الفصل الثالث عشر
وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها، حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرًا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تُمْحَ آثارها بعدُ: وهي قصة عبد الله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء حبشيَّ الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعًا. قالوا إنه ذهب إلى البصرة، فلم يكد يستقر فيها حتى رُفع أمره إلى عبد الله بن عامر فأخرجه عنها. فذهب إلى الشام، وهناك لقي أبا ذر، فلام عنده معاوية في قوله عن مال المسلمين: إنه مال الله. وتأثر أبو ذر بحديث ابن السوداء، فكلم معاوية. ثم لقي عبادة بن الصامت، وأراد أن يتحدث إليه بمثل ما تحدث به إلى أبي ذر، فتعلق به عبادة وقاده إلى معاوية وخوَّفه شره على الشام، فأخرجه معاوية من الشام. فذهب إلى مصر وفي مصر وجد أرضًا خصبة لكيده ومكره وبدعه؛ فكان يتحدث إلى الناس بأن النبي محمدًا أحق بالرجعة من عيسى بن مريم، ويذكر قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ.
وكان يتحدث إليهم بأن لكل نبي وصيًّا، وبأن وصي النبي محمد هو عليٌّ، وبأن عليًّا خاتم الأوصياء كما أن محمدًا خاتم الأنبياء. وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان. ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكامًا، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور وثبت على الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويُخيل إليَّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافًا شديدًا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرًا في المصادر المهمة التي قصَّت أمر الخلاف على عثمان؛ فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلًا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر.
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن. ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار. ولو قد أخذ عبد الله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديًّا فلم يسلم إلا كائدًا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين لولا خوفه من عثمان. والذي يكتب إلى عثمان يستأذنه في البطش بابن أبي بكر وابن أبي حذيفة وعمار بن ياسر في بعض الروايات؛ خليق ألا يعفي من عقوبته رجلًا من أهل الكتاب قد اتخذ الإسلام وسيلة لإثارة الفرقة بين المسلمين، وتشكيكهم في إمامهم بل في دينهم كله. ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه وهم كانوا مهرة في تتبع المعارضين وإخراجهم من ديارهم وإرسالهم إلى معاوية أو إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
ومن أغرب ما يروى من أمر عبد الله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال الله، وعلمه أن الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين، إلى أن يقال إنه هو الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. لا يوجد أمد بعيد، وما أعرف إسرافًا يشبه هذا الإسراف. فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقًا، وأن الله يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم، وأن المال الذي يكسبه المسلمون حين يظهرون على العدو، أو الذي يؤديه المسلمون إلى بيت المال زكاة أو خراجًا، أو الذي يؤديه الذميون إلى بيت المال جزية أو خراجًا؛ هو مال المسلمين يجب أن يضاف إليهم في القول وأن يرد عليهم بالفعل. لم يكن أبو ذر بحاجة إلى هذا الطارئ ليعلمه هذه الحقائق الأولية من حقائق الإسلام، وأبو ذر سبق الأنصار جميعًا وسبق كثيرًا جدًّا من المهاجرين إلى الإسلام، وهو قد صحب النبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السنة فأتقن روايتها، وشهد سيرة النبي وسيرة صاحبيه في الأموال والحقوق، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه.
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله، يظلمون أنفسهم ويظلمون أبا ذر، ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون: إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة: لا ينبغي لمن أدَّى الزكاة أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل ويطعم الجائع وينفق من ماله في سبيل الله. وكان كعب الأحبار حاضرًا هذا الحديث فقال: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يا ابن اليهودية! ما أنت وهذا؟ أتعلمنا ديننا؟! ثم وجأه بمحجنه. فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في أمور المسلمين حتى بإبداء الرأي، مع أن كعب الأحبار مسلم أبعد عهدًا بالإسلام من ابن سبأ، وكان مجاورًا في المدينة يصبح ويمسي بين أصحاب النبي، وكان معاشرًا لعمر وعثمان، ثم لا يتحرج من أن يتلقى من عبد الله بن سبأ أصلًا من أصول الإسلام وحكمًا من أحكام القرآن! فاعجب لرجل من أصحاب النبي ينكر على كعب أن يجادل في الدين، ثم يتلقى الدين نفسه عن عبد الله بن سبأ!
وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذا — إن كان كل ما يروى عنه صحيحًا — إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يُثِرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا؛ ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على عليٍّ وشيعته من ناحية أخرى؛ فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدًا للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان!
فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنُكْبِر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديًّا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديًّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا. ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرَّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعًا وأحزابًا.
هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ.
وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسية المتباينة. فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي وسيرة صاحبه كانوا يرون أمورًا تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها، ويريدون أن تُواجَه، كما كان عمر يواجهها، في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية. والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة، فيها الطمع وفيها الطموح، وفيها الأثرة وفيها الأمل البعيد، وفيها الهم الذي لا يعرف حدًّا يقف عنده، وفيها من أجل هذا كله التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه. فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة والانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يسبقون إلى الفتح؟ وما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة؟ ثم ما لهم جميعًا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش إلى هذه الأبواب التي فتحت لهم ليَلِجُوا منها إلى المجد والسلطان والثراء؟ وأي غرابة في أن يهمَّ بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الأخرى من العرب، وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظًا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة، ويؤثر قريشًا بعظائم الأمور ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرًا وأجلها شأنًا؟
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدًا على الكوفة بعد أن عزل سعدًا، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، وجمع الشام كلها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش غيرها من أحياء العرب، وولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص. وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان؛ منهم أخوه لأمه، ومنهم أخوه في الرضاعة، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس.
كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها. وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى وعزل من عزل. وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشئون الحكم. وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدْعًا من الناس؛ فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور.
والشيء الذي ليس فيه شك آخر الأمر هو أن عصر عثمان شهد لونًا من المعارضة لم يشهده عصر عمر. وكانت هذه المعارضة تكون في الأمصار البعيدة، وهي التي صورناها لك إلى الآن، وكانت هذه المعارضة تكون في المدينة نفسها قريبًا من عثمان، وهي التي لم نصورها لك بعد، ونريد أن نصورها فيما سنستقبل من الحديث بعد أن طوَّفنا معك في الأمصار ذات الخطر، وعلمنا معك علمها وعلم أهلها وجملة ما حدث فيها من الأحداث. والسؤال الذي ينبغي أن يلقى وأن نجتهد في الإجابة عنه هو: أين نشأت المعارضة لسياسة عثمان؛ أنشأت في المدينة مستقر الخلافة، أم نشأت في الأمصار؟ وبعبارة أدق: أنشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ثم انتقلت عنهم إلى الجند المرابطين في الأمصار، أم نشأت في الجند ثم انتقلت منهم إلى أصحاب النبي في المدينة؟
وواضح جدًّا أن للإجابة عن هذا السؤال خطرًا أي خطر؛ فإن نشأة المعارضة في المدينة معناها أن أصحاب النبي قد كانوا أول من أنكر على عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس، منهم من اقتصد ومنهم من أسرف في هذا الاتباع. ونشأة المعارضة في الأمصار معناها أن الجند هم الذين سبقوا إلى الخلاف، ثم أقحموا فيه وفي نتائجه أصحاب النبي، منهم من رضي عن هذا الإقحام، ومنهم من سخط عليه. وسترى أنا نقف في الإجابة عن هذا السؤال موقفًا وسطًا، وأن نرى المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها، وإنما نشأت فيها وفي الأقاليم، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في أطراف الأقاليم حيث الثغور التي يواجه فيها المسلمون عدوهم. وإذا صح ما نذهب إليه — وما نراه إلا صحيحًا — فقد يكون هذا دليلًا على أن هذه المعارضة — سواء أنشأت في المدينة أم في الأمصار — إنما كانت ظاهرة طبيعية محتومة دعت إليها ظروف الحياة الاجتماعية أولًا، وظروف الحياة السياسية ثانيًا، وظروف الملاءمة بين أصول الدين وحقائقه وبين طبيعة الحضارة التي اضطر المسلمون إلى لقائها وممارستها آخر الأمر. وما كان لعثمان أن يقاوم طبيعة الحياة ولا أن يقهر هذه الظروف. فليس من سبيل إلى أن يوجد سلطان ضخم كهذا السلطان الذي أتيح للمسلمين، ثم لا يكون فيه حكم ومعارضة لهذا الحكم، ثم لا يكون فيه صراع بين ذلك الحكم وهذه المعارضة، ثم لا يكون فيه آخر الأمر ما كان من الاصطدام الذي انتهى بالمسلمين إلى أن يسلكوا الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم ومن بعدهم؛ لأن تطور النظم السياسية والاجتماعية لم يكن قد بلغ أجله بعدُ، وهو لم يبلغ أجله إلى الآن، ولأن العقل لم يكن قد بلغ حظه الأوفى من الرقي، وهو لم يبلغه إلى الآن. والذين يرون ما يحدث الآن من الصراع بين النظم الاجتماعية والسياسية خليقون ألا ينكروا ما كان من الصراع حول النظم السياسية والاجتماعية أيام عثمان في القرن الأول للهجرة وفي القرن السابع للمسيح.
فلنعد إلى المدينة بعد هذه السياحة الطويلة في الأمصار، ولنقم بين عثمان وأصحابه وقتًا ما، لنرى كيف كانت سيرته فيهم، وماذا كان رأيهم فيه.