الفصل العشرون
وكان أبو ذَرٍّ رجلًا غفاريًّا من كنانة، وكان في جاهليته منقطعًا عن الناس معتزلًا لهم، كأنه كان يتصعلك. وأقبل على مكة ذات يوم وسمع فيها حديث النبي، فألم به وسمع منه وأسلم. ثم لم يطل الإقامة بمكة، وإنما لحق بالنبي في المدينة بعد أن هاجر إليها. فهو من الذين سبقوا إلى الإسلام، ومن الذين أحبهم النبي وأثنى عليهم أحسن الثناء، فكان يقول: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء رجلًا أصدق لهجةً من أبي ذر.» وكان يقول: «يبعث أبو ذر أمةً وحده.» وكان أبو ذر يروي أن النبي أمره أن يترك المدينة إذا بلغ البناء سلعًا. فأقام في المدينة أيام أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، ثم رأى البناء يبلغ سلعًا فاستأذن عثمان في أن يهاجر إلى الشام غازيًا. ويقال إنه خرج إلى الشام أيام عمر، فكان في الديوان هناك، فكان أبو ذر يقدم حاجًّا، ويلمُّ بالمدينة، ويستأذن عثمان في أن يجاور قبر النبي وقتًا فيأذن له. ونظر ذات يوم فإذا عثمان يعطي مروان بن الحكم مالًا كثيرًا، ويعطي أخاه الحارث بن الحكم ثلثمائة ألف درهم، ويعطي زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم. فينكر ذلك ويستكثره، ويقول: بشر الكانزين بالنار، ويتلو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وقد شكا مروان بن الحكم إلى عثمان مقالة أبي ذرٍّ هذه، فأرسل عثمان إليه مولى له ينهاه. فقال أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله! لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحب إليَّ من أن أرضي عثمان بسخط الله. وقد صبر عليه عثمان، ولكن أبا ذر ألح في نقده وعيبه، ودعوته إلى القصد والقناعة. وتبغيضه جمع المال، حتى كان يومًا عند عثمان وكعب الأحبار حاضر. فيقول بعض الرواة: إن عثمان سأل: أيحلُّ للإمام أن يقترض من بيت المال، فإذا أيسر رد ما اقترض؟ فقال كعب: لا أرى بذلك بأسًا. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يابن اليهوديين أتعلمنا ديننا! وغضب عثمان لذلك، فأمر أبا ذر أن يلحق بالشام. ويقول آخرون: إن أبا ذر كان يقول لعثمان: لا ينبغي لمن أدَّى الزكاة أن يقنع حتى يطعم الجائع ويعطي السائل ويبرَّ الجيران. فقال كعب: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وآذى كعبًا بلسانه ويده، فأمره عثمان أن يلحق بمكتبه في الشام.
ومهما يكن من ذلك فقد ذهب أبو ذرٍّ إلى الشام، ولكن إقامته هناك لم تطل. جعل يقول في الشام ما كان يقول في المدينة، وأنكر على معاوية أشياء: أنكر عليه أن يقول مال الله، وقال: إنما هو مال المسلمين. وأنكر عليه بناء الخضراء، وقال: إن كنت إنما بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو السرف. وكان يقول: ويلٌ للأغنياء من الفقراء! وكان الناس يجتمعون إليه ويسمعون منه ويؤمنون له، حتى خاف معاوية على أهل الشام من دعوة أبي ذر هذه، فكتب يشكو منه إلى عثمان. وكتب عثمان إليه أن أشخص إليَّ جندبًا على أغلظ مركب وأوعره. فأرسله معاوية إلى المدينة غير حفيٍّ به. فلما بلغ المدينة مضى في دعوته، وجعل يقول: بَشِّر الأغنياء بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. وجعل يطعن على عثمان! لأنه أطلق يده في مال المسلمين، واستعمل الأحداث، وولى أبناء الطلقاء، حتى ضاق به عثمان.
ويختلف الرواة بعد ذلك، فيقول بعضهم: إن عثمان أمره أن يخرج من المدينة فيقيم حيث شاء، ولكنه منعه من الذهاب إلى الشام أو إلى أحد المصرين في العراق أو إلى مكة. فاختار أبو ذر أن يذهب إلى الرَّبذة، فأذن له عثمان، فذهب إليها وأقام فيها حتى مات. ويقول آخرون: إن أبا ذر لم يختر، وإنما سيره عثمان إلى الربذة منفيًّا، فأقام فيها حتى مات غريبًا، وحتى عجزت امرأته عن دفنه. فدفنه قوم من أهل العراق أقبلوا حاجين أو معتمرين. وبلغ عثمان موته فاستغفر له، وضم أهله إلى عياله. وأظهر عمار بن ياسر رقة لأبي ذرٍّ وعطفًا عليه، فظن عثمان أنه إنما يلومه على نفيه أبا ذر، فغضب عليه وأمره أن يذهب هو أيضًا إلى الربذة منفيًّا. فلما تهيأ عمار للخروج غضبت بنو مخزوم وكان عمار لهم حليفًا، وغضب عليٌّ وأقبل على عثمان فلامه في نفي أبي ذر، وطلب إليه أن يكفَّ عن عمار. وتلاحى الرجلان، حتى قال عثمان لعليٍّ: ما أنت بأفضل من عمار، وما أنت أقل استحقاقًا للنفي منه. قال عليٌّ متحديًا: رُمْ ذلك إن شئت. وقام المهاجرون إلى عثمان فلاموه وقالوا: كلما غضبتَ على رجل نفيته؛ فإن هذا أمر لا يسوغ. فكفَّ عثمان عن عمار وعن عليٍّ أيضًا.
فكانت معارضة أبي ذرٍّ كما رأيت تتصل قبل كل شيء بالنظام الاجتماعي. كان يكره أن يغنى الغني حتى يكنز الذهب والفضة، وأن يحتاج الفقير حتى لا يجد ما ينفق. ثم كان يكره أن يعطي الإمام مال المسلمين للأغنياء بغير حقه، فيزيدهم غنى ويزيد الفقراء فقرًا، ويؤثر المال قومًا لا حاجة بهم إليه، ويصرف هذا المال عن المصالح العامة. ثم كان لا يرى للخليفة الحق في أن يكفه عن النقد أو يعاقبه على المعارضة. وكان يرى أن رضا الله بإسخاط السلطان أحبُّ إليه من رضا السلطان بإسخاط الله. ثم تعقدت معارضته فأصبحت سياسية؛ فلم يكتف بلوم الخليفة والولاة في إنفاقهم أموال المسلمين في غير وجهها، وإنما جعل ينكر على عثمان سياسته في التولية والعزل وإيثار الأحداث وأبناء الطلقاء. وهو على كل هذه المعارضة لم يكن ثائرًا ولا نازعًا يدًا من طاعة، ولا ممتنعًا على الخليفة إن عاقبه أو أراد به المكروه. إنما كانت معارضته سلبية تكتفي بالنقد اللاذع والنصح العنيف. وهو من أجل ذلك ذهب إلى الشام حين أُمِر أن يذهب إلى الشام، وسار إلى الربذة حين أُمِر أن يسير إلى الربذة، وقال: أُمِرت أن أطيع وإن أمِّر عليَّ عبد مجدَّع. وقال للذين طلبوا إليه أن يقودهم إلى المقاومة الإيجابية: لو صلبنى عثمان على طول جذع من جذوع النخل لما عصيت.
كان إذن يرى أن من حقه أن يعارض ما وسعته المعارضة، ولكن في حدود الطاعة وتجنب الخروج على الإمام.