الفصل السابع عشر
وكان طلحة بن عبيد الله تيميًّا من رهط أبي بكر، وكان في جاهليته تاجرًا، وكان صديقًا لعثمان، وكانا قد خرجا معًا في التجارة إلى الشام في العام الذي أسلما فيه. وقد كان طلحة من السابقين الأولين كأصحابه، ولم يصرفه الإسلام عن تجارته، وإنما كان يخرج إلى الشام بها. وقد لقي النبي في طريقه إلى المدينة مهاجرًا ومعه أبو بكر، وكان هو عائدًا من الشام، فأهدى إليهما، وأنبأهما بأن المسلمين في المدينة يستبطئون النبي. فأغذ رسول الله السير ليخفف عليهم من هذا الانتظار. ومضى طلحة إلى مكة، فأصلح أمره فيها، ثم لحق برسول الله في المدينة، فأقام معه بين أصحابه المهاجرين.
وقد شهد بدرًا وأحُدًا والمشاهد كلها مع النبي، وأبلى فأحسن البلاء، ودافع في أحد عن النبي دفاعًا حسنًا، وتلقى عنه سهمًا بيده فأصاب إصبعًا من أصابعه فشلَّت، وأصابته في أحد جراحات في جسمه كله، حتى كان النبي يقول: «من سره أن يرى رجلًا يمشي على الأرض بعد أن قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله.» يريد أن طلحة أشرف على الموت يوم أحد فكان حكمه حكم الشهداء. ويشير في أكبر الظن إلى الآية الكريمة: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. فكأن النبي أراد أن يلحق طلحة بمن استشهد من المسلمين يوم أحد ومنهم حمزة ومصعب بن عمير.
وقد مضى طلحة في تجارته، لم يصرفه عنها إلا ما كان يكون من شهوده الغزو مع النبي. وأقام في المدينة أيام أبي بكر وعمر كما أقام فيها غيره من أعلام المهاجرين. ووضعه عمر في الشورى ولكنه لم يشهدها، كان في بعض ماله غائبًا عن المدينة حين مات عمر. وقد أرسل أصحابه إليه يتعجلون مقدمه، فأقبل مسرعًا، ولكنه بلغ المدينة وقد تمت البيعة لعثمان. وقد أغضبه أن يتم أصحاب الشورى أمرهم من دونه، فجلس في داره وقال: مثلي لا يفتات عليه. ويقال إن عبد الرحمن بن عوف سعى إليه فطالبه بالبيعة لعثمان وحذره عاقبة الخلاف. ويقال إن عثمان نفسه سعى إليه وقال له: إن شئت أن أردَّ الأمر رددته. قال طلحة: أوَتفعل؟ قال عثمان: نعم! قال طلحة: فإني لا أرد الأمر، فإن شئت بايعتك في مجلسك هذا، وإن شئت بايعتك في المسجد.
وكان بنو أمية يشفقون أن يتلكأ طلحة ببيعته، فلما بايع اطمأنوا، وكان عثمان يصل طلحة فيحسن صلته. قالوا: إن طلحة كان اقترض من عثمان خمسين ألفًا، فقال له ذات يوم: قد حضر مالك، فأرسل من يقبضه، قال عثمان: هو لك معونة على مروءتك. ويقال: إن عثمان وصل طلحة بمائتي ألف. وكانت بين طلحة وعثمان مبايعات: يبيع طلحة ويشتري عثمان في الحجاز، ويبيع عثمان ويشتري طلحة في العراق. وكان طلحة كثير الصدقة، لا يحب أن يجتمع في داره المال السائل، فكان إذا اجتمع في داره منه شيء كثير، لم يسترح حتى يتخفف منه بتقسيمه في ذوي قرابته من تيم، وفي ذوي مودته من قريش والأنصار. وكان أسرع الناس معونةً لمن يحتاج إلى المعونة، وأداء عمن يثقل عليه الدين. وكان أعطى الناس للمال والكسوة، وأسخاهم بالطعام. وكانت ثروته بعد هذه النفقات الضخمة واسعة جدًّا، حتى كان الحديث عن ثرائه وعطائه مصدر اختلاف على سعيد بن العاص في الكوفة كما قدمنا.
وكان طلحة — كما رأيت — معارضًا لعثمان منذ اليوم الأول لخلافته؛ لأن البيعة تمت وهو غائب، ولكن عثمان ترضاه فاستقامت الأمور بينهما، ثم وصله فازدادت الأمور استقامة، فلما ظهر الخلاف على عثمان كان طلحة من المسرعين إليه، فيما يقول الرواة. ولما اشتد الخلاف كان طلحة من المؤلبين، ولما حوصر عثمان كان طلحة من المشاركين في الحصار، ولما قتل عثمان كان طلحة من الذين عجبوا لحزن عليٍّ على مقتل عثمان. ولما بويع علي كان طلحة من المبايعين مع الزبير، ثم خرج مع الزبير مطالبًا بدم عثمان، ناقضًا بيعته لعلي وقد قتل في يوم الجمل، قتله فيما يقول الرواة، مروان بن الحكم، رماه بسهم فأصابه، فقال مروان: والله لا طالبت بعده بدم عثمان أبدًا. كان مروان يرى أن طلحة أشد المحرضين على قتل عثمان. ولما أصيب طلحة وجعل دمه ينزف قال: هذا سهم أرسله الله! اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. فكان طلحة إذن يمثل نوعًا خاصًّا من المعارضة، رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة، فلما طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك.