الفصل الثالث والعشرون
وقد نظر القدماء إلى جميع الأحداث التي كان فيها عيب عثمان والاختلاف عليه نظرة دينية خالصة، كما نظر إليها الذين عاصروا عثمان سواء منهم من خاصمه ومن ناصره؛ لأنهم كانوا ينظرون هذه النظرة الدينية إلى كل شيء من أمور الدين والدنيا جميعًا. وهم من أجل ذلك تكلموا في الكفر والإيمان أكثر مما تكلموا في الخطأ والصواب وفي المنفعة والمضرة. وما دمنا نصور آراءهم فلننظر إلى هذه الأحداث نظرتهم، ولكن في شيء من التمييز مع ذلك بين هذه الأحداث.
فقد كان من هذه الأحداث ما يمس الشئون الدينية الخالصة، ويتصل بنص من نصوص القرآن أو أثر من سنة النبي. وكان منها ما يتصل بشئون السياسة التي يمكن أن يجتهد فيها الإمام فيخطئ ويصيب، وليس عليه في دينه بأس إن أخطأ ما دام مجتهدًا، وله الفضل كل الفضل إن أصاب.
وكان من هذه الأحداث أيضًا أشياء تتصل بالنظام الاجتماعي، فهي كذلك موضوع الاجتهاد يخطئ الإمام فيها ويصيب، وله العذر إن أخطأ، والفضل إن أصاب، والمقياس فيما يتصل بالسياسة والنظام الاجتماعي إنما هو العدل من جهة، ورضا كثرة المسلمين من جهة أخرى.
فلنبدأ من هذه الأحداث بما يتصل بالشئون الدينية الخالصة. فقد أنكر خصوم عثمان عليه أنه لم يكد يبدأ خلافته حتى عطل حدًّا من حدود الله وخالف عن نصوص القرآن خلافًا خطيرًا، وذلك حين عفا عن عبيد الله بن عمر، ولم يقتص منه للهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، فيما ذكر بعض الرواة. فقد كان الهرمزان أميرًا فارسيًّا مسلمًا، وكان الآخران ذميين، والله قد عصم دماء المسلمين ودماء الذميين، وبيَّن الحدود التي يجب أن تقام حين يعتدي أحد على بعض أولئك أو هؤلاء؛ فقال في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وقال في سورة النساء: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. وقال في سورة المائدة: مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ. وقال في سورة الإِسراءِ: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا.
فالله قد بين في هذه الآيات كلها حدودًا لا يجوز أن يتعداها المسلمون، وبعضها يتصل بالقتل عن عمد، وبعضها يتصل بالقتل عن خطأ. وليس من شك في أن عبيد الله لم يقتل الهرمزان وصاحبه أو صاحبيه خطأ، وإنما أراد ذلك وعمد إليه، ولو لم يؤخذ منه السيف لكان من الممكن أن يقتل قومًا آخرين. فقال المعارضون لعثمان: إن إقامة الحدِّ عليه واجبة بنص القرآن. وقال عثمان: قتل أبوه أمس وأقتله اليوم! ويقال إن المهاجرين أنفسهم قالوا ذلك لعثمان. والمهم هو أن عثمان عفا عن عبيد الله. وقد أجاب عثمان نفسه على اعتراض المعترضين يومئذ وفيهم عليٌّ بأن الهرمزان وصاحبه لا وليَّ لهما، وبأنه هو وليهما؛ لأن الإمام وليُّ من لا وليَّ له. والله قد أذن للوليِّ في أن يعفو، وأثابه على هذا العفو. فقد عفا عثمان إذن عن إذن الله من جهة، وعن رعاية للمصلحة من جهة أخرى. وقد بينا فيما مضى أن عليًّا وغيره من المسلمين لم يقرُّوا عثمان على هذا العفو، ولم يروا أنه يملكه.
وخاض المتكلمون بعد ذلك في هذه القضية: فأما أهل السنة والمعتزلة فرأوا رأي عثمان، وقالوا: ليس عليه بهذا العفو بأس؛ فهو وليُّ المقتولين، ومن حق الوليِّ أن يعفو، ولا سيما حين يكون العفو سياسة ملائمة للمصلحة. والعفو هنا كان سياسة ملائمة للمصلحة الداخلية والخارجية جميعًا، فأما المصلحة الداخلية فهي فيما قدَّمنا من رعاية المهاجرين وقريش عامة، إذا قالوا قتل أبوه أمس ونقتله اليوم! وأما المصلحة الخارجية فقد قال أهل السنة والمعتزلة: لو قتل عثمان عبيد الله لشمت عدو المسلمين، قالوا: قتلوا إمامهم أمس ثم قتلوا ابنه بعده. وأما الشيعة فيرون رأي عليٍّ وأصحابه ويقولون: ما كان ينبغي لعثمان أن يجتهد في شيء بيَّنه القرآن بنصه تصريحًا. وقالوا: ما كان ينبغي أن يلتفت إلى شماتة العدو؛ فالعدو خليق أن يشمت إذا عرف أن إمام المسلمين يعطل حدود الإسلام. وقالوا: إن عمر نفسه قد أوصى بإقامة الحد على ابنه إن ثبت أنه قتل من قتل ظلمًا؛ فما كان ينبغي لعثمان أن ينقض أمرًا أبرمه الإمام قبله وهو يملك إبرامه.
ولكنا نلاحظ أن الله قد بين الحدَّ الذي ينبغي أن يقام على القاتل عمدًا بالنص، ولكنه رغب في العفو ودعا إليه بالنص أيضًا، فعثمان لم يتعدَّ القرآن حين عفا، وإنما التزمه والتزم ما رغب الله فيه ودعا إليه من العفو. ولا يستقيم قول من قال إن عمر كان قد أبرم الحكم فلم يكن لعثمان أن ينقضه؛ لأن عمر لم يزد — إن صحت الرواية — على أن أوصى بقتل ابنه إذا ثبت أنه قتل ظلمًا فهو إذن لم يصدر حكمًا، وإنما أمر بإنفاذ كتاب الله، وبأن تنظر هذه القضية بالحق والعدل. ومن الحق والعدل أن يقضي الإمام بالقصاص، ثم يعفو إن رأى في العفو مصلحة. ولو قد أصدر عمر حكمًا مبرمًا ثم مات دون أن يتولى إنفاذه، لكان من حق الإمام الذي يأتي بعده أن يعفو؛ لأن العفو ليس نقضًا للحكم وإنما هو إقرار له ثم نزول عن الحق في إنفاذه.
فلا ينبغي أن يقال إذن إن عثمان قد عطل الحد أو خالف عن أمر الله في هذه القضية، وإنما يمكن أن يقال إن عثمان قد أبعد في الحكم والعفو حين أدَّى الدية من ماله هو، ولم يعزِّر عبيد الله بالسجن الذي يقصر أو يطول، فهو لم يرزأه في ماله ولا في حريته. وقد روى بعض الرواة أن الإقامة في المدينة لم تستقم لعبيد الله، فأرسله عثمان إلى الكوفة وأقطعه فيها أرضًا ودارًا. فهذا كله — إن صح — غلو في العفو والحلم، وهو خليق أن يخيل إلى بعض الناس أن عثمان لم يحفل بدم هذين القتيلين، وأنه كافأ القاتل فأدَّى عنه الدية وحماه من الناس ولم يسجنه، وإنما أقطعه أرضًا ودارًا. وهذا أيضًا خليق أن يخيل إلى الناس أن عثمان أراد أن يراعي السياسة ويترضى قريشًا، فأسرف في الأمرين جميعًا.
ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه بعد هذه القضية مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته، وذلك حين أتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي والشيخان وقصرها عثمان أيضًا أعوامًا. وقد ذعر المسلمون حقًّا حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم أقبل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له: ألم تصلِّ هنا مع النبي ركعتين؟ قال عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصلِّ مع أبي بكر وعمر ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: ألم تصلِّ أنت بالناس هنا ركعتين؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: فما هذا الحدث الذي أحدثته؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون: إن صلاة المقيم اثنتان؛ لأني قد اتخذت بمكة أهلًا، ولي بالطائف مالٌ قد ألمُّ به بعد الصدر، فخشيت أن يظن هؤلاء الناس أن صلاة المقيم ركعتان. قال عبد الرحمن: أما خوفك على الأعراب والجفاة والجهال، فقد صلى النبي ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا بعدُ، فالآن وقد ضرب الإسلام بجرانه ما ينبغي لك أن تخاف. وأما أنك اتخذت بمكة أهلًا فإنَّ زوجتك في المدينة تخرج بها إن شئت وتتركها إن شئت. وأما أن لك في الطائف مالًا فإن بينك وبين الطائف ثلاث ليال. قال عثمان: هذا رأي رأيته. قال الرواة: وانصرف عبد الرحمن فلقي عبد الله بن مسعود، فقال له ابن مسعود: أرأيت إلى عثمان يصلي أربعًا وقد صلى النبي وصلى صاحباه وعثمان نفسه في هذا المكان اثنتين؟ لقد علمت ذلك فصليت بأصحابي أربعًا لأني أكره الفرقة. قال عبد الرحمن: فإني قد علمت ذلك فصليت بأصحابي ركعتين، فأما الآن فهو ما قلت.
ومعنى هذا أن الأعلام من أصحاب النبي أنكروا من عثمان إتمامه الصلاة في منى وناظروه في ذلك، فلما رأوا أنه لا يغير رأيه ساروا سيرته وذهبوا مذهبه مخافة الاختلاف.
وقد ينبغي أن نعلم أن مصدر هذا الذي أصاب أصحاب النبي حين رأوا عثمان يتم الصلاة بمنى؛ هو مخالفة السنة الموروثة أولًا، وشيء آخر عظيم الخطر جدًّا في نفوس المهاجرين، وهو أن النبي بعد الهجرة قد اتخذ المدينة له ولأصحابه دار إقامة، واتخذ مكة وما حولها دار غربة، وكره لنفسه ولأصحابه أن يطيلوا الإقامة بمكة، حتى لا يظنَّ أنهم يرجعون أو يهمون بالرجوع إليها بعد أن هاجروا منها، وكره أن يموت بعض أصحابه المهاجرين في مكة. أشفق عليهم من ذلك، وتمنى على الله ألا يتوفاهم في الأرض التي هاجروا منها، وأوصى من استخلفه على سعد بن أبي وقاص حين كان مريضًا بمكة ألا يدفنه فيها إن مات، وأمره أن يدفنه في طريق المدينة. فلما صلى عثمان بمنى صلاة المقيم ذكر المهاجرون والأنصار هذا كله وأشفقوا أن يغير عثمان ما جرت به سنة النبي وأصحابه جميعًا من اتخاذ مكة دار غربة لا دار مقام. ولكنهم على ذلك ساروا سيرة عثمان، فأتموا الصلاة بمنى ما أتمها مخافة أن يفترق الناس في صلاتهم وهي ركن خطير من أركان الدين.
وليس عندنا شك في أن عثمان قد اجتهد للمسلمين، وخاف على جهالهم وجفاتهم أن يفتنوا. وسواء أصاب في هذا الاجتهاد أم أخطأ فهو لم يرد إلا الخير. وليس أدل على ذلك من أنه لم يتحوَّل من المدينة إلى مكة ولا إلى غيرها، ولم يقبل ما عرض عليه حين اشتدت الفتنة من الإقامة بمكة آمنًا لا يجرؤ مسلم أن يصيبه فيها بما يكره؛ لأنه لم يرد أن يستبدل بجوار رسول الله شيئًا. ولو شاء لعاذ بمكة حتى تأتيه الأمداد، ولم يكن عليه بذلك بأس. فالضرورة الملجئة كانت قائمة، ولو شاء لتحوَّل إلى الشام كما عرض عليه معاوية ولكنه أبى. فهو إذن لم يحاول أن يجعل من مكة دار إقامة، وإنما نصح المسلمين وقبل المسلمون ذلك منه، فأتموا بإتمامه وإن لم يقتنعوا بما احتج به لهذا الإتمام.
وأنكر خصوم عثمان عليه شيئًا آخر يتصل بركن آخر من أركان الدين، فقالوا إنه أخذ الزكاة على الخيل، وكان النبي قد أعفى من زكاة الخيل والرقيق، وسار الشيخان سيرته، فلما استخلف عثمان أخذ الزكاة في الخيل.
ونلاحظ أولًا أن الرواية بذلك لم تتواتر ولم يكد يجتمع عليها الرواة، ونلاحظ بعد ذلك أن عثمان لم ينقص من الزكاة وإنما زاد فيها. وأكبر الظن أن النبي وصاحبيه إنما أعفوا من زكاة الخيل حين كانت قليلة وحين كانت جيوش المسلمين في حاجة إلى الفرسان، وحين كان المسلمون إنما يعدون ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل ليرهبوا به عدوَّ الله وعدوَّهم. فلما كان الفتح وأقبلت الدنيا وكثر المال، جعل المسلمون يتخذون الخيل في بلاد العرب على الأقل تجارة ومالًا، فأنفذ فيها عثمان ما أمر الله من الزكاة في كل مال يتخذ للربح والثراء.
وعاب المسلمون على عثمان أنه حمى الحمى، والله ورسوله قد أباحا الهواء والماء والكلأ للناس جميعًا. والرواة بعد ذلك يختلفون، فيقول بعضهم إنه حمى الحمى لإبل الصدقة ولإبله وخيله وإبل بني أمية وخيلها. ويقول بعضهم الآخر ويقول عثمان نفسه: إنه لم يحمِ الحمى لإبل الصدقة. ثم يقال إن المسلمين لاموه في أنه حمى الحمى لإبل الصدقة، فكانت حجته أنه إنما أراد ألا يكون هناك اختلاف بين الأفراد والدولة فيما يتصل بالمراعي؛ فهو قد أراد العافية، ما في ذلك شك. على أنه حين رأى تحرُّج المسلمين من ذلك وضيقهم به لم يتشدد فيه وإنما تركه واستغفر الله. فليس عليه بذلك بأس أيضًا.
وما دمنا بسبيل الزكاة وإبل الصدقة، فلنذكر اعتراضًا آخر وجهه خصوم عثمان إليه، وهو أنه أخذ من أموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة. قال المعترضون: إن لأموال الصدقة مصارف معينة بينها الله في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. والله قد بين هذه المصارف بهذا القصر الذي نصه في أول الآية، وبقوله: فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ. فلا يجوز للإمام أن ينفق من أموال الصدقة إلا في المصارف التي بينها الله عز وجل في هذه الآية.
وأجاب المتكلمون من أهل السنة والمعتزلة على هذا الاعتراض بأن عثمان لم يفعل ذلك إلا حين رأى في أموال الصدقة سعة، وحين رأى حاجة الحرب إلى مزيد من نفقة، فاقترض من أموال الصدقة لينفق على الحرب، مزمعًا أن يردَّ ذلك إذا اتسع بيت المال لرده. ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين ولا يغير بذلك سنة موروثة ما دام مصممًا على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها. ونقول نحن: إن جواب المتكلمين ليس به بأس من ناحية الدين، ولكن البأس هو أن يأخذ الإمام من مصرف لينفق على مصرف آخر؛ فإن ذلك أحرى أن يدل على شيء من سوء التدبير المالي، وعلى إسراف في أموال الحرب والمرافق الأخرى بإنفاقها في غير احتياط ولا تحفظ، وبإعطائها على سبيل الهبة لمن لا يستحقها. وسنعود إلى هذا الحديث في موضع آخر قريب.
وعاب خصوم عثمان عليه أنه حمل الناس على مصحف واحد، ثم لم يحظر غير ما جاء في هذا المصحف من القراءة فحسب، ولكنه حسم الأمر حسمًا، فحرَّق ما عدا هذا المصحف من الصحف التي كتب فيها القرآن. قال المعترضون على عثمان: إن النبي قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ.» فعثمان حين حظر ما حظر من القراءة وحرَّق ما حرق من الصحف إنما حظر نصوصًا أنزلها الله، وحرَّق صحفًا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله. وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفًا أو يحرق من نصوصه نصًّا. وقصة جمع الناس على مصحف واحد ليست يسيرة إلى هذا الحد الذي تصوره خصوم عثمان وأنصاره. فقد رُوي عن النبي روايات متظاهرة أنه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف.» ولكن المسلمين ما زالوا مختلفين في تأويل هذا الحديث إلى الآن: فقوم يرون أن هذه الأحرف هي المعاني التي تناولها القرآن من الوعد والوعيد والأمر والنهي والوعظ والقصص، وقوم يذهبون بهذه الأحرف مذهب التصوف، وقوم يرون أن هذه الأحرف هي ألفاظ تختلف فيما بينها باختلاف اللغات التي كانت العرب تتكلمها. ولم يتفق المسلمون اتفاقًا قاطعًا على معنى دقيق لهذا الحديث؛ فلا يصح الاحتجاج به على عثمان حتى يتفق المختصمون والأنصار على معناه. وقد تظاهرت الروايات أيضًا بأن المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن أيام النبي نفسه، ولم يكن اختلافهم في اللهجات، وإنما كان اختلافهم في الألفاظ دون أن تختلف معاني هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبي نفسه فأجاز قراءتهم جميعًا؛ لأنها لم تكن تختلف في معناها، وإنما كانت تختلف في ألفاظها. وقد جمع القرآن أيام أبي بكر وعمر، وجاءت الشكوى إلى عثمان بأن المسلمين في الأمصار والثغور يختلفون في قراءة القرآن، ثم يختصمون حول هذا الاختلاف، فيفضل بعضهم قرآنه على قرآن غيره، حتى أوشكوا أن يفترقوا، وحتى قال حذيفة بن اليمان لعثمان: أدركْ أمة محمد قبل أن تتفرق حول القرآن.
فليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف وحمل المسلمين على حرف واحد أو لغة واحدة يقرءون بها القرآن، عملٌ فيه كثير من الجراءة، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة. فلو قد ترك عثمان الناس يقرءون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح، وبعد أن استعرب الأعاجم، وبعد أن أخذ الأعراب يقرءون القرآن.
ولهذا لم يتردد أهل السنة والمعتزلة في إقرار ما عمل عثمان، وفي الاعتراف له بهذا الفضل العظيم؛ لأنه حال بين المسلمين وبين الفرقة، وجمعهم على الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أن يختلفوا فيه. ولا نعلم أن عليًّا أنكر ذلك على عثمان، ولا أن أحدًا من أصحاب الشورى أنكره، بل روي أن عليًّا قال في خلافته: «لو كنت مكان عثمان لحملت الناس في أمر القرآن على ما حملهم عليه.» فليس على عثمان بأس في دينه من هذه الناحية. وقد يمكن أن يعترض عليه في أنه كلَّف كتابة المصحف نفرًا قليلًا من أصحاب النبي، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه وعلموا الناس في الأمصار، وكان خليقًا أن يجمع هؤلاء القراء جميعًا ويجعل إليهم كتابة المصحف. ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود؛ فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن. وهو، فيما كان يقول، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعدُ. فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه، قد أثار عليه بعض الاعتراض. وهذا شيء يفهم من غير مشقة ولا عسر.
وربما تحرَّج بعض المسلمين من تحريق ما حرَّق عثمان من المصحف، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدَّمت بالمسلمين شيئًا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرَّقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة، بل تكاد تتاح للخاصة، وإنما هي صحف تحفظ ضنًّا بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات. وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئًا من دينهم، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرًا من العلم بلغات العرب ولهجاتها، على أن الأمر أعظم خطرًا وأرفع شأنًا من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات.
وأنكر المنكرون على عثمان خصلة أخرى ما نعرف أن العذر يمكن أن يقوم له فيها. ذلك أنه ردَّ عمه الحكم بن أبي العاص وأهله إلى المدينة، وكان النبي قد أخرجهم منها إخراجًا عنيفًا. وكان بيت الحكم بن أبي العاص في الجاهلية مجاورًا لبيت النبي، فكان الحكم يؤذي جاره الكريم أشدَّ الأذى وأقبحه. والحكم بن أبي العاص هو الذي أخذ عثمان حين أسلم، فشدَّ وثاقه وأقسم لا يخليه حتى يعود إلى دين آبائه، ثم لم يطلقه إلا حين استيأس منه. وقد أقبل الحكم بعد فتح مكة إلى المدينة مسلمًا، ولكن إسلامه لم يكن إلا جنة يتقي بها الموت. وآية ذلك أنه ظل يؤذي رسول الله بقوله وفعله، فكان يسعى وراءه ويغمزه ويقلد حركاته ساخرًا منه. واطلع ذات يوم على النبي في حجرة من حجراته، فخرج النبي مغضبًا، فلما عرفه قال: «منْ عذيري من هذا الوزغ!» ثم أخرجه من المدينة وقال: «لا يساكنني فيها أبدًا.» وقد شفع عثمان عند النبي في إعادته فلم يعده، وطلب ذلك إلى أبي بكر فأبى عليه، وطلب ذلك إلى عمر فلم يكتف بالرفض، وإنما زجر عثمان وحرَّج عليه ألا يعاوده في أمر الحكم مرة أخرى. فلما استخلف عثمان أعاد الحكم إلى المدينة، فأنكر المسلمون ذلك، وسعى إليه أعلام الصحابة فلاموه فيه، ولكنه زعم لهم أنه كلم النبي في ردِّ الحكم فأطمعه في ذلك، ثم توفي قبل أن يردَّه. ويقول المعتذرون لعثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن عثمان قد كان يرى أن إخراج النبي الحكم وأهله من المدينة ليس ضربة لازب؛ فإن حال المنفي قد تصلح على مر الزمن، فيجوز أن يعفى عنه وأن يرَدَّ إلى الأرض التي نفي منها. ويقولون كذلك: إن عثمان علم أن النبي كان يريد ردَّ الحكم، فلم يقبل منه ذلك أبو بكر وعمر؛ لأنه انفرد بهذا العلم فلم تستقم شهادته. فلما استخلف قضى بعلمه، ومن حق الإمام أن يقضي بعلمه.
ولكن خصوم عثمان يقولون إن سيرة الحكم في جاهليته مع النبي وسيرته بعد إسلامه المتكلف وقول النبي: «من عذيري من هذا الوزغ!» وقوله: «لا يساكنني فيها أبدًا»؛ كل ذلك يحظر على عثمان أن يردَّه إلى المدينة، وليس للإمام أن يقضي بعلمه حين تكون هناك الشبهة التي توهم أن الإمام إنما قضى بما قضى إيثارًا لقرابته. فقد كان الحَكَم عمَّ عثمان، وكانت هذه الشبهة وحدها تكفي ليتجنب عثمان رده إلى المدينة. فإذا أضفنا إلى ذلك قول النبي: «لا يساكنني فيها أبدًا»، فقد كان أيسر الرعاية لحرمة النبي يقتضي ألا يردَّه عثمان إلى المدينة ليساكن النبي فيها ميتًا بعد أن أبى النبي أن يساكنه فيها حيًّا.
وقد دلت سيرة عثمان مع الحكم وبنيه بعد ذلك على أنه إنما ردَّهم إلى المدينة إيثارًا لهم بالخير، وتكاثرًا بهم على غيره من المسلمين، واستعانةً بهم على أمور السياسة والإدارة والمال. فقد أعطى عثمان الحكم مالًا كثيرًا، ولما مات الحكم ضرب عثمان على قبره فسطاطًا. وقد ولى عثمان الحارث بن الحكم سوق المدينة، فأسرف على الناس وعلى نفسه، وسار سيرة لا تلائم الأمانة ولا التورع، وإنما تلائم الجشع والطمع وحب الاستكثار من المال.
ثم لم يقف عثمان عند هذا الحد، وإنما أعطى الحارث مالًا كثيرًا كما سنرى، ثم اختص عثمان بمروان بن الحكم، فأعطاه وحباه واتخذه لنفسه وزيرًا ومشيرًا؛ فدل هذا كله على أن عثمان لم يدعُ الحكم وبنيه إلى المدينة رقة لهم وعطفًا عليهم فحسب، وإنما دعاهم أيضًا ليكونوا له عدَّةً وأعوانًا.
كل هذه أمور نقمها الناقمون من عثمان في أمر دينه. وقد رأيت أن لا بأس على عثمان من أكثرها، وأن قصة الحَكَم وبنيه وحدها هي التي يصعب الدفاع فيها عن عثمان. وهي على كل حال ليست من الأمور التي تقدح في دين عثمان؛ فهو قد خالف سنة من السنن، وتأوَّل في ذلك مخطئًا أو مصيبًا، ولكنه على كل حال لم يغير أصلًا من أصول الدين ولا هدم ركنًا من أركانه، وهو بعد ذلك رجل يخطئ ويصيب. وليس كل الأئمة يستطيع أن يسير سيرة أبي بكر وعمر وإن عاهد الناس على أن يسير سيرة أبي بكر وعمر.
ويقيننا أن عثمان لو وقف بأحداثه عند هذا الحدِّ لما زاد المسلمون على أن ينصحوا له ويشتدوا عليه في العتب، ثم لا يتجاوزون ذلك إلى غيره، وإنما يحملونه تبعة سيرته ويخلون بعد ذلك بينه وبين الله يحاسبه على ما قدَّم حسابًا يسيرًا أو عسيرًا.
ولكن عثمان لم يقف بأحداثه عند هذا الحد، وإنما تجاوزها هو وعماله إلى أشياء أخرى تمس حقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم؛ فكان هذا مصدرًا لشر عظيم.