الفصل السادس والعشرون
وأنكر المسلمون على عثمان موقفه من ناقديه ومعارضيه؛ فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافًا عظيمًا؛ فعمر لم ينهَ عماله عن شيء كما نهاهم عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، ولم يحذِّرهم من شيء كما حذَّرهم من العنف بالرعية والاعتداء على أبشارها وأشعارها. فلم يكن عمر إذن يبيح ضرب الناس إلا في الحدود، ولم يكن يعفي عماله من القصاص إن تعدَّوا على الرعية بالضرب في غير حدٍّ أو في غير حق من الحقوق. فأما عثمان فمهما يكن اعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه، فإنه قد أسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضربًا ونفيًا وحبسًا. وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبيِّ: ضرب عمار بن ياسر حتى أصابه الفتق، وأمر من أخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبي إخراجًا عنيفًا حتى كسر بعض أضلاعه. ومهما يكن من أمر هذين الرجلين الجليلين ومِن نقدهما له وتشهيرهما به وتشنيعهما عليه، فما نعلم أنه حاكمهما أو أقام عليهما الحجة أو أباح لأحد منهما الدفاع عن نفسه، وإنما سمع فيهما قول عماله أو قول خاصته، ثم عاقبهما دون أن يقيم عليهما البينة، وليس له من هذا كله شيء.
ويقول المدافعون عن عثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن للإمام حق التعزير. وليس في ذلك شك، ولكن بشرط أن يأتي المسلم من الأمر ما يستحق عليه التعزير، وأن يقال له ويسمع منه وتقوم عليه البينة. وما نعرف أن عثمان حاكم عمارًا أو ابن مسعود. وهو نفسه قد شق على أبي ذرٍّ حتى نفاه أو اضطره إلى أن ينفي نفسه من الأرض؛ لا لشيء إلا لأنه أنكر سياسته في الأموال العامة، وأنكر النظام الاجتماعي الذي أنشأ طبقة الأغنياء، وأتاح لهم أن يكنزوا الذهب والفضة، ويستكثروا من المال إلى غير حد. ثم هو قد أذن لعماله أن يخرجوا الناس من ديارهم كلما آنسوا منهم بعض ما يكرهون، فجعل عماله يتقاذفون فريقًا من أهل الكوفة، يرسلهم سعيد إلى معاوية، ثم يردُّهم معاوية إلى سعيد، ثم يرسلهم سعيد إلى عبد الرحمن بن خالد، دون أن يحاكموا أو تقوم عليهم البينة أو يسمع منهم دفاعهم عن أنفسهم. وأذن لعبد الله بن عامر في أن ينفي عامر بن عبد القيس إلى الشام، فلم يكد معاوية يراه ويسمع منه حتى تبين أنه مظلوم مكذوب عليه، وأراد أن يردَّه إلى البصرة فأبى. واجترأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح على أن يضرب بعض الذين شكوه إلى الإمام حتى انتهى بأحدهم إلى الموت، واضطرَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي إلى أن يلحوا على عثمان في أن ينصف المصريين من عاملهم، فهمَّ ثم لم يبلغ ما أراد.
فهذه السياسة العنيفة التي تسلط الخليفة وعماله على أبشار الناس وأشعارهم، وعلى أمنهم وحريتهم، ليست من سيرة النبي ولا من سيرة الشيخين في شيء. وقد اجترأ بعض الناس على نقد النبي نفسه، حتى قال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. مرة ومرة. فلما قالها الثالثة لم يزد النبي على أن قال: «ويحك! فمن ذا يعدل إذا لم أعدل؟!» وهمَّ المسلمون أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عن ذلك. وقد يقال إن المسلمين أحدثوا في أيام عثمان أحداثًا لم تكن، فسار فيهم سيرة تلائم هذه الأحداث. وهذا بالضبط شبه ما قال زياد لأهل العراق: «وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» وغريب أن تذكرنا سياسة عثمان ووُلاته سياسة زياد مرتين.
والآن وقد استعرضنا هذه الأحداث وآراء المتكلمين فيها، فقد نستطيع أن نستقبل الفتنة منذ حدثت، ونعرضها كما كانت إلى أن انتهت إلى المرحلة الأولى من مراحلها، وهو هذا الحدث العظيم الذي قتل فيه الإمام عنوة لا اغتيالًا.