الفصل التاسع والعشرون
وكان معاوية قد عرض على عثمان قبل أن يفارقه في أواخر سنة أربع وثلاثين خصلتين رفضهما عثمان رفضًا حاسمًا: عرض عليه أن يسير معه إلى الشام فيكون فيها آمنًا منصورًا، فأبى عثمان أن يترك جوار النبي وأن يستبدل بدار الهجرة دارًا أخرى. وأضمر عثمان في نفسه أشياء لم يقلها لمعاوية في أكبر الظن، وهي أنه لو ترك المدينة لنقل عاصمة الخلافة إلى بلد آخر غير البلد الذي ظهر الإسلام فيه على أعدائه، وإلى بلد آخر غير البلد الذي أقام النبي فيه أعلام الإسلام وأقام الشيخان فيه بعد ذلك مجد الإسلام ولم يكن أبغض إلى عثمان من أن يأتي هذه البدعة، ولم يكن أبغض إليه من أن يقول له أصحاب النبي وعامة المسلمين: نقلت أمر الإسلام من حيث أقره النبي وصاحباه إلى بلد أجنبي غريب، ثم لو فعل عثمان لكان أسيرًا في يد معاوية. ولأن يكون أسيرًا في يد أصحابه الذين هاجروا معه والذين آووا ونصروا والذين غزوا معه ومع النبي واستمعوا معه للنبي، أحبُّ إليه من أن يكون أسيرًا عند معاوية بن أبي سفيان، على ما بينه وبين معاوية من قرابة النسب، وعلى ما عند معاوية بن أبي سفيان من الأمن والعزة والغلب.
وعرض معاوية على عثمان أن يرسل إليه جندًا من أهل الشام يقيمون معه في المدينة ليردوا عنه العاديات، فأبى عثمان وقال: لا أضيق على أصحاب رسول الله بجوار من يجاورهم من الجند. وأضمر عثمان في نفسه أشياء أخرى في أكبر الظن لم يقلها لمعاوية: لم يرد أن يخرج عن سيرة النبي وسيرة صاحبيه، فيفرض سلطانه بالقوة والغلب، ويخضع دار الهجرة لهذا الاحتلال الذي عرضه عليه معاوية، فيحدث في الإسلام هذا الحدث الأكبر وهو إخضاع المهاجرين والأنصار ومسجد النبي ومدينته لجند يرسلهم معاوية بن أبي سفيان من قوم لم يلقوا النبي، ولم يسمعوا منه ولم يروا سيرته وسيرة صاحبيه رأي العين. لم يرد عثمان أن يكون أول من يحوِّل الخلافة إلى ملك، ويخرجها عما ألفت من هذه السماحة السمحة إلى القهر والقسر والبأس الشديد. ولو قد فعل عثمان لكان طاغية يحكم أصحاب النبي بقوة هذا الجيش الذي يحميه من أصحابه، ويحرس داره إن أقام فيها، ويحرسه هو إن خرج من داره، ويحيط به إذا قام خطيبًا على منبر النبي، ويسعى بين يديه إذا مشى في طرقات المدينة. وأين هذا كله من سيرة النبي والشيخين ومن سيرة عثمان نفسه! فقد كان يمشي في المدينة غير محروس، ويقف على أندية القوم فيقول لهم ويسمع منهم، وكان ينام في المسجد وقد لفَّ رداءه واتخذه وسادًا. وكان يجلس على منبر النبي يوم الجمعة فيتحدث إلى الناس حديث الأب الرفيق، أو الأخ البار أو الصديق الحميم؛ يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجاتهم وعن أسعار السوق. فإذا أذَّن المؤذنون قام فخطبهم ما شاء الله أن يخطبهم، ثم جلس فاستأنف الحديث معهم يسألهم عن مرضاهم وعن شئونهم وعن حاجتهم وعن أسعار السوق، فإذا أذَّن المؤذنون الأذان الثاني قام فصلى بهم. فكيف به لو غير هذا كله فانتقل إلى الشام وترك دار الهجرة، فلم يخطب على منبر النبي، ولم يصلِّ في مسجد النبي حيث صلى النبي وصاحباه؟ وكيف به لو أقام في المدينة يحفُّ به جند من أهل الشام يحمونه من الذين شهدوا معه ومع النبي المشاهد كلها؟ لم يكن عثمان ليستجيب لما دعاه إليه معاوية، ولا ليقبل ما عرض عليه معاوية من إرسال ذلك الجيش. فلما قال له معاوية: إذن لتغزَينَّ أو لتغتالنَّ، قال: حسبي الله ونعم الوكيل!
فقد استقبل عثمان خلافته إذن وهو يريد أن يسير سيرة صاحبيه لا يغير منها شيئًا. وسار على الجملة سيرة صاحبيه، فلم يحتجب ولم يستعلِ ولم يتسلط، وإنما أدركه ما قد يدرك الناس من هذا الضعف الذي لا يأتي عن نية سوء ولا عن تعمد للبغي، وإنما يأتي عن خلق كريم وعن حب للخير ورغبة فيه.
وما ينبغي أن ننسى أن عثمان قد استقبل الخلافة وهو شيخ كبير قد بلغ السبعين من عمره، وكان جوادًا معطاء، وكان وصولًا للرحم، وكان شديد الحياء، وكان سمح الخلق رقيق القلب حسن الرأي في الناس. فإذا اجتمعت كل هذه الخصال في شخصه وأضيفت إليها خصال أخرى في عشيرته الأقربين: هي الطمع والجشع والطموح الذي لا حد له والاستعداد للتسلط والغلبة؛ كان هذا كله خليقًا أن يعرض عثمان لما تعرض له من الشر. فإذا أضفت إلى خصاله وخصال عشيرته الأقربين أن جماعة من كبار أصحاب النبي قد نازعتهم نفوسهم إلى الدنيا فاندفعوا إليها ورغبوا فيها، وجمعوا منها حظوظًا ضخمة، وألقى هذا في روعهم أنهم ليسوا أقل من عثمان استحقاقًا للخلافة، وأنهم قد يكونون أقدر منه على النهوض بأعبائها وضبط أمورها لأنهم لم يبلغوا من الشيخوخة ما بلغ؛ كان هذا كله خليقًا أن يجعل الأمر على عثمان عسيرًا أشد العسر، وأن يجعل السياسة بالقياس إليه مشكلات معضلات يتبع بعضها بعضًا، لا يخرج من بعضها إلا ليدخل فيما هو أشد منها عسرًا وأعظم تعقيدًا.
ثم إذا أضفت إلى هذا كله أن هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار، قد عاشوا عيشة إلا تكن بدوية خالصة فهي إلى البداوة أقرب منها إلى الحضارة، ثم نظروا ذات يوم فإذا هم أمام دولة ضخمة بعيدة الأرجاء مترامية الأطراف معقدة الشئون تحتاج إلى أن تساس سياسة الحضارة المتأصلة ذات السنن الموروثة والتقاليد المقررة لا الحضارة الطارئة — إذا جمعت هذه الخصال كلها بعضها إلى بعض، عرفت أن ظروف الحياة التي أطالت بعثمان كانت أقوى منه ومن أصحابه. ولا تقل إن عمر قد واجه هذه الظروف وظهر عليها؛ فقد كان عمر من هؤلاء الأفذاذ الذين لا تظفر الإنسانية بهم إلا في القليل النادر، والذين يُتعبون منْ بعدهم ويرهقونهم من أمرهم عسرًا. ولولا شيء من التحفظ والاحتياط لقلت: إن المسئول الأول والأخير عما تعرَّض له عثمان وأصحابه من الخطوب، إنما هي هذه العبقرية الفذَّة التي أتيحت لعمر ولم تتح لأحد من أصحابه وفيهم عثمان.
ومهما يكن من شيء؛ فهذه الأحداث التي حدثت، وهذه الفتنة التي بلغت المرحلة الأولى من مراحلها بقتل عثمان، قد تركت المسلمين وأمامهم طريقان كلتاهما مستقيمة واضحة الأعلام ليس فيها عوج ولا التواء: إحداهما هي الطريق التي سلكتها الأمم من قبلهم، وهي طريق الملك الذي يقيم أمره على الحزم والعزم وعلى القوة والبأس، ويحلُّ مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، فيرقى ويقوى ويزدهر، ثم يصيبه الضعف والانحلال والذواء لينتقل من طور إلى طور، ومن دولة إلى دولة، ومن شعب إلى شعب. والأخرى هي هذه الطريق الجديدة التي مهدها النبي ورفع أعلامها صاحباه، وهي التي لا تقيم السلطان على القوة، وإنما تقيمه على المحبة والعدل، وتجعل القوة أداة من أدواته ووسيلة من وسائله، ولا تعرف أثرة ولا تحكمًا ولا جبرية، ولا تحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا، وإنما تحلها بوسائل الدين هذه التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الرغبة في الخير والنفور من الشر، وعلى الإيثار على النفس والتبرؤ من الأثرة، وتعتمد قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها، لا أقول وسيلة إلى الآخرة ليس غير، ولكن أقول وسيلة إلى الآخرة من جهة، ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقيًّا ونقاء وصفاء وطهرًا كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.
نظر المسلمون بعد مقتل عثمان، فإذا هم على رأس هاتين الطريقتين. فأما أكثرهم فسلكوا الطريق الأولى، وامتحنوا فيها وما يزالون يمتحنون بما امتحنت به الأمم والشعوب، وأما أقلهم فحاولوا أن يسلكوا الطريق الثانية، ولكنهم كانوا ناسًا من الناس، فلم يكادوا يتقدمون في طريقهم تلك حتى امتحنوا في أنفسهم ودمائهم، وحتى غلبهم الأكثرون عددًا على أمرهم.
وينظر المسلمون الآن فإذا الطريق الأولى ما زالت مزدحمة بهم جميعًا يتهافتون فيها كما يتهافت الفراش في النار، وإذا الطريق الثانية ما زالت قائمة واضحة بينة الأعلام، ولكنها خالية لا يقدر على سلوكها إلا أولو العزم من الناس. وأين أولو العزم من الناس؟!