الفصل الثامن والعشرون
فقد خرج عثمان ذات يوم كما كان يخرج من قبل، وصلى بالناس كما كان يصلي بهم من قبل، ثم جلس على المنبر فجعل يعظ الناس ويبصرهم كما تعوَّد أن يعظهم ويبصرهم، وكان فيما قال: «يا هؤلاء العِدَى الله اللهَ، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ﷺ. فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ إلا بالحسن.» قال المؤرخون: فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك. فقام إليه حكيم بن جبلة فأقعده. فقام زيد بن ثابت وقال: ابغني الكتاب. فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده. أراد محمد بن مسلمة أن يشهد بأن الله لا يذهب السيئ إلا بالحسن، وأراد زيد بن ثابت أن يثبت ذلك من المصحف، فيتلو على الناس قول الله عز وجل: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، ولكن الناس أقعدوهما. وقام جبلة بن عمرو الساعدي (رجل من الأنصار) فقال: يا عثمان، انزل ندرعك عباءة ونحملك على شارف من الإبل إلى جبل الدخان كما سيرت خيار الناس. قال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! وكان جبلة هذا يعرض لعثمان وينذره بالقتل أو بأن يطرح في عنقه جامعة ويحمله على قلوص جرباء ويلقيه في جبل الدخان إن لم يترك بطانته، وكان يلومه في عماله وفي مروان وفي آل الحكم خاصة، وكان يقول إذا كلم في ذلك وحاول مكلموه أن يردُّوه إلى بعض الرفق: والله لا ألقى الله غدًا فأقول إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.
ولم يكد عثمان يردُّ على جبلة هذا حتى قام جهجاه بن سعيد الغفاري (رجل من رهط أبي ذر ومن أصحاب النبي الذين شهدوا بيعة الرضوان)، فوثب إلى المنبر فأخذ من عثمان العصا التي كان يخطب عليها، وهي التي خطب عليها النبي وصاحباه من بعده، فكسرها على ركبته. قال الرواة: فأصابت ركبته إكلة منذ ذلك اليوم، وأمر عثمان فيما بعد بشد العصا. ثم ثار الناس فتحاصبوا وحُصب عثمان حتى صرع واحتُمل مغشيًّا عليه، فأدخل إلى داره فلم يخرج منها إلا مقتولًا.
ومنذ ذلك اليوم سار الثائرون مع عثمان سيرة منكرة حقًّا، منعوه من الصلاة في مسجد النبي، وأقاموا منهم رجلًا يصلي بالناس هو الغافقي زعيم المصريين. وكان طلحة بن عبيد الله ربما صلى بالناس، وكان عليٌّ ربما صلى بهم أيضًا. ثم حال الثائرون بين عثمان وبين الماء، حتى اشتد الظمأ عليه وعلى أهله وعياله، وحتى أشرف عليهم ذات يوم فذكرهم بأنه اشترى بئر رومةَ بأمر النبي وجعلها سقاية للمسلمين، ووعده النبي بها الجنة، وهو الآن يُحْرمُ ماءها ويُفطر على ماء آجن. وذكرهم بأنه اشترى بأمر النبي أرضًا ضمها إلى المسجد حين ضاق بالناس ووعده النبي بها الجنة، وهو أول مسلم منع من الصلاة فيه. ثم أرسل إلى جماعة من أصحاب النبي وأمهات المؤمنين يطلب إليهم أن يرسلوا إليه شيئًا من الماء العذب إن استطاعوا، فاحتال عليٌّ حتى أدخل إليه شيئًا من ماء، وأقبل على الثائرين فزجرهم وقال: إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافرين، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون. وأقبلت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي تحمل شيئًا من ماء، فضرب الثائرون وجه بغلتها وقطعوا حقبها، حتى كادت أم المؤمنين تسقط لولا أن تلقاها الرجال فأسندوها وردُّوها إلى دارها، مع أنها أنبأتهم بأنها إنما أقبلت تكلم عثمان في أيتام بني أمية، وكانت وصايا بني أمية عنده، فلم يصدِّقوها ولم يسمعوا منها. ولزم أكثر أصحاب النبي دورهم منذ اشتد الحصار، وأقام الناس في بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه. واشتد الكرب وشاع القتل وعظم البلاء، وجعل عثمان يشرف على الثائرين بين حين وحين فيعظهم ويحذِّرهم ويخوِّفهم الفتنة ويذكرهم بآيات الله وحديث النبي، فلا يسمعون له ولا يحفلون به، وربما ردُّوه ردًّا عنيفًا.
وقد اجتمع القادرون على القتال من بني أمية، وانضم إليهم شباب من أبناء المهاجرين، فدخلوا الدار وقاموا يحمونها ويحمون عثمان من الثائرين، وكان فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا عليٍّ ومحمد بن طلحة، وأمَّر عثمان عليهم عبد الله بن الزبير، وتقدَّم إليهم في ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة. وتحرَّجت الأمور حتى مُنع الناس من الدخول على عثمان، ومنع أهل الدار من الخروج منها، وأقام الناس على ذلك أيامًا. ثم جاءت الأنباء بأن أمداد العراق قد دنت من المدينة، وبأن أمداد الشام قد انتهت إلى وادي القرى. فيختلف الرواة هنا أشد الاختلاف: فأما الذين هواهم مع عثمان فيقولون: أشفق الثائرون أن تصل الأمداد إلى المدينة فتحول بينهم وبين ما يريدون، فاحتالوا حتى أنفذوا نفرًا منهم، عليهم محمد بن أبي بكر، فتسوَّروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمرو بن حزم وانتهوا إلى عثمان فقتلوه. وأما الذين هواهم مع غير عثمان فيقولون: إن أهل الدار هم الذين بدءوا فناوشوا الثائرين. كان عثمان مشرفًا عليهم، وقد دعاه رجل منهم يقال له نيار بن عياض الأسلمي، وكان شيخًا كبيرًا من أصحاب النبي، دعا عثمان وجعل يعظه وينصح له بأن يخلع نفسه، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم من الدار أو ألقي عليه منها حجر فقُتل. قال الثائرون لعثمان: ادفع إلينا قاتل صاحبنا فنقيد منه. فقال عثمان: ما أعرف له قاتلًا فأدفعه إليكم، أو قال عثمان: ما أدفع إليكم رجلًا ذبَّ عني وأنتم تريدون قتلي، ثم حجزت بينهم ليلة منكرة. فلما أصبحوا هجم الثائرون على الدار يحرِّقون أبوابها، وخرج لهم أصحاب الدار يقاتلونهم، فاشتد القتال وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وصرع مروان بن الحكم حتى ظنَّ به الموت، وقتل آخرون، واقتحمت الدار على أهلها. وفي أثناء ذلك فتح عمرو بن حزم بابه وأنفذ من الخوخة أولئك النفر الذين انتهوا إلى عثمان فقتلوه.
وأكبر الظن أن أنباء وصلت إلى المدينة بأن الأمداد قد كادت تبلغها، فأراد الثائرون أن يفرغوا من الأمر قبل أن تصل هذه الأمداد. ولم يستطع مروان بن الحكم أن يصبر وقد بلغه من أنباء الأمداد ما بلغ الثائرين، فتعجل الحرب وظن أنه يستطيع أن يزحزح المحاصرين عن الدار، وأن يقاتلهم حتى تأتي الأمداد، وكره أن يعتدَّ عليه معاوية أو ابن عامر بأن جنودهما قد أدركتهم محصورين في الدار ففرَّجت عنهم الحصار وردَّت إليهم الحياة. فأراد أن تدركه الأمداد ومعه منْ في المدينة من بني أمية وهم يقاتلون ويبلون فيحسنون البلاء. وهو من أجل هذا خرج مرتجزًا يطلب المبارزة، وخرج معه نفر من بني أمية يرتجزون، وعثمان يأمرهم بالصبر ويكفهم عن القتال فلا يسمعون له ولا يستجيبون لدعائه، حتى اضطر إلى أن يقسم على منْ رأى عليه له طاعة ليلقينَّ سيفه، فألقى جماعة من أصحابه سيوفهم وأبى بنو أمية أن يفعلوا. وبينما القوم يقتتلون وقد اقتحمت الدار وجعل أهلها يتفرقون، خرج خارج فأذن في الناس: لقد قتلنا ابن عفان، ثم فتحت الأبواب ونهبت الدار ونهب بيت المال، ولم يتفرق الناس إلا وقد وقعت الواقعة وكانت الفتنة وصُبَّ على المسلمين بلاء عظيم.
ومع ذلك فقد يظهر أن عثمان مال في آخر أمره إلى شيء من العافية. فقد يتحدث الرواة بأن سعد بن أبي وقاص دخل على عثمان فسمع منه، ثم خرج مسترجعًا يطلب عليًّا حتى لقيه في المسجد، فقال له: هلمَّ أبا الحسن! لقد جئتك بخبر ما جاء به أحد أحدًا، إن خليفتك قد أعطى الرضا فأقبِلْ فانصره واسبِقْ إلى الفضل في نصره. وإنهما ليتناجيان حتى جاء النبأ بقتل عثمان.
فأكاد أعتقد أن عثمان كان دعا سعدًا وكلفه أن يُسفر بينه وبين عليٍّ ليكفَّ الناس عن القتل والقتال، على أن يردَّ الأمر إلى أصحاب الشورى وأهل الحل والعقد من المسلمين ليضعوه حيث يشاءون، ولكن هذه السفارة جاءت متأخرة، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.