الفصل السابع والعشرون
والمؤرخون مجمعون على أن المسلمين استقبلوا خلافة عثمان راضين عنها مطمئنين إليها؛ لأنه وسع عليهم ما كان عمر يضيق، ويسَّر من أمرهم ما كان عمر يعسر. وهو كما رأيت قد زاد العطاء لمجرد نهوضه بالأمر، ثم هو قد ألان للناس من جانبه، وبسط لهم يده بالعطاء، وأحس الناس رخاء وسعة لم يكونوا يجدونهما أيام عمر، وأحست قريش بنوع خاص حرية لم تكن تجدها أيام عمر؛ فلم يقم لها عثمان عند شعب الحَرة، ولم يأخذ بحلاقيمها مخافة أن تتهافت في النار، وإنما خلى بينها وبين الشعب تنفذ منه إلى حيث شاءت من الأقاليم والأمصار. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرَّت بسلام، فلما استقبل عثمان الشطر الثاني من خلافته ظهرت المصاعب وقامت المشكلات.
ويخيل إليَّ أن المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين، ثم احتملوها أربع سنين. فلما جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة جعل المسلمون يضيقون به ويستطيلون خلافته؛ يظهرون ذلك في شيء من الرفق أول الأمر، ثم في شيء من الحدَّة بعد ذلك، ثم في عنف جعل يتزايد شيئًا فشيئًا حتى انتهى إلى غايته المنكرة وهي قتل الإمام.
وليس معنى ذلك أن عثمان لم يلقَ معارضة أثناء هذه الأعوام العشرة؛ فقد ظهرت المعارضة منذ اليوم الأول لخلافته بالقياس إلى قضية عبيد الله بن عمر، وإنما معناه أن المعارضة لم تبلغ طور الخطورة إلا في العامين الأخيرين من حياة عثمان. وأكاد أعتقد أن شيئًا من التشاؤم قد شاع في نفوس الناس قليلًا قليلًا منذ أضاع عثمان خاتم النبي في بئر أريس؛ فقد توارث الشيخان هذا الخاتم عن النبي، وأمضيا به أمور الدولة كلها، وكانا يجدان في ذلك خيرًا وبركة وتراثًا له خطره، وكانا يمضيان بهذا الخاتم ما يمضيان على أنهما خليفتان لرسول الله ينفذان سنته وينهجان نهجه، ويمضيان بخاتمه الذي كان يمضي به الأمور قبل أن يفارق الدنيا. وتلقى عثمان هذا الخاتم عن عمر، كما تلقاه عمر عن أبي بكر، وكما تلقاه أبو بكر عن أهل بيت النبي حين استخلف. فلما سقط هذا الخاتم من يد عثمان في البئر وجعل المسلمون يلتمسونه ويجتهدون في التماسه دون أن يظفروا به على قلة ما كان في البئر من ماء، كرهوا ذلك وتطيروا به، واستاء لذلك عثمان استياء شديدًا، وقد اتخذ خاتمًا جديدًا على صورة الخاتم الأول ونقش عليه ما كان منقوشًا على الخاتم الأول: «محمد رسول الله.» ولكن هذا الخاتم الجديد لم يمسَّ أصبع النبي، ولم يمس أصبع الشيخين، وإنما هو خاتم مصنوع لم يورث ولم تمضَ به الأمور من قبل؛ فكأن عثمان قد استأنف منذ اتخذ هذا الخاتم عهدًا جديدًا. ويقول الرواة: إن عبد الرحمن بن عوف كان أول من اجترأ على عثمان، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك أن بعض السعاة أقبلوا بإبل للصدقة، فوهبها عثمان لبعض أهل الحكم. فلما بلغ ذلك عبد الرحمن دعا بعض أصحاب النبي وأرسلهم فاستردوا له هذه الإبل وقسمها في الناس، وعثمان في الدار لم ينكر ذلك ولم يغيره، بل لم يكلم فيه عبد الرحمن وأصحابه. فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطرًا في نفسه؛ لأنه تغيير لأمر السلطان، وكان سكوت عثمان على هذا الاجتراء أشد منه خطرًا؛ لأنه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان.
وقد جعل الناس بعد ذلك يظهرون إنكارهم لما يكرهون من سياسة عثمان؛ يخطئون في ذلك ويصيبون، ولكنهم يعارضون على كل حال. ثم لم يتحرج بعضهم من أن يواجه عثمان بالمعارضة على ملأ من الناس، ولم يتحرج بعضهم الآخر من أن يعصي أمر عثمان إذا صدر إليه، كالذي كان من أبي ذَرٍّ حين أرسل إليه عثمان ينهاه عما كان يلهج به من ذمِّ الأغنياء وتلاوة الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فلم يسمع له ولم يطع، وإنما قال: «لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبُّ إليَّ وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان.»
ولم تكن قصة الوليد بن عقبة خليقة أن تشعر قلوب الناس بهيبة لسلطان الخليفة. فليس مما يرفع من شأن السلطان في النفوس أن تقوم البينة على أن بعض عماله قد شرب الخمر، وأن يضطر الخليفة إلى عزل هذا العامل وإقامة الحد عليه، وأن يتحدث الناس بأنه أخطأ حين ولَّاه مكان سعد، وبأنه إنما ولَّاه لقرابته مع تظاهر الأدلة على أنه لم يكن أهلًا للولاية.
ثم جعلت المعارضة تشتد في الأمصار وتصل أصداؤها إلى المدينة، حتى اضطر عثمان إلى اصطناع النفي الإداري. وجعلت المعارضة تشتد في المدينة نفسها، وتصل أصداؤها إلى الأمصار، فتزيد المعارضين في الأقاليم شدة واجتراء، حتى اضطر عثمان إلى أن يصطنع الشدة مع معارضيه أنفسهم، فيوعد وينذر، ولا يملك نفسه أحيانًا من البطش ببعض المعارضين.
فهذا الحوار القصير يصور أدق تصوير ما كانت المعارضة في المدينة تنكر على عثمان، وما كان عثمان يردُّ به على هذا الإنكار. فقد أنكرت المعارضة عليه إيثار قرابته بالأموال والأعمال، وضعفه أمام العمال من أقربائه. وردَّ عثمان بأنه لم يزد على أن وصل رَحمًا وسدَّ خلةً وآوى ضائعًا، وأنه سار في اختيار العمال سيرة عمر، فقد ولى عمر المغيرة بن شعبة مع أنه ليس هناك، وولى معاوية خلافته كلها. وردَّ عليٌّ بأن عمر كان يراقب عماله أشد المراقبة ويبطش بهم إن انحرفوا، وبأن معاوية كان يخاف من عمر أشد مما كان يخاف منه غلامه يرفأ. وافترق الرجلان على غير اتفاق، إلا أن عثمان قد وجد على عليٍّ لأنه أسلمه ولامه وعاب عليه، وكان الحق عليه أن يرعى ما بينهما من القرابة. ثم لم يكتف عثمان بالاستماع لما سمع من عليٍّ وقول ما قال له، بل أراد أن يواجه المعارضة كلها مجتمعة، وأن ينذر ويحذِّر.
وهذه الخطبة هي أعنف خطبة خطبها عثمان في خلافته كلها. وهو نفسه قد أحس ذلك واعتذر منه اعتذارًا رفيقًا يلائم خلقه وطبعه السمح، فقال: «وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه ومنطقًا لم أنطق به.» على أنه لم يكد يتم خطبته حتى رجع في رفق عذب إلى المألوف من سيرته حين قال لمروان: «دعني وأصحابي.» فهو إذن يتحدث إلى أصحابه لا إلى خصومه، وهو يعنف بهم لأنهم عنفوا به حتى أخرجوه عن طوره. والحليم يغضب ثم لا يلبث أن يعود إلى ما ألف من الحلم.
وعثمان ينكر على أصحابه استماعهم لهؤلاء العيابين الطعانين الذين يظهرون لهم ما يحبون ويخفون عليهم ما يكرهون، ويضللونهم في إمامهم، ويطمعونهم في أشياء ليس إليها سبيل. وعثمان يشير إلى قوم بعينهم في هذا الحديث، يرى أنهم قوام المعارضة، وأنهم يغرون به ويؤلبون عليه لتحقيق آرابهم وبلوغ آمالهم التي طالما انتظروا بلوغها. وهؤلاء بالطبع هم الذين كان عثمان يظن أنهم ينفسون عليه الخلافة ويتمنونها لأنفسهم. ولعله يشير إلى من بقي من أهل الشورى، وإلى الذين كانوا يلهجون بنقده أمثال عمار بن ياسر وغيره من المهاجرين والأنصار.
ثم يقول عثمان لأصحابه إنهم ينكرون عليه أشياء قد أتاها عمر فلَمْ ينكروها عليه؛ لأن عمر اشتد عليهم فخافوه، ولأنه هو لَانَ لهم فطمعوا فيه. ثم ينذر أصحابه وينذر الذين يغرونهم ويؤلبونهم، فيذكر أنه أعزَّ نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا وأجدر إن دعا أن يستجاب له. وما من شك في أنه يعرِّض في هذا النذير بمنافسيه الذين لا يعدلونه قوة وبأسًا. فبنو أمية كانوا من غير شك أعزَّ نفرًا وأكثر ناصرًا من سائر أحياء قريش. ثم يعود إلى أصحابه فيسألهم ماذا ينكرون وماذا ينقمون؟ لقد أدَّى إليهم حقهم كاملًا، ولم يقصر بهم عما كان يبلغه أبو بكر وعمر. ثم يعطف على تصرفه في الأموال العامة، فيقول: «فضَل فضلٌ من مال، فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد، فلمَ كنت إمامًا؟» يريد أنه إذا أدى إلى المسلمين حقهم من بيت المال فله أن يتصرف في سائره كما يريد. ذلك شيء تبيحه له الإمامة، وليس لأحد أن يجادله فيه أو ينكره عليه. فقد كانت الجولة الأولى — كما يقول المحدثون — بين عثمان ومعارضيه متكافئة: أنكر المعارضون ثم نظموا إنكارهم ثم رفعوه إلى الخليفة، فردَّه عليهم، ثم خطبهم فأنذر وحذَّر واشتد ثم ثاب إلى شيء من لين، ولكنه استمسك بموقفه لم يحد عنه، واستمسكت المعارضة بموقفها لم تحد عنه أيضًا. إلا أن الحوادث كانت أقوى منه ومن المعارضة؛ فقد مضت المعارضة في إنكارها، وجاءته الأنباء من الأقاليم بأن المعارضة فيها ليست أقل ولا أهون من المعارضة في المدينة. وكان عثمان قد احتفظ بسيرة عمر، فحجَّ بالناس أثناء خلافته كلها إلا العام الأول لأنه كان مريضًا، وإلا العام الأخير لأنه كان محصورًا. وكان يلقى عماله في الموسم من كل عام، فيسمع منهم ويقول لهم. فلما لقيهم في الموسم سنة أربع وثلاثين جمعهم للمشورة. ويزعم الرواة أنه أحضرهم عمرو بن العاص. وأشك أنا في هذا؛ فلم يكن عمرو بن العاص عاملًا لعثمان سنة أربع وثلاثين، ولم يكن عمرو بن العاص ناصحًا لعثمان منذ عزله عن مصر، وإنما أقحم الرواة عمرًا في هذه المشورة ليصوروا مكره ودهاءه وكيده لعثمان. وأكبر الظن أنه لم يحضر شوراه إلا هؤلاء العمال الأربعة الذين كانوا يتولون الأمصار ذات الخطر: وهم معاوية، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص. فلما التأمت جماعتهم قال لهم عثمان: إن لكل إمام وزراء، وإنكم وزرائي. وقد رأيتم ما ظهر من تنمر الناس لي ومطالبتهم إياي بعزل عمالي، ومن هذه الفتنة التي أظهرت رأسها، فأشيروا عليَّ.
فأما معاوية، فلم يزد على أن طلب إليه أن يردَّ العمال إلى أمصارهم، وأن يكلهم إلى كفايتهم، وأن يعتمد عليهم في أن يضبط كل واحد منهم مصره ويحزم أمره، ويكفي الإمامَ مَنْ قِبَله من الناس. وأما سعيد بن العاص، فأشار عليه بأن يقتل قادة المعارضة وزعماء الفتنة. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأشار عليه أن يترضى الناس ويعطيهم من بيت المال ويأخذهم من طريق أطماعهم. وأما عبد الله بن عامر، فأشار عليه بأن يرسل الناس إلى الجهاد، ويشغلهم بالحرب، ويطيل إقامتهم في الثغور. وبهذا الرأي أخذ عثمان؛ ردَّ العمال إلى أمصارهم، وأمرهم أن يحسنوا السياسة ويتشددوا في حقوق الله، ويأخذوا الرعية بالحزم ويرسلوهم إلى الغزو، ويقطعوا العطاء عمن ظهر منه عوج أو انحراف. وعاد عثمان إلى المدينة، وصحبه معاوية في طريقه إلى الشام. وفي المدينة عقد عثمان مجلسًا آخر للمشاورة، شهده معاوية وشهده نفر من كبار الصحابة فيهم عليٌّ وطلحة والزبير وسعد. وبدأ معاوية الحديث، فأوصى هؤلاء النفر بالإمام الشيخ، وحذَّرهم من الفتنة والفرقة، ولم يخل تحذيره من بعض النذير. فنهره عليٌّ، وكان بينهما حوار لم يخلُ من جفوة. ثم تكلم عثمان كلامًا فيه كثير من لين ورفق، وأظهر أنه سائر إلى ما يشير القوم به عليه، فقيل له: إنك أعطيت فلانًا وفلانًا، فاستردَّ ما أعطيت. فوعد عثمان بذلك ورضي القوم، وتفرقوا على شيء من رضا. ولم يكن شك في أنَّ المعارضة قد ربحت بعض الربح؛ فقد استشار عثمان زعماءها وأجابهم إلى بعض ما أرادوا.
وانصرف معاوية إلى المدينة بعد أن أوصى المهاجرين بالإمام الشيخ مرة أخرى، وبعد أن لمح لهم مرة أخرى كذلك بالتحذير والنذير. وكان يظنُّ أن الناس سيستقبلون سنة خمس وثلاثين بشيء من دعة وهدوء. ولكن أهل الكوفة ثاروا وردُّوا واليهم سعيدًا كما قدَّمنا، وطلبوا أن يولى عليهم أبو موسى. واضطر عثمان إلى أن يجيبهم إلى ما أرادوا؛ فكان هذا أول الفتنة: عرضت الكوفة لغيرها من الأمصار مثلًا، فلم تلبث الأمصار أن اتبعته، وظهر للناس أن الثورة طريق موصلة إلى ما يريد الثائرون.
وما هي إلا أن يذهب المصريون مذهب أهل الكوفة، وإذا هم يرسلون في رجب من سنة خمس وثلاثين وفدًا ضخمًا؛ خرجوا يظهرون أنهم يريدون العمرة، ولكنهم أقبلوا على المدينة وأظهروا أنهم يريدون أن يناظروا عثمان في سياسته وسياسة عماله. والرواة يختلفون؛ فيقول بعضهم: إنهم لقوا عثمان في قرية خارج المدينة، فناظروه وحكموا المصحف بينه وبينهم، فأقنعهم بأشياء حتى رضوا، وأقنعوه بأشياء حتى اعتذر ووعد بالنزول عنها. ويقول آخرون: إنه أرسل إليهم جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم عليٌّ ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأعطى على نفسه عهدًا ليبلغنَّ بالناس ما يرضون. فخرج السفراء ولقوا القوم فوعظوهم وأعطوهم الرضا، ثم جاءوا بوفد منهم إلى عثمان فأكد لهم العهد، ثم خرج فخطب الناس وأثنى على الوفد المصريين وأعطى التوبة واستغفر الله وبكى وبكى الناس ورقت القلوب للإمام الشيخ، وانصرف المصريون راضين. قال الرواة: إن عثمان قال في آخر خطبته تلك: «إذا نزلت فليأتني خياركم، فلا ترفع إليَّ ظلامة إلا كشفتها، ولا تعرَض عليَّ حاجة إلا قضيتها.» ولكنه لم يكد يعود إلى داره حتى حوَّله مروان عما وعد به، وخرج فردَّ الناس عن الدار ردًّا عنيفًا. والشيء المحقق هو أن عثمان استطاع بما أعطى من العهد وما بذل من الرضا وما أعلن من التوبة، أن يتألف الناس ويجمعهم على طاعته ومحبته وانتظار الخير منه. ولكن الأيام مضت وتبعتها الأيام، ولم يعزل عثمان عاملًا ولم يغير مما وعد بتغييره شيئًا.
وما كاد يقبل شوال من هذه السنة حتى يخرج المصريون خرجتهم الثانية في عدد يقول المقللون إنه كان ستمائة، ويقول المكثرون إنه كان ألفًا، ويخرج في الوقت نفسه ناس من الكوفة والبصرة، وقد تواعد القوم حين استيأسوا من وفاء الخليفة لهم بما أعطى على نفسه من العهد. ويبلغ القوم ضواحي المدينة، ويعلم عثمان بمقدمهم، فيريد أن يرسل إليهم عليًّا ومحمد بن مسلمة، فيأبى عليٌّ، ويقول محمد بن مسلمة: لا أكذب الله في سنة مرتين. ولكن أهل المدينة على ذلك يأبون أن تُدخل المدينة عليهم عنوة، وينهضون لردِّ هؤلاء الطارئين. وتقبل وفود من المصريين والكوفيين والبصريين، فإذا هم يرون عليًّا وطلحة والزبير قد عسكروا ومع كل واحد منهم أصحابه، يريدون أن يحموا دار الهجرة من أن تقتحم عليهم عنوةً، فيرتدون ويظهرون العودة إلى أمصارهم ويزولون عن معسكراتهم في الضواحي. ويستيقن أهل المدينة أن قد زال الخطر، وأن القوم قد رجعوا أدراجهم، فيستأنفون حياتهم على ما ألفوا من أمن ودعة وهدوء. ثم لا يروعهم إلا التكبير قد ملأ المدينة من حولهم، وينظرون فإذا القوم قد كادوهم حين أظهروا الرجوع إلى أمصارهم، حتى إذا آنسوا منهم أمنًا ودعة عادوا فدخلوا المدينة واحتلوها بغير قتال، ونادى مناديهم: من لزم داره فهو آمن، ومن كفَّ عنا أذاه فهو آمن. ثم يضرب الحصار حول دار عثمان.
وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة إن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر فكرُّوا راجعين. فهذه القصة فيما أرى ملفقة من أصلها. وليس أدل على ذلك مما يقول الرواة أنفسهم من أن أصحاب النبي لم يكادوا يجادلون القوم في كتابهم هذا ويسألونهم كيف علم أهل الكوفة وأهل البصرة بأنكم قد أخذتم هذا الكتاب وقد ذهب كل فريق منكم إلى وجه؟ حتى عجزوا ولم يعرفوا كيف يجيبون، وقالوا: ضعوا هذا الأمر كيف شئتم، فلا حاجة لنا بهذا الرجل. وليس بمعقول ولا بمقبول أن يكيد عثمان للمسلمين هذا الكيد، فيعطي فريقًا منهم الرضا ثم يرسل إلى عامله سرًّا منْ يبلغه الأمر أن يبطش بهم ويرهقهم من أمرهم عسرًا. وليس بمعقول ولا مقبول أن يجترئ مروان على الخليفة فيكتب هذا الكتاب ويمضيه بخاتمه ويرسله مع غلامه على جمل من إبله. كل هذا أشبه بأن يكون ملهاة سخيفة منه بأن يكون شيئًا قد وقع. والأمر أيسر من هذا. تلقى أهل الأمصار وعدًا من إمامهم فاطمأنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر وألا يعودوا حتى يفرغوا منه، فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيئوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد ألقوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كرُّوا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال.
وما كان هؤلاء الناس يريدون أن يقاتلوا أصحاب النبي ولا أن يقتلوهم، ولا أن يثيروا حول المدينة حربًا تذكر بيوم أحُد أو بيوم الأحزاب، إنما كانوا يريدون أن يحاصروا الإمام ويعاجلوه حتى يصلوا إلى خلعه أو إلى قتله. وقد بلغوا ما أرادوا، فدخلوا المدينة وحاصروا الإمام.
وأكاد أقطع بأن قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان وأنصار دعوهم وشجعوهم، ثم أعلموهم بما عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان. وقد كان الحصار في أول أمره يسيرًا لا يكاد يتجاوز احتلال المدينة والإحاطة بدار عثمان، وكان الخليفة حرًّا يخرج من داره ويعود إليها ويصلي بالناس ويصلي خلفه الثائرون أنفسهم، ويخطب الناس فيعظهم ويبصرهم، ويسعى السفراء في أثناء ذلك بينه وبين الثائرين، يريد الثائرون أن يخلع نفسه، ويأبى هو أن ينزع قميصًا قد كساه الله عز وجل إياه. ولكن الأمور تتعقد فجاءة؛ فقد عرف الثائرون أن عثمان قد أرسل إلى العمال في الأمصار يأمرهم بأن يرسلوا إليه الجند لينصروه ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين. وما يكاد الثائرون يعرفون هذا النبأ حتى يتغير الحصار وتتغير معه سيرتهم مع عثمان.