الفصل الرابع والعشرون
وقد نقم المسلمون من عثمان سياسته في الإدارة وسيرته في التولية والعزل، فقالوا: إنه ولَّى أمور المسلمين جماعة من الأحداث لا يصلحون لها ولا يقدرون عليها، ولا ينصحون للدين ولا يخلصون لله ورسوله، وعزل أصحاب النبي عن الأمصار، ولم يسمع لوصية عمر، فحمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس. وقد عوتب في ذلك فلم يعتبْ حتى ظهر فسق عماله وانحرافهم عن الجادَّة فلم يعزل أحدًا منهم إلا مضطرًّا.
فهو ولى الوليد على الكوفة مكان سعد بن أبي وقاص، وولى عبد الله بن عامر مكان أبي موسى الأشعري، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مكان عمرو بن العاص، وآثر معاوية بالشام كله.
وقد قدَّمنا في هذا كله ما كان لنا منْ رأي فيه. ونلاحظ مع ذلك أن أنصار عثمان من أهل السنة والمعتزلة يتكلفون في الدفاع عنه، كما أن خصومهم يسرفون في النعي عليه. فظاهر أن قول المدافعين عن عثمان إن عذره قائم في تولية من ولى من عماله؛ لأن أحوالهم كانت مستورة، ولأن ظاهر أمرهم كان حسنًا، فليس من توليتهم بأس — ظاهر أن هذا القول لا يستقيم. فقد كانت حال الوليد بن عقبة معروفة ظاهرة، وكان عثمان يعلم أن الله أنزل فيه قرآنًا وسمَّاه فاسقًا، وأن عمر ظن أن أمره قد صلح فولَّاه صدقات تغلب، ثم لم يلبث أن عزله حين استبان أنه ما زال على جاهليته. وكان الوليد نفسه يعلم ذلك حق العلم؛ فقد رُوي أنه حين دخل الكوفة واليًا عليها مكان سعد، قال له سعد: أزائرًا يا أبا وهب أم أميرًا؟ قال الوليد: بل أميرًا يا أبا إسحاق. قال سعد: والله ما أدري أحمقتُ بعدك أم كستَ بعدي. قال الوليد: ما حمقتَ بعدي ولا كستُ بعدك، وإنما وَلي القوم الأمر فاستأثروا. قال سعد: ما أراك إلا صادقًا، فقد كان الوليد يعلم أنه لم يولَّ الكوفة لأن أمره حسن بعد قبح وصلح بعد فساد، وإنما وُلي لأن القوم ملكوا فاستأثروا.
وكان عثمان يعلم حق العلم أن عبد الله بن عامر شاب حدثٌ لم تتجاوز سنه الخامسة والعشرين بعدُ، وأن في المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب من هم أكبر منه سنًّا، وأكثر منه تجربة، وأقدم منه سابقة في الدين. وكان عثمان يعلم أن الله قد أنزل قرآنًا في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأن النبي كان قد أهدر دمه يوم الفتح. فلم تكن حال هؤلاء الناس مستورة، وإنما كانت أظهر من أن تخفى على مثل عثمان. وظاهر كذلك أن قول أهل السنة والمعتزلة أن عثمان عزل من عماله من ظهر له فسقه أو فساد أمره لا يستقيم؛ فعثمان لم يعزل الوليد إلا حين لم تكن له مندوحة عن عزله. ولسنا نزعم أن عثمان تلكأ في إقامة الحد على الوليد، ولكنا نقطع بأنه لم يعزله إلا حين ظهر منه الفساد ظهورًا فاضحًا، وشهد الشهود عليه بشرب الخمر، وضج منه أهل الكوفة، وألح في عزله المهاجرون والأنصار. وعثمان لم يعزل سعيد بن العاص بعد الوليد عن رضًا، وإنما أكره على عزله إكراهًا حين سار أهل الكوفة فردُّوا سعيدًا وحالوا بينه وبين دخول مصر، وخيروا عثمان بين الثورة وبين أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري. وعثمان لم يعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن رضًا، وإنما أنذره المصريون بالثورة، وألح المهاجرون والأنصار في عزله، وطالب عليٌّ بأن يحقق ما اتهم به من القتل؛ هنالك عزل عثمان عبد الله بن سعد، وكتب بعهده على مصر لمحمد بن أبي بكر. كل ذلك شيء لا شبهة فيه، وإنما تأتي الشبهة فيما كان بعد ذلك من أمر الكتاب الذي أرسل بقتل المصريين.
فليس صحيحًا إذن أن حال هؤلاء العمال كانت مستورة، وليس صحيحًا كذلك أن عثمان عزلهم حين استبان له اعوجاج سيرتهم.
وظاهر بعد هذا كله أن خصوم عثمان يسرفون حين يقولون إن عماله لم يكونوا أصحاب كفاية وقدرة على النهوض بأمور الحكم؛ فقد كان هؤلاء العمال أولي كفاية وغناء ما في ذلك شك، يشهد بذلك أنهم جميعًا أبلوا في الفتح أحسن البلاء، ولكنهم كانوا أولي كفاية بالقياس إلى حكومة يقوم أمرها على القوة والبأس، وعلى الجبرية والكبرياء، لا على ما فرض الإسلام من العدل والإنصاف والمساواة والاستمساك بالعهد الذي أعطاه عثمان على نفسه، ليلتزمنَّ كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك.
فسياسة عثمان في العزل والتولية لم تكن ملائمة للعهد الذي أعطاه. وليس من شك في أن الذين ضاقوا بهؤلاء العمال وثاروا عليهم ونقموا من عثمان توليتهم، لم يكونوا مخطئين.