الفصل الخامس عشر
وكان سعد بن أبي وقاص زهريًّا كعبد الرحمن، وقال النبي عنه ذات يوم وقد رآه مقبلًا: «هذا خالي.» وقد قدَّمنا أن سعدًا سبق إلى الإسلام فيمن سبق، حتى كان يقول: «لقد رأيتني وإني لثلث الإسلام.» وحتى كان يقول: «لقد أسلمت وما فرض الله الصلوات.» وقد أبلى فأحسن البلاء كغيره من أصحابه، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله. وفدَّاه النبي بأبويه جميعًا يوم أحد. وكان يتحدث بقصة أخيه عمير بن أبي وقاص الذي هاجر إلى المدينة غلامًا حدثًا، فلما استعرض النبي الخارجين معه إلى بدر رأى سعد أخاه عميرًا يستخفي، فسأله عن ذلك فقال: أخشى أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لَعلِّي أن أستشهد. وقد رآه النبي فاستصغره فردَّه، وبكى الغلام فأذن له النبي في الخروج، وكان سعد يعقد له خمائل سيفه لصغره، وقد رزق الشهادة التي طلبها، فقتل فيمن قتل من المسلمين يوم بدر.
وكان سعد أثيرًا عند رسول الله؛ مرض بمكة بعد الفتح فعاده النبي ودعا الله أن يشفيه حتى لا يموت في الأرض التي هاجر منها، وتحدث إليه في مرضه ذاك بحديث الوصية الذي يأمر بألا يوصي الإنسان بأكثر من ثلث ماله. وتركه في مكة وخلف عليه رجلًا من أصحابه وقال له: إن مات سعد بعدي فادفنه ها هنا، وأشار إلى طريق المدينة. وقال لسعد: «إني لأرجو أن يرفعك الله فينفع بك قومًا ويضر آخرين.» ويقال إن النبي تمنى على الله أن يستجيب لسعد إذا دعا. وقد استجاب الله دعاء النبي، فبرئ سعد من مرضه ذاك، وعاش حتى نكأ الله به قومًا ونفع آخرين، فهو بطل القادسية، وهازم جند كسرى.
وقد جعله عمر بين الستة الذين جعل إليهم الشورى في أمر الخلافة؛ فكان مرشحًا للخلافة إذن، ولكن عبد الرحمن خلعه منها كما خلع نفسه.
وقد كانت لسعد زوجات كثيرات، ولكنهن كن متفرقات في قبائل العرب. ولم يتزوج من قريش إلا امرأة واحدة زهرية مثله. وكأن قومًا كانوا يشكُّون في نسبه ويؤذونه بذلك، حتى أقبل ذات يوم على النبي فقال: يا رسول الله، من أنا؟ فقال له النبي: «أنت سعد بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، من قال غير ذلك فعليه لعنة الله.» وهذا فيما أرجح هو الذي قلل إصهاره إلى قريش. ويزعم بعض الرواة أن سعدًا كان هواه مع عليٍّ أثناء الشورى، وأنه تحدث في ذلك إلى عبد الرحمن. ولكن هذا قد يصح وقد لا يصح، وقد أوصى عمر الخليفة من بعده إن صُرفت الخلافة عن سعد أن يوليه؛ فإنه لم يعزله عن خيانة. وقد أنفذ عثمان هذه الوصية، فولى سعدًا الكوفة عامًا وبعض عام، ثم عزله وولى الوليد. وقد قدمنا رأيَنا فيما يُروى من القصة التي دعت إلى عزل سعد. ونضيف إلى ما قدمنا أن الخلاف بين سعد وابن مسعود، على ما كان سعد قد اقترض من بيت المال، يروى أنه وقع بين الوليد بن عقبة وبين عبد الله بن مسعود. فأكبر الظن أن الذين أضافوا هذه القصة إلى سعد قد خلطوا بين الرجلين عن عمد أو عن خطأ. ومهما يكن من شيء فقد كان سعد وفيًّا ببيعته لعثمان. وسواء أغضب لعزله إياه أم لم يغضب فلم يكن عنيفًا في معارضته، بل لم يكد يشارك في هذه المعارضة إلا حين كانت رفيقة لا تتجاوز النصح والأمر بالمعروف. فلما خرجت المعارضة عن طورها وقاربت أن تكون ثورة، كفَّ سعد ولزم الحياد، ولم يشارك في الفتنة ولا في أعقابها. وكان إذا كلم في ذلك وسئل: لِمَ لا تقاتل؟ قال: حتى تأتوني بسيف ينطق فيقول: هذا مؤمن وهذا كافر. وكأن سعدًا تحرج من أن يظهر النكير على عثمان، فيتهم بأنه إنما يفعل ذلك لأنه ينقم من عثمان عزله عن الكوفة.
ومهما يكن من شيء، فقد لزم سعد السيرة التي سارها أيام النبي، فجاهد ما عرف الجهاد مع النبي وأيام عمر، فلما أشكل الأمر عليه اعتزل وترك الناس وما هم فيه. ولما مات سنة خمسين أو سنة خمس وخمسين، طلب أزواج النبي أن تمر جنازته عليهن، فمرَّ به في المسجد وصلين عليه. ولم يترك سعد ثروة ضخمة حين مات بالقياس إلى أصحابه، وإنما ترك بين مائتي الألف وثلاثمائة الألف. وليس هذا بالشيء ذي الخطر كما رأيت وكما سترى.