الفصل الرابع عشر
وأول ما نلاحظ من ذلك ما كان من الصلة بين عثمان وبين هؤلاء النفر الخمسة الذين اختاروه للخلافة وكانوا أول من بايعه بها، وهم الذين شاركوه في مجلس الشورى بعهد عمر. وكلهم سبق إلى الإسلام فكان من السابقين الأولين، وكلهم أبلى في سبيل الله فأحسن البلاء، وكلهم رضي عنه النبي حياته كلها ومات وهو عنه راض، وكلهم كان من العشرة الذين شهد النبي لهم بالجنة. ثم هم يختلفون بعد ذلك في منازلهم من قريش وقرابتهم من النبي ومكانتهم بين الناس وحظوظهم من الدنيا ونظرهم إليها. وأولهم في رأي عمر وفي رأي عامَّة الناس وفي رأيهم هم أنفسهم: عبد الرحمن بن عوف، وكان قريب المكانة من النبي من قبل أمه آمنة بنت وهب؛ فهو مثلها من بني زهرة. وكان يسمى في الجاهلية عبد عمرو أو عبد الكعبة، فسماه النبي عبد الرحمن. وكان في الجاهلية صاحب تجارة بارعًا فيها، وظل بعد إسلامه صاحب تجارة بارعًا فيها، حسن التدبير للمال، ماهرًا أي مهارة في التماسه والظفر به، ثم في استثماره والإنفاق منه في وجوه الخير.
ولما هاجر إلى المدينة نزل على سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أنا أكثر أهل المدينة مالًا، فانظر إلى شطر مالي فخذه، ولي زوجتان فانظر إلى أيهما أعجب إليك فأطلقها لك. قال عبد الرحمن: بارك الله لك! ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم. فلما أصبح غدَا على السوق، فباع واشترى وربح وعاد مع المساء ومعه سمن وأقط. وأقام في المدينة وقتًا ما، ثم أقبل ذات يوم على النبي وعليه ثياب مزعفرة، فلما سأله النبي عن ذلك قال: تزوجت. قال النبي: «فما أصدقت؟» قال: «وزن نواة من ذهب» قال النبي: «فأولم ولو بشاة.» وكان عبد الرحمن يقول: «لقد رأيتني وما أرفع حجرًا إلا ظننت أني سأجد تحته ذهبًا أو فضة.» ومعنى ذلك أنه كان موفقًا في السعي إلى المال مسددًا في التماسه. ثم لم تتصل إقامته في المدينة حتى أصبح من الأغنياء. وقد قدمنا ما روي من قول النبي له: «إنك غني، وما أراك تدخل الجنة إلا زحفًا، فأقرض الله قرضًا حسنًا يطلق لك قدميك.» وقدمنا كذلك ما روي من حديث عائشة حين أنبئت بمقدم عير عبد الرحمن وما كان من تصدقه بالعير كلها وما حملت. وقدمنا كذلك ما روي من أن عبد الرحمن قد ترك ميراثًا ضخمًا كان منه ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس وأرض كانت تزرع على عشرين ناضحًا، ومن أن إحدى نسائه الأربع أخرجت من نصيبها وهو ربع الثُّمن، بمال بين الثمانين ألفًا ومائة الألف. فكل هذا إن صور شيئًا فإنما يصور ثروة ضخمة نامية لم تنقصها الصدقة الدائمة والبر المتصل دائمًا لأزواج النبي، ثم لذوي قرابته من بني زهرة، ثم لغيرهم من عامَّة المسلمين.
ولم يكن عبد الرحمن على هذا كله مفرطًا في المال، وإنما كان يدبِّره ويُثَمِّره ويحرص عليه كأحسن ما يكون التدبير والتثمير والحرص. وقد روى ابن سعد بإسناده في ترجمة عمر أن عمر احتاج إلى شيء من المال، فأرسل إلى عبد الرحمن يستقرضه منه. فقال للرسول: قل له يقترض من بيت المال. ولقيه عمر بعد ذلك فلامه في دعابة قاسية، وقال: أردت أن أقترض من بيت المال، فإذا أدركني الموت ولم أردَّ ما اقترضت جعلتم تقولون: دعوه لعمر وآل عمر.
وكان عبد الرحمن رفيقًا بنفسه آخذًا بحظه مما أباح الله للمسلمين من طيبات الحياة، يؤدي للدين حقه كأحسن ما يكون أداء الحق. ولكنه بعد ذلك رجل من قريش يعيش كما كانت قريش تحب أن تعيش، لا يشتد على نفسه في الزهد، ولا يأخذها بالحياة الخشنة. وقد استأذن النبي في لبس الحرير لحكَّة كان يشكوها، فأذن له النبي في ذلك. وهمَّ أن يستبيح الحرير لنفسه ولبنيه، ولكن عمر كفه عن ذلك، وشق ثوبًا من حرير كان عبد الرحمن قد ألبسه لأحد بنيه كما قدمنا. ثم كان عبد الرحمن كغيره من معاصريه كثير الزواج كثير الولد. وقد أحصى له ابن سعد بضع عشرة امرأة غير أمهات الأولاد، وكلهن ولدن له البنين والبنات، ومات وعنده أربع نسوة أو ثلاث نسوة، على اختلاف في ذلك بين الرواة.
ولكن عبد الرحمن لم يكن يتزوج في حي بعينه أو حيين أو ثلاثة من أحياء العرب، وإنما كان يُصهر إلى كثير من القبائل؛ فهو قد أصهر إلى غير حي من أحياء قريش، وأصهر إلى غير حي من أحياء اليمن، وأصهر إلى ربيعة في غير حي من أحيائها، فكان له من البنين والبنات من يعدُّ أخواله في قريش، ومن يعد أخواله في الأنصار، ومن يعد أخواله في اليمانية المقيمة باليمن، ومن يعد أخواله في اليمانية المقيمة بين الشام والعراق، ومن يعد أخواله في تميم من مضر أو في بكر وتغلب من ربيعة.
ونظرة يسيرة إلى أنساب النساء اللاتي تزوجن عبد الرحمن بن عوف، كما رواها ابن سعد، تكفي لإثبات أن عبد الرحمن قد أصهر إلى أكثر أحياء العرب قوة وأشدها بأسًا. فكان خليقًا لو نهض بالأمر بعد عمر أن يجمع حوله عصبيات كثيرة، وأن يلائم بين هذه العصبيات ملاءمة حسنة، ولعله أن يقرب منها بين ما كان متباعدًا أشد التباعد. وكان خليقًا كذلك لو نهض بالأمر بعد عمر أن يقوم على الأموال العامة، كما كان يقوم على أمواله الخاصة، فيدبرها ويثمرها ولا يعطي منها إلا بالحق. وقد وضعه عمر في الشورى، وميزه من سائر أصحابه حين قال: «إن كان ثلاثة وثلاثة فاختاروا صفَّ عبد الرحمن بن عوف.» ويوشك عمر أن يكون قد جعل عبد الرحمن رئيسًا لمجلس الشورى ما دام قد جعل رأيه مرجحًا عند تساوي الأصوات. وكان بين أصحاب النبي من كان يرشحه للخلافة، ويرى في استخلافه اتقاء لكثير من الشر، وتجافيًا للفرقة التي كانت تنتظر أن ينهض بالأمر علي أو عثمان. ويظهر أن بين أعضاء الشورى أنفسهم من لم يكن يرى باستخلافه بأسًا، ولو خير لآثره على عثمان لمكان عثمان من بني أمية.
ولو خير عثمان لآثره على علي لمكان علي من بني هاشم. وكان بين عبد الرحمن وعثمان صهر؛ فهو تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد بن عقبة، ثم كان بين عبد الرحمن وبين العبشميين صهر؛ فهو قد أصهر إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فكانت عنده إذن خالة معاوية. ثم أصهر إلى شيبة بن ربيعة بن عبد شمس. وهو قد أصهر كذلك إلى الأنصار. وأمه من بني أمية، وهو من بني زهرة، فكان خليقًا أن يجمع عصبية قريش والأنصار جميعًا إلى عصبيات القبائل الأخرى التي أصهر إليها. ولكنه على ذلك لم يرشح نفسه للخلافة، ولم يسمع لمن ألح عليه في هذا الترشيح، وإنما أسرع فأخرج نفسه من الأمر إخراجًا، وأراد أن يكون حَكمًا بين المتنافسين. وقد قبل المتنافسون حكمه بعد أن أخذ عليه عليٌّ موثقًا من الله ليلزمن الحق غير مُحابٍ لصهر أو قرابة. فأعطى هذا الموثق عن رضا، واستقبل الأمر على النحو الذي وصفنا فيما مضى. وكان يقول: «لأن توضع حربة على حلقي حتى تنفذ من الجانب الآخر أحب إلي من أن ألي هذا الأمر.»
فهو إذن قد رفع نفسه عن الحكم وما يحيط به من الظنة والشبهات، وأعفى نفسه من التبعات، وآثر أن يكون رجلًا من الناس، يفرغ لدينه، ويفرغ لدنياه، على أن تكون دنياه سبيله إلى دينه. وكان من الطبيعي بعد أن أصدر حكمه ورشح عثمان وأخذ له البيعة من أعضاء الشورى، وحمل الناس على مبايعته أن يكون رقيبًا عليه من قريب.
ولم يكن عبد الرحمن في أول خلافة عثمان معارضًا له، وإنما كان يؤيده ويرقبه، حتى تكلم الناس فسمع لهم وتشدد في مراقبته. ونظر الناس ذات يوم فإذا هو أحد المعارضين لعثمان في أمور الدين والسياسة جميعًا. ثم نظروا ذات يوم فإذا هو لا يقف عند المعارضة، وإنما يقاطع عثمان فلا يزوره ولا يكلمه. وقد يغلو بعض الرواة فيزعم أنه ندم على توليته، وأنه قال لعلي ذات يوم: إن شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي حتى نجاهده. وأنه قال لبعض من حضره قبيل موته: عاجلوه قبل أن يسرف عليكم وعلى نفسه. ولكن هذه الأخبار خليقة ألا تخلو من التكلف، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه عارض عثمان في أمور الدين حين أتم الصلاة حيث كان النبي وصاحباه يقصرونها، وعارضه فيما أعطى لقرابته من الأموال.