الفصل الحادي والعشرون
وكان عمار بن ياسر من المستضعفين في مكة. أبوه ياسر يمنيٌّ حليف لبني مخزوم، وأمه سمية أمة من إمائهم. وقد دخل عمار مع صُهيب على النبي فأسلم بعد نيف وثلاثين رجلًا، ثم أسلم أبواه، فأولعت قريش بتعذيبهم جميعًا. وعذِّب عمار بالقيظ في رمضاء مكة وحرِّق بالنار، وكانت قريش تعذِّبه ولا تعفيه من العذاب حتى ينال من النبي ويذكر آلهتها بخير. وشكا ذلك إلى النبي فقال له: «فإن عادوا فعدْ.» وأنزل الله في عمار غير آية من القرآن. وكان النبي يرقُّ له ولأبويه، فيمر بهم وهم يعذَّبون فيرحمهم ويستغفر لهم ويبشرهم بالجنة، حتى قال يومًا: «اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت.» وهاجر عمار إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة. وكان أول ما اتخذ في بيته بمكة مسجدًا يصلي فيه. وشارك في بناء مسجد النبي مشاركة حسنة، فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنةً لبنة، وكان هو يحمل لبنتين لبنتين. وكان في أثناء ذلك يتغنى: «نحن المسلمون نبتني المساجدا»، وكان النبي يرجع عليه بعض غنائه فيقول: «المساجدا.» وشارك كذلك في حفر الخندق مشاركة حسنة، حتى كان النبي يمسح التراب عنه. وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع النبي. وقاتل يوم اليمامة أروع قتال. ورآه بعض المسلمين على صخرة ذلك اليوم وهو يصيح: أيها المسلمون، أمن الجنة تفرون! وولَّاه عمر بن الخطاب أميرًا على الكوفة، وجعل معه عبد الله بن مسعود على بيت المال وحذيفة بن اليمان على السواد، ورزقهم شاة في كل يوم لعمار نصفها، ولكل من عبد الله وحذيفة ربعها. ولما عزله عمر عن الكوفة سأله: أساءك عزلنا إياك؟ فقال: أما إذْ قلت ذاك فقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني.
واشترك عمار مرة أخرى مع جماعة من أصحاب النبي في كتاب كتبوه إلى عثمان يلومونه ويعظونه، وأقبل عمار بالكتاب فدخل على عثمان وقرأ عليه صدرًا منه، فشتمه عثمان وضربه برجليه وهما في الخفِّ حتى أصابه الفتق وكان شيخًا ضعيفًا.
وقد قدَّمنا ما كان من موقف عمار في شأن ابن مسعود وفي شأن أبي ذر، وما قيل من أن عثمان همَّ بنفيه ثم كفَّ عنه. ومهما يكن من شيء فقد كان عمار من أشد الناس معارضة لعثمان وأكثرهم تشهيرًا به وطعنًا عليه، يشارك في ذلك المعتدلين من أصحاب النبي، ويشارك فيه الغلاة من الطارئين على المدينة، ولقي في ذلك ما لقي من الأذى.
هؤلاء هم زعماء المعارضة في المدينة، وكلهم كما ترى من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين. فأما الأنصار فلم يكونوا يتصدرون المعارضة لأنهم أبعدوا عن الحكم، ولكنهم كانوا يشاركون فيها كما تشارك الجماهير. وقد يقول القائل منهم كلمة هنا وهناك، كالذي روينا من شعر زياد البياضي في عبيد الله بن عمر. وكانت كثرة الأنصار منحرفة عن عثمان لا يكاد يواليه منهم إلا نفر قليل، في مقدمتهم زيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان بن ثابت. وكان كبار الأنصار ربما توسطوا بين عثمان ومعارضيه، كما سترى من توسط محمد بن مسلمة بين عثمان والمصريين. وقد نشأت في المدينة أيام عثمان معارضة شعبية خفية تجري بها الألسنة ولا يعرف صاحبها، كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي، فقال الناس: يوسع مسجد النبي ويترك سنته. وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة وأقبل الشباب على الرمي، فتقدَّم عثمان إلى الناس في ذبح الحمام وولى رجلًا يمنع الرمي بالبندق. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام ويئوي طريدي رسول الله! يشيرون إلى إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه.
وأظن أني قد صورت لك تصويرًا مقاربًا حال الناس حين حدثت الأحداث أيام عثمان، وحال المعارضة في الأمصار وفي المدينة. وأصبح من اليسير الآن أن نستقبل هذه الأحداث نفسها، فنعرضها ونعرض رأي القدماء فيها، ونقول بعد ذلك فيها برأينا نحن، لا نتوخى إلا الحق والقصد والصواب ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.