون لا محالة أن ثمة غواصةً هي المسئولة عن تدميرهم. وتسلَّق أحدهم السفينة الغارقة مرة أخرى. كنت على يقين من أنه على وشك إرسال رسالة لا سلكية تُعلن عن وجودنا. لم يكن الأمر يهمني في شيء؛ لأنهم سيعرفون في جميع الأحوال؛ ولولا ذلك لأرديتُه قتيلًا في الحال برصاص بندقيتي بمنتهى السهولة. لوَّحت بيدي لهم، ولوَّحوا لي. الحرب شيء هائل لدرجة لا تَسمح بوجود مساحة للضغائن الشخصية، ومع ذلك فيجب أن تكون بلا رحمة.
كنتُ لا أزال أنظر إلى السفينة أديلا الغارقة عندما صرخ فورنال، الواقف بجواري، فجأة صرخة تحذير ودهشة، وقبض على كتفي وأدار رأسي. هناك خلفنا، كان ثمة سفينة سوداء ضخمة بمداخنَ سُود، ترفع علم شركة بي آند أوه الشهير. كانت على بُعد أقل من ميل، وحسبت في لحظة أنها حتى إن رأتنا فلن تَمتلِك الوقت الكافي للاستدارة والابتعاد قبل أن نصل إليها. لذا تقدمنا نحوها مباشرة، والماء يغمرنا كما كنا تمامًا. كانوا يرَوْن السفينة الغارقة أمامَهم، وتلك النقطة الصغيرة السوداء تتحرك فوق سطح الماء، وفجأة أدركوا الخطر المُحْدِق بهم. رأيتُ عددًا من الرجال يُسرعون لمقدمة السفينة، وتعالت أصوات طلقات البنادق. تفلطَحت رَصاصتان إثر اصطدامهما بدرع غواصتنا البالغ سُمكُه أربع بوصات. لو كان من الممكن صدُّ ثور هائج ببعض الكرات الورقية فلربما أَمكن بالمثل ردع الغواصة أيوتا بطلقات البندقية. كنتُ قد تعلمت الدرس الذي لقَّنتْه لي السفينة أديلا، وهذه المرة أطلقت الطوربيد وأنا على مسافة آمنة؛ مِائتان وخمسون ياردة. انفجر الطوربيد في منتصف السفينة، وكان الانفجار مروِّعًا، ولكن كنا خارج نطاقه. وغرقت السفينة على الفور تقريبًا. أشعر بالأسى حيالَ ركابها، الذين سمعتُ أن أكثر من مِائتين منهم — منهم سبعون ملَّاحًا وأربعون راكبًا — غرقوا. نعم أشعر بالأسى حيالَهم، ولكني عندما أفكر في الشَّوْنة العائمة التي غرقتْ لقاع البحر، أبتهج كما يفعل المرء حين ينفذ ما خَطَّط له.
كان يومًا سيئًا بالنسبة لشركة بي آند أوه. كانت السفينة الثانية التي دمَّرناها، وفقًا لما عرفناه بعد ذلك، هي السفينة مولدافيا، التي تبلغ حمولتها خمسة عشر ألف طنًّا، واحدة من أفضل سفنهم. ولكن في حوالي الثالثة والنصف فَجَّرنا السفينة كوسكو، ذات الثمانية آلاف طن، من نفس الخط، أيضًا من الموانئ الشرقية، وكانت محمَّلة بالذُّرة. لا أستطيع تخيُّل السبب الذي دفعها للتقدم رغم الرسائل اللاسلكية التي لا بد أنها قد حذرتها من الخطر المُحْدِق. أما القاربان البخاريان الآخران اللذان فجرناهما في ذلك اليوم، ميد أوف أثينز (خط روبسون) وكورمورانت، فكلاهما لم يكن مزوَّدًا بجهاز استقبال لاسلكي؛ لذا اقتربا من حَتْفهما مثل العُميان. كان كلاهما صغيرَين تبلغ حمولتهما من خمسة آلاف إلى سبعة آلاف طن. وفي حالة القارب الثاني، اضطُررتُ للصعود إلى السطح وإطلاق ستِّ قذائف، زنة اثني عشر رطلًا تحت خط الماء الخاص به قبل أن يغرق. وفي كلتا الحالتين هرب الملاحون بالقوارب، وعلى حدِّ علمي لم تحدث أيُّ وفَيَات.
بعد ذلك لم تأتِ أيُّ بواخر، ولم أتوقع أن تأتي أيٌّ منها. فلا جَرَم أن التحذيرات بحلول هذا الوقت كانت تتطاير في كل الاتجاهات. ولكن لم يكن ثمة ما يُثير استياءنا من يومنا الأول، فما بين مابلين ساندز ونور أغرقنا خمس سفن بإجمالي حمولة تصل إلى نحو خمسين ألف طن. وستبدأ أسواق لندن في الشعور بالمأزق. وبنك لويدز — لويدز البائس العتيق — يا لها من حالة جنون تلك التي ستَنتابه! أستطيع تخيُّل صحف المساء في لندن والعواء في شارع فليت. لقد رأينا ثمرة عملنا؛ لأنه كان من المضحك جدًّا مشاهدة زوارق الطوربيد تطنُّ كالدبابير الغاضبة خارجة من شيرنس في المساء. كانت تتحرَّك في كل اتجاه عبر مصب النهر، والطائرات الجوية والمائية كأسراب الغربان السُّود، مثل نقاط سُود على صفحة سماء الغرب الحمراء، مَسَحَت مصبَّ النهر بأكمله، إلى أن اكتشفتنا في النهاية. شخصٌ حادُّ البصر بتليسكوب على متن إحدى المدمِّرات لمح مِنظار الأفق الخاص بنا، واتجه صوبنا بأقصى سرعة. لا شك أنه كان سيدُكُّنا دكًّا بكل سعادة، حتى إذا كان ذلك يعني تدميره هو شخصيًّا، ولكن هذا لم يكن قطُّ جزءًا من خطتنا. هبطتُ بالغواصة تحت سطح الماء، وسِرنا في اتجاه شرق الجنوب الشرقي بأقصى سرعة يَسمح بها الموقف. وأخيرًا وصلنا بها إلى مكان ليس ببعيد عن ساحل كِنت، وكانت الأنوار الكاشفة لمتعقِّبينا بعيدة عند الأفق الغربي. وهناك مكثنا بهدوء طوال الليل؛ فالغواصة أثناء الليل لا تتعدى كونها زورق طوربيد من الدرجة الثالثة. إلى جانب أننا كنا جميعًا منهَكِين وفي حاجة إلى الراحة. لا تنسَوا يا قادة البشر، عندما تُشحِّموا وتُجهِّزوا مِضخاتكم ومكابسكم وأجهزتكم، أن الآلة البشرية تحتاج أيضًا لبعض العناية.
رفعتُ عمود الإشارات اللاسلكية فوق برج القيادة، ولم أجد صعوبة في الاتصال بالكابتن ستيفان. قال إنه مُستقر بغواصته قُبالة ساحل فنتنور، ولم يتمكَّن من بلوغ محطته؛ نظرًا لحدوث عُطل في المحركات، كان قد أصلحه في الوقت الحالي. في الصباح التالي، عَرَض أن يسدَّ طريق ساوثهامبتون. لقد دمَّر سفينة هندية ضخمة في طريقه عبر القناة. تبادلنا الأمنيات الطيبة. كان هو أيضًا، مثلي، في حاجة إلى الراحة. ومع ذلك استيقظتُ في الرابعة صباحًا، واستدعَيتُ الجميع للكشف عن أي عطل أو مشكلة في الغواصة وإصلاحها. كانت مرفوعة نوعًا ما من مقدمتها، نتيجة استخدام الطوربيدات الأمامية؛ لذا وازنَّاها بفتح الخزانات الأمامية، سامحين بدخول قدر من الماء يُساوي وزن الطوربيدات التي أطلقناها. كما أصلحنا مِكبس الهواء الأيمن وأحد مواتير مِنظار الأفق كان قد ارتجَّ من جرَّاء الصدمة الناجمة عن الانفجار الأول. لم نكَد نرتب أمورنا حتى بزغ الصبح.
ما من شك أن عددًا ضخمًا من السفن التي لجأت إلى المرافئ الفرنسية عند الإنذار الأول قد عبرت النهر ليلًا آمنة. بالطبع كان بإمكاني أن أهاجمَها، ولكنني لا أريد المجازفة، وهناك دائمًا مجازفة أمامَ الغواصات في الليل. لكن أحدهم أخطأ في تقدير الزمن، وها هي سفينة، تقف بمحاذاة واردن بوينت تمامًا، وقد كشفها لنا ضوء النهار. في لحظة واحدة كنا نتعقبها. كانت قريبة؛ لأنها كانت سريعة، وتستطيع قطع ميلين في مقابل كل ميل نقطعه؛ ولكننا وصلنا إليها وهي تَنطلق بجوارنا. رأتنا في آخر لحظة لأنني هاجمتها وأنا فوق الماء؛ لأننا لولا ذلك لما وصلنا لها بسرعتنا. مالت السفينة مُبتعدةً ولم يُصبها الطوربيد الأول، ولكن الثاني أصابها بالكامل. يا للسماء، يا لها من ضربة! بدا أن مؤخرة السفينة بالكامل قد طارت لأعلى. تراجعتُ للخلف وراقبتُها وهي تغرق. غرِقتْ في سبع دقائق، مخلِّفة صواريها ومداخنها فوق سطح الماء، ومجموعةٌ من ركابها يتعلقون بها. كان اسمها فرجينيا وتتبع شركة بيبي لاين — حمولتها اثنا عشر ألف طن — وكانت محملة كنظيرتها بموادَّ غذائية من الشرق. كان سطح البحر بالكامل مغطًّى بالحبوب الطافية. وبينما نراقب المشهد، قال فورنال: «ستُضطر إنجلترا إلى شدِّ الحزام على بطنها إذا استمر هذا.»
في تلك اللحظة بالذات حدث أسوأ خطر يمكن أن يحدق بنا. كم أرتجف الآن عندما أفكر كيف كان من الممكن أن تُوأدَ رحلتُنا المجيدة في مستهلِّها. كنت قد فتحتُ باب برج القيادة الخاص بي وأنا أراقب السفينة فيرجينيا مع فورنال بالقرب مني، حينما سمعنا صوت ارتطام فظيع في الماء بجوارنا، وتناثر الماء حتى إنه غمر كلينا. نظرنا لأعلى، ولك أن تتخيل مشاعرنا عندما رأينا طائرة تحلِّق فوق رءوسنا كالصقر على بُعد مِئات قليلة من الأقدام. جعلها كاتم الصوت صامتة تمامًا، ولولا أن قُنبلتها سقطت في البحر لما كنا سنعرف قَطُّ ما دَمَّرنا. كانت تحلِّق فوقنا دائريًّا على أمل أن تُلقيَ قُنبلة ثانية، ولكننا انطلقنا بأقصى سرعة ممكنة للأمام، وأنزلنا الدفة، واختفينا في جانب موجة كبيرة. أبقيتُ مؤشر الانحراف في اتجاه الهبوط إلى أن جعلتُ بيننا وبين الطائرة خمسين قدمًا من الماء؛ لأنني كنتُ أعرف العمق الذي يستطيعون رؤيته تحت سطح الماء. إلا أننا سرعان ما أفقدناها أثرَنا، وعندما صعدنا إلى السطح بالقرب من مارجيت لم يكن هناك أثر لها، إلا إذا كانت واحدة من طائرات عديدة كنا نَراها تحوم فوق خليج هيرن.
لم يكن ثمة سفينة في عُرض البحر، بخلاف بعض السفن السواحلية الصغيرة وبعض البواخر ذات حمولة آلاف قليلة من الأطنان، والتي لم تكن لتلفت انتباهي. لساعات عديدة بقِيتُ مغمورًا تحت سطح الماء دون أن يَظهر شيء في الأفق. ثم واتتني فكرة مُلهمة. لقد أُرسِلَت الأوامر باللاسلكي لكل السفن التي تحمل موادَّ غذائية لتبقى في المياه الفرنسية، وتتسلَّل عابرة بعد حلول الظلام. كنت متيقنًا من ذلك، كما لو كانت الرسائل مسجَّلة على جهاز استقبالنا. حسنًا، إذا كانت السفن هناك، فيجب أن أكونَ أنا أيضًا هناك. أفرغتُ الخزانات وطفَوْت، فلم يكن هناك أيُّ أثر لأي بارجة بالجوار. كان لديهم نظام بارع لإبلاغ الإشارات من الشاطئ، ومع ذلك، قبل أن أصل إلى نورث فورلاند أتت ثلاث مدمِّرات تشق عُباب الماء من ورائي، وكلُّ واحدة منها آتية من اتجاه مختلف. كانت فرصتها في الإمساك بي كفرصة ثلاثة كلاب صغيرة للإمساك بدولفين. ولإظهار شجاعتي — أعلم أن هذا كان خطأً فادحًا — انتظرتُ إلى أن أصبحتْ جميعُها في مرمَى النيران. ثم غصْتُ في الماء ولم يَرَ أحدُنا الآخر مرة أخرى.
كان الساحل، كما سبَق أن قلت، ساحلًا رمليًّا ضحْلًا، ومِلاحة الغواصة شديدة الصعوبة. كان أسوأ حادث يمكن أن يقعَ لمركَبة هو أن تُدفن مقدمتها في كتلة رملية وتحتجز فيها. مثل هذا الحادث كان يُمكن أن يكون نهاية غواصتنا، رغم أن ما تتميَّز به الغواصة من أسطوانات تنفس ومصابيح كهربية كان من الممكن أن ييسِّر لنا عملية الخروج في غرفة الحبس الهوائي والسير إلى الشاطئ عبر قاع المحيط. ومع ذلك، يُمكنني أن أقول إنني تمكنت بفضل خرائطنا الممتازة من أن ألتزم الإبحار في القناة؛ ومن ثم أن أصل إلى المضيق المفتوح. وهناك صعدنا في منتصف النهار تقريبًا، ولكننا رصدنا طائرة مائية على مسافة ليست ببعيدة؛ لذا غطسنا مرة أخرى لنصف ساعة. وعندما صعدنا للمرة الثانية، كان كل شيء هادئًا حولَنا، والساحل الإنجليزي يُغطِّي الأفق الغربي بأكمله. ظللنا خارج جودوينز في أعماق القناة إلى أن رأينا خطًّا من النقاط السوداء أمامنا، والذي كنتُ أعرف أنه شريط زوارق الطوربيد المزروع في الطريق من دوفر إلى كاليه. عندما أصبحنا على بعد ميلين غُصنا، وصعدنا مرة أخرى على بعد سبعة أميال في اتجاه الجنوب الغربي، دون أن يَحلم أحدهم أننا كنا على بُعدِ ثلاثين قدمًا من زوارقهم.
عندما صعدنا، كان ثمة سفينة بخارية كبيرة تَحمل علم ألمانيا على بُعد حوالَيْ نصف ميل منا. كانت السفينة لويد ألتونا الألمانية الشمالية، المبحرة من نيويورك إلى بريمن. رفعتُ بدن الغواصة بالكامل ونكَّستُ العلم احترامًا لها. كان من اللطيف رؤية اندهاش ركابها مما كانوا يعتبرونه بالضرورة جرأةً غير عادية من قِبَلنا؛ لوجودنا في هذه المياه الخاضعة للسيطرة الإنجليزية. لوَّحوا لنا بحماس ومودَّة، ونكَّسوا علمهم ذا الألوان الثلاثة تحيَّة لنا، وهم يشقُّون عُباب البحر بجوارنا. ثم وقفتُ لدى الساحل الفرنسي.
كان الوضع كما توقعتُه تمامًا. كانت توجد ثلاث سفن بخارية بريطانية كبيرة راسية في مرفأ بولوني الخارجي. كانت السفن تحمل اسم سيزار وكينج أوف ذا إيست وباثفايندر، وكلها بحمولة أكثر من عشرة آلاف طن. أعتقد أنها كانت تظنُّ أنها آمنة في المياه الفرنسية، ولكن ما بالي أنا وحدود الثلاثة أميال والقانون الدولي! كانت وجهة نظر حكومتي أن إنجلترا محاصِرة، والمواد الغذائية محظورة، ولا بد من تدمير المَركبات الحاملة لها. يستطيع المُحامون الجدال بهذا الشأن فيما بعد. أما أنا فمَهمَّتي هي تجويع العدو بأي طريقةٍ كانت. وفي غضون ساعة كانت السفن الثلاث تحت الأمواج وأيوتا منطلقة في اتجاه ساحل بيكاردي؛ بحثًا عن المزيد من الضحايا. كانت القناة مُغطاةً بزوارق الطوربيد الإنجليزية التي تطنُّ وتلفُّ كسحابة من الذباب. لا أعلم كيف يتسنَّى لها أن تُؤذيَني، إلا إذا صعدتُ بالمصادفة تحت أحدها. أما الأخطر فكانت الطائرات التي ما بَرِحت تحوم هنا وهناك.
نظرًا لهدوء المياه، اضطررتُ عدة مرات للهبوط لعمقٍ يصل إلى مِائة قدم كي أتأكد من أنني خارج نطاق رؤيتها. بعد أن فجرتُ السفن الثلاث في بولوني رأيتُ طائرتين تَطيران فوق القناة، وعرفتُ أنهما قد تُدمِّران أيَّ غواصة تظهر في الأفق. كان ثمة سفينة بخارية بيضاء ضخمة جدًّا مُستقرة قُبالة هافر، ولكنها انطلقت غربًا قبل أن أتمكنَ من الوصول إليها. أتوقع أن ستيفان أو واحدًا من القادة الآخرين سوف يستطيع اقتناصها قريبًا. لكن هذه الطائرات الْجَهنَّمية أفسدتْ مُتعتنا في ذلك اليوم. لم أرَ أيَّ باخرة أخرى، بخلاف زوارق الطوربيد اللانهائية، إلا أنني عزَّيت نفسي بفكرة عدم وجود أيِّ موادَّ غذائية تمر من خلالي في طريقها إلى لندن. فقبل كل شيء، كان هذا هو الهدف الرئيسي من وجودي. وإذا استطعتُ تحقيق هذا الهدف دون إطلاق أيِّ طوربيد، فهذا أفضل. حتى الآن أطلقتُ عشَرة طوربيدات وأغرقتُ تسع سفن بخارية؛ ومن ثم فأنا لم أضيِّع أسلحتي هباءً. في هذه الليلة، رجعتُ إلى ساحل كِنت ورقدتُ في القاع في المياه الضحلة بالقرب من دانجنيس.
كنا جميعًا جاهزين ومُستعدِّين عند بزوغ أول شعاع من ضوء النهار؛ لأنني كنتُ أتوقع اصطياد بعض السفن التي حاولتِ اجتياز نهر التيمز في الظلال وأساءتْ تقدير الزمن. كما توقعتُ، كانت هناك سفينة بخارية عملاقة تَقترب من القناة، وترفع العلم الأمريكي. كان العلم الذي ترفعه غير ذي أهمية بالنسبة لي، ما دامت متورطةً في توصيل موادَّ محظورة للجزُر البريطانية. لم تكن ثمة زوارق طوربيد في تلك اللحظة؛ لذا انطلقتُ على السطح، وأطلقتُ قذيفة مرَّت أمام مقدمتها. بدا لي أنها تَنوي الاستمرار؛ لذا أطلقتُ أخرى فوق خط الماء على مَيْسرتها. عندئذ توقفَّتْ، وشرع رجل يتَّقِد غضبًا في التلويح من فوق الجسر. انطلقتُ بأيوتا بمحاذاته تقريبًا.
سألته: «هل أنتَ القبطان؟»
«بحق اﻟ …» لن أُحاول تَكرار ما قاله.
قلت: «هل تحمل موادَّ غذائية؟»
فصرخ: «إنها سفينة أمريكية، أيها الخنفساء العمياء! ألا ترى العَلَم؟ إنها فرمونديا من بوسطن.»
رددتُ: «آسف أيها القبطان. ليس لديَّ وقت للكلام حقًّا. هذه القذائف التي أطلقتُها ستأتي بزوارق الطوربيد، وأستطيع أن أقول في هذه اللحظة بالذات إن جهاز اللاسلكي الخاص بك يُسبِّب لي المتاعب. أقنِع رجالك بركوب القوارب.»
كان عليَّ أن أُثبتَ له أنني لا أخادع؛ لذا انسحبتُ مبتعدًا، وبدأت في إلقاء القذائف عليه على خط الماء تمامًا. وحينما صنعتُ ستَّ حُفَر في السفينة كان منشغلًا بقواربه. أطلقتُ عشرين قذيفة إجمالًا، ولم تكن هناك حاجة لطوربيد؛ لأنها كانت مصابة بشدة من جهة الميسرة؛ ولذا مالت على جانبها على الفور. ظلَّت على هذا الوضع لدقيقتَين أو ثلاثٍ قبل أن تغرق. كان ثمة ثمانية قوارب مكتظة بالأفراد بجوار السفينة عندما غرِقت. أعتقد أنهم قد أنقذوا الجميع، ولكنني لم أستطع الانتظار للتثبُّت من الأمر. كانت السفن الحربية العقيمة العتيقة البائسة تلهث قادمة من جميع الأنحاء. فملأتُ خزاناتي، وانطلقت من تحتها، ثم صعدتُ بعد خمسة عشر ميلًا جهة الجنوب. بالطبع كنتُ أعلم أنه سيكون هناك جَلَبة كبيرة لاحقًا — كما حدث بالفعل — لكن هذا لم يُفِد الحشود المتضوِّرة جوعًا التي أحاطت بأصحاب المخابز بلندن، هؤلاء الشياطين البائسين، الذين نجَوْا بأنفسهم عندما أوضَحوا للغوغاء أنهم لا يملكون شيئًا لتقديمه لهم.
بحلول هذا الوقت كنت مُتشوِّقًا، كما قد تتخيَّل، لمعرفة ما يحدث في العالم وما تراه إنجلترا بشأن كل هذا. من هذا المنطلق، انطلقتُ بمحاذاة مركب صيد وأمرتُهم بتسليم الجرائد التي بحوزتهم. لسوء الحظ لم يكن لديهم أي جرائد، فيما عدا قصاصة من جريدة مسائية لم يكن بها سوى أخبار المراهنات. وفي محاولة ثانية صادفتُ مجموعة على متن يخت من إيستبورن، كانوا على وشك الموت رعبًا من ظهورنا المفاجئ من الأعماق. وكنا سعداء الحظ لحصولنا على جريدة لندن كوريير الصادرة هذا الصباح نفسه.
كان ما قرأته مُثيرًا؛ مثيرًا لدرجة أنني نقلتُه بالكامل لطاقمي. أنت تعرف، بالطبع، الأسلوب البريطاني في كتابة عناوين الصحف والذي يعطيك الخبر كله في لمحة خاطفة. بدا لي أن الجريدة كلها عناوين رئيسية، مفعمة بالإثارة. لم تكن هناك أية كلمة عني وعن أسطولي الصغير. كنا في الصفحة الثانية. بدأ الخبر الأول بشيء كهذا:
احتلال بلانكنبيرج!
***
تدمير أسطول العدو!
***
حرق المدينة!
***
سفن الصيد تُدمر حقل الألغام!
فقد بارجتين حربيتين!
***
أهذه هي النهاية؟
بالطبع، حدث ما توقعتُه؛ فقد احتلَّ البريطانيون المدينة بالفعل. وظنُّوا أنها النهاية! سنرى بهذا الشأن.
غواصات عدائية
يَقبع عدد من غواصات العدو في البحر، وهذه الغواصات أوقعت بسفننا التِّجارية بعض الخسائر الضخمة. ويبدو أن مواضع الخطر في يوم الإثنين، والجزء الأكبر من يوم الثلاثاء، هي مصبُّ نهر التيمز والمدخل الغربي لمضيق سولنت. في يوم الإثنين، ما بين نور ومارجيت، أُغرِقت خمس سفن بخارية كبرى؛ وهي أديلا ومولدافيا وكوسكو وكورمورانت وميد أوف أثينز، وستجد المزيد من التفاصيل أدناه. بالقرب من فنتنور، في اليوم نفسه، أُغرقت سفينة فيرولام، من بومباي. أما في يوم الثلاثاء، فدُمِّرَت فيرجينيا وسيزار وكينج أوف ذا إيست وباثفايندر ما بين فورلاند وبولوني. جدير بالذِّكر أن السفن الثلاث الأخيرة في الحقيقة كانت راسية في المياه الفرنسية، وقد شجبَت حكومة الجمهورية الفرنسية بشدة ما حدَث. وفي اليوم نفسه، دُمِّرت ذا كوين أوف شيبا وأورونتس وديانا وأتلانتا بالقرب من نيدلز. هذا وقد مَنعت الرسائل اللاسلكية كل سفن الشحن الداخلة من الاقتراب من القناة، لكن للأسف ثمة أدلة على أن غواصتَين على الأقل من غواصات العدو قابعتان جهة الغرب. علاوة على ذلك، أُغرقت مساء أمس أربع سفن لنقل الماشية من دبلن إلى ليفربول، بينما فُجِّرت ثلاث بواخر بريستول-باوند، وهي ذا هيلدا وميركوري وماريا توسر بجوار جزيرة لاندي. وقد حُوِّلت التجارة، بقدر الإمكان، إلى قنواتٍ آمِنة، ولكن في الوقت نفسه، رغم الإزعاج الذي سبَّبتْه هذه الحوادث، ورغم الحزن الذي سبَّبته لكل من مالكي السفن ولبنك لويدز على حدٍّ سواء، لنا أن نُعزيَ أنفسنا بفكرة أنه بما أن أي غواصة لا تستطيع البقاء في البحر أكثر من عشرة أيام دون إعادة ضبط، وبما أن القاعدة قد احتُلَّت، فلا جَرَم أن هذه الأعمال التدميرية سُرعان ما ستصل إلى نهايتها.
حُدِّدَ سعر القمح — الذي وقف عند خمسة وثلاثين شلنًا منذ أسبوع قبل إعلان الحرب — بالأمس في مِنطقة بحر البلطيق، باثنين وخمسين شلنًا. وارتفع سعر الذُّرة من واحد وعشرين إلى سبعة وثلاثين، بينما ارتفع سعر الشَّعير من تسعة عشر إلى خمسة وثلاثين، والسكر المحبَّب من أحد عشر شلنًا وثلاثة بنسات إلى تسعة عشر شلنًا وستة بنسات.
قلت لطاقمي عندما قرأتُها لهم: «حسنًا يا رجال! أؤكد لكم أن هذه السطور القليلة تعني أكثر بكثير من الصفحة الكاملة عن سقوط بلانكنبيرج. والآن دعونا نتجه إلى القناة، ونرفع هذه الأسعار أكثر قليلًا.»
توقفتْ حركة الإبحار كلها إلى لندن — ليس هذا خبرًا سيئًا جدًّا بالنسبة للغواصة أيوتا الصغيرة — ولم نرَ أي باخرة تستحقُّ إطلاق طوربيد عليها ما بين دانجنيس وجزيرة وايت. عندئذ اتصلت بستيفان لا سلكيًّا، وبحلول السابعة كنا مُتجاورين في البحر الهادئ الموج، لدى هنجستبيري هيد في اتجاه الشمال الغربي، وعلى بُعد حوالَيْ خمسة أميال. اجتمع الطاقمان على ظهر الغواصتين، وتصايَحوا بسعادة لرؤية وجوهٍ صديقة مرة أخرى. أبلى ستيفان بلاءً حسنًا. كنت بالطبع قد قرأت في الجريدة اللندنية عن سفنِه الأربع يومَ الثلاثاء، ولكنه أغرق سبع سفن على الأقل منذ ذلك الحين؛ لأن كثيرًا من السفن التي كان يُفترض أن تدخل نهر التيمز حاولت الوصول إلى ساوثهامبتون. ومن بين السفن السبع، كانت هناك سفينة بحمولة عشرين ألف طن محملة بالحبوب من أمريكا، وأخرى سفينة حبوب من البحر الأسود، وأخريان كانتا سفينتَيْ شحن ضخمتين من جنوب أفريقيا. هنأتُ ستيفان من كل قلبي على إنجازه الباهر. بعد ذلك؛ نظرًا لرصد مدمِّرة لنا واقترابها منا بسرعة كبيرة، غاص كلانا، وصعدنا مرة أخرى قُبالة نيدلز؛ حيث قضَينا الليل معًا. لم نستطع التزاور؛ نظرًا لأننا لم نملك قاربًا، ولكننا قبعنا متجاورَيْن تمامًا بحيث تمكنَّا أنا وستيفان من الحديث من برجَيْنا والاتفاق على خُططنا.
كان قد أطلق أكثر من نصف طوربيداته، وأنا أيضًا، ومع ذلك كنا نُحجم عن العودة إلى قاعدتنا ما دام زيت الديزل لم ينفَدْ بعد. أخبرتُه عن تجرِبتي مع باخرة بوسطن، واتفقنا على إغراق السفن بالمدافع في المستقبل كلما أمكنَنا ذلك. أذكر أن هورلي العجوز كان يقول: «ما فائدة مِدفع على متن غواصة؟» كنا على وشك أن نُريَه فائدته. قرأتُ الجريدة الإنجليزية لستيفان على ضوء مِصباحي الكهربي، واتفق كلانا على أن سفنًا قليلة ستمرُّ الآنَ بالقناة. تلك الجملة عن تحويل التجارة إلى طرقٍ آمَنة، لا يُمكن أن تَعنيَ إلا أن السفن الآنَ سوف تلفُّ حولَ شمال أيرلندا، وتُفرغ شحنتها في جلاسكو. أوه، غواصتان أخريان لقفل ذلك المدخل! يا للسماء، ماذا كانت لتفعل إنجلترا في مواجهة عدوٍّ يَمتلك ثلاثين أو أربعين غواصة، ونحن الذين نحتاج إلى ستِّ غواصات بدلًا من أربع لتدميرها بالكامل! بعد حديث طويل قررنا أن أفضل خُطة هي أن نُرسل برقية بالشفرة في الصباح التالي من ميناء فرنسي لإخبارهم بإرسال الغواصات الأربع من الفئة الثانية للتجول قُبالة شمال أيرلندا وغرب اسكتلندا. وعندما أفعل ذلك أتحرَّك ناحية القناة مع ستيفان ونعمل عند مصبِّ النهر، في حين تعمل الغواصتان الأخريان في البحر الأيرلندي. بعد أن وضعنا هذه الخُطط، انطلقتُ عبر القناة في الصباح الباكر، إلى أن وصلتُ لقرية إتريتا الصغيرة في بريتاني، وهناك أرسلتُ برقيَّتي ثم اتخذتُ طريقي إلى فالموث، مارًّا تحت سفينتين بريطانيتين تُسرعان نحو إتريتا، بعد أن سَمِعتا باللاسلكي أننا هناك.
في مُنتصف الطريق في القناة واجهنا عُطلًا في محركاتنا الكهربية، واضطُررنا للإبحار فوق سطح الماء لعدة ساعات، بينما نغير أحد أعمدة الحدبات، ونجدِّد بعض الوصلات. كان وقتًا حَرِجًا، فلو فاجأنا زورق طوربيد لما تمكَّنا من الغوص. ستَمتلك غواصةُ المستقبل الكاملة بالتأكيد بعض المحرِّكات البديلة لمثل هذه الحالات الطارئة. على أيِّ حال بفضل مهارة المهندس مورو، استأنفنا العمل مرة أخرى. طوال الوقت الذي قضَيناه هناك كنتُ أرى طائرة مائية تطفو بيننا وبين الساحل البريطاني. أستطيع أن أفهم شعور فأر عندما يكون في كومة من الحشائش، ويرى صقرًا يُحلِّق فوقه في السماء. إلا أن كل شيء مرَّ بسلام؛ وأصبح الفأر جُرَذًا مائيًّا، وهز ذيله ساخرًا من الصقر العجوز الأعمى المسكين، وغاص في عالم أخضرَ آمِن لطيف هادئ، حيث لا يوجد ما يؤذيه.
عبرتْ أيوتا إلى إتريتا في مساء الأربعاء. ووصلْنا إلى وِجهتنا الجديدة في ظَهيرة يوم الجمعة. لم أرَ خلال طريقنا إلا سفينةً بخارية واحدة كبيرة؛ إذ تَسبَّب الفزع الذي سبَّبناه في إخلاء القناة. وكان على متن هذه السفينة الضخمة قبطانٌ ماهر. كانت خُططه ممتازة وأوصلتْه آمنًا إلى نهر التيمز. جاء في مسار متعرِّج عبر القناة بسرعة خمس وعشرين عُقدة، منحرفًا عن مساره في كل الزوايا غير المتوقَّعة. لم نستطع بسرعتنا البطيئة أن نلحَق به، كما لم نستطع أن نحسب الخط الذي يسير عليه حتى نقطعَه. بطبيعة الحال، لم يكن قد رآنا قطُّ مِن قبل، ولكنه قدَّر، وكان تقديره صائبًا، أنه حيثما نوجد فذلك هو التكتيك الذي يَزيد من فرص هروبه. لقد استحقَّ النجاح الذي حقَّقه عن جدارة.
لكن بالطبع لا يُمكن تنفيذ هذه الخُطة إلا إذا كانت القناة واسعة. ولو كنتُ قد قابلتُه في مصبِّ نهر التيمز لاختلفَتِ القصة تمامًا. لدى اقترابي من فالموث دَمَّرتُ سفينة بحمولة ثلاثة ألاف طن من كورك، محملة بالزُّبد والجُبن. كان هذا هو إنجازي الوحيد لمدة ثلاثة أيام.
في تلك الليلة (يوم الجمعة الموافق السادس عشر من أبريل) اتَّصلتُ بستيفان، ولكنني لم أتلقَّ ردًّا. ونظرًا لأنني كنتُ على بُعد أميال قليلة من مكان لقائنا، وبما أنه لن يُبحِر ليلًا، كنت متحيرًا في تفسير صمته. كان التفسير الوحيد الذي استطعت تخيُّله هو أن جهاز اللاسلكي الخاص به معطَّل. ولكن، يا حسرتاه!
سُرعان ما اكتشفتُ حقيقة السبب من نسخة جريدة ويسترن مورنينج نيوز التي حصلتُ عليها من مركب صيد من مدينة بريكسام. كانت الغواصة كابا وقائدها وطاقمها الشجاع في قاع القناة الإنجليزية.
أتت سفينةُ البريد التابعة لشركة بي آند أوه، والتي يُطلَق عليها ماسيدونيا، إلى هذا الميناء مساءً أمس بخمسة ثقوب ناجمة عن قذائف في الجزء الظاهر من بدن السفينة. ذكرت السفينة أنها هوجمت من قِبَل غواصة معادية على بُعد عشرة أميال من ليزارد في اتجاه الجنوب الشرقي. بدلًا من أن تستخدِم الغواصة طوربيداتها، لسبب ما اقتربت الغواصة من سطح الماء، وأطلقت خمس قذائف من مِدفع نصف أوتوماتيكي بقذائف زنة اثني عشر رطلًا. يبدو أنها كانت تظن أن السفينة ماسيدونيا غير مسلحة. في حقيقة الأمر، نظرًا للتحذير من وجود غواصات في القناة الإنجليزية، حملَت ماسيدونيا على متنها تسليحها كسفينة حربية مساعِدة. فتحت السفينةُ النيران بمِدفعين رشاشين سريعَيِ الطلقات، وأطاحت ببرج قيادة الغواصة. ومن المحتمل أن تكون القذائف قد اخترقتْها تمامًا؛ إذ إنها غرِقت على الفور مفتوحة المنافذ. لقد حافظتْ ماسيدونيا على حياتها بفضل أسلحتها.
قمح (متوسط) ٦٦، ذرة ٤٨، شعير ٥٠.
حسنًا، إذا كان ستيفان قد رحل عن عالمنا فهذا سبب أدعَى لِأن أرفعَ درجة نشاطي. وضعتُ خُططي بسرعة، ولكنها كانت خُططًا شاملة. طوال ذلك اليوم (السبت) كنت أمرُّ أمام ساحل كورنوول وحول لاندس إند، وصادفتُ سفينتَين بخاريتين في طريقي. لقد تعلمت من مصير ستيفان أن من الأفضل تفجير السفن الكبيرة بالطوربيدات، ولكنَّني كنت أعلم أن السفن الحربية المساعِدة للحكومة البريطانية كانت جميعها فوق عشرة آلاف طن؛ لذا كان من الآمن استخدام المدافع مع كل السفن تحت هذا الحجم. كلتا السفينتَين، يللاند وبلايبوي — والأخيرة سفينة أمريكية — كانتا غير مسلحتَين؛ لذا ظهرتُ على بعد مِائة ياردة منهما، وأغرقتهما بسرعة، بعد أن سمحتُ لأفرادهما بالخروج في قوارب. كانت توجد بعض السفن البخارية الأخرى أبعد قليلًا، ولكنني كنتُ مُتحمِّسًا جدًّا لتنفيذ ترتيباتي الجديدة، حتى إنني لم أَخرُج عن مساري لمهاجمتها. إلا أنه قبل غروب الشمس مباشرة أتت فريسةٌ رائعة في مرمى نيراننا حتى إنني لم أكن لأستطيع رفضها. ما من بحار يَعجِز عن اكتشاف ملكة البحار هذه، بمداخنها الصفراء الفاتحة المكلَّلة بالسواد، وجوانبها السوداء الضخمة، وجوفها الأحمر وحبالها البيضاء العالية، وهي تمخَر عُباب القناة بسرعة ثلاث وعشرين عُقدة، وتحمل حمولتها البالغة خمسة وأربعين ألف طن، كما لو كانت زورقًا بخاريًّا يحمل خمسة أطنان. كانت سفينة أولمبيك الملَكية، من شركة وايت ستار، التي كانت يومًا أكبر باخِرة، وما زالت حتى الآن أجمل باخرة تراها عينُك. يا لِجمال صورتها، ومياه البحر الزرقاء تُزبِد حول مقدمتها العملاقة، وسماء الغرب الوردية التي يُضيئها نجم واحد تُشكِّل خلفية رائعة لمسارها النبيل.
كانت على بُعد نحو خمسة أميال حين هبَطْنا لقطع طريقها. كانت حساباتي دقيقة. وبينما كنا نقترب منها أطلقنا طوربيدًا انفجر فيها على نحو مُروِّع. أدى اهتزاز الماء العنيف إلى جعلنا نلفُّ حولَ أنفسنا. ورأيتُها عبر مِنظار الأفق تَنقلِب على جانبها، وعرَفت أنها قد تلقَّتْ ضَربتها القاضية. استقرَّت السفينة ببطء، وكان هناك متسع من الوقت لإنقاذ الركاب الموجودين على متنها. وها هي قواربها تتناثر في البحر كنقاط صغيرة. عندما ابتعدتُ مسافة ثلاثة أميال صعدتُ إلى السطح، وتجمع طاقم الغواصة بالكامل لمشاهدة المشهد الرائع. لقد غمر الماء مقدمة السفينة، وحدث انفجار رهيب، أدى إلى طيران إحدى مداخنها في الهواء. أعتقد أننا كان يُفترض أن نَبتهِج ونهلل، ولكن لسببٍ ما لم يَشعُر أيُّنا بالابتهاج. كنا جميعًا بحارين مخلصين، وأثقلَ قلوبَنا جميعًا أن نرى مثل هذه السفينة تَغرق كقشرة بيضة مكسورة. أَعطيتُ أوامري بغِلظة، وسُرعان ما كان الجميع في مواقعهم مرة أخرى بينما نتجه للشمال الغربي. بمجرد أن دُرنا حول لاندس إند اتصلتُ بالغواصتين الرفيقتَين، وتقابلنا في اليوم التالي في هارتلاند بوينت، النهاية الجنوبية لخليج بيديفورد. كانت القناة في ذلك الوقت آمنة تمامًا، ولكن ما كان للإنجليز أن يعرفوا ذلك، وحسبتُ أن فقد السفينة أولمبيك سيوقف السفن كافةً لمدة يوم أو يومَين على الأقل.
اجتمعتُ بالغواصتين دلتا وإبسلون، كلٌّ في ناحية، وحصلت على تقرير من ميريام وفار، قائدَي الغواصتين على الترتيب. استهلك كل منهما اثني عشر طوربيدًا، وأغرقا معًا اثنين وعشرين سفينة بخارية. قُتل رجل على متن الغواصة دلتا بفعل الآلات، وتعرَّض اثنانِ لحروق بسبب اشتعال بعض النفط على متن إبسلون. أخذتُ الرجلَين المصابين على متن غواصتي، وأعطيتُ كل غواصة واحدًا من رجالي. كما قسمتُ النفط الاحتياطي والمؤن والطوربيدات الخاصة بي بينهما، رغم الصعوبة الشديدة التي واجهَتْنا لنقلها من غواصةٍ للثانية. على أيِّ حال، بحلول الساعة الثانية كنا قد انتهينا، وكانت الغواصتان في حالةٍ تسمح لهما بالبقاء في البحر لعشرة أيام أخرى. أما بالنسبة لي، فبالطوربيدان الوحيدان اللذَين بحوزتي، توجهت شمالًا عبر البحر الأيرلندي. استهلكتُ واحدًا من الطوربيدين في ذلك المساء، على سفينة نقل مَواشٍ كانت تتجه لميلفورد هافن. وفي وقت متأخر من الليل، عندما اقتربتُ من هوليهيد، اتصلْتُ بالغواصات الأربع الشمالية، لكن دون أن أتلقى ردًّا. كان نطاق جهاز اللاسلكي الخاص بها محدودًا للغاية. وفي حوالَي الثالثة عصر اليوم التالي تلقيتُ ردًّا ضعيفًا. تنفستُ الصُّعَداء حين وجدت أن تعليماتي الموجزة قد وصلت لهم، وأنهم باقون في مواقعهم. وقبل حُلول المساء كنا قد تجمَّعنا في جزيرة ساندا، في مول أوف كينتاير. شعرت أنني أميرال حقيقي عندما شاهدتُ غواصاتي الخمس مصفوفة. كان تقريرُ بانسا ممتازًا. كانوا قد أتَوْا عبر بنتلاند فيرث، ووصلوا إلى وجهاتهم في اليوم الرابع. وقد دمروا بالفعل عشرين سفينة دون أي حوادث مؤسفة. أمرتُ الغواصة بيتا بتقسيم نفطها وطوربيداتها بين الثلاث الأخريات، بحيث تتحسَّن حالتهم ليتمكنوا من الاستمرار في جولاتهم. ثم توجهنا أنا وبيتا للوطن، ووصلنا إلى قاعدتنا بحلول يوم الأحد الموافق ٢٥ أبريل. وقُبالة رأس راث حصلت على جريدة من مركب شراعي صغير.
«قمح، ٨٤؛ ذرة، ٦٠؛ شعير، ٦٢.» ماذا تعني المعارك والقصف بالمقارنة بذلك!
كان ساحل نورلاند بالكامل محاصَرًا حصارًا شديدًا بنطاقٍ داخلَ نطاقٍ من السفن الحربية، وكل الموانئ، حتى أصغرها، محتلة من قبل البريطانيِّين. ولكن ما الذي سيدعوهم إلى الشك في فيلتي المُتواضعة المملوكة لحَلْواني أكثر من أي منزل آخر من العشرة الآلاف منزل المواجهة للبحر؟ كنتُ سعيدًا حينما شاهدتُ واجهتها البيضاء البسيطة في مِنظار الأفق الخاص بي. في تلك الليلة رسَوْت ووجدتُ مؤني على حالتها لم تُمسَّ. قبل طلوع الصبح أفادت بيتا بحضورها؛ لأننا أضأنا النوافذ كمرشد.
لا يحقُّ لي أن أسرد الرسائل التي وجدتُها تنتظرني في مقري المتواضع. ستظل دائمًا دليلًا جليًّا على نُبل عائلتي. ومن بين الرسائل كانت هناك تلك الرسالة التي لا تُنسى، التي حيَّاني فيها الملك. طلب مني أن أمثُل أمامَه في هوبتفيل، ولكن لأول مرة آليتُ على نفسي أن أعصيَ أوامره. استغرق الأمر مني يومين — أو على الأحرى ليلتَين — لأننا غُصنا أثناءَ ساعات النهار؛ لجلب كل مؤننا على متن الغواصتين، ولكن حضوري كان ضروريًّا في كل دقيقة منها. في الصباح الثالث، في الرابعة، كانت الغواصة بيتا وغواصتي الصغيرة التي تحمل القائد في البحر مرة أخرى، متجهين إلى محطتنا الأصلية قُبالة مصبِّ نهر التيمز.
لم يكن لديَّ وقت لقراءة صحفنا أثناءَ تجهيز الغواصات، ولكنني جمعت الأخبار بعد أن أبحرنا. لقد احتل البريطانيون كل موانئنا، ولكن بخلاف ذلك لم يمسَّنا سوءٌ على الإطلاق؛ نظرًا لأننا نَملِك سككًا حديدية ممتازة تُوصِّلنا بكل أوروبا. تغيرت الأسعار قليلًا، واستمرت صناعاتنا كما كانت. كان ثمة حديثٌ عن غزوٍ بريطاني، ولكنَّني كنت أعلم أن هذا هُراء؛ لأنه من المؤكد أن البريطانيين قد عَرفوا الآنَ حقَّ المعرفة أن إرسال سفن مَلأَى بالجنود للبحر في مواجهة غواصات هو مَحْض انتحار. عندما يكون لديهم نفق يُمكنهم استخدام قوات الحملات المتقدمة الخاصة بهم على البر الرئيسي لأوروبا، ولكن إلى أن يحدث هذا، فمن الأفضل لها ألا تكون موجودةً داخل أوروبا. لذا فإن بلدي كانت في وضع جيد وليس لديها ما تخشاه. أما بريطانيا العظمى، فهي لا تزال تشعر بقبضتي تُمسِك برقبتها. ففي الأوقات الطبيعية تستورد بريطانيا أربعة أخماس المواد الغذائية، والأسعار ترتفع بقفزات سريعة. وقد بدأَت تظهر علامات النضوب على المؤن الموجودة في البلد، في حين أن المؤن القادمة لتحلُّ محلَّ المُستهلَكة قليلة. وقد ارتفعت التأمينات في لويدز لرقمٍ جعل سعر الغذاء شديد الغلاء على الأغلبية العظمى من الشعب، عندما يصل إلى السوق؛ فالرَّغيف، الذي كان يُباع في الظروف العادية بخمسة بنسات، قد أصبح بِشِلن وبنسَيْن. واللحم البقري بثلاثة شلنات وأربعة بنسات للرطل، ولحم الضأن بشلنين وتسعة بنسات. وجميع السلع الأخرى ارتفعت أسعارها بنفس النِّسَب. اتخذت الحكومة إجراءات نشطة، وخصَّصت مساحة كبيرة من الأرض لزراعتها بالذرة على الفور. ومع ذلك، لن يُمكِن حصدها قبل خمسة أشهر، وقبل ذلك بوقت طويل، وفقًا لما قالته الصحف، سيكون نصف الجزيرة قد مات جوعًا. وقد ناشدَتِ الحكومةُ وطنيةَ الشعب، وأكَّدت لهم أن مسألة التدخل في التجارة مؤقتة، وأنهم بقليل من الصبر سيَجتازون هذه المحنة، وسترجع الأمور إلى سابق عهدها. ولكن معدَّل الوفَيَات كان قد زاد زيادة ملحوظة بالفعل، ولا سيما بين الأطفال، الذين عانَوْا من نقص الحليب؛ نتيجة لذبح الماشية للتغذية عليها. حدث شغبٌ خطير في حقول الفحم في لاناركشير وفي البر الرئيسي، إلى جانب حدوث ثورة اشتراكية في شرق لندن، الأمر الذي وصل إلى درجة الحرب الأهلية. كان هناك بالفعل صحُفٌ مسئولة أعلنت أن إنجلترا في وضع سيِّئ للغاية، وأنها في حاجة ماسَّة لسلام فوري؛ تجنُّبًا لحدوث مأساة من أعظم المآسي في التاريخ. وكانت مَهمَّتي الآن هي أن أُثبتَ لهم أنهم على حق.
كنا في الثاني من مايو حينما وجدتُ نفسي في مابلين ساندز في شمال مصبِّ نهر التيمز مرة أخرى. أرسلتُ الغواصة بيتا إلى مضيق سولنت لإغلاقه، وأخْذ مكان الغواصة كابا الراحلة. وكنت الآن مُمسكًا برقبة بريطانيا بالفعل؛ فقد كانت غواصاتي تُراقب الطرُق المؤدية إلى لندن وساوثهامبتون وقناة بريستول وليفربول والقناة الشمالية وجلاسكو. كانت السفن التِّجارية الكبرى، كما عرفنا لاحقًا، تُفرغ مخزوناتها في جالواي وغرب أيرلندا؛ حيث كانت المؤن أرخصَ من أي وقتٍ مضى. عشرات الآلاف كانوا يرحلون من بريطانيا إلى أيرلندا لإنقاذ أنفسِهم من الموت جوعًا. ولكنك لا تستطيع ترحيل الشعب بأكمله. كانت الأغلبية العُظمى من الشعب، بحلول مُنتصَف مايو تتضوَّر جُوعًا بالفعل. فبحلول ذلك الوقت كان القمح بمِائة والذُّرة والشعير بثمانين. حتى أكثر الناس عِنْدًا كانوا قد بدءوا يرَوْن أن من الضروري ألا يستمر الوضع على ما هو عليه.
في المدن العظمى كانت الحشود الجائعة تَصرُخ طلبًا للخبز أمام مكاتب البلدية، وكان المسئولون الحكوميون في كل مكان يُهاجَمون، وكثيرًا ما يُقتَلون من قِبَل الحشود الغاضبة، المكوَّنة في أغلبها من نساء يائسات رأيْنَ أطفالهن يَهلكون أمام أعينهن. أما في الريف، فكانت جذور النباتات ولحاء الأشجار والأعشاب من كافة الأنواع تُستخدَم كغذاء. وفي لندن كانت قصور الوزراء الخاصة تُحرس من قبل جنود أشدَّاء، في حين كانت تُعسكِر كتيبة من الحرس بشكل دائم حول قصر وستمنستر. كانت حياة رئيس الوزراء ووزير الخارجية مهددةً طوال الوقت، ومستهدفة في بعض الأحيان. ومع ذلك فقد دخلت الحكومة الحرب بإجماع آراء كل الأحزاب في الدولة. وكان المجرمون الحقيقيُّون هم هؤلاء، سواء أكانوا سياسيِّين أم صحفيين، الذين لم يتمتَّعوا بالبصيرة لفهم أن بريطانيا لو لم تُنتِجْ مؤنها، أو لم يكن لديها طريقة ما لتوصيل المؤن إلى الجزيرة باستخدام نفق، فإن كل نفقاتها الضخمة على جيشِها وأسطولها ستكون مضيَعة للمال، ما دام أعداؤها يملكون بضع غواصات ورجالًا يستطيعون استغلالها. لقد كانت إنجلترا دومًا حمقاء، لكنها لم تنَل ما تَستحقُّه. أما هذه المرة، فقد آن لها أن تدفع ثمن حماقتها؛ إذ لا يُمكِنك أن تتوقع أن يُنجِيَك الحظ على الدوام.
سيكون من قبيل التكرار لما وصفتُه بالفعل مِن قبلُ أن أحكيَ كل ما فعلناه في الأيام العشرة الأولى من رجوعي إلى موقعي. خلال فترة غيابي تشجعتِ السفن وبدأتْ تسير مرة أخرى. وفي اليوم الأول اقتنصتُ أربع سفن. بعد ذلك اضطُررت إلى المضيِّ إلى ما هو أبعد، ومرة أخرى اقتنصتُ عدة سفن في المياه الفرنسية. وذات مرة نجوْتُ بأعجوبة من حادث دخول بعض الصخور في صمامات كينجستون الخاصة بي، ورفضها العمل أثناء وجودي تحت سطح الماء. وبنهاية ذلك الأسبوع كانت القناة خاليةً مرة أخرى، وتوجهتْ غواصتي والغواصة بيتا ناحيةَ الغرب مرة أخرى. وهناك تلقينا رسائل تشجيع من الغواصة الصديقة في بريستول، التي سمعتُ بدورها من دلتا القابعة في ليفربول. لقد أتممنا مَهمتنا على أكمل وجه. إننا لا نستطيع منع عبور كل المواد الغذائية إلى الجزر البريطانية، ولكنَّنا على الأقل رفعنا أسعارها إلى مستوًى يجعلها بعيدًا جدًّا عن متناول الحشود الفقيرة والعاطلة عن العمل. ودون جدوى صادَرَتِ الحكومة كل المواد الغذائية، ووزعتها على الناس كما يُوزِّع الجنرال التعيين على قوات الحراسة في قلعة. كانت المهمة ضخمة للغاية، والمسئولية هائلة. وحتى الإنجليز الذين يتَّسِمون بالغرور والعناد عجزوا عن مواجهتها أكثر من ذلك.
أتذكَّر جيدًا كيف وردت إليَّ الأخبار. كنتُ واقفًا في ذلك الوقت قُبالة سلسي بيل عندما رأيت سفينة حربية صغيرة تسير في اتجاه القناة. لم تكن سياستي أبدًا مهاجمة أيِّ سفينة تسير في هذا الاتجاه. كانت طوربيداتي، وحتى قذائفي، أغلى بكثير من أن أُهدرها على هذا. لكن لم يسعْني إلا أن ألتفت إلى حركات هذه السفينة التي تتهادى في خط متعرِّج قادمة في اتجاهي.
قلت في نفسي: «أتبحثين عني؟ ماذا بحقِّ السماء تنوي هذه السفينة الحمقاء أن تفعل إذا عثَرت عليَّ؟»
كنتُ طافيًا أسفل سطح الماء مباشرة في ذلك الوقت، واستعددت أن أهبط بالغواصة في حالة اقترابها مني. ولكن في هذه اللحظة — كانت على بُعد نحو نصف ميل — حوَّلت اتجاهها نحوي، ولدهشتي الشديدة رأيتُ العلم الأحمر ذا الدائرة الزرقاء، علَمَنا الغالي، يُرفرِف على قمتها. للحظة ظننتُ أن هذه حيلة ماكرة من العدو لإغرائي بالدخول في نطاقها. انتزعت نظارتي واتصلت بفورنال. ثم تعرَّف كلانا على السفينة. كانت السفينة يونو، البارجة الوحيدة السليمة الباقية من بوارجنا. ماذا عساها تفعل برفعها العلم في مياه العدو؟ ثم فهمتُ الأمر، والتفتُّ إلى فورنال، وألقى كلٌّ منا نفسه بين ذراعَيِ الآخر. هذا لا يُمكِن أن يعني إلا أننا في حالة هدنة؛ أو سلام!
وكان هو السلام. عرفنا النبأ السعيد عندما ارتفعنا بجوار السفينة يونو، وانتهت أخيرًا الصيحات المدوية التي حُيِّينا بها. كانت أوامرنا هي أن نُسلِّم أنفسنا على الفور في بلانكنبيرج. ثم مضَت السفينة عبر القناة لجمع بقية الغواصات. رجعنا إلى الميناء فوق سطح الماء، ماخرين عُباب الماء عبر الأسطول البريطاني بأسرِه ونحن نعبر بحر الشمال. تجمعت أطقم الملاحين على جوانب السفن لمراقبتنا. أستطيع الآن أن أرى وجوههم المتجهِّمة الغاضبة. كثيرون منهم لوَّحوا بقَبضاتهم، ولعنونا ونحن نمرُّ بجوارهم. لم يكن السبب أننا آذيناهم — إحقاقًا للحق لم يكن الإنجليز، كما أثبتَتْ لنا حرب البوير القديمة، يحملون أي ضغينة تجاه الجيش إذا كان شجاعًا — ولكنهم كانوا يَعتبروننا جُبَناء؛ إذ هاجمنا السفن التِّجارية وتجنَّبنا السفن الحربية. تمامًا كما يعتبر العرب الهجوم الجانبي وسيلة تتَّسم بالوضاعة والجبن. الحرب ليست لُعبة كبيرة، يا أصدقائي الإنجليز. إنها استقتالٌ لتكون لك اليدُ العليا، وعلى المرء أن يُعمِل دماغه ليجد نقطة ضعف عدوِّه. وليس من العدل أن تلوموني لِأنني وجدت نقطة ضعفِكم؛ لقد كان هذا واجبي. ربما كان هؤلاء الضباط والبحارة الذين عَبسوا في وجه أيوتا ذلك الصباح في شهر مايو، قد أعطَوْني الآن حقي عندما ذهبتْ من أفواهِهم المرارة الأولى للهزيمة غير المستحَقة.
دعُوا الآخرين يَصِفون دخولي إلى بلانكنبيرج؛ تلك الحماسة المتَّقدة التي أبدتْها الحشود، والاستقبال الجماهيري الرائع لكلِّ غواصة عند وصولها. لا غَرْوَ أن الرجال استحقُّوا الهِبَة التي منحتْها لهم الدولة، والتي مكَّنَت كلًّا منهم من أن يعيش مستقلًّا مدى الحياة؛ فقد حقَّقوا إنجازًا استثنائيًّا في القدرة على التحمُّل؛ فتلك الإقامة الطويلة في مثل هذه الحالة من التوتر الذهني بمكان ضيِّق مُحكَم الإغلاق في جوٍّ اصطناعي غير طبيعي، ستظل طويلًا تمثل رقمًا قياسيًّا. وللدولة أن تفخر ببحارتها أيَّما فخر.
لم تكن شروط السلام قاسية؛ لأننا لم نكن في وضعٍ يَسمح لنا بأن نجعلَ من بريطانيا العظمى عدوَّنا الدائم. كنا نعلم جيدًا أننا انتصرنا في الحرب في ظلِّ ظروف لن يُسمَح لها بأن تتكرَّر أبدًا، وأن إنجلترا في غضون سنوات قليلة ستَستعيد قوتها السابقة — بل وربما ستُصبِح أقوى — بفضل الدرس الذي تعلمتْه. وسيكون من الجنون أن نستفز عدوًّا كهذا. اتُّخِذَت الترتيبات اللازمة لتحيةٍ متبادَلة لعلمَيِ الدولتين، وتمَّ تحديد الحدود الاستعمارية بالتحكيم، ولم نطلب تعويضات أكثر من أن تَلتزم بريطانيا بدفع التعويضات التي تحكُم بها المحكمة الدولية لفرنسا أو للولايات المتحدة مقابلَ الأضرار التي لحقت بهما أثناءَ العمليات التي قامت بها غواصاتنا. وهكذا انتهت الحرب!
بطبيعة الحال، لن تُغمض إنجلترا عينَيها بهذه الطريقة مرة أخرى! فهذا العمَى الأحمق يمكن تبريره جزئيًّا بتوهُّمها أن عدوها لم يكن ليقصف السفن التِّجارية. وكان من الضروري أن يُخبرها منطقُها السليم أن عدوَّها سيُمارس اللعبة التي تُناسبه على أكمل وجه، وأنه لن يتردَّد فيما ينبغي له فعله، وإنما سيفعل أولًا ثم يتحدث عما فعل لاحقًا. إنَّ رأيَ العالم بأسره الآن هو أنه إذا تمَّ إعلان الحصار فإن بِوُسع المرء أن يفعل ما يستطيع مع مَن يحاول كسره، وأن منع الطعام من الوصول إلى إنجلترا في وقت الحرب كان أمرًا منطقيًّا بنفس درجة منطقية منع قوات الحصار من إمداد حصنٍ محاصَر.
يقول الكاتب: «في كل هذه الواقعة البائسة التي خسِرنا فيها جزءًا قيِّمًا من أسطولنا التِّجاري وأكثر من خمسين ألف مدنيٍّ، لنا عزاءٌ واحد؛ ألا وهو حقيقة أن القوة المُنتصِرة مؤقتًا علينا ليست قوية بما فيه الكفاية لتحصد ثمرة نصرها. ولو كانت هذه الإهانة قد لحقت بنا من جانب أيٍّ من القوى الكبرى لَاستتبع ذلك بالضرورة فقدان كل المستعمرات الملَكية والممتلكات الاستوائية، إلى جانب دفع تعويض ضخم. لقد كنا تحت رحمة القوة المُنتصِرة علينا بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، ولم يكن لدينا مَناصٌ من أن نخضع لشروطها، مهما كانت صعبة. وقد تمتَّعتْ نورلاند بالمنطق السليم؛ ففهمتْ أنها لا يجب أن تُسيءَ استخدام ميزتها المؤقتة، وكانت كريمةً في تعاملاتها. ولو كنا في قبضة أي قوة أخرى لفَقدْنا وجودنا كإمبراطورية.
حتى الآن ما زلنا على المحَك، ولم تنقضِ مرحلة الخطر؛ فمن الممكن أن يستفزَّنا أحدُهم للقتال قبل أن نستعيد عافيَتنا، ويستخدم السلاح السهل الذي اتَّضح بالفعل. ولمواجهة هذه الاحتمالية أسرعَتِ الحكومة في إدخال مخزونات هائلة من الطعام على نفقة الدولة. وفي غضون شهور قليلة جدًّا سيكون المحصول الجديد قد ظهر. بشكل عام يُمكننا مواجهة المستقبل القريب دون حُدوث أزمة غير ضرورية، رغم وجود بعض مسبِّبات القلق باقية. وسوف تجتهد حكومتنا الجديدة المتمتِّعة بالكفاءة في التعامل معها بهِمَّة، تلك الحكومة التي حلَّت محل هؤلاء السياسيين الذين فقدنا الثقة فيهم، والذين انحدروا بنا إلى هُوَّة الحرب دون التنبؤ بمقدار عجزنا أمام شكل ظاهر من أشكال الهجوم.
إنَّ خطوط إعادة إعمار دولتنا واضحة للعِيان؛ وأولها وأهمها هو أن يدركَ رجال الأحزاب أن هناك شيئًا أكثر أهمية من نزاعاتهم النظرية حول التجارة الحرة أو الحماية، وأن كل النظريات يجب أن تُفسِح الطريق لحقيقة أن الدولة تكون في وضعٍ اصطناعي وخَطِر إذا كانت لا تُنتج داخل حدودها ما يكفي من الطعام لإعاشة شعبها على الأقل. وسواء أكنا سنَصِل إلى هذا بسَنِّ ضريبة على المواد الغذائية الأجنبية، أم بإعطاء منحة للمنتجات المحلية، أم بمزيج من الاثنين معًا، فهو أمرٌ محل نقاش في الوقت الحالي. ولكن جميع الأطراف متَّفقة على المبدأ، وعلى الرغم من أنه سيستَتْبِع بلا شكٍّ زيادةً في الأسعار أو تدهورًا في الجودة في طعام الطبقات العاملة، فإنهم على الأقل سيَضمنون عدم حدوث كارثة فظيعة كتلك التي مُنينا بها، والتي لا تزال ماثلةً في ذاكرتنا. على أيِّ حال، لقد تخطَّينا مرحلة الجدل. لا بد أننا فعلنا. والازدهار المتزايد في الشأن الزراعي، وكذلك — كما نتمنَّى — الإحجام عن الهجرة الزراعية، سوف يكونان من الميزات التي تُحسب في مقابل العيوب المعروفة.
أما الدرس المستفاد الثاني فهو الإنشاء الفوري لخطين مُزدوِجين بدلًا من خط واحد من السكك الحديدة تحت القناة. إننا مُذنِبون في هذا الشأن؛ نظرًا لأن المشروع كان يُعارَض دائمًا في هذه الأعمدة، ولكنَّنا على استعداد للاعتراف بأنه لو كان الاتصال بالسكة الحديدية قد اجتمع مع الترتيبات الكافية لتوصيل المؤن من مرسيليا، لكنا قد تجنَّبنا استسلامنا الأخير. ما زلنا نُصر على أننا لا نستطيع أن نَعتمِد بشكلٍ كامل على نفق؛ نظرًا لأن عدوَّنا ربما يكون لديه حلفاء في منطقة البحر المتوسط؛ ولكن في حالة وجود نزاع مُنفرِد مع أيِّ قوة من قُوى شمال أوروبا، سيكون هذا الخط ذا فائدة لا تقدَّر بثمن. ربما تكون هناك أخطار ملازِمة لوجود نفق، ولكن علينا الآنَ أن نعترف أنها تافهة بالمقارنة بالأخطار الملازِمة لعدم وجوده. أما فيما يتعلق ببناء أساطيلَ ضخمة من الغواصات التِّجارية لحمل الغذاء، فتلك بداية جديدة ستكون بمنزلة ضمان إضافي ضد الخطر الذي سَطَّرَ لنا صفحة سوداء في تاريخ بلدنا.»