الفصل العاشر
وكان معاوية أعظم الولاة حظًّا من كل شيء أيام عثمان، وكان واليًا لعمر على دمشق، فلما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان وكان والي عمر على الأردن، ضم عمر إلى معاوية عمل أخيه، وشكر ذلك له أبو سفيان: ولكن عمر لم يُحَابِ معاوية ولم يرد أن يعزي أبا سفيان عن موت ابنه بضم عمله إلى أخيه، وإنما رضي عن معاوية ورأى فيه كفاية وعزمًا وحزمًا، فاستكفاه الأردن فكفاه، وقد مات عمر ومعاوية على هذين الجندين، فأقره عثمان عليهما، كما أقر عمال عمر جميعًا عامه الأول. ولكن عبد الرحمن بن علقمة الكناني عامل عمر على فلسطين يموت، فيضم عثمان فلسطين إلى معاوية، ثم يمرض عمير بن سعد الأنصاري عامل عمر على حمص ويستعفي عثمان من عمله، فيعفيه ويضم حمص إلى معاوية، فتخلص له أرض الشام كلها، ويصبح أعظم العمال خطرًا وأعلاهم قدرًا أيام عثمان، فهو قد اجتمعت له الأجناد الأربعة، وأصبح بحكم مركزه الجغرافي قويًّا إلى حد غير مألوف. وقد وقعت ولايته بين الحجاز وفيه أمير المؤمنين ومركز الخلافة، ومصر، وهي والولاية التي تكاد تداني ولايته قوة وبأسًا وإن زادت عليها خصبًا وثراء. وهو على ساحل بحر الروم وعلى حدود الروم أيضًا يستطيع إن شاء أن يستمد الخليفة، ويستطيع إن شاء أن يمد الخليفة، ويستطيع كذلك أن يستمد مصر ويمدها. ثم أمامه بابان عظيمان من أبواب الجهاد: البحر من جهة، وثغور الروم في البر من جهة أخرى. فهو يستطيع أن يرفع شأن الدولة ويرفع شأن نفسه، وأن يعلي كلمة الإسلام، ويبني لنفسه مجدًا لا يستطيع أحد من العمال أن يطاوله.
وقد طال عهد معاوية بالشام، فعرفه أثناء خلافة عمر كلها وأيام خلافة عثمان كلها، وقد أحب أهل الشام وأحبه أهل الشام ورضي عنه الخليفتان جميعًا، وأصبح لطول ولايته وحسن مدخله إلى نفوس رعيته أشبه بالملك منه بالوالي. فليس تاريخ الخلافة يعرف واليًا أتيح له من طول الولاية واتصالها واستقرارها وتدرجها في الاتساع مثل ما أتيح لمعاوية. وليس غريبًا أن يرضى معاوية عن نفسه وحظه حين يرى العمال من حوله يعزلون بين حين وحين أثناء خلافة عمر وعثمان، ويرى نفسه مستقرًّا لا يريم، والولايات تضم إليه واحدة في إثر الأخرى. ولو قد كان معاوية مقصرًا في عمله أو جائرًا على رعيته لما أقرَّه عمر ولا أعفاه من العزل، بل من العقوبة إن اقتضى الأمر أن يُعاقب. وأكبر الظن أنه لم يغير سيرته في أهل الشام بعد وفاة عمر واستخلاف عثمان. رضي عن سيرته حين كان الخليفة متشددًا متحرجًا، فلم ير بالإقامة عليها بأسًا حين أصبح الخليفة هينًا لينًا سمحًا. ولهذا لم يشارك أهلُ الشام فيما شارك فيه أهل الأمصار الأخرى من اتهام عمالهم والتشهير بهم والخلاف على عثمان. فالذين حاصروا عثمان وفدوا من الكوفة والبصرة ومصر ولم يكن بينهم شامي واحد. ولهذا أيضًا كان عثمان إذا أراد أن يسير أحدًا من المخالفين عليه والمنكرين على عماله نفاه إلى الشام؛ لا يستثني من ذلك أهل المدينة أنفسهم. فسترى أنه حين ضاق بأبي ذرٍّ أمره أن يلحق بديوانه في الشام، وكان أبو ذرٍّ قد خرج إلى الشام غازيًا فكتب اسمه في الديوان هناك، فرده عثمان إلى الشام خوفًا على أهل المدينة من لسانه أو من عودته. فقد كان حزم معاوية إذن هو الملجأ الذي كان عثمان يلجأ إليه إذا أراد تأديب الذين يسرفون عليه وعلى عماله في المعارضة. ويجب أن نعترف بأن معاوية كان حازمًا حتى على عثمان نفسه، فهو قد كان يتلقى المنفيين الذين يرسلهم إليه ويحاول إصلاحهم، فإذا أعياه ذلك طلب إلى عثمان أن يعفيه من نزولهم عليه، ولم يكن عثمان يرد له طلبًا.
ولم يقصر معاوية في انتهاز ما أتيح له من حظ؛ فهو لم يقم في الشام وادعًا مطمئنًّا يدبر أمر ولايته ولا يزيد على ذلك، وإنما كانت نفسه تنازعه إلى الفتوح نزاعًا شديدًا، وكان في أيام عمر أشبه شيء بالفَرَس الذي يعض شكيمته تحرقًا إلى العدو، ولكن عمر كان يمسكه ويأبى عليه. وكان البحر يدعو معاوية دعاء ملحًّا، وكان معاوية يتوسل إلى عمر في أن يغزيه البحر، فيشتد عمر في رفض ما كان يطلب إليه، حتى حذَّره مرة من أن يعود إليه بحديث البحر، فلما استخلف عثمان طلب إليه معاوية ما كان يطلب إلى عمر، فأذن له على ألا يختار هو الغزاة ولا يقرع بين الجند بل يخير الناس، فمن اختار منهم غزو البحر قبله وأعانه، ومن لم يختر أقام من أمره على عافية. وما هي إلا أن يتخذ معاوية أسطولًا ويغزو في البحر خمسين غزاة أو أكثر، فيثير ذلك غيرة الوالي على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فيصنع صنيع معاوية؛ حتى يقول المؤرخون: إن معاوية غزا قبرص من الشام وغزاها ابن أبي سرح من مصر، فالتقى الجيشان في الجزيرة.
وكانت إلى معاوية حماية الثغور البرية مما يلي بلاد الروم، فكان يغير على العدو في الشتاء والصيف. وكان هذا كله يتيح له من الغنائم والفيء ما يسرُّ الجيش ويسر بيت المال.
وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما أتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان وتثبيتها في بني أمية. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية، فضم إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الأمراء بالولاية عهدًا وأقواهم جندًا وأملكهم لقلب رعيته.
وقد كان عثمان يستطيع، لو أراد أن يحتفظ بسيرة عمر، أن يقر معاوية على دمشق والأردن، ويحتفظ بحمص وفلسطين ولايتين تتبعان المدينة مباشرة. ولو قد فعل ذلك لاحتفظ بسيرة عمر أولًا، ولأتاح للنابهين من شيوخ الصحابة وشباب العرب أعمالًا تحول بينهم وبين الفراغ وتحول بينهم وبين السخط، وتحول بينهم وبين الغضب والثورة أو التحريض على الثورة. ولو قد فعل ذلك لحال بين معاوية وبين ما أقدم عليه من الاستئثار حين أضرمت نار الفتنة، ولأتاح المسلمين أن يحتفظوا بالأمر شورى بينهم؛ ولكن هذا الملك الضخم الواسع المتصل مكن لمعاوية في الأرض، ويسر له أن يرسل إلى مصر من يقطعها عن عاصمة الخلافة، وأن يرسل إلى الحجاز ثم إلى بلاد العرب من يحتازها من دون عليٍّ، وأن ينظر عليٌّ ذات يوم فإذا معاوية قد استأثر من دونه بخير ما في الدولة من الأمصار والأقاليم. وليس لذلك مصدر إلا مهارة معاوية أولًا، وضخامة ولايته ثانيًا.