الفصل الثاني والعشرون
ونحب أن نلاحظ قبل كل شيء أن الذين عابوا عثمان ونقدوا سيرته من القدماء لم يعرضوا في عيبهم ونقدهم لسياسته في الفتح. فقد جرت هذه السياسة فيما يظهر على النهج الذي جرت عليه أيام عمر، والذي أخذ عثمان به قوَّاده حين استخلف في الكتاب الذي رويناه من قبل. والذين يتتبعون تاريخ الفتح أيام عثمان يلاحظون أن عماله وقواده قد أبلوا في ذلك أحسن البلاء، وأغنوا فيه أجمل الغناء. فقد كانت بعض الكور والأقاليم التي فتحت أيام عمر تنتقض أو تحاول الانتقاض، فلا يلبث العمال والقواد أن يردُّوها إلى الطاعة بالحرب غالبًا، وبإظهار القوة والبأس أحيانًا.
ومات عمر ولم يتم افتتاح بلاد الفرس كلها، بل مات عمر وما زال كسرى يزدجرد حيًّا يتنقل بالهزيمة من كورة إلى كورة ومن مدينة إلى مدينة، يجتمع الناس إليه هنا ويتفرقون عنه هناك، ولكنه على ذلك قائم يعتز بما ورث من حقه في الملك والسلطان، وبما له في أعناق المغلوبين والمقاومين والذين لم تصل الحرب إلى أقطارهم بعدُ من وجوب الطاعة له والاعتراف بحقه. فما زال عمال عثمان وقواده في الثغور التي تلي الكوفة والبصرة يوغلون في الأرض، ويمضون في الفتح، ويتتبعون أنصاره ويفرقونهم عنه، ويقتطعون المدن والأقاليم التي كان له عليها سلطان فِعلي أو وهمي، حتى ألجئوه إلى أن يمضي هاربًا ليس له نصير ولا عون، وانتهى أمره إلى ان قتل. وانقرضت بذلك دولة الأكاسرة في أيام عثمان. ثم مضى قواده وعماله حتى بلغوا أرض الترك، وحتى كانت بينهم وبينهم خطوب. وفي أيام عثمان فتحت إرمينية، وفي أيامه كذلك امتدَّ سلطان الدولة في المغرب، ففتحت إفريقية، وكانت الغارة على الأندلس. وفي أيامه أقدم معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على ما لم يكن من الممكن أن يقدم عليه والٍ أو عامل في أيام عمر، فغزَوَا الروم من قِبل البحر حتى أُخذت منهم قبرس، وحتى بلغ أسطول المسلمين مضيق القسطنطينية، وحتى انتصر عبد الله بن سعد انتصارًا حاسمًا على أسطول الروم في واقعة ذات الصواري.
فقد أتيح لعثمان من القوة العسكرية مثل ما أتيح لعمر، وأتيح له من التوسع في الفتح والقضاء على دولة الأكاسرة وإذلال الروم في البر والبحر ما لم يتح لعمر. ولكن هذا نفسه كان مصدرًا من مصادر الفتنة والخلاف؛ فقد كان الفتح يتيح للمسلمين من الغنائم والفيء شيئًا كثيرًا، وكان تصرف عثمان في بعض تلك الغنائم وهذا الفيء ربما أَحْفَظَ الجند، كالذي كان من أمر عبد الله بن سعد ومروان بن الحكم في فتح إفريقية، وربما أحفظ المهاجرين والأنصار كالذي كان من تصرف عثمان في بعض ما كان في بيت المال من الجوهر والحلي، حتى لامه المسلمون وأغضبوه، فخطب خطبته تلك التي انتهت بضرب عمار بن ياسر. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن سلطان الدولة لم يضعف من الناحية الخارجية، وإنما ازداد قوة إلى قوة وبأسًا إلى بأس أيام عثمان.
ويجب أن نلاحظ بعد ذلك أن الناس وقفوا من الأحداث التي حدثت أيام عثمان ومن نصيب عثمان منها مواقف متباينة أشد التباين: فقوم أراحوا أنفسهم جملة، وقالوا إن أكثر هذه الأحداث مكذوب مصنوع لم يصح وقوعه، وإنما تكلفه المتكلفون، أراد بعضهم به الكيد للإسلام، ودفع بعضهم إليه بما كان من الخصومة العنيفة بين الأحزاب. وهم من أجل ذلك يرفضون أكثر الأحداث، ويرون فيما يقبلون منها أنها أمور ليست بذات خطر، ذهب فيها الإمام مذهب الاجتهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير. وهم يرون مثل هذا الرأي فيما يقبلون من الروايات التي تتحدث ببعض ما كان بين عثمان وأصحاب النبي من الخصومة. أكثر هذه الروايات عندهم مكذوب مصنوع، وقليل منها يُقبلُ على ما مضى من التأول، أي على أنه كان نتيجة الاجتهاد؛ ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وأكثر الذين يذهبون هذا المذهب إنما يدفعون إليه لأنهم يقدسون ذلك العصر من عصور الإسلام، ويكرهون أن يحملوا على أصحاب النبي ما يحمل عادة على الذين يستقبلون أمور الدنيا بما في نفوسهم من استعداد للمنافسة والاصطراع حول أعراض وأغراض لا تلائم قومًا صحبوا رسول الله، وأبلوا في سبيل الله أحسن البلاء، وأسسوا الدولة بما أنفقوا في ذلك من دمائهم وأموالهم وجهودهم. فهم يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائمًا، ويسرعون إلى الخير دائمًا. فلا يمكن أن يتورطوا في الكبائر ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده. وقليل من الذين يرون هذا الرأي ويذهبون هذا المذهب يدْفعون إلى ذلك بحكم الكسل العقلي الذي يمنعهم من البحث والدرس والاستقصاء.
وقوم آخرون يريحون أنفسهم نوعًا آخر من الإراحة، فيستبعدون أن تقع هذه الأحداث والفتن من أصحاب النبي، ويرون أنها مؤامرات دبَّرها الكائدون للإسلام، كعبد الله بن سبأ ومن لفَّ لفه من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب.
وواضح جدًّا أننا لا نستطيع أن نذهب هذا المذهب أو ذاك؛ فنحن لا نحب الكسل ولا نطمئن إلى الراحة، ولا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد، ولا نرى في أصحاب النبي ما لم يكونوا يرون في أنفسهم؛ فهم كانوا يرون أنهم بشر يتعرضون لما يتعرض له غيرهم من الخطايا والآثام. وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق؛ فقد رُوي أن عمار بن ياسر كان يكفر عثمان ويستحلُّ دمه ويسميه نعثلًا. ورُوي أن ابن مسعود كان يستحلُّ دم عثمان أيام كان في الكوفة، وهو كان يخطب الناس فيقول: «إن شرَّ الأمور محْدَثاتها، وكل محدَث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.» يعرِّض في ذلك بعثمان وعامله الوليد.
ورُوي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعليٍّ: إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي؛ فإنه خالف ما أعطاني. ورُوي كذلك أنه قال لبعض أصحابه في المرض الذي مات فيه: عاجلوه قبل أن يطغى ملكه.
والذين ناصروا عثمان من أصحاب النبي كانوا يرون أن خصومهم قد خرجوا على الدين وخالفوا عن أمره، وهم جميعًا من أجل ذلك قد استحلوا أن يقاتل بعضهم بعضًا، وقاتل بعضهم بعضًا بالفعل يوم الجمل ويوم صفين، إلا ما كان من سعد وأصحابه القليلين الذين اعتزلوا فلم يشاركوا في الفتنة ولم يدفعوا إلى الحرب، والذين كان سعد يصور رأيهم أحسن تصوير حين كان يقول: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول: هذا مؤمن وهذا كافر. وإذا دفع أصحاب النبي أنفسهم إلى هذا الخلاف وتراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضًا في سبيل ذلك، فما ينبغي أن يكون رأينا فيهم أحسن من رأيهم هم في أنفسهم، وما ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذِّبون أكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من فتنة واختلاف. فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذِّب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي؛ لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدِّقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذِّبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدِّق بعض التاريخ ونكذِّب بعضه الآخر، لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا. وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يروى أو نكذِّب كل ما يروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس؛ يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب. والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد التعديل والتجريح والتصديق والتكذيب، وترجيح ما يمكن ترجيحه، وإسقاط ما يمكن إسقاطه، والشك فيما يجب الشك فيه. فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيف إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحْدثون من القواعد الجديدة التي يستعينون بها على تحقيق النصوص وتحليلها وفقهها.
والشيء الذي لا يمكن أن يتعرض للشك هو أن المسلمين قد اختلفوا على عثمان، وأن هذا الاختلاف قد انتهى إلى ثورة قتل فيها عثمان، وأن هذه الثورة قد فرَّقت المسلمين تفريقًا لم يجتمعوا بعده إلى الآن.
فلا بدَّ لهذا الاختلاف من أسباب، ولا بد لهذه الثورة من مقدمات. فعثمان لم يقتل نفسه ولم يقدِّم نفسه ضحية لقاتليه. والذين اختلفوا عليه وثاروا به وقتلوه لم يفعلوا ذلك عن غير علة أو سبب، وإنما كانت هناك أمور أنكروها مخطئين أو مصيبين، ثم دعاهم إنكارها إلى الاختلاف والثورة وإحداث هذا الحدث الذي لم يُسبقوا إليه؛ وهو قتل الإمام عنوة واقتدارًا.
ثم نلاحظ بعد هذا وذاك أن إمامة عثمان كانت صحيحة ما في ذلك شك؛ فالمسلمون جميعًا قد بايعوه ورضوا إمامته وسمعوا له وأطاعوا. ومهما يقل القائلون في طريقة اختيار المسلمين لخلفائهم، فإن الاختيار نفسه كان صحيحًا مجمعًا عليه؛ فلم يخالف في إمامة أبي بكر وعمر إلا سعد بن عبادة ولم يلتفت إلى خلافه أحد، ولم يخالف في إمامة عثمان أحد ما. وقد بينا أن ما يروى من تلكؤ عليٍّ في البيعة لا يلائم سيرته ولا خلقه ولا مذهبه مع الشيخين، ولا العهد الذي أعطاه لعبد الرحمن ولا سيرته مع عثمان نفسه. وقدمنا أن طلحة غضب وجلس في داره؛ لأن البيعة تمت في غيبته، ولأن مثله لا يفتات عليه، ولكنه على ذلك لم يلبث أن بايع كما بايع الناس، وسمع وأطاع كما سمع الناس وأطاعوا؛ فكانت إمامة عثمان صحيحة مجمعًا عليها كإمامة صاحبيه من قبله. فكل ما صدر عنه من أمر ونهي ومن قول وفعل إنما صدر عن إمام صحَّت بيعته ووجبت طاعته. ولكن البيعة كما قدمنا عقدٌ بين الإمام والرعية؛ فهي لا تلزم الإمام وحده، وإنما تلزم الطرفين المتعاقدين. والعقد الذي كان بين عثمان وبين المسلمين هو أن يلزم عثمان كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر لا يحيد عن شيء من ذلك، وأن يسمع المسلمون له ويطيعوا ما وَفى بعهده وما لم يغير من الكتاب والسنة وسيرة الشيخين شيئًا.
فالمسألة هي بالدقة ما يأتي: أخالف عثمان عن كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟ أم لزم ذلك فلم يخالف عنه في قليل ولا في كثير؟ فإن تكن الأولى فليست له على المسلمين طاعة فيما خالف فيه عهده. وإن تكن الثانية فليس للمسلمين أن يعصوا أمرًا ويقبلوا على ما نهاهم عنه أو ينكروا سيرته فضلًا عن أن يختلفوا عليه ويثوروا به ويحصروه ويقتلوه.
هذه هي القضية كما ينبغي أن تصوَّر وأن تعرَض، وكما تصورها القدماء وعرضوها.
فلننظر كيف تصور القدماء هذه القضية، وكيف عرضوها جملةً وتفصيلًا.