الفصل الثاني
كانت القاعدة الأساسية التي أقام أبو بكر وعمر عليها نظام حكمهما، هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا. وسيرة النبي في المسلمين معروفة إلى أبعد حد ممكن. وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس، وما نحتاج فيما نظن أن نقيم على ذلك دليلًا، وحسبنا أن نُذكر من لا يذكر أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين؛ أولاهما: التوحيد، وثانيتهما: المساواة بين الناس، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
وكان أغيظ ما غاظ قريشًا من النبي ودعوته أنه كان يدعو إلى هذا العدل وإلى هذه المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمَسُود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعًا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم من بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض. وقد يقال: إنه لم يلغ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضًا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفته لا يُنكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوَّى بين الحر والعبد أمام الله كانت وحدها حدثًا خطيرًا في تاريخ الناس، وحدثًا خطيرًا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يُخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدًا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوًا ويحرِّمه تحريمًا؛ فكيف وقد جعل الله فكَّ الرقبة وإعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلمون، يدخرون بها الأجر من الله والمثوبة عنده، وكيف والله قد فتح في الدين أبوابًا كثيرة لا يكاد يلجها الرقيق حتى يعتق، والله قد مد في أسباب الإعتاق والتحرير لمن شاء أن يتصل بها، فجعل الإعتاق — كما قدمت آنفًا — من الأعمال الصالحات التي يقصد إليها المسلم، وجعل الإعتاق كفارة لبعض الخطايا، ولم يدع وسيلة تيسر الإعتاق وتغري به وتعين عليه وتفرضه على الناس فرضًا إلا دعا إليها ورغب فيها وشرعها للمسلمين.
وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي لِمَا أظهر من ذلك، حتى لأَكَادُ أعتقد أنه لو قد دعاها إلى التوحيد دون أن يعرض للنظام الاجتماعي والاقتصادي، ودون أن يسوي بين الحر والعبد وبين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، ودون أن يلغي ما ألغى من الربا، ودون أن يأخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء — أقول: لو قد دعاهم النبي إلى التوحيد وحده دون أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، لأجابته كثرتهم في غير مشقة ولا جهد؛ فما كانت قريش مؤمنة بأوثانها إيمانًا خالصًا، ولا كانت قريش حريصة على آلهتها حرصًا صادقًا، وما كانت قريش إلا شاكَّة ساخرة، تتخذ الأوثان وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء العرب واستغلالها — أو لأَجَابَهُ من قريش من أجاب، وامتنع عليه منها من امتنع، دون أن يلقى في ذلك مشقة أو عنتًا، إلا أن يكون حرص قريش على آلهتها نتيجة حرصها على مكانتها من العرب وانتفاعها بما كان يُجلب إليها من الثمرات. ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي، وفرض عليها نوعًا من العدل لا يلائم منافع سادتها وكبرائها، أكثر مما سخطت عليه لأنه عاب آلهتها ودعاها إلى أن تلغي الواسطة بينها وبين الله.
والناس جميعًا يعلمون أن النبي ﷺ ربما رفق ببعض السادة من قريش طمعًا في أن يستميله إلى الإسلام، فيكون ذلك قوة للدعوة الجديدة، وربما دعاه هذا الرفق إلى شيء من الإعراض عن بعض المستضعفين، فلامه الله في ذلك أشد اللوم وأعنفه، وأنزل الله في ذلك قرآنًا، وما زال الناس يقرءون ما أنزل الله في قصة ابن أم مكتوم من قوله عز وجل: عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ.
فالتسوية بين الناس إذن هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام عليهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبي في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرة قوامها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركن أساسي من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلال بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعض ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حُنين، ويتألف بعض من كان يتألف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدلْ يا محمد فإنك لم تعدل. وقد أعرض النبي ﷺ عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!»
وهمَّ بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفَّهم عنه لأنه كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألف من العرب إلا عن وحي من الله وإذن في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة «براءة» أن يتألف قلوب بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفًا من مصارف الصدقة.
فهو إذن لم يَجُرْ عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعة من هؤلاء الذين أذن الله له في أن يتألف قلوبهم؛ وليس أدل على أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعد حد ممكن، من هذه السُّنَّة التي استنَّها في نفسه فأحب الخلفاء أن يسنُّوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا؛ فقد أقص النبي من نفسه، وزعم عمر أثناء خلافته أن أي عامل آذى بعض رعيته بغير الحق فهو عرضة لهذا القصاص، ويقال إن بعض الرعية شكا إلى عمر في الموسم أن عامله قد ضربه بغير الحق، فلما استبان ظلم العامل لعمر قضى بأن يقتص منه شاكيه، وفزع العمال إلى عمر يطلبون إليه أن يُقِيل هذا العامل من هذا القصاص؛ لأنه يغض من هيبة السلطان، ويُطْمِع الرعية في أمرائها، فلم يقبل منهم عمر على كثرة ما ألحوا، ثم رضي آخر الأمر أن يعفي العامل من هذا القصاص إذا أرضى شاكيه، وقد استطاع هذا العامل أن يُرضي شاكيه فلم يتعرض لهذا القصاص؛ وكانت حجة عمر أن النبي قد أقصَّ من نفسه وهو خير أمته، فلا على غيره من الخلفاء والولاة أن يُقِصُّوا من أنفسهم عن رضًا أو أن يُقِصَّ منهم السلطان وهم كارهون. وقد احتج خصوم عثمان عليه بإقصاص النبي من نفسه، وبما أراد عمر من إقصاص الرعية من ولاتها، وطلبوا إليه أن يقص من نفسه، فلم يجبهم إلى ما أرادوا. والذين قرءوا سيرة النبي وسنته يعلمون أنه لم يكن يؤثر نفسه بخير دون أصحابه، إلا أن يؤثره الله بهذا الخير في أمر يوحيه إليه في القرآن؛ فهو كان يشاورهم وينزل عند مشورتهم، وهو كان يحارب معهم إذا حاربوا ويسالم معهم إذا سالموا، وهو كان يبني معهم المسجد ويحفر معهم الخندق ويتغنى معهم وهم يتغنون، يستعينون بالغناء على مشقة الحفر والبناء، وهو كان يحمل معهم الأحجار والتراب، يرى نفسه واحدًا منهم قد آثره الله بالوحي والنبوة، فلم يؤثر نفسه بأكثر مما آثره الله به، والسيرة والسنن تروي أنه حين مرض مرضه الذي خرج به من الدنيا سأل عن شيء من ذهب كان قد بقي عنده من مال المسلمين، فلما جيء به أخرجه إلى الناس ولم يُبقِ منه شيئًا، وتوفي وهو لا يملك من الدنيا بيضاء ولا صفراء. وقد اشتد على نفسه في ذلك، واشتد الله عليه فيه أيضًا، إذ كان لا ينطق عن الهوى، فلم يكتف بالارتفاع عن أن يؤثر نفسه بشيء من دون أصحابه، وإنما أبى إلا أن يسير في أهله سيرته في نفسه، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة.» وقد جاءت فاطمة رحمها الله تطلب إلى أبي بكر ميراث أبيها: فَدَك، فلم يجبها إلى ما طلبت وروى لها هذا الحديث.
فقد قامت سيرة النبي إذن على العدل بين الناس فيما يكون بينهم وبين أنفسهم، وعلى العدل بين الناس وبين نفسه، وعلى العدل بين الناس وبين أهله أيضًا. واجتهد صاحباه من بعده أن يذهبا مذهبه ويسيرا سيرته ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا؛ بل همَّ أبو بكر أن يكلف نفسه فوق ما تطيق، فأراد أن يكون إمامًا للمسلمين ينظر في أمرهم ويقف عليهم وقته وجهده، وأن يسعى مع ذلك ليكسب قوته وقوت أهله، ورآه المسلمون ذات يوم يحمل بعض العروض يسعى بها إلى السوق ليبيع ويشتري كما كان يفعل قبل أن يُستخلف، وكما كان المسلمون يفعلون من حوله؛ ولكن المسلمين أشفقوا عليه من ذلك، أو أحس هو العجز عن أن يكون كاسبًا وخليفة في وقت واحد، على اختلاف في الروايات؛ فرزقه المسلمون من بيت المال؛ ولم ييسروا عليه في الرزق، وإنما أعطوه ما يقيم أَوَدَهُ وَأَوَدَ أهله.
وقد سار أبو بكر سيرة النبي نفسه، فتحرج أن يموت وعنده من أموال المسلمين شيء، وأوصى آل أبي بكر أن يردوا على عمر هنات كانت عنده من أموال المسلمين، وقد ردت هذه الهنات على عمر فبكى وهمَّ أن يقبلها، فأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف ذلك، ولكن عمر أبى إلا أن يتحرج في ذات صاحبه كما تحرَّج هو في ذات نفسه، وكره أن يلقى أبو بكر ربه فيسأله عما بقي عنده من هذه الهنات، وكره أن يقول أبو بكر لربه: ردها أهلي، وأبى عمر أن يقبلها.
وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثَّما مما لا إثم فيه، وأن يتحرَّجا مما لا تتحرج منه ضمائر الأتقياء. ولو قد طالت خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب، ولكن خلافة عمر جاوزت عشر سنين، فأرانا من ذلك ما لا تكاد تصدقه النفوس. ومن الناس من يزعم أن الرواة قد تكثَّروا على عمر، وأضافوا إليه من الشدة أكثر مما كان فيه، ولكن الذين يقرءون سيرة عمر في كتب السنن والطبقات والتاريخ يفرقون في غير مشقة بين ما يمكن أن يكون الرواة قد تكلفوه وبين ما يلائم سيرة عمر وطبعه ومزاجه من الأحداث والواقعات؛ فقد كان عمر شديدًا على الناس إلى أقصى حدود الشدة في ذات الله، ولكنه كان على نفسه أشد منه على الناس. وما أعرف أن التاريخ الإنساني كله يستطيع أن يجد لعمر نظيرًا في هذا الضمير الحي الحساس المتحرج المتأثم الذي يخاف على نفسه ما لا يُخاف، ويُنْكِر من نفسه ما لا يُنْكَر، ويأخذ نفسه من ضروب الشدة والعنف بما لا يأخذ الرجل به نفسه إلا أن يكون من أولي العزم. والناس يعلمون أن عمر رأى الشدة التي نزلت بالمسلمين في عام الرمادة، فأبى إلا أن يشارك الناس في شدتهم، وأبى إلا أن يشارك من الناس في هذه الشدة أعظمهم حظًّا من الفقر والضيق.
عرف أن عامَّة الناس من حوله لا يجدون السمن، فحرَّم السمن على نفسه وصبرها على الخبز الجاف والزيت؛ ثم شق عليه الزيت، فخيل إليه أنه لو طُبخ لانكسرت حدته ولكان أيسر إساغة وهضمًا، فتقدم إلى مولاه في أن يطبخ له الزيت، فلما طعمه مطبوخًا كان أوجع له وأشد عليه، وقد أثر ذلك في صحته فتغير له لونه، وعرف المسلمون ذلك فلم يستطيعوا أن يردوه عنه؛ لأنه أبى أن يُخْصِبَ حتى يُخْصِبَ عامَّة المسلمين.
ولم يؤمن عمر قط فيما بينه وبين نفسه بأنه مدبر هذه الدولة الضخمة ذات الآفاق الواسعة والفتح البعيد، وإنما كان فيما بينه وبين نفسه يرى ولايته عجبًا من العجب وغريبة من الغرائب، ويقول لنفسه إذا خلا إليها: بَخٍ بَخٍ يابْنَ الخطاب؛ أصبحت أمير المؤمنين! وما يزال يذكر أنه كان قبل الإسلام تَرْعِيَّةً يرعى على أبيه الخطاب غُنيمة، يحدِّث الناس بذلك ويحدثهم بالمكان الذي كان يرعى فيه، ويحدثهم بما كان يلقى من الخطَّاب في عمله ذاك من الشدة والجهد. ولم يكن عمر يبخل بنفسه على عمل من أعمال المسلمين مهما يكن عسيرًا شاقًّا، وقد رئي ذات يوم في حظيرة إبل الصدقة يُحصي هذه الإبل ويصفها وصفًا دقيقًا مستقصى، يقول ذلك لعلي ويؤدي علي عنه ذلك إلى عثمان، فيكتبه عثمان في الصحف، حتى أعجب عليٌّ منه بذلك فتلا ما جاء في القرآن على لسان ابنة شعيب في موسى: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، ثم قال: هذا هو القوي الأمين. ورأى الناس عمر يطلي إبل الصدقة بالقطران يهنأ منها مواضع النقب، كما يفعل الرعاة والمستضعفون من الناس، لا يجد في ذلك مشقة ولا يرى منه بأسًا؛ وكان بعد شدته هذه العنيفة على نفسه يشتد على أهله حتى يرهقهم من أمرهم عسرًا، وكان إذا نهى الناس عن شيء وحذرهم العقوبة إن فعلوه، جمع إليه أهله وقال لهم: إني قد نهيت المسلمين عن كذا وحذرتهم العقوبة إن أتوه، وإن الناس ينظرون إليكم لمكانكم مني؛ فلا أعرفن أن أحدكم قد أتى ما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة.
وكان في عام الرَّمادة يتتبع طعام أهله تتبعًا دقيقًا؛ فإن رأى عند أحدهم يسرًا أو سعة رده عن ذلك ردًّا عنيفًا، ثم كان بعد أن يَعْنُفَ بنفسه وبأهله هذا العنف لا يتحرج في أن يأخذ الناسَ بسياسته تلك التي وصفها حين قال: «شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.»
روي أنه كان يقسم مالًا بين المسلمين ذات يوم وقد ازدحم الناس عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رحمه الله، ومكانه من النبي مكانه، وبلاؤه في فتح فارس بلاؤه، فزاحم الناس حتى زَحَمَهُمْ وخَلُصَ إلى عمر؛ فلم يكن من عمر إلا أن علاه بالدِّرَّة، وقال: لم تَهَبْ سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!
كذلك كان حرص عمر على أن يسوي بين الناس وبين أنفسهم، وعلى أن يسوي بين الناس وبين نفسه وأهله. كل هذا بالقياس إلى سيرته الخاصة التي كان يسيرها في كل يوم.
ولكن هذه الناحية من حياة عمر أيسر النواحي وأهونها على ما فيها من الشدة والجهد؛ فهناك السياسة العامة التي أخذ عمر نفسه بها وجعلها لخلافته شريعة ومنهاجًا؛ وأول ذلك سياسته لهؤلاء النفر من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين والأنصار؛ فهؤلاء هم أصحاب السابقة في الإسلام وأصحاب المكانة الممتازة من النبي، إليهم الحل والعقد في كل أمور المسلمين، يؤدي إليهم عمر حسابه عن تصرفه في كل أمر من الأمور العامة، ويستشيرهم في الجليل والخطير من المصالح، ويرى أنه قد وُلِّيَ عليهم وليس خيرهم، فما عسى أن تكون سيرته فيهم مع ذلك؟ ما عسى أن تكون سياسته لهم؟ أخذهم بالحزم والرفق جميعًا، فجعلهم نظراءه وخاصته وأصفياءه وذوي مشورته؛ ولكنه خاف عليهم الفتنة، وخاف منهم الفتنة أيضًا، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلا بإذنه، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلا بأمر منه. خاف منهم أن يفتتن بهم الناس، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان. وما من شك في أن هذا قد شق على كثير من أصحاب النبي ومن المهاجرين منهم خاصة.
وآية ذلك أن عثمان لم يكد يتولى أمر المسلمين حتى فَكَّ عنهم هذا العقال وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، فرضوا عنه كل الرضا، ثم لم تمض أعوام حتى ضاقوا به أشد الضيق، وكانت الفتنة التي خشي عمر أن تكون. ثم كان عمر قد فرض لكل واحد من أصحاب النبي عطاءه على مكاناتهم وسابقاتهم في الإسلام، وعلى منازلهم وقرابتهم من النبي، وكان عمر يرى أن فيما فرض لهم من العطاء ما يغنيهم ويكفيهم السعي والاكتساب، ولكنهم مع ذلك اكتسبوا واتجروا، وكان منهم من ضارب، فعظم ثراؤهم وكثرت أموالهم، فتوسعوا في الغنى وتوسعوا في العطاء أيضًا، ولم يستطع عمر أن يمنعهم من ذلك أو يردهم عنه؛ فهم كانوا يتجرون ويكتسبون أيام النبي فلم يردهم النبي عن التجارة ولا عن الاكتساب، ولكن عمر رأى ثراءهم وثراء غيرهم من المسلمين، بفضل ما أفاء الله عليهم من غنائم الفتح، وبفضل هذه الأعطيات التي كانت توزع عليهم كل عام، فلم يرضَ عن ذلك، ولم تطب به نفسه، حتى كان يقول: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» ولو قد مُدَّ لعمر في أسباب الحياة لكان من الممكن أن يرى التاريخ الإسلامي منه في ذلك عجبًا.
وقد كثرت أموال المسلمين بفضل الفتح أيام عمر، فوقف من كثرتها موقف الحيرة أولًا وشاور أصحابه؛ فأما عليٌّ فأشار عليه بما يلائم السُّنَّة الموروثة ولا يلائم تطور الحياة، فقال له: تقسم ما يرد من الأموال، حتى إذا حال الحول لم يبق في بيت المال درهم ولا دينار إلا ذهب إلى مستحقه. وأما عثمان فقال له: أرى مالًا كثيرًا، وإذا لم يُضبط خشيت أن ينتشر الأمر. ثم انتهى عمر في القصة المعروفة إلى أن دوَّن الدواوين، وفرض للناس أعطياتهم، وأمسك في بيت المال لمصالح المسلمين العامة ما يتجاوز هذه الأعطيات.
ولم تلبث الحوادث أن أظهرت صواب هذا الرأي الذي أشار به عثمان والذي كان يلائم طبيعة الأشياء في دولة متحضرة أو تريد أن تتحضر؛ فلما كان عام الرمادة وجد عمر في بيت المال ما أتاح له أن يقيم أمر الناس حتى يأتيه الغوث من الأقاليم، وكان يقول: نطعم المسلمين من بيت المال، حتى إذا لم نجد فيه شيئًا أدخلنا على كل أهل بيت من الأغنياء مثلهم من المحتاجين، وما نزال نفعل ذلك حتى يطعم المسلمون جميعًا.
على أن هذا النحو من سياسة المال كان أيسر ما ذهب إليه عمر، وهو على ذلك قَيِّمٌ له حظه العظيم من إيثار العدل والرفق بالناس. ولكن هناك مذهبًا لعمر في سياسة المال ذهب إليه ومضى فيه إلى مدى بعيد، ويخيل إليَّ أن الأمم المتحضرة تحاول الآن أن تذهب إليه، فلا يتاح لها ذلك إلا في مشقة شاقة، وعسر عسير.
فقد كان عمر يرى ويعلن أن هذا المال الذي يأتي من الفيء ومن جباية الجزية والخراج، ملك للمسلمين جميعًا، لا يستأثر به واحد دون الناس، ولا يستاثر به فريق من الناس دون غيرهم من الرعية، وكان يرى أنه المسئول الأول والأخير عن حفظ هذا المال أولًا، وعن رده إلى أهله ثانيًا، وكان يقول: لو نَدَّ جمل من إبل الصدقة في أبعد الأرض أو أصابه مكروه لخشيت أن يسألني الله عنه يوم القيامة. وكان يقول: إن عشت ليأتين الراعي في جبل صنعاء نصيبه من هذا المال.
وكان قد فرض للناس أعطياتهم من هذا المال؛ للرجل عطاؤه، وللمرأة عطاؤها، وللطفل عطاؤه، وللشيخ الفاني وذي العاهة عطاؤه. وكان يحسب أنه بذلك قد بلغ من العدل ما أراد، ولكنه مر ذات ليلة فسمع صبيًّا يبكي، فمضى لشأنه، ثم مر به ثانية فسمعه يبكي، فسأل أمه عن ذلك فأجابته جوابًا ما، ولكنه مر الثالثة فسمعه يبكي، فلما ألح على أمه في السؤال أنبأته بأنها تريغه عن الرضاع: لأن عمر لا يفرض للأطفال إلا حين يفطمون، فلما سمع عمر ذلك جزع له جزعًا شديدًا. ثم أصبح فأمر من أذَّن في الناس: لا تعجلوا بفطام أطفالكم، فإنا نفرض لأطفال المسلمين منذ يولدون.
وكان عمر ينفذ أمر الله في أخذ الصدقات، ولكنه كان يتحرج في أخذها وتوزيعها تحرجًا شديدًا، والناس يعلمون أن أعرابيًّا سأل النبي ذات يوم: آلله أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ فقال له النبي: اللهم نعم.
فكان عمر رحمه الله يعزم على سُعاته أن يتحروا العدل في أخذ الصدقة من كل حي من أحياء العرب، وأن يردوا صدقة كل حي على فقرائه حتى يستغنوا عن المسألة، وأن يعودوا عليه بفضل ذلك؛ فإذا عادوا عليه بهذا الفضل حبسه على المصارف التي فرضها الله في القرآن، فأعان بها الفقير والمسكين وابن السبيل والغارمين، وما إلى ذلك من هذه المصارف التي ذكرها الله في آية الصدقات.
وما أذكر الاشتراكية وما أذكر الشيوعية، فلم يكن عمر صاحب اشتراكية ولا شيوعية؛ لأنه أقر الملك كما أقره النبي والقرآن، ولأنه أذن في الغنى كما أذن فيه النبي والقرآن. ولكن أذكر العدل الاجتماعي الذي يستطيع أن يتحقق في غير إلغاء للملك ولا تحريم للغنى، والذي تحاول بعض الديمقراطيات الحديثة أن تحققه محتفظة للمالكين بما يملكون، وللأغنياء بكثير مما يجمعون.
وأذكر مشروع بيڨردج الذي حاول أن تكفل الدولة للناس حياتهم وصحتهم وحاجتهم وكرامتهم، دون أن تضطرهم إلى أن يُستذلوا أو يُستغلوا، ودون أن تغريهم بالتبطل والفراغ.
أذكر طموح الديمقراطية في هذا العصر وقصورها عن تحقيق ما تطمح إليه، ثم أذكر ما حاول عمر من ذلك وما حقق، فلا أتردد في أن الشاعر الذي رثاه إنما أثنى عليه بالحق حين قال:
ثم لم يكن عمر رفيقًا بعماله وولاته ولا مسمحًا لهم، وإنما كان يراقبهم أشد المراقبة، كان لا يولي عاملًا إلا أحصى عليه ماله حين التولية وأحصاه عليه حين العزل، فإن وجد فرقًا قاسم العامل هذا الفرق، فترك له شطرًا ورد الشطر الآخر إلى بيت المال، ثم كان يتتبع سيرة هؤلاء العمال في الرعية من قريب جدًّا، ويعزم عليهم سرًّا وإعلانًا ألا يؤذوا المسلمين في أنفسهم ولا في أبشارهم ولا في أشعارهم ولا في أموالهم، وكان يلوم بعض ولاته في بعض ذلك فيقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!»
وكان يشاور من عنده في المدينة من أصحاب النبي فيما يلم من الخطوب كل يوم، ويضرب لعماله موعدًا إذا كان الموسم، فيحج بالناس ويسمع من العمال في أمر الرعية ومن الرعية في أمر العمال، ويرد الأمر في ذلك كله إلى نصابه. وأكاد أعتقد أن عمر لو قدمت له أسباب الحياة لنظم الشورى في أمر المسلمين نظامًا مستقرًّا باقيًا، يعصمهم من الفتنة والاختلاف، ويكف الولاة عن الظلم والاستعلاء.
ولم أتحدث عن بلاء عمر رحمه الله فيما دبر من أمور المسلمين، حتى فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار وأنشئوا هذه الدول العربية الإسلامية الضخمة، فأنا لم أحاول أن أكتب تاريخ عمر ولا أن ألم بحياته إلمامًا يسيرًا، وإنما أردت إلى أن أبين أن السيرة التي سارها النبي واجتهد صاحباه من بعده في أن يتبعاها، إنما كانت سيرة قوامها العدل الخالص المطلق الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يعلم أن الله يراقبه من جهة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، يراقب منه ما ظهر ويراقب منه ما خفي ويسأل منه عن كل شيء، ويعلم من جهة أخرى أن الناس يراقبونه مراقبة شديدة أذن لهم فيها، بل فرضت عليهم فرضًا، فهم مكلفون أن يطيعوا الخليفة ما استقام، وأن يُقوِّموه إن اعوج، وأن يسألوه عما يلتبس عليهم من سيرته ليتبعوه عن علم، ويشيروا عليه عن بصيرة ويخالفوه عن عزيمة وإعذار.
فهل كانت هذه السيرة التي سارها النبي، واجتهد صاحباه في أن يسيراها ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا، ملائمة لما فطر الناس عليه من الأثرة والطمع والحرص على المنافع العاجلة؟ وهل كانت هذه السيرة قادرة على أن تبقى حتى تغير من طباع الناس فترقى بهم إلى المثل العليا التي دعا إليها النبي وصاحباه؟